عرض مشاركة واحدة
  #18  
قديم 08-24-2013, 02:39 PM
 







5- العاصفة


تطلعت هيلين حولها كأنها تبحث عن مهرب , لم تكن تحلم , الرجل أمامها بجسمه الضخم ليس حلما بل حقيقة , ها هو يصعد نحوها , يقترب منها , يقف الى جانبها .
" ماذا تفعل هنا؟".
سألته بأضطراب.
" أنتظر حضرتك !".
ورفع حاجبه بلامبالاة .
" جاهزة ؟ لنذهب أذن ... عن أذنك".
وحاول المرور من جانبها ليصل الى المقود , لكنها لم تتحرك .
" أين بيل؟".
سألت بهدوء , أنه كابوس , كابوس حقيقي.
" آه , بيل , أنه نائم , سهرنا طويلا ليلة أمس".
أحست هيلين أنه يتسلّى وأنزعجت , لن تذهب معه الى أي مكان.
" أنتظر لحظة , ونظر اليها بأدب واضعا يديه على المقود , كان يلبس السروال القصير وصندله المعهود , ذقنه بحاجة ماسة الى شفرة الحلاقة , ما أصعب أن تحافظ هيلين على هدوئها أمام رجولته القوية تلك , لكنها تحاول , أجل تحاول.
" يظهر أنه حصل سوء تفاهم ما".
" بالطبع , لكن كل شيء على ما يرام الآن , تريدين الذهاب الى الجزيرة , على هذا المركب حسنا سآخذك اليها".
تكلّم بصبر وكأنه يشرح شيئا لباولو أو لتوبي.
" لم لا تنزلين الى المطبخ وتصنعين لي فنجان قهوة , لقد صحوت لتوي من النوم".
كان الموقف مضحكا , لم يكن لوغان سيئا كعادته ولا عدائيا لكن هيلين كانت منزعجة لدرجة لم تأبه معها بذلك.
" قلت لك لن أذهب معك الى أي مكان".
" ستفعلين".
أدار المحرك وبدأ المركب يبتعد عن الرصيف .
بغضب وبدون تفكير مدّت هيلين يدها الى مفتاح المحرك الذي رأته يديره منذ لحظات.
" أوقف المركب حالا!".
قالت بصعوبة وهو يبعد يدها عن المفتاح بالسهولة التي يكش فيها ذبابة , ثم قبض على معصمها بقوة بينما كانت يده الأخرى على المقود , لم يكن يمزح:
" كيف تلمسين هذه الأشياء وأنت لا تفهمين شيئا عنها؟ هيا أنزلي الى الداخل , سألحق بك بعد لحظة.
حاولت أن تسحب يدها من قبضته , ماذا لو قررت أن تقاومه! تعرف النتيجة , لا جدوى.
" دع يدي!".
" فقط أن وعدت بحسن التصرف".
وأحكم قبضته .
" ليس لدي الخيار".
وبما أنها حافظت على هدوئها فربما تستطيع أقناعه بالعودة :
" حسنا سأذهب".
" عظيم".
وأستدار نحو المقود , كانت هيلين ترتجف وهي تنزل الدرجات المؤدية الى الحجرة , ثم توقفت عندما رأت أشياءه الى جانب السرير المخرّب , أذن فقد قضى ليلته هنا بأنتظارها , كان يعرف كل شيء وهي ظنته خارج البلدة.
كاد رأسها ينفجر , لتصنع القهوة أذن , دخلت المطبخ الصغير لتجد كل شيء جاهزا فيه , قدحان وعلبة من دقيق الحليب وعلبة القهوة والكبريت , حتى الأبريق كان معبأ بالماء , كل ما عليها فعله هو أشعال الغاز , وهذا ما فعلته عندما سمعت صوت خطواته على الدرج خلفها , قال :
" أشرب قهوتي من دون سكر".
" حسنا , تفضل أجلس".
هناك طريقة واحدة للتعامل معه: أن تحافظ على هدوئها.... حملت اقهوة وجلست قبالته على السرير الآخر .
" سيكارة؟".
