عرض مشاركة واحدة
  #15  
قديم 08-21-2013, 09:43 PM
 




4- أهلا أيتها الشريكة!


عندما ذهبت هيلين في الصباح لتشتري بعض الحاجيات من المخزن الرئيسي في الجزيرة كانت قد نسيت تماما أن الناس هنا لا يتكلمون اللغة الأنكليزية , وبالطبع لم تكن أي من الفتاتين اللتين تعملان في المخزن تتكلم سوى اللغة البرتغالية , كان الوضع محرجا ومضحكا في آن , فقد كانت هيلين تنظر حولها وتحاول أن تشير الى الأشياء التي تريدها , وعندما أنتهت من كل ذلك تذكرت أنها تريد ورق رسائل ومغلفات , نظرت حولها ولما لم تجد ما تريد , حاولت القيام بحركات أيمائية لأفهام الفتاتين اللتين أبتسمتا لها بحيرة , قلدت هيلين لحس الطوابع وألصاقها على الورق وقامت بحركات وكأنها تكتب شيئا ما... ولم تفهم الفتاتان.
فتح باب المخزن بضجة ودخل طفلان يثرثران بصوت مرتفع , تنفست هيلين بأرتياح , أنه توبي أبن أخت سيرينا وباولو طفلها , لا بد أن تكون سيرينا قادمة أو هكذا فكرت هيلين... لكن.... هل تراها أحست بأن هيلين كانت تراقبها الليلة الماضية ؟
دخلت سيرينا خلف الطفلين وبدأت تزجرهما , عندما رأت هيلين , أبتسمت بحياء وحيتها.
" أهلا سيرينا هل تساعدينني؟ أحتاج لورق رسائل وبعض المغلفات ,ولا أدري كيف أطلب ذلك".
" سأساعدك".
أنها حقا طفلة جميلة .... طفلة؟ قالت هيلين لنفسها وهي تراقب سيرينا تكلم الفتاتين بالبرتغالية , أنها تصغرني بثلاث سنوات فقط.... ومع ذلك توحي بأنها صغيرة وما من يدافع عنها...وأحست بالألم في داخلها , وذلك الرجل.... ما أبشعه ! ما أقساه!
" شكرا سيرينا".
وأبتسمت لها.
" سنساعدك في حمل هذه الأشياء".
قالت سيرينا مبتسمى , وأستدارت الى الطفلين اللذين كانا تقريبا في داخل ثلاجة المخزن المليئة بالأطعمة المثلجة ونادتهما بصوت عال.
قالت هيلين:
" دعيني أولا أشتري لهما بعض البوظة ولك أيضا , ردا على مساعدتكم لي".
" نعم , من فضلك........".
قالت سيرينا لأحدى الفتاتين بينما أختفت الأخرى في المخزن وعادت مع الطفلين وهما يضحكان , بعد بضع دقائق كانوا كلهم يسيرون بأتجاه بيت هيلين , سيرينا وهيلين تحملان صندوقين كبيرين مليئين بالأشياء التي أشترتها هيلين. والطفللان يلعقان البوظة وخلفهما خط طويل من البوظة الذائبة.
عندما أقتربوا من باب البيت الأمامي المجاور لبيت لوغان لم تتمكن هيلين من مغالبة رغبتها في أستراق النظر الى سيرينا , كانت الأخيرة تمشي بهدوء تحمل الصندوق بيد وبالأخرى تلعق البوظة ووجهها الأسمر جميل وباسم , سيرينا! فهي حقا رائقة وهادئة , أنها فتاة جميلة وبعد بضع سنوات ستكون أمرأة جذابة.
" تفضلي بالدخول".
قالت هيلين وهي تضع الحاجات على الأرض لتفتح الباب , لا تدري لماذا تفعل ذلك , ربما كان من الحكمة ترك هذه الفتاة وشأنها , ومن يدري أية أكاذيب لفق عنها جيك لوغان على مسمع سيرينا , وأضطربت هيلين لمجرد التفكير بذلك.
" سأساعدك بترتيب الحاجات , وبعدها يجب أن آخذ الأولاد الى الشاطىء".
" أنا ذاهبة الى هناك أيضا , أريد أن أسبح , هل المكان آمن للسباحة؟".
فقد تذكرت ما قاله جيك لسيرينا في اليوم الفائت.
هزت سيرينا رأسها :
" غي هذا الوقت , البحر آمن".
" حسنا سأغير ثيابي , هل تسبحين أنت؟".
