6- لا أقاتل رجالا
أفاقت هيلين من نومها غندما سمعت صوتا غريبا ونظرت من النافذة لترى المطر يهطل بغزارة , المطر! وجيك ينام في الخارج ! جلست بسرعة , يجب أن تناديه , لا بد أنه يقطر ماء الآن , وفي اللحظة التي مدت يدها الى ثيابها سمعت حركة في السرير المقابل , نظرت لتراه ملتفا بالغطاء ومكوما على السرير.
" لا بأس , صحوت قبل أن تمطر بلحظات , ونزلت الى هنا".
فجأة أنتبهت هيلين أنها في ثيابها الداخلية فقط , سحبت الغطاء بسرعة الى أعلى عنقها.
" أوه , كنت على وشك منااتك".
" تخيلت ذلك , هيا عودي الى النوم , لا تزعجي نفسك ".
" ما الوقت الآن؟".
" حوالي الثالثة صباحا , قد ترعد الآن , هل يخيفك ذلك؟".
أجابته بالنفي وأستأنفت النوم , عندما أستفاقت ثانية كانت الشمس مشرقة وكأن الطقس لم يمطر في الليل وجيك ما زال مستغرقا في النوم , سحبت هيلين المايوه وثيابها من جانبها وعيناها عليه كل الوقت خوفا من أن يستيقظ ويرى عريها , كان وجهه هادئا لا قوة فيه , قامت من فراشها وذهبت بأتجاه الحمام , وقفت قربه لحظة تتأمل وجهه , رموشه الطويلة وكأنها رموش أمرأة , وجهه الأسمر الجميل , كم كان كاملا في النوم.
رغبة مجنونة في لمس وجهه , لا لن تفعل , أسرعت الى الحمام هاربة منه ومن أفكارها.
كانت الساعة السابعة , أرادت هيلين أن تسبح قليلا , وقبل أن تذهب غسلت الثياب التي كانت تلبسها في الأمس وسارت بهدوء بأتجاه السطح.
" أين تذهبين؟".
فاجأها صوته , أخبرته.
" هكذا دون أن أعلم ؟ ماذا لو حصل لك شيء ؟ ".
كم تكره هيلين أن يكلمها كما يكلم طفلة عنيدة.
" لن أبتعد كثيرا ".
وصعدت مسرعة.
كان الماء منعشا لا باردا ولا دافئا , سبحت هيلين نصف ساعة ثم عادت شاعرة بالجوع , وجدته جالسا يأكل ويشرب القهوة , دخلت الحمام الصغير وحاولت أن تجفف جسمها والمايوه , ليس لديها ثياب غير ثيابها المبلولة , ستبقى في المايوه حتى تجف , ذهبت الى المطبخ حضرت لنفسها شيئا لتأكل وقهوة وأتت لتجلس مع جيك.
" في المايوه؟".
قال بعنف , فأخبرته أن ثيابها تجف على السطح.
قام الى خزانة في الممر وأحضر لها بعضا من ثيابه التي أخبرها أنه يحتفظ بها للطوارىء , خج الى السطح تاركا لها المجال لتخلع المايوه المبتل , عندما أنتهت هيلين من ذلك نادته ليعود .
" شكرا سيد لوغان".
قالت بأدب:
" أعتقد أنه بأمكانك مناداتي جيك ؟ لم ينادني أحد سيد لوغان منذ ثماني سنوات , وذلم يثير عندي ذكريات لا أحبها".
" حسنا.........".
قالت هيلين , هكذا أذن ليس لأنه يريد أن نكون أصدقاء بل لأن ذلك يثير عنده ذكريات مزعجة , ترى أي ذكريات تلك , بالطبع لن تجرؤ على السؤال وألا أثارت غضبه و هي في غنى عن ذلك , مع أن السؤال يعذبها.
" سنعود الى الشاطىء الآن".
ثم قام وأحضر كيسا كبيرا حمله تحت أبطه , ثانية أرادت هيلين أن تسأل , وثانية لم تفعل , فقد عاد ذلك الجو المشحون بينهما , ذلك التوتر الغريب , ستحاول أن تحافظ على هدوء أعصابها , ذلك أسلم معه , قامت مسرعة وأخذت الصحون والفناجين الى المطبخ , لن تغسلها الآن , لا يجب أن تدعه ينتظر فهو يكره ذلك.