" أجل , من فضلك".
ثم قالت:
" لماذا؟ أيمكن أن تخبرني لماذا؟".
أشعل لها السيكارة قبل أن تجيب , كان يراقبها وهي تسحب النفس الأول الذي سبّب لها الصداع.
" الأمر بسيط , تريدين رؤية الجزيرة , وها أنا آخذك اليها".
" لم أقصد ذلك , أقصد بيل ماذا فعلت به؟".
" وماذا أفعل به , لم أفعل شيئا".
" تعرف ما أقصد جيدا".
وبدأ صبرها ينفد.
" حسنا , في المرة الثانية التي تدعين فيها بيل وهانا الى العشاء في بتك تكلموا بهدوء , أو أقفلوا النوافذ.
أصفرّت هيلين.
" لكنك أنت لم تكن في البيت".
" لا , ليس في البداية , ثم عدت وسمعت الجزء المثير من حديثكم".
" كنت تسترق السمع أذن؟".
" وكيف تسترق السمع أذن؟".
" وكيف أمنع نفسي عن الأستماع وأسمي يتردد , وجنّية البحر كذلك....".
" أيها القذر!".
" أنتبهي لكلامك يا آنسة ".
" أنت لم تقبل فكرة ذهابي الى الجزيرة , لماذا تأخذني الآن؟".
" لنقل أنني غيّرت رأيي".
" لا أصدقك , ولا أريد أن أذهب معك , هل تتفضل بأعادتي؟".
" لا , سنذهب معا , أليس ذلك جميلا؟".
وضحك , لكن شيئا ما جعله يتوقف عن الضحك , بدا الدوار على هيلن التي كانت تحاول أخذ نفس عميق:
" ما بك ؟ هل أنت بخير ؟".
وأمسك بها.
" هيا أجلسي , هل أكلت شيئا هذا الصباح؟".
جاء صوتها ضعيفا.
" لا".

ساعدها على التمدد فوق السرير , كانت يداه القويتان لطيفتين , وفتحت هيلين عينيها لترى وجهه قريبا من وجهها , لم تره عن قرب من قبل , يكاد يلتصق يوجهها , أسنانه بيضاء وسليمة , أنفه وفمه جميلا التكوين , يوحيان بالقوة , أما عيناه .... عيناه تذيبان الجليد أن أراد ذلك , وأغمضت عينيها بفزع , ما هذه الأفكار !
" أسمعي سأصعد لدقيقة ثم أعود وأحضر لك بعض الطعام , ما كان يجب أن تدخني ومعدتك خاوية , أنت لا تدخنين ؟".
" لا".
أجابته , وبعد أن ذهب , حاولت أن تجلس , لن تعتمد عليه أبدا.
" قلت لك أستلقي".
قال وهو يذهب الى المطبخ ويحضر لها بعض الخبز والجبن والمزيد من القهوة.
" هيا كلي , لا سكائر لك".
" أجل , لكن هذا لا يغيّر شيئا , أريد العودة , لا أريد أن أذهب معك".
" صدقيني ولا أنا , لكن عندما عرفت بأصرارك , غيّرت رأيي , هيا دعينا نعلن الهدنة , لليوم فقط , الرحلة جميلة وحرام أن لا نتمتع بها".
قالت بسخرية مرّة:
" هل تقصد أنك ستحاول عدم أهانتي اليوم ؟ ألن تجد ذلك صعبا؟".
" قلت سأحاول , هذا كل ما أعد به".
ورفع رأسه بتحد , هناك سحر ما في غرور هذا الرجل , في وجهه , في جسده , سحر أشعر هيلين بالضيق والخوف.