ترددت سيرينا قليلا:
" أحيانا لكن علي مراقبة الأولاد , فهم شياطين!".
" أستطيع أنا فعل ذلك أن كنت تريدين السباحة".
قالت هيلين مبتسمة , ولم تعرف كيف حصل ذلك , لقد أحبت هذه الفتاة فعلا رغم علاقتها مع جيك لوغان , أنها تحس بالعطف عليها.
" حسنا , في الوقت الذي تغيرين فيه ثيابك أضع أنا الطعام في البراد وألا سيفسد".
" شكرا لك يا سيرينا".
لم تستغرق هيلين أكثر من دقيقة لتخلع ثيابها وتلبس ( المايوه) الأزرق الغامق وثوبها فوقه.
وساروا بأتجاه البحر وتذكرت هيلين ما حدث في اليوم الفائت , وكيف أغضبها ما قاله جيك لوغان فصفعته...
لم يكن أحد على الشاطىء , ( جنية البحر) فقط كانت تتأرجح في مرساها , ركض توبي وباولة في أتجاه الماء وقفزوا فيه كجرذين صغيرين , وهما يضحكان ويصرخان.
نظرت سيرينا الى هيلين وهزت كتفيها وكأنها تقول:
" أرأيت ما أعني؟".
وضعت هيلين المنشفة على الأرض والمعجون الذي تستعمله للسباحة , ثم جلست على الرمال الدافئة الجافة.
" أذا أردت أن تسبحي الآن فسأهتم أنا بالأولاد".
" كم أنت لطيفة , شكرا".
وأضاءت عينا سيرينا البنيتان بشقاوة:
" أحب أن أسبح , لكن مع هذين الشقيين......". وهزت كتفها:
" .... وجيك لا تتاح لي الفرصة".
وركضت بأتجاه الماء وهي ما تزال مرتدية ثوبها وبدأت تسبح بحركات متقنة وهادئة , تعجب الطفلان لذلك وبدآ يغيظانها , فركضت هيلين وأخرجتهما من الماء لخوفها أن يلحقا بسيرينا.
" أتركاها تسبح".
قالت للطفلين بلطف ثم لنفسها :
"يا ألهي عليّ أن أتعلم اللغة البرتغالية أن كنت أنوي البقاء هنا لبضعة أسابيع , بعض الجمل على الأقل حتى لا أواجه دائما بمثل هذه النظرات الفارغة".
أشارت الى البحر حيث كانت سيرينا تسبح وشعرها الذهبي الغامق يعلو ويهبط مع الموج , أشعة الشمس المنعكسة على الماء ظهرت كخيوط الذهب الذائبة , ومن الجو جاء صوت طائر النورس كالنحيب يرد عليه طائر آخر عن بعد , أما أجمل هذا كله , وأشجار النخيل المتماية بنعومة مع نسيم البحر اللطيف , وسعفه الجميلة المتعالية في زرقة السماء وخلفها الأنواع الأخرى من الأشجار الكثيفة الأوراق والمشبعة بالخضرة , كم ترتاح العين في النظر اليها , والدها رأى ذلك كله وتمتع به , فكرت هيلين في نفسها وهي تستدير غير منتبهة , أنها لا تزال تمسك بالطفلين اللذين كانا يسيران الى جانبها بهدوء وتهذيب لأول مرة , لقد عاش والدها هنا , رأى كل ذلك وأرادها أن تراه هي أيضا وهكذا ترك لها كل تلك الأشياء.
" أين سيرينا؟".
وحطم الصوت بوقاحة مزاجها الهادىء وحبل أفكارها المريح , أستدارت لترى جيك لوغان يسير بأتجاهها , عاري الصدر وعاري القدمين , كان قادما من صوب البيت , وقفت جامدة تراقبه يقترب منها , كان من الصعب أن تحول نظرها عنه , أنه حقا.... ما من شيء يصفه أكثر من .... وحش رائع , أحدهم – ربما مارشا على تلك الطائرة , قالت أن له جسما رياضيا ذلك صحيح , كتفاه عريضتان وقويتان , ذراعان كلهما عضلات قوية , صدر جميل ومغطى بالشعر الأسود الكثيف , لمعت سلسلة الذهب حول عنقه وهو يمشي نحو هيلين بخطوات واثقة ويتوقف على بعد بضع أقدام منها.
" أنها تسبح".
أخبرته هيلين.
" ماذا؟ تسبح؟ ".
ونظر بأتجاه ابحر , ثم الى هيلين , وشتم وصرخ:
" سيرينا!".