عندما وصلا الشاطىء حذرها جيك من المشي حافية القدمين , فكما قال هناك نوع من العناكب الكبيرة السامة وعدا ذلك فهي في مأمن من كل شيء:
"ألا منك".
قالت هيلين لنفسها .
" أنا ذاهب لقطف بعض الفاكهة , أتأتين معي؟".
" لا شكرا , أريد التجول في الجزيرة وأكتشافها".
وسارت بالأتجاه الآخر.
" متّعي نفسك".
وأختفى بين الأشجار بعد أن نظر اليها من أعلى الى أسفل .
كم يكون بشعا أحيانا , لماذا؟ لماذا؟ مع أن بأستطاعته أن يكون لطيفا وساحرا , أما الآن فما هو ألا وحش , الأفضل أن تبتعد عنه.
وجدت هيلين صخرة كبيرة مسطحة تطل على البحر , جلست عليها وأخذت تطلع الى البحر وتحلم , أذن والدها كان هنا , ترى أمن أجل هذا كره لوغان أن يرافقها , ربما , وربما لأنه يضيع وقته معها , ترى كيف تكون الأشياء لو كانت برفقة بيل على الجزيرة , ستكون الأشياء أجمل , سيضحكان معا , يقطفان الفاكهة معا , أما مع هذا الجيك لوغان!
وقامت هيلين من مكانها وأخذت تمشي بدون هدف , مرت من المكان الذي سارا عليه الليلة الفائتة , تذكرت ذراعه القوية الدافئة حول كتفيها , كم أراحها ذلك وكم تمتعت به , ترى هل تتمتع سيرينا عندما يضمها هكذا , أندفع الدم الى رأسها لمجرد التفكير بذلك وحاولت أبعاد الفكرة.
بعد قليل خرجت من بين الأشجار الكثيفة الى منظر جعلها تشهق , يا ألهي ما هذا الجمال! منطقة واسعة يملأها العشب الكثيف وكل أنواع وألوان الأزهار , في نهايتها جدار صخري , تنساب فوقه مياه نبع.... أيكون هذا سرابا؟ مياه النبع تنزل من بين الصخور لترتاح في حوض طبيعي في حوض طبيعي من الحجر , والأزهار التي تحيط به من كل جانب , الأزهار الغريبة الملونة , جمدت هيلين في مكانها وأحست بالدموع في عينيها , رباه ما أجمل هذا كله , لو كان لها بيت هنا لعاشت بسعادة الى الأبد , جمدت , لم ترد أن تتحرك خوفا من أن يختفي كل ذلك السحر.
سارت ببطء نحو النبع , وضعت وجهها في مياهه الباردة وشربت , كم كانت محظوظة حين أتت الى هنا وحدها , أي شخص آخر كان سيشوه أكتشافها هذا , خاصة هو , أخذت تحلم ببيت هنا , كادت ترى حجارته البيضاء وسقفه الأحمر , كادت ترى بابه المفتوح.
" وجدته أذن".
كان ذلك صوت جيك لوغان بقامته الطويلة المعتدة , يحمل كيسه المليء وينظر اليها.
قالت , كم أرادت لو تخبره عن أحلامها ببناء بيت هنا , عن روعة المكان وسحره , لكن لن تفعل , لن تخبره هو أبدا , قامت من مكانها معربة عن رغبتها في العودة , تركته يسير أمامها فهو يعرف الطريق , عندما وصلا داخل القارب أخرج من الكيس أشكالا غريبة من الفاكهة .... أشكالا وألوانا لم ترها في حياتها من قبل , أحضر جيك سكينا وقشر لها أحداها , كان ألذ مانغا ذاقتها في حياتها.
بعد ذلك أخبرها برغبته في البدء بالعمل, عرضت عليه المساعدة , فنظر اليها نظرة فاحصة من أعلى الى أسفل قائلا:
" أنت؟".
أغضبها ذلك:
"أنا قوية كثيرا , سترى".