ثم حدث ما حدث , حدث كل شيء بسرعة مخيفة , كانا على وشك الوصول , أشار جيك الى صخور قريبة وشرح لهيلين أن هناك فجوة صغيرة تتسع للمركب بصعوبة , عليه المرور بها بحذر كي يصل الى الجزيرة الصغيرة , وفجأة وبدون أنذار بينما كان يتكلم أظلمت السماء وتجمعت الغيوم الرمادية القاتمة ... أنها حقا جزيرة العواصف , كان على لوغان أن ينطلق بأقصى سرعة فقد أراد الوصول الى الصخور والمرور من تلك الفجوة قبل أن تنقض العاصفة , ثم بدأ المطر الدافىء الغزير يهطل , رفضت هيلين أقتراح جيك بأن تنزل الى الداخل كي لا تبتل. هز كتفيه بلا مبالاة فقد كان مشغولا عنها , فقط أخبرها أن تتمسك جيدا عندما يطلب منها ذلك , وقفت تراقبه وهو يحاول المرور بين تلك الصخور المسننة بكفاءة مذهلة , عندما لمعت السماء كلها ودوى صوت رهيب , أنفجار رعد لم تسمع هيلين مثله في حياتها.
صرخت بفزع وألقت بنفسها على جيك الذي مال قليلا وفقد للحظة السيطرة على المركب الذي أنحرف بأتجاه الرؤوس الصخرية المسننة , ساد الصمت لحظة ثم:
" أيتها الغبية... أيتها البلهاء !".
وكان غضبه مخيفا.
هدأت العاصفة بعد ثلاث ساعات طويلة قضتها هيلين في الحجرة ترتجف خوفا كلما أنفجر الرعد , كان جيك يرفض التحدث اليها , وكان يحاول القيام ببعض الأصلاحات المؤقتة في الجانب الذي ضربته الصخور , صعدت الى ظهر المركب لأستنشاق بعض الهواء ولرؤية الجانب المعطوب , كان كل شيء حولها يخبر عن العاصفة الرهيبة , الأشجار المقلوعة , حشائش البحر التي تملأ الشاطىء , حتى لون الماء المخضّر , أنحنت هيلين لترى جانب المركب , وشعرت بالأسف , أنها غلطتها.
" أجل , أنظري اليه جيدا".
جاء صوته من ورائها.
" أشكري ربك أن الضربة جاءت فوق خط الماء , وألا لكنا الآن على عشرين قدما في القعر".
أحست بفمها يرتجف ويجف ثم سيطرت على نفسها قائلة:
" أذن, لا بأس , أقصد نقدر أن نعود ساعة نشاء؟".
" هل تمزحين؟ لا بد أنك تمزحين".
ونظر اليها يتنيك العينين , كيف خطر ببالها قبل قليل أن له عينين تذيبان الجليد , أنها الجليد نفسه الآن :
" لا نستطيع الذهاب بالمركب أكثر من عشرين قدما قبل أن تغمرنا المياه".
" أوه!".
" أوه!".
قلّدها بتهكم , وأحست بالأحتقار يملأ صوته.
" أذن ماذا نفعل الآن ؟ بمن نتل؟".
نظر اليها بدهشة:
" لا أفهم , لماذا؟".
أنه يصعّب الأشياء , هذا واضح.
" من أجل المساعدة".
" أستطيع أصلاح العطب بنفسي".
قال بنفاذ صبر:
" كم من الوقت يحتاج ذلك؟".
سألت بخوف.
" بضعة أيام".
" غير ممكن , هذا غير ممكن , ليس هنا... ليس معك.....!".
" بلى .... هنا ... ومعي".
ثم قبض على يدها بشدة :
" كيف تجدين ذلك؟".
" لا ... لن أبقى هنا معك".
وسحبت يدها منه.
" حسنا.... يا أختي ... وما الذي تنوين فعله؟".
سأل بروية.
" أستعمل الراديو اللاسلكي , بأمكانك طلب المساعدة و....".
توقفت عندما رأت الأحتقار الذي يملأ نظرته اليها.
" نحن بصحة جيدة , لم يصب أحد منا , هناك الكثير من الطعام هنا وعلى الجزيرة ما يكفي لحياة كاملة , وتظنين أن الطوارىء ستهرع الينا عندما نطلب ذلك؟".
" أستدع بيل أذن".