وجفلت هيلين , أن لم تسمع الفتاة ذلك , فستكون المعجزة , حتى النورس الذي كان يأكل بهدوء عن سطح الماء أطلق صرخة خائفة وطار بعيدا , تطلع اليه الولدان برهبة وأنفجر توبي بالبكاء.
لم تستطع هيلين ضبط أعصابها.
" الوحش!".
قالت.
جيك الذي كان ينظر بأتجاه البحر رماها بنظرة سريعة وهي ترفع توبي لتحمله , ثم عاد ووضع يديه على خصره وتطلع الى البحر , هدأ توبي عندما حملته هيلين , بعد لحظات كانت سيرينا تخرج من الماء متعثرة وثوبها لاصق بجلدها .
أومأ اليها جيك وأسرعت خارجة من الماء , لاحظت هيلين الخجل على وجهها , كيف يحدث كل هذا؟ من يعطيه الحق ؟ وتكلم جيك البرتغالية بلهجة سريعة وفهمت هيلين أنه كان يزجر سيرينا وكان صعبا عليها تهدئة أعصابها وشدت توبي الصغير الى صدرها كأنما ليمنع خفقاته المتزايدة , حاولت سيرينا الوقوف في وجه جيك لكنه غلبها في النهاية , تطلعت الى هيلين والدموع تلمع في عينيها وكأنها تعتذر عما جرى وركضت بأتجاه البيوت.
أنزلت هيلين توبي الى الأرض ناوية أن تلحق بها عندما قام جيك لوغان بعمل غير متوقع.
وضع يده على ذراع هيلين .
" أنتظري لحظة".
قال , وهمس شيئا للطفلين اللذين ركضا الى الماء , دفعت هيلين يده عن ذراعها غير مبالية بأظافرها التي غرزت في لحمه , كان هناك أحساس غريب في المكان الذي لمسه بكفه الدافئة القوية لكنها ستتجاهل هذا.
" لا تمد يدك أليّ".
" أتظنينني وحشا!".
" وأكثر من ذلك لكنني سأحاول أن لا أقول المزيد".
" ذلك أفضل , بالطبع لا تريدين أن يشك أحد بأنك سيدة مهذبة".
تطلعت اليه بدون أية محاولة لأخفاء الأحتقار الواضح في عينيها الواسعتين الصافيتين.
" هل ستهتم بالأولاد أم أفعل أنا ذلك؟ هذا طبعا أذا أفترضنا أنك تهتم ولو قليلا".
ونظرت بأتجاه الطفلين اللذين كانا يعومان ويذريان الماء حولهما.
" منذ لحظات أرسلت سيرينا والدموع في عينيها , ربما ستفعل ذلك للطفلين أيضا , أنا متأكدة أنك ستجد الأمر سهلا".
" أرسلت سيرينا الى البيت لتجفف نفسها , ليس لها الحق أن تنزل الى الماء , عندها مشكلة في أذنيها منذ كانت صغيرة وتعرف أن عليها تجنب الماء".
وتطلع الى هيلين مكملا:
" لا أحب أن أقوم بعمل الممرض , لكن ليس لديها أحد غيري يهتم بها , أختها مشغولة ببيتها وبطفلين صغيرين ولا وقت لديها لمراقبة سيرينا , وأن كنت أتكلم معها بلهجة قاسية فذلك لكونها طفلة مدللة ولا تفهم ألا بهذه الطريقة".
كان لكلماته تأثير غريب على هيلين , كان لها وقع صادق , ربما... ربما يهتم حقا , لكنها لا تود التفكير بذلك , ما زالت تذكر ليلة أمس عندما رأتهما معا , أذن هو لا يعاملها دائما كطفلة.
" أنا سأهتم بالطفلين , سأسبح قليلا".
نظر الى ساعته الذهبية ثم قال:
"لا بأس , أذهبي وأسبحي , سأهتم بهما لمدة نصف ساعة".
ومضى بأتجاه الطفلين معتبرا أن الموضوع أنتهى , وقفت هيلين ترقب ظهره وهو يبتعد يتملكها شعور بالأضطراب والعصبية , ما سر هذا الرجل ؟ هناك شيء ما ليس من أختراع خيالها , جاذبية ما حول هذا الرجل تجعلها ترتجف عندما يكون قريبا منها.