ولحقت به الى الخارج , بدأ ينشر الجذع الذي وجده على الجزيرة , كان للمنشار قبضتان , أحداهما كانت من نصيبها , لم يمض وقت طويل حتى بدأ العرق يتصبب فوق جبينها , وبدأت ذراعها تؤلمها , لن تدعه يعرف , ستستمر بالعمل , لن تتحمل نظرته المتهكمة , كم تكره تلك النظرة , مع كل ذلك هناك حرارة الشمس , والوجع في أصابعها , وبدأت هيلين تفقد توازنها:
" ما بك؟ هل تعبت؟".
" لا... أبدا فقط أعدل وقفتي".
ما العمل , أنه قوي ومعتاد على ذلك , أما هي , وبدأت قدماها تخذلانها .
" هيا , أجلسي عملت ما فيه الكفاية".
قلت :
" عطشانة فقط".
" أنا أيضا , النبع قريب من هنا , العمل ينتظر , هيا".
وسبقها الى النبع , شرب وغسل وجهه وذراعيه ثم أستدار عائدا:
" النبع كله لك..... خذي وقتك".
شربت هيلين الماء البارد بنهم , رشت وجهها وشعرها وذراعيها , كان الألم يسري في جسدها كله , لم تستطع الوقوف. جلست بضع دقائق , ثم تحاملت على نفسها وعادت اليه.
" لن تعملي أكثر , أخذت كفايتك".
قال بحزم , حاولت الأحتجاج لكنه رفض بأصرار , جلست تراقبه , ما أوسمه , كم هو متقن عمله , لم تتوقف عن مراقبته الى أن قال :
" يكفي هذا الآن , هل بأمكانك حمل بعض بعض القطع الى المركب؟".
" بالطبع".
قالت وأخذت ثلاثة قطع , كم هي ثقيلة!
كانت تريد أن تسأله كم من الوقت يستغرق أصلاح القارب , لكنها لم تجرؤ , ربما أستطاعت معرفة ذلك هذه الليلة عندما يكمل بيل عبر اللاسلكي , فجأة وبدون أي سبب واضح أحست بتعاسة كبيرة تملأها.
بعد أن وصلا المركب أخبرها أنه ذاهب يتصيّد السمك للعشاء , وأنه بأمكانها غسل الصحون في غيابه , ثم أختفى.
" هكذا أذن!".
قالت هيلين لنفسها بصوت مسموع:
" سأذهب لأحضر الطعام – أغسلي الصحون أنت , أنا طرزان وأنت جين".
وأبتسمت بمرارة , فجأة طافت برأسها فكرة غريبة , ماذا لو أضطرا للبقاء هنا مدى الحياة؟ بالطبع لن يحدث ذلك , أن حدث سيكون هو المسؤول وسيوفر لهما كل شيء , أنه قادر ومحنك , لن يجوعا ولن يعطشا , لكن هل سيتغير , هل سيصبح أكثر أنسانية ؟ أمر صعب عليه بدون شك.
بدأت هيلين تغسل الصحون وتفكر , لو يتغير كل شيء سيتغير , ألم تره في لحظات أنسانيته؟ كم يكون رقيقا وجذابا , عندما يرغب في ذلك , لكنه لا يرغب .... ليس معها... أبدا.
" كم أكرهك".
قالت بصوت مسموع وهي تغسل القدح الذي شرب منه القهوة.
" أكرهك".
وضغطت بكل قوتها على القدح حتى كادت تكسره وحتى آلمتها يدها , كانت تعرف أن ما قالته ليس صحيحا تماما .
عاد جيك سريعا مع سمكة بيضاء كبيرة , غسلها وبدأ يشويها , حضرت هيلين الصحون بمرارة , ترى هل يعود الى العمل بعد أن يأكل , لا تستطيع أن تسأله , عليها أن تنتظر , ها , أنه الشيء الوحيد الذي يمكنها فعله معه , الأنتظار , أنتظار ما يقول , وما يفعل , وما يطلب , زمت شفتيها وشعور بالقهر والغضب يملأها ويظهر على وجهها.
لمحها جيك في تلك الحظة ورأى التعبير المر على وجها , أستفسر:
" ما الأمر؟".
أجابت بتحد.
" لا شيء ".نظر اليها بحدة:
"لا شيء.... ها؟ هيا.... أوضحي الآن".
أدارت هيلين ظهرها وذهبت الى المطبخ , لحق بها مثل لمح البصر , أمسك بها من كتفيها وأدار وجهها نحوه.
" لا تتركي المكان وأنا أتحدث اليك يا آنسة".