" بيل , بالطبع سأتصل به , سأخبره أننا سنتأخر بعض الشيء حتى لا يقلق , أراهنك أنه سيكون في مركبه منتظرا أتصالا مني , أن لم نعد حتى العاشرة من هذا المساء , لكن لن أطلب منه المجيء الى هنا , لن أفعل مع أنه أفضل صديق لي على الجزيرة , مركبه صغير وليس بالقوة الكافية التي تمكنه الوصول الى هنا".
أحست هيلين ببعض الراحة , على الأقل بيل سيعرف بالأمر , ستكون الى جانب جيك عندما يتصل به , وربما أستطاعت التحدث اليه بنفسها.
أبتعدت قليلا وبدأت تنظر الى الشاطىء الرملي القريب , ما أجمله , وما أجمل أن تكون هنا مع شخص آخر , شخص تحبه وتحب صحبته , كم سيكون ذلك مختلفا ورائعا , كل تلك الأشجار الغريبة والجميلة , الرمال الذهبية , الشمس الساطعة بعد تلك العاصفة المفاجئة , وتنفست بعمق وأرتياح:
" كيف نصل الى الشاطىء؟".
سألت جيك الذي أخذ يمرّر أصابعه في شعره المبتل :
" هناك قارب من المطاط , سأحضره".
تطلعت هيلين الى ساعتها , كانت الثانية والنصف بعد الظهر , أنها تحس بجوع شديد , سارت نحو الدرجات الخشبية وألتقت جيك حاملا القارب المطاطي.
" هل نستطيع .... أستطيع أن آكل قبل أن نذهب؟".
" أجل , سأقوم بنفخ القارب بينما تحضرين الطعام".
" ماذا تريد أن تأكل؟".
" أي شيء , فأنا جائع , هيا أسرعي".
يتحدث اليها أحيانا كمن يتحدث الى طفل.
نزلت هيلين الى المطبخ وأخذت تساءل ما تراه يفضّل , من المهم أن تحضّر شيئا يحبه , لا تدري لماذا , ربما للتعويض عن الخطأ الذي أرتكبته , حسنا ستختار الدجاج مع الكاري , معظم الرجال يحبونه , وكم تمنت أن يحبه جيك , وضعته على النار ثم أختارت بعض فاكهة المانغا المعلبة ووضعتها جانبا لتفتحها فيما بعد , ثم سمعت صوتا غريبا خلفها , أستدارت لترى جيك مع ماكنة الحلاقة الكهربائية التي كانت تصدر ذلك الصوت:
" ماذا قلت؟".
سألته:
" كنت أقول لسنا بحاجة الى المانغا المعلبة , سنحضر بعض المانغا الطازجة من الجزيرة , أنها ألذ ما ذقته في حياتك , كنتما حكيمين جدا أنت وببيل حين حشدتما المكان بالأطعمة المعلبة , فمن يدري؟".
لن تدعه يثير غضبها .... لن تدعه.
" صحيح ... قل لي , هل تفضل أن تحلق ذقنك أمام جمهور؟ كنت أظن الحمام المكان المناسب لذلك".
وأدارت ظهرها لتكمل تحضير الطعام.
" أعذريني , لقد أغرتني رائحة الطعام الشهية , معك حق , يجب أن أنتبه لعاداتي القبيحة في الأيام المقبلة , خصوصا ونحن نعيش قريبين من بعضنا كثيرا........".
وبدأ يصفر لنفسه مغلقا باب الحمام خلفه بقوة.
جمدت هيلين في مكانها , لقد قال ما قال لأسكاتها , لكن لن تدعه يعرف الى أي حد يؤثر بها كلامه , تعرف أنها لا تريد البقاء معه وتعرف أنه لا يميل اليها , رفعت يدها الى رأسها , كم يؤلمها , الخوف هو السبب , كانت هيلين خائفة من جيك لوغان , من البقاء وحدها معه في المركب , وحدها معه في عتمة اليل ... أي شيء قد يحدث في العتمة , لكنه لن يعرف , لن يعرف السبب الحقيقي وراء خوفها , السبب الخفيّ الذي لا تقدر أن تخبره لأي كان.
فجأة تبخّر أحساسها بالجوع, وعندما وضعت الطعام على الطاولة , والقليل في صحنها , رأى جيك وجهها الشاحب وسأل:
" ما بك؟".