وقح ومهين ومع ذلك هناك رقة غريبة تشع منه , رأته ينحني ويقول شيئا لتوبي – طفله- ويلمس خد الصبي بلطف , كان حنونا ودافئا معه , ربما لأنه جعله يبكي قبل دقائق , أستدارت هيلين وذهبت كي تسبح قليلا, ستحاول التظاهر بأنه غير موجود رغم صعوبة ذلك ,لكنه لن يعرف.
لم تستطع هيلين تجاهل وجوده فبينما كانت تسبح نظرت بأتجاهه لتراه يحاول تعليم الطفلين السباحة , كان المنظر ساحرا الى الدرجة التي نسيت هيلين معها نفسها وأخذت تراقب الثلاثة بأهتمام , أثنان صغيران : مكتنزا الجسم والثالث كبير وأسمر وقد نسوا وجودها كليا , كان هذا مدهشا كأنها لم تكن هناك.
بدأ التيار يسحب هيلين وهي غافلة عنه ومستغرقة في مراقبة جيك والولدين , كان جيك منحنيا على باولو وتوبي يراقب مندهشا وأصبعه في فمه كيف يرفع جيك بيده ذقن باولو ويضع يده الأخرى على بطنه محاولا التحدث اليه بلطف وحزم كي يضبط حركاته العنيفة.
لم تعد هناك دموع بل ضحكات تعلو بينما كان الطفلان وللمرة الأولى يختبران الشعور بأنعدام الوزن في الماء , لكن أهتمام هيلين كان منصبا على جيك لوغان , هل هو حقا الرجل الذي كلمها بتلك الوحشية والوقاحة في اليوم الماضي وفعل ذلك مع سيرينا أيضا , أيعقل أن يكون هو الرجل نفسه , أين أختفت عدائيته القارسة والتي تظهر كلما أقتربت منه هيلين ؟ كان يضحك مع الولدين وهما يحاولان ويحاولان ويصرخان.
وفجأة أحست هيلين بأنها لا تريد أن ترى المزيد , أخذت تبتعد صوب عمق البحر , وعندما قطعت مسافة كبيرة توقفت لترتاح ولم تنظر خلفها تطلعت بأتجاه القرية والأشجار المحيطة بها الى مسافة بعيدة , فوقها كانت السماء صافية , لا غيمة فيها , والشمس حارقة تسكب أشعتها الذهبية على كل الأشياء , أستلقت هيلين على ظهرها في الماء وبدأت تطفو بكسل وتحس الماء المالح يجف على وجهها وعنقها مما جعلها ترغب في لعق شفتيها لكنها قاومت ذلك .
ملأ اللون الذهبي عينيها المغمضتين , مزيج من الذهبي والبرتقالي ملأ رأسها أيضا الذي كاد ينفجر من حرارة اللون و....
" هيلين, المد ينحسر".
كان جيك يناديها من الشاطىء محطما بوقاحة الحالة الحلمية التي كانت تعيشها .... ناداها ( هيلين) لا آنسة كاربنتر .... أشارت له بيدها وبدأت تسبح بأتجاه الشاطىء , على الأقل هو يعرف البحر هنا جيدا.
أحست هيلين بالملح يقرص جلدها في كل مكان عندما خرجت من الماء ومشت بأتجاه جيك ,
" آمل أن لا أكون أزعجتك بطلبي منك الخروج من الماء لكن الوقت متأخر وكنت في وسط البحر ثم أنا أود أن أسبح قليلا ".
قال هذا بدون أن يعبر وجهه عن أي شيء .
" بالطبع".
قالت هذا ونظرت الى الطفلين , كانا مستغرقين في اللعب بالماء وذره في كل مكان فقالت:
" سأهتم بباولو وتوبي".
عندها خلع جيك الرقعة السوداء عن عينه ورماها على الرمل بدون أدنى أهتمام فوقعت الى جانب منشفة هيلين , طبعا بدون قصد منه وركض الى الماء من غير أن يقول كلمة : راقبته هيلين يضرب الماء ضربات قوية متوازنة , كما راقبه الطفلان أيضا وكأنهما يتمنيان لو يلحقا به , أبتعد جيك ولم يعد يرى غير رأسه من بعيد , أنحنت هيلين وتناولت المنشفة وبدأت تجفف نفسها وهي تراقب الطفلين يضحكان.
تلك الليلة كتبت هيلين رسالة طويلة الى الخال فيليب ,, لم تكن تظن أن لديها الكثير لتخبره حتى جلست وأمسكت القلم فتدافعت الكلمات على الورق أمامها , أرادت أن تتجنب الكتابة له عن جيك لوغان لكنها تصورت أن خالها سيستغرب ذلك فقد كان معها عند المحامي عندما جاء هذا الأخير على ذكر لوغان.