كم كان صعبا عليها أن تضبط أعصابها , كم أرادت لو تصفه , لكن لا لن تنزل الى مستواه.
حملقت به بجرأة :
" عدم المؤاخذة , نسيت أنك أنت الذي كان يتحدث الي".
السخرية في صوتها أشعلت غضبه وبدأ غضبه على قبضتيه بشدة ويصر بأسنانه.
نظرا الى قبضته وقالت:
" تريد أن تقاتل , آسفة ... لا أقاتل رجالا.......".
وأدارت له ظهرها .
أمسك بها بعنف وأدارها نحوه.
" كم أنت وقحة".
" حقا؟".
أجابت , وكانت قبضته تؤلم ذراعيها المتعبتين , أمتلأت عيناها بالدموع , لا , لن تبكي , لن تبكي أمام هذا الوحش , ولن تقاوم أيضا , تقلص وجهها بشدة وأرخى قبضته عن ذراعيها , أحست هيلين تلك اللحظة أن توتره لا يقل عما تشعر هي به , أحست أن شيئا ما سيحدث .... شيئا رهيبا.
تحرك نحوها , وكلمح البصر أخذها بين ذراعيه , حاولت أن تقاوم في البداية ثم أستسلمت , توقف الزمن وجمدالعالم في مكانه , تركها فجأة وعلى وجهه تعبير مخيف لم تره من قبل , ثم أستدار وترك المركب.
كانت هيلين تجلس على حافة السرير عندما عاد , لم ترفع عينيها عن لمجلة التي كانت تقرأها , تحاشت النظر اليه لئلا يرى الدموع في عينيها , علامات أظافره لا زالت ظاهرة على ذراعيها , تؤلمها , لن تزعج نفسها بأمر الطعام , ليتدبر هو مجلة برتغالية لن تفهم منها شيئا , لا بأس بأمكانها التفرج على الصور , أختفى جيك في المطبخ ثم عاد بعد قليل وقال:
" الغداء جاهز".
لم تكن هيلين تشعر بالجوع , لكن يجب أن تأكل كي تحافظ على قوتها التي بدأت تخونها , لم تكن غاضبة أو مقهورة , فقط منهكة لن تجادله بعد اليوم , فقط ستطيع أوامره , ذلك أسهل , حاولت أن تأكل , لم تقدر , أخذت صحنها الى المطبخ وبدأت تعد القهوة.
" أجلسي أنت , سأعد أنا القهوة".
عادت الى مكانها , جاء هو بعد قليل بقدحي قهوة , نظر اليها قائلا:
" سيكارة".
أجابت بالقبول وأشعلها لها ثم قال:
" هل تنتظرين مني الأعتذار لما حصل؟".
" لا".
أجابت بأستغراب فلم تتوقع أن يثير الموضوع.
" حسنا , لم أكن أنوي ذلك , لكن ما هذا على ذراعيك ؟ لم أكن أعلم أنني فعلت بك ذلك , لم لم توقفيني ؟".
" وهل كنت بحالة تسمح لي بذلك؟".
" أنا آسف".
" لا بأس , فذراعي تؤلمني أصلا , لست متعودة على نشر الخشب".
" لماذا لم تقولي ذلك منذ البداية؟".
" أردت المساعدة".
أجابت ببساطة وأضافت:
" ثم خفت أن تسخر مني أن لم أفعل".
قالت ذلك وشفتاها ترتجفان.
" يا ألهي , أنك ترتجفين كورقة يابسة , قولي أتخافين مني؟".
" أجل , أخافك , لهذا قررت أن لا أجادلك , بل أفعل كل ما تطلبه مني , أنت لا تعرف مدى قوتك".
لم يعبر وجه جيك على شيء للحظة ثم قال:
" أتريدينني أن أصدقك ؟ أنت لا يخيفك شيء".
هكذا أذن يظنها تمثل , كيف تقنعه بصحة ما يقول , لا لن تحاول , ولا يهمها أن تحاول , أنها متعبة ... متعبة.
