ذات الوشاح الرملي
يحكى أن امرأة شريفة بارعة الجمال تسكن بيتها، تحت ولاية زوجها وأهلها، تهنأ باحترام الكلّ لها، وتقديرهم ومعرفتهم لفضلها. في ليلة حالكة الظلام، طُرق الباب بانتظام، أجابت المرأة من خلف بابها كالعادة، وإذا بصوت خافت يهمس على غير عادة: هل لكِ في ثلاثة صناديق من ذهب وتخرجي من خدرك؟ تلعثمت المرأة وتاه فكرها، ولم تدر ما تقول من فرط ذعرها، وانصرفت ببطء ترقب خطوها!
بعد فترة، طُرق الباب، وإذا بصوت آخر يُشبه الصوت الأول: هل لكِ يا ذات الوشاح الرملي بأربعة صناديق من ذهب وتكشفي عن وجهك! خفق قلب المرأة، وأبدت ما لم تبديه قط من جرأة، وقالت: لا بد لي من التفكير الجزيل، فالأمر جليل! ثم بعد لحظات، طرق الباب طارق، وإذا بصوت آخر يشبه الصوتين، قائلاً: ما تقولين في خمسة صناديق من ذهب، غير ما سبق، وتهجرين بيت أهلك إلى مكان يهتف الآلاف باسمك، ويشيدون بجمالك وطُهرك! وقفت المرأة مع نفسها، وأخذ بريق الذهب يدغدغ خيالها، وقالت بصوت خاضع، وبلا تلعثم: لمَ لا!!!
اتفقت المرأة مع زوّار الظلام، على الخروج قبل شهر الصيام. جمعوا لها الجموع وهتفت باسمها، فانطلقت وقد تهلل وجهها، بعد أن ألقت نقابها، وأطلقت للريح شعرها. خرجت عليهم بثوب يحكي في لونه الرمل، وكان يوماً مشهوداً لم يُرَ من قبل، في القرية التي يسكنها المسلم والنصراني، والفاسق والمجرم والشيطاني، وجار خارج القرية يهودي. أخذوها إلى الميدان، وكان من أمرها ما يأتي من بيان.
فُجع أهل البيت بخروج ابنتهم سافرة، وحزن المسلمون في القرية والقرى المجاورة، فقد كانوا يضربون بالمرأة المثل في العفة والقيم الطاهرة، ولا نتصوّر حجم فرحة النصارى والفسّاق، وترحيب اليهود في القرية المجاورة، اجتمعوا حسب الاتفاق جميع الفسّاق ليهتفوا باسم المرأة في الآفاق. الكل راودها عن خلع بعض ثوبها، فاستحت قليلاً، ثم أدرات للحياء ظهرها، واستسلمت لصرخات الجماهير الهادرة.
أفاق الأهل والأصحاب من صدمتهم، وأخذوا يجمعون، وينظّمون جمعهم، وعزموا على استرجاع ما بقي من عزّهم. خرجوا يطلبونها في الميادين، وينادونها في كل وقت وحين: ارجعي يا ذات الوشاح الرملي، إلى زوجك وأهلك والأب والطفلِ، عودي إلى داركِ، الزمي عفافك. لكن المال، وما يجلبه من دلال أعمى المرأة عن المعاني السامية، والأخلاق العالية، فأخذت تسيح بين الجموع الموالية، تنتشي لهتافهم، وتستأنس بلمسهم لها وهمسهم، حتى فقدت شطراً من الحياء، وأظهرت ما كان في الخفاء.
بعد فترة، حصل ما لم يخطر ببال المرأة: خفّ طُلّابها، وخفَتَ صوت هتَاف الجموع باسمها، تغلغلت أصواتٌ بين الجموع الموالية، يناشدونها العودة إلى دارها، ولزوم بيتها، وأ لا تخطوا خطوة تالية، ولكن بعد ماذا؟ بعد أن فقدت بعض شرفها، وبعد خلع بعض ثيابها، وبعد أن هجرت دينها، وأهدرت كرامتها، ولطّخت بالوحل سمعتها! ظنّت المرأة أن لا رجوع عن خارطة طريقها، وإن خانها بعضُ طُلّابها، فنظرت يمنة ويسرة، تبحث عن معجبٍ بها، وإذا بعينها تغمز النصارى، وبعض من تضلّع الفسق والدعارة، وبعض الغرباء من خارج القرية، ولم تنسَ اليهود أهل الفرية.
جمعت المرأة عليها كل فاسق وفاجر، وكل غادر وماكر، وأخذت تغريهم بالمفاتن، وتخلع ما لم تخلعه لتبدي المحاسن، وكلما خلعت قطعة طالبتها الجبهة بكل قطعة، وهم بين لاصق بها، ولامس ومقبّل لفيها، وهي تنتشي لحظة وتُقدم، ثم تخجل لحظة فتُحجِم، والقوم في سُكرهم وغيّهم، فما وعت إلا وجبذها بقوّة يهودي، وألصق صدره بصدرها، وأعلنها صراحة في وجهها: داؤك عزيزتي الحياءُ، وحياؤك كون أهلك أحياءُ، فلو أذنتِ لنا بقتلهم، وتدمير بيتهم، تخلُ لك الساحة، وفي ذاك كل الراحة، وتكوني من أهل الحظوة، من بين سائر النسوة، ومن فرط جهلها، اقتنعت المرأة بهذه الخطوة.
أشارت المرأة بيدها، تدلّهم على بيتها، وأغمضت جانباً من عينها، وانطلق اليهود إلى تلك الدار، يقصفونها بكل نار، فقتلوا من أبنائها الأبرار، لكنهم لم يقتلوهم كلّهم، لأنهم أرادوا استدراجها، فقالوا لها: لا بد أن نعلم أنك معنا على طول الطريق، نحن أفضل ما يقتني الإنسان من صديق، لا بد أن تتعرَّي من جميع ثوبكِ، حتى لا ترجعي لسابق عهدِك، ولا يبقى من يرضى عنكِ غيرنا، أصدقائك ومن أحبَّكِ! لا ندري أين غاب عقل المرأة، أخذت تلقي القطعة تلو الأخرى، ولم يبقى سوى ما يستر عورتها الكبرى! هنا قال لها اليهود: لا بد من باقي الوعود!
المرأة الآن في حيرة من أمرها: الصناديق لم تصل كلها، ومن هتف باسمها انفض من حولها، ولم يبق إلا من يُشرى ليبقى معها، واليهود يراودونها عن نفسها، والنصارى وقفوا بعيداً ينظرون عُريها!
لم يبقَ للمرأة سوى أهل الصلاح من أهلها، الذين رغم سفورها وخبالها، لا زالوا ينادونها رغم الشِّقاق: هنا الآل والأصحاب والرّفاق، لا تسمعي لليهود والفسّاق، ارجعي فلم يبقى إلا الدعارة، ولا يكون بعده غير الرجم بالحجارة، فأي حياة أنت فيها، ذلٌّ وعهرٌ عار وتيه، ناشدناك بأيامك الطاهرة، وبسالف الأزمان والآخرة، ارجعي فلا زلتِ في فسحة من أمركِ، ارجعي قبل أن يحفر اليهود قبركِ. ارجعي يا ذات الوشاح الرملي، وأبقِ على حياة الطُّهرِ.
12-8-2013م
الكاتب: متولي عطية الزهراني