كان الوقت ليلا وقد أنهت هيلين كتابة الرسالة , قامت وتطلعت من النافذة يملأها شعور بالتوتر , ما أجمل الليل في الخارج , ما أشد سواده وحلكته! لو كان معها أحد لخرجت وتمشت في الليل , لكن.... لم لا؟ لن تخشى من مصادفة جيك أياها فقد رأته وحده وحده في مطبخه يحضر بعض الطعام وقد خلع الرقعة السوداء عن عينه , لم يلبسها منذ ذهب يسبح في النهار , كم يبدو مختلفا بدون رقعة القرصان تلك – كم يبدو مختلفا...
لم يكن يصعب على هيلين أن تفهم , لم تتحمل سيرينا منه كل ذلك , ولكن لماذا تكرهه مارشا وهانا – لا بد أن رجولته الظاهرة والعدائية تخيف بعض النساء , لكن ليس هيلين فلديها المناعة الكافية , وأستدارت مبتعدة عن نافذة المطبخ , فالنظر اليه يذكرها بأشياء مزعجة .... ليست بحاجة لتذكرها هنا...
لبست هيلين صندلها.... وفتحت الباب بجرأة ,وبالمفتاح أغلقته خلفها بحذر وسارت على الممر المؤدي الى الشاطىء , كان أوسع ومضاء أفضل من الممر المؤدي الى القرية , ثم كان بأستطاعتها أن تراقب نافذة بيته من هنا.

كانت السماء قاتمة ومرصعة بالنجوم وكان كل شيء هادئا , كم تحب مراقبة النجوم , حاولت التعرف على أسمائها وفي الوقت نفسه كانت تفكر بجيك , يجب أن لا تتأخر , الأشجار كم هي عالية ومعتمة ولا توحي بالأمان أبدا , وبدأت تركض , سمعت صوتا كأنه صوت رصاصة ... وصوت خطوات وراءها , كأنه وراءها , كأن شخصا ما أو شيئا ما طلع من كل تلك الظلال والخيالات السوداء , لا بد أنها صرخت فقد عاد لها رجع صوتها من بعيد وهي راكضة بأتجاه البيت , ثم سقطت على وجهها بعد أن تعثرت قدماها بحجر مختف بين الحشائش , وحاولت بصعوبة ألتقاط نفسها المتقطع عندما جاء صوت جيك من فوقها:
" لا بأس .... أنه ليس ما...".
كان يتكلم وهو يضحك هكذا تصورت هيلين .
أمسك بها ورفعها عن الأرض , ورغم خوفها وأضطرابها لاحظت هيلين السهولة التي فعل بها ذلك.
" سمعت... سمعت....".
بدأت تخبره لكن صوتها خانها ولم تستطع أن تكمل.
" أنها عنزة.... فقط".
ولم يمكنها تجاهل الضحك في صوته هذه المرة , لكنه كان ما يزال يمسك بها وكأنها ستهرب لحظة يرفع يديه عنها , بدأ صدرها يهدأ تدريجيا ويعود تنفسها الى طبيعته وعن بعد رأت شبح حيوان يبتعد.
فجأة أحست هيلين بالأهانة .... كانت واقفة هناك تنظر الى النجوم وتفكر به.... والآن ماذا حدث؟
وحركت ذراعيها قليلا فتركها , أستدارت وسارت بأتجاه البيت , دفعت الباب لتدخل , ثم تذكرت:
" المفتاح! .... لا بد أنه سقط مني عندما....".
بسرعة عض جيك على شفتيه , لولا ذلك لصدرت منه شتيمة ما , ثم قال:
"لا أظن أننا نستفيد شيئا أن فتشنا الآن في هذه العتمة".
ثم أضاف بلهجة ألطف:
" لو لم أهرع وأعطيك المفتاح ليلة وصولك , لما كانت هناك مشكلة الآن".
أستعادت هيلين سيطرتها الكاملة على نفسها , لن تتركه يجعلها تشعر بأنها غبية , لكن ماذا تفعل الآن؟
" حسنا".
قالت بهدوء:
" أشكر مجيئك لمساعدتي عندما صرخت , أظن أنني تركت نافذة المطبخ مفتوحة , سأدخل منها , تصبح على خير".
ومشت بكبرياء نحو الناحية الناحية الخلفية للبيت , وبينها وبين نفسها كانت تصلي كي يكون الأمر سهلا وممكنا .