عندما أوت هيلين الى فراشها تلك الليلة كانت في رأسها صور كثيرة عن أحداث ذلك النهار , أستعادت تفاصيله كلها خصوصا المحادثة التي جرت بين جيك وبيل في المساء , معظم الحديث عن المركب وأصلاحه لم تفهم منه شيئا , أنه لن يستطيع العودة قبل يوم الأثنين أو حتى الثلاثاء , ثلاثة أيام أخرى مع جيك على الجزيرة! هذا لا يحتمل! تذكرت أيضا كيف سألها جيك بعد أنتهاء المكالمة :
" حسنا لقد سمعت , هل لديك ما تقولينه؟".
أجابت :
" لا , أنت المسؤول هنا ".
قال بهزء:
" لم أكن أظنك لاحظت ذلك".
ثم بعد لحظة صمت قال:
" بيل يقترح أن نسحب المركب الى الشاطىء لأصلاحه هناك".
" هل ستفعل؟".
" لو أضمن سهولة أعادته الى الماء لفعلت".
" وهل يكون أصلاحه أسهل على الشاطىء؟".
سألت أي شيء , أي شيء فقط لتعود من هذا المكان بأسرع ما يمكن , أجابها:
" أجل".
" هل أستطيع أن أفعل شيئا".
سألت بحماس:
" تساعدينني في دفعها".
" سأفعل .... سأفعل".
" كم أنت متشوقة لمغادرة هذا المكان؟".
" وأنت؟".
لم يجب بل أخذ يبحث في جيوبه عن سيكارة:
" أتريدين واحدة؟".
" لا , لم يبق معك الكثير".
" لا يهم عندما تنفذ السكائر , لا أدخن".
بالطبع ربما لن يشعر بالرغبة في التدخين أيضا , لا يهمه شيء.
" حسنا , سآخذ واحدة".
لم يكن سيئا حينذاك , أشعل لها السيكارة بتهذيب , وراحا يتحدثان عن المركب وكيفية دفعه الى الشاطىء , كان الحديث ممتعا وكان هو لطيفا , غريب أمره , رغم كل وقاحته وخشونته لديه جانب متحضر , ترى من أين جاء ؟ كيف كانت طفولته؟ من يكون هذا الرجل؟
أفكار كثيرة شغلت بال هيلين الى أن أستغرقت في النوم .
أستفاقت صباح اليوم التالي على أحساس رهيب , ظنت أنها لن تستطيع الحركة بعد اليوم , رباه ما هذا , أهو مرض أستوائي , ذراعاها , رجلاها , ظهرها , جسمها كله ينبض بالألم , جسمها كله كأوتاد مشدودة , ثم تذكرت , أنه نشر الخشب في اليوم الفائت.
حاولت أن تجلس بدون فائدة , عضلاتها كلها متصلبة ويابسة , بدأت تضحك وتبكي , تضحك لغبائها الذي أوصلها الى هذه الحال وتبكي من الألم .
دخل جيك تلك اللحظة :
" ما بك ؟ رأيتك من النافذة".
" لا أستطيع أن أتحرك , ساعدني أرجوك".
أقترب منها , أسند ظهرها بيده وساعدها على الجلوس .
" لا أصدق أن أحدا يوصل نفسه بغباء كهذا الى هذه الحال".
" شكرا لعطفك , لكنني لم أكن أعرف أن هذا سيحصل , أم تظنني عرفت؟".
" هيا.... يجب أن نفعل شيئا وألا ستسوء حالتك".
" وماذا يمكن أن نفعل؟".
" سأحضر بعض المرهم وأدلكك به".
" لماذا لم تقترح ذلك ليلة أمس ؟".
صرخت بغضب.
" وهل كنت أعرف , لم تقولي شيئا , هل أنا قارىء أفكار؟".
" حسنا".
لم تكن هيلين قادرة على الجدال .
" هل تتكرم بأحضار المرهم لأدلك جسمي؟".
" أنت تفعلين ذلك ؟ كيف وأنت لا تقوين على الحركة ؟ ها؟".
" لا تشغل بالك , سأتدبر أمري".
" لا تكوني غبية , أنا سأفعل ذلك".
" لن تفعل".
أختفى لحظة في المطبخ ثم عاد بزجاجة مليئة بمرهم أصفر.
" أعطني أياه من فضلك".
قالت محاولة مد يدها .
" هيا خذيه ".
قال هذا مادا يده بالزجاجة بعيدا عن متناول يدها.
" أيها الوحش , تبعده عن قصد".