قالت:
" ألم في رأسي!".
ولم تكن تكذب , كان رأسها يؤلمها لكنه لم يكن المسؤول عن شعورها بالمرض.
" حاولي أن تأكلي , ثم خذي قرصين من الدواء , وعندما سأذهب أنا الى الشاطىء أخلدي الى الراحة".
" لا , أريد أن أرى الجزيرة".
" ترينها غدا".
غدا! وأزداد وجع رأسها , أنه كابوس , لكنه حقيقي , يا الله ماذا ستفعل؟
" هل أستطيع أن أسبح , هل المكان آمن , الجو هنا خانق".
" بالطبع , أن كان ذلك يساعدك".
ألتهم طعامه بسرعة , ثم قام :
" لا تتحركي سأصنع أنا القهوة".
أخذ صحنها معه الى المطبخ , ثم عاد بعد قليل حاملا القهوة وقرصين من الدواء.
" خذي هذين مع القهوة , ولا تسبحي قبل مضي نصف ساعة , لن أزعجك أن كنت نائمة عندما أعود".
" شكرا , ما هذا؟".
" كوديين , لا تنسي , أنتظري قليلا قبل أن تسبحي".
وذهب , لا وداع عنده , لا شيء من المجاملات , عندما يكون لديه ما يقول , يقوله وألا ظلّ صامتا , راقبته هيلين من النافذة وهو يقفز الى قارب المطاط ويجذف نحو الشاطىء , بلعت قهوتها وقرصي الدواء , وأسلقت على السرير.
عندما أستفاقت كانت العتمة تغمر المكان , لبضع لحظات لم تعرف هيلين أين هي , جلست في السرير الضيق ثم فجأة سمعت صوته:
" أستطيع أشعال النور الآن".
ونهض جيك لوغان من السرير المقابل , رأت شبحه في العتمة وغاص قلبها من الخوف:
" النور....أجل من فضلك".
لم تستطع تحمل الفكرة , هي نائمة وهو في الغرفة نفسها , ملأ النور الأصفر المكان وتنفست بأرتياح.
" لم أقصد أن أنام .... ما الوقت الآن؟".
" حوالي السادسة , خسرت أجمل منظر للغروب ترينه في حياتك".
" ولم أسبح أيضا , ظننت أنني سأستريح لبضع دقائق فقط".
" عرفت أنك لم تذهبي للسباحة , تلمست ثوبك عندما دخلت".
" متى تتصل ببيل؟".
سألت محاولة أظهار الهدوء , لكنها كانت خائفة زمنزعجة , لا يجب أن تبقى معه في غرفة واحدة , يجب أن تذهب , لكن الى أين؟
" بعد ساعات قليلة , سأعطيه بعض الوقت ليكتشف أننا لم نعد , عندها أطلبه".
" هل أستطيع رؤية الجزيرة ؟".
" الآن؟".
" أجل".
ستشعر بالراحة أكثر في الخارج , لن تدعه يعرف ذلك .
" سيكون جميلا التمشي في ضوء القمر".
وأرتعشت لا تريد أعطاءه أية أفكار خاطئة , لكن أي شيء أفضل من بقائها معه في هذه الحجرة.
" بالطبع متى؟ الآن؟ ألا تريدين أن تأكلي أولا؟".
أحست بشيء ما في صوته , بعض الشك ربما , وقالت:
" سأحضر بعض الساندويشات".
بعد نصف ساعة سبقها جيك الى قارب المطاط ثم لحقته وبدأ يجذف بأتجاه الشاطىء , كان القمر كبيرا يضيء عتمة السماء المخملية ساكبا نوره الفضي عليهما.
" أنتبهي , لا تفقدي توازنك على الأرض اليابسة , فقد أعتادت رجلاك على حركة القارب".
لم تصدقه ألا عندما أحست بالأرض اليابسة تحت قدميها , سارا بين الأشجار الكثيفة , أضاء جيك القنديل الذي أحضره معه , فقد حجبت كثافة الأشجار ضوء القمر.
" لا تخشي شيئا سنخرج قريبا من بين هذه الأشجار ولن نحتاج القنديل بعد ذلك ".