" والآن جاء دوري حتى أقول حسنا....".
ثم لحق بها :
" أعرف أنك تستطيعين تدبير الأمر , لكن دعيني أجرب أولا , ما رأيك؟".
كانا الآن في الناحية الخلفية من البيت وفي ظلام كثيف كشبحين , وأحست هيلين مرة ثانية بذلك الجو المثقل , هو أمامها بجسمه الطويل الأسمر وجاذبيته الغريبة ,شعرت برجفة لا يمكن تجاهلها.
" لا شكرا , سأتدبر أمري".
لمس ذراعها بخفة لكن بتصميم.
" يبدو أنك تنسين دائما , نصف البيت لي وأن كسرت الزجاج سأنزعج مثلك تماما".
أزاحت يده عن ذراعها محاولة المحافظة على هدوئها :
" أكره أن أزعجك".
" سأتدبر الأمر أطمئن".
سأفعل وسأريه ذلك , قالت لنفسها.
لم يقل كلمة ولم ينتظرها بل رفع أحدى قدميه الى حافة النافذة وسحب الأخرى وبلحظة كان يقف هناك في ذلك المكان العالي , كانت هيلين قد تركت النور مضاء في غرفة الجلوس وقد تسرب منه ما يكفي لترى شبح جيك الطويل وهو يصارع المزلاج بثقة وتصميم لاحظتهما في كل ما يحاول القيام به ثم صدر صوت قوي عن المزلاج... أنفتحت النافذة على مصراعيها وقفز جيك الى الداخل.
ذهبت هيلين الى الباب الأمامي وأنتظرت حتى وصل اليه وفتحه من الداخل.
" شكرا".
قالت مبتسمة وهي تدخل , وكان يراقبها بأهتمام.
" كم أنت باردة أيتها الزبونة".
قال بأبتسامة مرحة قلما تراها على وجهه.
نظرت اليه هيلين مركزة على تلك العين حيث كانت الرقعة السوداء من قبل.
" هل تظن أن مساعدتك لي وتسلقك النافذة لفتح الباب يعطيانك الحق في أن تكون وقحاً؟ أن كان الأمر كذلك فهيا , أقصد أن كنت تظن أنك تستحق شيئا لقاء شهامتك".
وأحست بالراحة فقد فعل كلامها فعله.
هز رأسه وظهر بعض التشنج حول فمه.
" أجاباتك دائماً حاضرة".
" وهل يزعجك ذلك؟ أم هل تريدني أن أضطرب أمام أي شيء تقوله , لا يا سيد لوغان , لن يحصل ذلك , أنا متأكدة أن الكثيرين يتلعثمون أمامك .... لكن ليس أنا".
" بالطبع لا... فأنت معتدة كثيرا بنفسك يا آنسة كاربنتر أليس كذلك؟ في كل حال فهذا ما تفعله المدارس الداخلية الباهظة الأقساط للفتيات .... تصنع منهن سيدات راقيات.......؟".
" كيف تجرؤ؟".
وأحمرت وجنتا هيلين :
" لم أصادف رجلا أكثر وقاحة منك في حياتي!".
رفع حاجبيه الكثيفين بكبرياء وشعور بالتسلية.
" ذلك أفضل , فقط ذكر النقود يثير غضبك , عليّ تذكر ذلك".
وقبل أن تستطيع الأجابة على هذه الملاحظة الشخصية , كان قد أستدار وخرج.
أغلقت الباب وراءه ووضعت المزلاج بأحكام , ستذهب لتغلق نافذة المطبخ وتنزل الستائر قبل أن يدخل بيته ويراها من هناك.
لم تنتبه هيلين ألا بعد مضي وقت طويل الى ملاحظته عن المدرسة الداخلية , ترى كيف علم بذلك؟
لم تره أبدا نهار الثلاثاء , كان قد وجد المفتاح ودسه تحت بابها صباح اليوم التالي , أمسكت المفتاح في يدها لحظة يملأها شعور غريب مرتبك وهي تتخيل جيك يبحث عنه بين الأعشاب .
ذهبت الى القرية وأرسلت الرسالة الى الخال فيليب , رأت سيرينا والطفلين – ثرثرت معها قليلا ثم ذهبت الى بيت بيل آملة أن تراه , فقد كانت مصممة على الذهاب الى الجزيرة , وقد قررت أن تذهب بمفردها أن رفض بيل ذلك لسبب ما , نعم ستكتشف كيف يعمل المركب وستأخذه بنفسها , طبعا كانت تعرف أستحالة ذلك لكن هذا ما فعله بها جيك لوغان , أثار جنونها وأستعدادها للقيام بالمستحيل فقط .... لتريه! وجدت بيل في حديقة البيت الكبيرة جالسا في الظل وبيده كأس من الشراب المثلّج.