" أنتبهي لألفاظك أيتها الآنسة , غريب أن تستعمل آنسة مهذبة ألفاظا كهذه , لم أقصد أغاظتك , فقد أردت أن أبرهن لك أنك لن تستطيعي تحريك يديك ولا وضع المرهم على جسدك , هيا أديري ظهرك وأرفعي القميص".
تنفست بصعوبة :
" لا , أرجوك".
" أسمعي يا أمرأة , أتظنين أن لي غاية في ذلك , لا تكوني حمقاء هيا أديري ظهرك".
وضع الزجاجة على الطاولة وحمل هيلين كما يحمل طفلا , مدها على السرير وبدأ يدلك جسمها بالدواء.
أخفت هيلين وجهها تحت الوسادة وعضت شفتيها , كانت لمساته سحرية , قوية ولطيفة في الوقت ذاته , كم أحبت ذلك , لكن لن تدعه يعرف.
" أتشعرين بتحسن؟".
" أجل شكرا".
" حسنا أستريحي قليلا بينما أحلق ذقني ثم نتناول الفطور".
قال هذا وأختفى عن نظرها مغلقا باب الحمام خلفه.
حاولت هيلين مغادرة السرير , ووجدت أن الألم قد خف كثيرا , أنزلت قدميها وجلست على الحافة في اللحظة التي فتح فيها جيك باب الحمام , ألتقت عيناه بعينيها للحظة دافئة جعلت موجة عارمة من العاطفة الحارة تملأ قلب هيلين , سألها:
" أحسن؟".
" نعم , شكرا يا جيك , سأحضر الفطور".
ذهبت الى المطبخ وأبتسامة ذات معنى تعلو وجهها , أبتسامة أمرأة تعرف تأثيرها على الرجل الواقف أمامها.
___________________ 7- الحقيقة
كان نهار الأحد حارا جدا , العرق يقطر من جسم جيك ووجهه , وهو يعمل جاهدا لحفر الرمال القريبة من الشاطىء وجعلها مستوية بعض الشيء كي يتمكن من دفع المركب اليها , تمنت هيلين لو يتوقف , لكن لم تجرؤ , وجلست تراقبه , بعد قليل مدت يدها ولمست ذراعه بلطف , نظر اليها وهو يمسح العرق عن عينيه فقالت:
" سأحضر لك بعض الماء البارد من النبع , أو هل تريد قهوة؟".
" ماذا؟ ألا تريدين أن أنتهي من العمل بسرعة لتعودي؟".
" لكنك......".
" لكنني ماذا ؟".
قال بنفاد صبر.
" لكنك ترهق نفسك وقد تمرض".
" آه.... مثلك البارحة ... سيكون ذلك جميلا يعطيك الفرصة لتدلكيني!".
عبثا الكلام معه , مزاجه جاف وغريب اليوم , تركته هيلين وسارت بأتجاه النبع , , أنه مكانها السري الجميل , لن يعرف أحد ولا حتى هو تأثيره السحري عليها , لن يعرف أحد شيئا عن بيتها الجميل الذي تراه كلما جلست قرب النبع , نوافذه مفتوحة ليدخل صوت الماء ورائحة الزهور , جلست هيلين تحلم لآخر مرة فقد عرفت أنها لن تعود الى هنا , ليس هذا مكانها , أنه مكانه هو , عليها الهرب من المكان ومن الرجل , هذا الرجل الذي يشكل تهديدا لحياتها التي رتبتها كما أرادت , وتهديدا للجدار الذي بنته حول عواطفها وأحاسيسها.
عادت بالماء الى جيك , وشعرت بالراحة فقد أنتهى العمل تقريبا , لكن كعادته أفسد كل شيء.
" سنأكل ثم نخرج الأشياء من المركب".
" الأشياء؟ أية أشياء؟".
" الفراش , وأين تظنين أننا سننام الليلة".
" ليس في المركب؟".
" لا يا آنستي , عندما ندفع المركب الى الشاطىء لن يكون مستويا أبدا , ولن نتمكن من قضاء ليلة مريحة في داخله".
" أذن ننام على الشاطىء".
" هل لديك مكان أفضل يا آنسة ؟ لا تخشي شيئا , أؤكد لك أنك ستكونين في مأمن على الشاطىء , كما كنت في مأمن داخل المركب".