بالفعل لم يمض وقت طويل حتى خرجا الى شاطىء جميل تحيط به الصخور السوداء ثم البحر , وقفت هيلين في مكانها مسحورة بالمنظر ولم يعد يهم أن كان جيك عدوا أولا وهمست:
" كم هو جميل , حتى في الليل , ولا أحد يعيش هنا ليراه؟".
" لا , لكن يمكن تغيير ذلك".
وقبل أن تتمكن من سؤاله عن قصد سبقها وما كان عليها ألا الحاق به , كان البحر أسود اللون وثمة بعض الأمواج التي صبغها القمر باللون الفضي, تتحرك وكأنها أشياء حيّة , توقفت هيلين تراقب ذلك وتراءت لها في الماء صور كثيرة , صور أناس يرقصون ويرقصون ثم أختفت الصورة , ناداها جيك:
" ما بك؟".
وأنكسرت الرؤيا المسحورة .
أسرعت خلفه.
" كنت أراقب البحر وأرى فيه صورا".
توقعت أن يضحك , لكنه لم يفعل , نظر أليها بغرابة .
" أحذري من الجنية , هكذا تبدأ ".
" تبدأ ماذا؟".
أحست بالفضول .
" الأسطورة : في الزمان البعيد كانت الجنية العجوز البشعة والشريرة تغار من الفتيات الصغيرات , لذا كانت تغريهن وتسحبهن الى البحر , أحذري , يقولون أنها ما تزال هنا".
بالطبع ليست هذه سوى قصة قديمة ومع ذلك أحست هيلين بجسمها يقشعر وسألته بأي شكل تظهر , فأخبرها أنها تستطيع أن تظهر بالشكل الذي تريده لكنها عادة تجيء كحورية بحر تغني في الليل". وأضاف:
" أن سمعت غناء هذه الليلة فأغلقي أذنيك".
وجدت هيلين في قوله هذا فرصتها فقالت:
" سأنام الليلة على ظهر المركب".
" ماذا؟".
وقف في مكانه مذهولا ثم نظر اليها بأحتقار رهيب:
" لا .... لا... الجو في الحجرة خانق , ثم نمت طويلا بعد الظهر ولا أظنني أستطيع النوم هذه الليلة .... وقد أزعجك".
كان عليها أن تتحاشى أحتقاره بأي طريقة.
" أسمعي جيدا , دعينا ننهي الموضوع مرة واحدة , ألا تظنين أنه يجب أن أميل اليك قبل أن أرغب في مغازلتك ؟ هل تفهمين أم أشرح أكثر؟".
" أفهم جيدا , لكن لن أنام في الحجرة معك , هذا كل شيء , لو كنت أعرف الجزيرة جيدا لنمت هنا , سأنام الليلة على ظهر المركب , لن أقضي الليل في حجرة واحدة معك".
وبدأت تمشي لكنه تقبض على ذراعها بعنف وهو يغلي من الغضب:
" لا تثيري غضبي أكثر من ذلك , تعرفين كم أحاول ضبط أعصابي معك , لكنك تستفزينني بشكل غير معقول".
رفعت وجهها اليه بتحد وأحست بالنار تحرق ذراعها تحت أصابعه:
" وماذا تنوي أن تفعل؟ تضريني؟ بالطبع لا أحد هنا يرى أو يسمع , أعرف جيدا أنك لا ( تميل الي) كما قلت بتهذيب , أكون غبية أن ظننت غير هذا , لكنني لا أستطيع النوم مع أي كان في غرفة واحدة .... ليس الأمر شخصيا أبدا".
" وهل تريدينني أن أصدق ذلك؟".
صرخ بغضب.
" أسمع لقد نعتني بالكذب من قبل , ولن أسمح لك بذلك مرة أخرى".
بدأ غضبها هي أيضا يكبر.
" حقا , وما الذي تنوين فعله ؟ صفعي كما فعلت في السابق , أنصحك أن لا تفعلي , يصعب عليّ كثيرا أن لا أرد الصفعة بأقوى منها".