قبل أن تصل اليه أخبرتها هانا بأبتسامة مشرقة:
" أنه متحمس للرحلة كثيرا , مثلك تماما , لقد أثرت أهتمامه".
" شكرا يا هانا".
وأحست هيلين بالأثارة , قريبا سترى الجزيرة , متأكدة من ذلك وتحسه في عظامها , رفع بيل كأسه وسألها:
" أتريدين واحدة؟".
" لا شكرا يا بيل , جئت لأرى ما قررت بالنسبة الى الجزيرة".
" سآخذك , سيكون جيك غائبا عن القرية يومي الخميس والجمعة , عندئذ نذهب , نملأها بالوقود يوم الخميس ونذهب باكرا صباح الجمعة".
" شكرا.... شكرا يا بيل".
وأحست أن بأمكانها معانقته الآن.
" أنتظري وأشكريني عندما نعود , كم سأشعر بالراحةعندها".
" لا تهتم يا بيل , سأخبره أنا بنفسي , سأقول له أنني أنا أقنعتك بالذهاب , وليلمني.... وفي أي حال فهو يلومني على كل شيء لذلك لن ألاحظ الفرق".
أطلق بيل ضحكة عالية :
" هل تبقين معنا لوقت الغداء؟".
" أتمنى ذلك , في الواقع كنت أود دعوتك أنت وهانا لتناول الطعام عندي , لأرد بعض ضيافتكما ما رأيك؟".
" طبعا , ذلك لطف منك لكن علي أستشارة هانا فهي المدير هنا كما تعلمين".
وتم ترتيب ذلك , فقد رحبت هانا بالفكرة وتحمست لها , بعد غداء خفيف معهما ذهبت هيلين الى مخزن القرية لشراء بعض الأطعمة , هذه المرة كان معها كتيب صغير بالمصطلحات البرتغالية مفتوح على صفحة الأطعمة , قضت هيلين ساعات في تحضير الطعام للثلاثة , هيلين تحب تحضير الطعام خصوصا هنا مع كل تلك الخضار الطازجة المتنوعة , أعدت بعض الأصناف الجانبية ثم الصحن الرئيسي المكون من الخضار واللحم والأرز.
وصلا الساعة الثامنة وبقيا معها حتى الحادية عشرة , قبل وصولهما بقليل أدارت هيلين أحدى الأسطوانات التي وجدتها في مجموعة والدها قضت هيلين وقتا ممتعا في التفرج على مجموعة الأسطوانات وفرحت جدا عندما أكتشفت الكثير مما تتذوقه من الموسيقى عند والدها , أضاءت بعض الشموع ووضعتها في منتصف الطاولة مما أضفى جوا جميلا على المكان.
" ما أجمل هذا يا هيلين".
قال بيل عندما دخل ونظر الى هانا التي أبتسمت موافقة وهي تخلع شالها الأسود المطرز عن كتفيها , كانت تلبس ثوبا طويلا من القماش الأزرق الناعم وكانت تبدو أجمل من العادة , هكذا كرت هيلين لنفسها.
" حقا كل شيء جميل , أهنئك يا هيلين , نحن لا نخرج كثيرا وأظنني سأتمتع بهذه السهرة".
وضحكت , وبدأت السهرة بالضحك وأستمرت مرحة حتى النهاية , كانت الليلة دافئة والنوافذ مفتوحة لأستقبال النسيم المنعش.
شكرا لله.... لا أحد في البيت امجاور فهو غارق في الظلام , وتنفست هيلين بأرتياح , طبعا لا خوف من مجيئه للسهر معهم , لكنها تصورت أن وجوده قريبا سيكون مزعجا قليلا , خصوصا أن كانت سيرينا معه , ربما كانا معا في الخارج , وأنزعجت هيلين من الفكرة , كانت في المطبخ تحضر فاكهة الأناناس لتقديمها للضيفين , فقط لو تستطيع تجاهله , لكنه ليس بالرجل الذي يمكن تجاهل وجوده.
أخذت الأناناس الى غرفة الجلوس والأبتسامة على وجهها , لن تدع التفكير به يفسد عليها السهرة .... أبدا.