" لكن العناك التي حذرتني منها".
" أنها لا تأتي الى هنا , لا تحب الرمال".
" وأن أمطرت؟".
" أيتها البلهاء , عندها نلتجىء الى داخل المركب , سنتدبر الأمر".
لم يعجبها وصفه لا بالبلهاء , لكن لا وقت للجدال , ثم ربما كانت غبية بعض الشيء , بالطبع لن يحاول أيذاءها , كان هذا ما يزعجها.
" ليتني لم أجيء الى هنا".
" حقا؟ للأسف فات الأوان".
أحست هيلين أن الجو بدأ يتوتر , ذهبت تحضر الطعام , على الأقل ستبتعد عنه ولو قليلا , كم كانت رغبتها في رؤية هذه الجزيرة قوية , وجدتها أجمل بكثير مما توقعت , لكن هذا كل شيء , يجب أن ترحل الآن , المكان ليس مكانها , أنها واثقة من هذا كما هي واثقة من رغبة جيك لوغان في رحيلها السريع.
لا بأس , ربما كان من النوع الذي يحصل على كل ما يريد , لكن لن تدعه يعرف , ليس الآن على الأقل , كان الخال فيليب مخطئا , ربما كان عليها ألا تأتي.
تناولا الطعام على ظهر المركب , كان الطقس جميلا , طلب منها جيك أن تستعد وتتمسك جيدا لأنه سيدير المركب بأقصى سرعة لدفعه الى الشاطىء , وهكذا كان.
بدأ جيك بالعمل ثانية , وطلب منها الأبتعاد لأنه كما قال يفضل العمل وحيدا , أنزعجت هيلين من لهجته لكنها لم تكن ترغب في الجدال , ليس وهو بهذه الحالة العصبية , أبتعدت عنه وشغلت نفسها بترتيب الفراش الذي رماه عن ظهر المركب , ثم جلست وأخذت تراقبه يعمل.
غلبها النوم وبعد وقت قصير أستفاقت لتسمع جيك يقول:
" أتريدين رؤية غروب الشمس بعد عشر دقائق؟ ستكون آخر فرصة لك , أنتهيت من أصلاح المركب... تقريبا".
" حقا؟".
وقفزت واقفة:
" عظيم".
" أذن , نعود غدا".
" أجل عندما نستيقظ".
ونظر اليها بطريقة جعلت قلبها يخفق بعنف , ولتغيير الموضوع قالت بسرعة:
" سأحضر الطعام , ماذا نأكل؟.
" سأصطاد سمكة ونشويها".
بسرعة وقبل أن تتحرك هيلين خلع السروال القصير , فقد كان يلبس المايوه تحته, وركض بأتجاه الماء , راقبته هيلين يذهب , مشاعرها مضطربة , شعره الأسود , ظهره الرائع , كتفاه العريضتان , عضلاته القوية , ما أوسمه!
غطس جيك في الماء وسارت هيلين تبحث عن مكان مناسب تراقب منه غروب الشمس الذي يقال أنه رائع جدا في هذه البلاد , من الواضح طبعا أن جيك لا يريد مشاهدته معها , ربما لم يكن يريد مشاركتها تجربة رومانسية كهذه, ولم تتوقع شيئا كهذا وهو لا يستسيغ صحبتها؟
وجدت هيلين المكان الذي أرادته , كانت الشمس معلقة فوق الأفق , بضعة أقدام فقط , كرة حمراء مضيئة وسط زرقة السماء الصافية , أقتربت هيلين أكثر من البحر وشعرت بالأمواج تتكسر على قدميها , أخذت الشمس تقترب من خط الأفق أكثر وأكثر ويزيد لمعانها , خيوط ذهبية وأرجوانية ملأت الفضاء وكأنها تشعله بنبرة تحد أخيرة.
سرت القشعريرة في جسم هيلين , ما أجمل الذي في نهاية النهار , ثم أستدارت لتجد جيك يقف قريبا , أظلمت السماء فجأة , أرتعشت هيلين , شبح جيك في العتمة طويل وقوي وها هو يمشي نحوها.
" هل كان كما تصورته؟".
كان صوته دافئا هذه المرة.
" أجل , هل أصطدت سمكة؟".
