كان يا مكان في قديم الزمان وفي سالف العصر والأوان.. امبراطورية عظيمة.. يحكمها ملك مترف أنيق.. يهتم بلباسه وهندامه أكثر من اهتمامه بمهام مملكته!!
وفي يوم من الأيام دخل عليه محتالان.. زعما أنهما خياطان محترفان.. وأنهما يستطيعان نسج ثوب خارق له.. يراه الحكيم ويعمى عن رؤيته الأحمق!!
فسُرّ الملك بذلك أيّما سرور.. وأمر من فوره أن يبدأ الخياطان بعمل الثوب -المزعوم-.. وأوصى لهما بمبالغ باهظة وخيوط وأقمشة فاخرة..
وبالفعل بدأ الخياطان بعملهما الوهمي.. ونصبا نولين فارغين.. وأخذا يديران ماكينة الخياطة ولا يضعان فيها شيئاً.. ويُخزنان الأقمشة والخيوط لمصلحتهما في مكان لا يعرفه سواهما..
وطار خبر الثوب في أرجاء المملكة.. وغدا الجميع يصدح به كل صباح..
فالكل يريد أن يعرف مدى حكمة أو حماقة صاحبه..
وبعد فترة قرر الملك أن يرسل وزيره العجوز ليستطلع له أمر الثوب.. وفي ذات الوقت ليكتشف مدى حكمته.. وهل هو جدير بمنصبه؟!!
وعندما دخل الوزير على الخياطين.. رأهما يعملان بهمة على نولين فارغين.. وماكينة الخياطة تدور وليس فيها خيط واحد!!
فتعجب الوزير من ذلك لكنه تذكر أن الثوب لا يراه إلّا الحكيم.. وعلى الفور أخفى دهشته وأبدى اعجابه بالثوب وأشاد ببراعة الخياطين وبجهدهما المبذول.. وبالتأكيد لم ينسى الدعاء لهما بالبركة!!!!!!!!
فاستغل الخياطان المحتالان الموقف وطلبا مزيداً من الأقمشة والخيوط.. فأمر لهما الوزير بما يريدان.. فوضعاه في مخبئهما واستمرا بالعمل في النول الفارغ بهمةٍ ونشاط..
وبعد أيام قرر الملك أن يرسل الرجل الثاني في الدولة بعد الوزير -رئيس الحرس- ليبديَ رأيه في الثوب..
وهناك حدث له ما حدث للوزير.. بدايةً بالتعجب وانتهاءً بالإعجاب!!!
وبعدها تحاكت المدينة كلها بأمر هذا الثوب.. فالكل مشتاق لرؤيته والملك أولهم..
وحانت ساعة الصفر.. ودخل المحتالان على الملك وهما يحملان الثوب المزعوم على أكفهما.. وعندها فوجئ صاحب السعادة والفخامة أن الأيادي فارغة.. لكنه استدرك الأمر وقال في نفسه:
"تالله لن أكون أنا الأحمق وكلهم حكماء.. لن أكون أضحوكة الناس!!!!!!!!!!!"
فقهقه قهقهة الرضا وقال: جميل .. جميل جداً .. هيا لأرتديه وأخرج به إلى الشعب المنتظر..
وبالفعل طاف الملك بموكبه العظيم أرجاء المدينة.. والوهم والخداع يسيطران على الجميع.. والكل يهتف بإعجاب ويشهق مستحسناً الثوب!!
ولم يجرُأ أحد على الاعتراف أنه لا يرى الثوب.. إلا طفل صغير صاح بين الناس:
لكني أرى الملك عارياً .. أراه عارياً ..
وسرعان ما أفاق الناس من غيبوبتهم.. وتناقلوا خبر الطفل.. وانكشف الأمر للجميع..
تلك القصة الرائعة كانت للكاتب "كريستيان أندرسون".. قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة الحدوث بل مستحيلة.. لكننا لو أمعنا النظر في أحداثها لوجدناها تحاكي الواقع وإن اختلفت الملامح..
فنحن نعيش في زمن انتشر فيه الزيف والتضليل.. زمن تقتضي فيه أبجديات الحياة تزوير الحقائق والاعتداء عليها وغض الطرف عن بعضها.. بل وتهويل الصغائر حتى تبدو كالكوارث.. وذلك كله بغرض المصالح الشخصية والمكاسب المادية.. وربما كان ذلك نتيجةً لتحكيم العواطف والذهاب بها بعيداً بإتجاه الميول والرغبات إلى درجة تغييب العقل في كثير من الأحيان..
نحن نعيش في زمن تُضرب فيه الأمة في ثوابتها ومُعتقداتها من قبل أعدائها وأبنائها -مع الأسف-.. خيّم علينا الجهل وتفشت بيننا الأميّة.. وانطلى علينا الخداع والتدليس من كل محتال.. حتى أصبحنا لا نُفرِّق بين المسلّمات والظنيات.. والأدهى من ذلك أننا نتعصب للآراء ووجهات النظر وكأنها مقدسات يحرم المساس بها..
نحن نعيش في زمن يُلزِم الواحد منّا أن تكون له قيم ورؤى ومبادئ واضحة.. تقوده إلى الإستقلالية العقلية ومن ثَم الحصانة الفكرية.. في ظل تخلف الفكر والتفكير الذي تعاني منه أمتنا الإسلامية والذي باتت النجاة منه استثناءً..
وأخيراً... ما هو مفهوم التخلف الفكري؟؟
وهل هو مقتصر علينا أم أن للغرب نصيبٌ في ذلك؟؟
وهل لتآمر الأعداء والخصوم دور فيه أم أن الصدع من الداخل؟؟
هل هناك علاقة طردية بين تخلفنا العام على مختلف الأصعدة -السياسية والاجتماعية والحضارية والاقتصادية والعلمية والتقنية والصناعية- وبين تخلفنا الفكري؟؟
ماذا عن اقتراب أبناء الأمة الإسلامية من الرؤية الغربية للأمور هل يعد ذلك تخلفاً فكرياً في صورة جديدة؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتب استفدت منها:
*- القصة من كتاب "أقكار صغيرة لحياة كبيرة" للكاتب كريم الشاذلي (بتصرف).. *- كتاب التأزم الفكري في واقعنا الإسلامي المعاصر لـ د\ عبد الكريم بكار..