" أعلم ذلك , وكما قلت فهنا لا أحد يراك ولا أحد يسمع , تريد ضربي أذن؟".
ولمعت عيناها كالنار , ورفعت ذقنها الصغير الى أعلى بكبرياء , لم تكن تعرف كم كانت تبدو جميلة تلك اللحظة في ضوء القمر الغامر شعرها ووجهها الناعم.
لكن جيك رأى ذلك كله وبدأ تنفسه يثقل , وصوته يخفت عندما أجابها:
" لا أقاتل نساء".
" حقا؟".
وسحبت ذراعها من يده.
" وماذا تظن نفسك تفعل الآن؟".
" أنت بدأت كل شيء , أفكارك السخيفة عن قضاء الليل معي, كم عمرك الآن؟ تتصرفين وكأنك طفلة في الرابعة عشرة من عمرها وقد.....".
وسمع شهقتها , ثم بدأت تركض .... وتركض هاربة منه , جمد جيك في مكانه للحظة ثم لحقها فهي لا تعرف مخاطر الجزيرة.
" هيلين!".
ناداها , لكنها أستمرت في الركض وفي رأسها تطن كلمات قليلة:
" أنه يعرف.... يعرف....".
وصل اليها وأخذها بين ذراعيه , أستدارت ونظرت اليه , لم تره بل رأت ذلك الرجل الآخر... الرجل الذي .... وصرخت:
" أتركني .... أرجوك ... أتركني ...".
وبدأت تدفعه عنها وتضربه على صدره بكلتا يديها وبكل قوتها .... وتنتحب ... ثم سمعت صوت جيك وكأنه آت من مكان بعيد :
" هيلين .... ما بك ... ماذا جرى؟".
وهزّها بعنف ليعيدها الى وعيها.
مددها على الرمال وأحست بيديه تلمسان وجهها , لم يكن غاضبا الآن :
" آسف , هل آلمتك عندما هززتك بشدة , كان عليّ أيقاظك مما كنت فيه؟".
" لا بأس".
وبدأت تستعيد بعض قوتها.
" أريد أن أجلس".
وضع يده خلف ظهرها بلطف وساعدها على الجلوس .
" دعني أقف , أرجوك".
ونظرت اليه , غضبه أختفى , يداه لطيفتان عندما ساعدها على الوقوف.
" آسفة لأنني صرخت , لم يكن ذلك بسببك.....".
قالت شبه هامسة:
" أعرف.... هل نعود الآن؟".
" لا... أريد أن أرى الجزيرة , وأن أشرح لك شيئا".
" لا داعي لأن تشرحي لي أي شيء يا هيلين , سنمشي قليلا لأريك الجزيرة , المكان صغير".
مشيا جنبا الى جنب بصمت لم يكن ثقيلا , أرتعشت قليلا , سألها أن كانت تحس بالبرد وتريد العودة , أجابت بالنفي , ثم وقفت ورفعت وجهها الى السماء , أخبرته أن النجوم تسحرها وتحب هي تأملها كثيرا , وقف الى جانبها صامتا , أرتعشت هيلين ثانية , أحست بشيء ما في الجوار حولها , كل منهما كان يشعر بوجود الآخر الى جانبه , عرفت هيلين ذلك , وعرفته أكثر عندما أبتعد عنها فجأة وقال :
" الأفضل أن نعود الآن , ستصابين بالزكام".
" نعم".
ترى هل أحس هو بذلك الجو المتوتر , أمن أجل ذلك أستطاعت أن تسمع صوت تنفسه بذلك الوضوح؟ ومد يديه الى جيوبه قائلا:
" سأدخن سيكارة , هل تريدين واحدة؟".
شكرته فهي لم تأكل ألا القليل ذلك النهار , أشعل جيك سيكارة , وللحظة رأت وجهه يغمره النور وجها قويا... ورأت فيه ما لم تكن تريد أن ترى ... رأت فيه لطفا وحنانا....
تابعا السير وجيك يرفس الأشياء بقدميه , باحثا عن قطعة خشب يحتاجها لأصلاح المركب.