بعد ذهابهما بقيت ساهرة تفكر , ثلاثة أيام فقط ثم تذهب الى الجزيرة , كم هي متشوقة لرؤيتها خصوصا بعد أن رفض جيك أن يأخذها.
بيل كم هو رجل طيب وواضح ويعتمد عليه , وكذلك هانا أخته , وسيرينا , نعم سيرينا لقد أحبتها هيلين كثيرا ويظهر أن الشعور متبادل , لكن غريب! كيف لم يؤثر عليها جيك , فهو يأمرها دائما ويقرر تصرفاتها وهي تطيع , لكن لم لا يحاول أبعادها عن هيلين؟ كل مرة تلتقي بها هيلين في الطريق تتوقع أن تتهرب منها سيرينا , وعندها تعرف هيلين السبب , أخيرا غلبها النوم ورأت حلما جميلا , رأت نفسها على جزيرة صغيرة مثل جزيرة الشمس هذه لكن أجمل...
مر الأربعاء ببطء , ذهبت هيلين لتسبح وتستلقي في الشمس , رأت جيك لوغان عن بعد على المركب , أدارت له ظهرها وتطلعت بأتجاه القرية.
لم تشعر هيلين بالقدرة على مواجهته , خصوصا وهي تخفي عنه ما تخفي , تخشى أن ينظر اليها ويقرأ أفكارها , هذا سخيف لكنها غير مستعدة للمخاطرة.
صباح الخميس رأته يترك البيت مرتديا ثيابا مرتبة أكثر من المعتاد , يحمل على كتفه حقيبة صغيرة وفي يده كيسا كبيرا .
عندما أختفى في أشجار الممر , تنفست هيلين بأرتياح , ها هو يذهب أخيرا! سيغيب يومين كاملين وسترى الجزيرة في غيابه وعندما يعود لن يستطيع فعل أي شيء.
مر بها بيل بعد ذلك بقليل وأخذها الى المركب , ثم توجه به الى الجهة التي تزود القوارب بالوقود , في الطريق تحدثا عن الأشياء التي قد يحتاجانها للرحلة , تزودا بالوقود والماء ثم أعادا المركب الى مرساه.
" أنه مركب جيد وسريع , كم أنا متشوق لقيادته".
قال بيل بمرح.
" متى نذهب؟".
سألته هيلين :
" باكرا , حوالي الساعة السادسة , ما رأيك؟".
" حسنا".
وافقت هيلين وعيناها تلمعان .
" أوه بيل , كم أنا متشوقة للرحلة , شكرا لك".
نظر اليها بعبسة صغيرة :
" أنتظري حتى ننطلق , سأشعر بالراحة أكثر تلك اللحظة".
قال هذا وأفترقا.
أوت هيلين الى فراشها باكرا تلك الليلة , وعندما أستيقظت في الخامسة من صباح اليوم التالي كان الهدوء يخيّم , حتى العصافير كانت نائمة وجو من التوتر والأنتظار يملأ المكان وقلب هيلين التي أبتلعت قهوتها بسرعة ولبست بنطلونا رقيقا من القطن الأبيض وبلوزة بيضاء مطرزة , ووضعت ( المايوه) في حقيبة اليد .... من يدري قد تسبح عندما تصل الى تلك الجزيرة الجميلة.
أغلقت هيلين الباب وسارت بحذر شديد أمام بيت جيك لوغان برغم علمها بعدم وجوده في البيت , أتجهت نحو المركب وهي تفكر ببيل , هل وصل قبلها الى المركب؟ وقررت أن تلقي كل اللوم على نفسها أن عرف جيك بالخدعة , لن تدعه يزعج بيل النبيل , كانت الأفكار تروح وتجيء في رأسها وهي تصعد الدرجات الحجرية وتصل الى الرصيف الخشبي القديم , لحظة ثم تكون في المركب , وخفق قلبها بعنف.
أخذت هيلين بعض الوقت لتستعيد توازنها بعد أن قفزت الى المركب , ثم سمعت أصواتا من داخله وأنحنت قائلة :
" بيل , لقد وصلت !".
نظر اليها من أسفل الدرج , لم يكن بيل , لم يكن بيل ذلك الرجل الذي يتطلع اليها , وبسمة ساخرة تعلو وجهه الأسمر .
أنه جيك لوغان.
" أهلا بك أيتها الشريكة ".
قال!






__________________




التعديل الأخير تم بواسطة darҚ MooЙ ; 12-17-2014 الساعة 01:19 PM
رد مع اقتباس