" سيكون الأمر أسهل في النهار ... غدا أساعدك بالبحث".
قالت هيلين:
" معك حق , ثم يجب أن نعود لنتصل ببيل , لا بد أن باله بدأ ينشغل الآن".
" مسكين بيل , كم أنا آسفة بالنسبة....".
بدأت تتكلم ولم يدعها جيك تكمل ووضع يده بلطف على ذراعها.
" لا تقولي ذلك , أنا الذي ألقى اللوم عليك , جعلتك تظنين أن ما حدث كان بسببك , كان ذلك سيحدث في أي حال.... فقد فقدت السيطرة على المقود للحظة , لم تكوني أنت السبب كان هناك شيء آخر....".
" وجعلتني أظن...".
توقفت وهي تشعر بمزيج من الراحة والغضب.
"... كنت غاضبا , أذا كنت تريدين الأنتقام .... فهيا...".
لم تصدق أن الواقف أمامها هو جيك لوغان بنفسه.
" لا بأس , لقد عذبني الشعور بالذنب , أنا مسرورة جدا لأنك أخبرتني ذلك".
وبدأت ترتعش من جديد.
" هيا , يجب أن نعود الآن , أعرف طريقا مختصرة , أتبعني".
وصلا الى المركب , طلب منها جيك أن تجلس وترتاح بينما كان هو يحضر شرابا ساخنا , وبالفعل أحست بالراحة بعد أن أبتلعت كوبين من الشاي المنعش , قال جيك وهو ينظر اليها بلطف:
" هذا أفضل , لقد عاد اللون الى وجهك الآن , سأحاول الأتصال ببيل , يمكنك الصعود بعد أن ترتاحي قليلا أن كنت تنوين التحدث اليه , وبالمناسبة سأنام أنا على ظهر المركب , نامي نت هنا وبأمكانك أقفال الباب , لكن أذا أمطرت فسأقرع عليك حتى تفتحي , مفهوم؟".
" أنا سأنام فوق , أرجوك".
قالت بصعوبة , رفض بحزم , حاولت أن تشرح له سبب خوفها من النوم في غرفة واحدة مع رجل , لم يبد أي أهتمام , لم يرد أن يعرف , لكنها أصرت وأخبرته بسرعة عن أحد أزواج أمها الذي حاول التعرض لها ذات ليلة وهي ما تزال في الرابعة عشرة من عمرها , وضع جيك ذراعه حول كتفيها فقد كانت ترتجف وهي تخبره بالقصة:
" لا بأس , كل شيء أنتهى الآن , لا تخافي , أنت في مأمن معي , لن أؤذيك , هيا أكملي شرابك".
قال هذا وأبتعد مسرعا , هكذا فجأة يتحول من شخص حنون ودافىء الى شخص لا يبالي بشيء , يا ألهي لا تقدر هيلين أن تفهم هذا التحول السريع , لا بد أنه تذكر ما فعل بسيرينا المسكينة , وشعرت هيلين بالغثيان , شعرت بالقشعريرة , أي نوع من الرجال هو ؟ هل ستعرفه على حقيقته يوما ؟ لم تكن متأكدة أنها تريد ذلك.
لحقت به الى فوق حيث كان يدير رقما ما , وسمعت صوتا ضعيفا من الطرف الآخر , لا بد أنه بيل , أخبره جيك بما حصل وسأله أن كان يريد التحدث اى هيلين , ثم أستدار اليها وسألها , رأت هيلين في وجهه عدم رغبته في ذلك , فأجابت بالنفي , أنتهت المكالمة ومرّت لحظات صمت صعبة , أنكسرت حدتها عندما تحرك جيك قائلا أنه سيحضر فراشه الى ظهر المركب ثم يأكلان شيئا خفيفا قبل أن يأويا الى النوم , وهكذا كان .
حمل جيك فراشه وغطاءه وصعد الى السطح , نادته هيلين من أسفل قائلة أنها لن تقفل الباب فقد تمطر السماء....




__________________




التعديل الأخير تم بواسطة ام بطن ; 02-23-2014 الساعة 03:53 PM
رد مع اقتباس