لا ضرورة لمناقشة جمال الغروب معه.... رد بالأيجاب , وسارا بأتجاه المركب , كانت هيلين تتنفس بصعوبة , لا لأنها تسير بسرعة , لكن الجو حولها كان مثقلا , شعورها بوجود هذا الرجل القوي الجذاب الى جانبها , وعيها المفاجىء الى وجودها هنا على الجزيرة المنقطعة عن العالم وحدها ... معه , أه ما هذه الأفكار , أنها العتمة بدوك شك , لم تكن تعرف بعد , لكن قلبها كان يخفق بعنف , بينما كانا ينزلان درج المركب لمست ذراعه ذراع هيلين , فأبعدها بسرعة , أذن هو أيضا يشعر بالجو المتوتر.
كانت الحركة في داخل المركب صعبة فقد كان مائلا قليلا , تدبرت هيلين أمرها ووصلت الى المطبخ , سمعت جيك خلفها يضحك ويقول:
" أنه أسوأ مما تصورت , هل بأمكانك الوصول الى الخزانة وأحضار الصحون , أم أفعل أنا ذلك؟".
" بأمكاني , أين السمكة؟".
كي يدخل جيك الى المطبخ كان على هيلين أن تلتصق بالحائط لتفسح له المجال , ودون أن يعرف أحدهما كيف حصل ذلك , كان الأثنان على الأرض كومة واحدة , أحست هيلين به ملتصقا بها , ثقيلا ودافئا , شعرت بالخوف , حاولت جهدها أن تدفعه عنها:
" أنتظري قليلا".
قال ضاحكا.
" دعيني أجد قدمي أولا , لا بد أنها تحت ظهرك".
أخيرا أستطاع جيك أن يقف ويساعد هيلين.
" هل بأمكانك حفظ توازنك الآن؟".
سألها لكنه لم يبعد ذراعيه عن خصرها حتى أوصلها الى المقعد.
" أبقي جالسة , على الأقل تكونين في مأمن من السقوط هنا".
كان يلهث.
أحضر هو اطعام ثم القهوة , بعد ذلك تكلم مع بيل عبر الراديو , بدا منزعجا قليلا لكن هيلين لم تعرف السبب لأنها لم تسمع ما دار بينهما , نزلا الى الشاطىء فقد أراد جيك أن ينام باكرا ليبدأ رحلة العودة مع طلوع الفجر.
" أن لم يكن بأستطاعتك النوم الآن , أمشي قليلا فذلك يساعد".
قال بصوت منخفض ثم أضاف بعد أن رأى الفراش على الأرض:
"من الأفضل أن أبعد فراشي قليلا , قيل لي أنني أتحرك كثيرا وأنا نائم , لا أريدك أن تغسري الأمور خطأ".
كانت السخرية واضحة في لهجته , أحست هيلين بالغضب لكنها أجابت بهدوء:
" وضعت الفراش هنا فقط لأبعده عن الماء , تعرف أنني لا أرغب في النوم الى جانبك".
وأنحنت لتبعد الفراش , سبقها هو الى ذلك فأبعد فراشه وألقى بنفسه عليه.
تركته هيلين لينام وأخذت تمشي على الشاطىء , كانت مسرورة لأنها ستعود في الصباح , ولن ترى هذا المكان ثانية , لن تخبر جيك ألا في الوقت المناسب كي لا يبعث الشكوك في نفسها بطريقته الساخرة , جلست على الصخور المواجهة للبحر , ما أجمل هذا المكان , لن تنسى هذه الرحلة الغريبة أبدا.
كان جيك يغط في نومه عندما رجعت هيلين , أستلقت بهدوء على ظهرها وأخذت تراقب السماءالمليئة بالنجوم , أنه أجمل سقف يتمناه أنسان.
لم تنم جيدا , كانت أفكارها مضطربة , عندما أستفاقت لم يكن الفجر قد طلع بعد , جيك ما زال نائما , أنها آخر ساعات تقضيها على هذه الجزيرة التي لم تكن يوما ملكا لها ولن تكون , جيك يبدو وكأنه جزء من هذا المكان , أما هي فلا , مكانها هناك في المدينة الكبيرة وفي مخزن الثياب الذي يملكه خالها فيليب.
أنسلت هيلين بهدوء من فراشها , ستذهب الى البقعة المسحورة حيث النبع وحيث الحلم الجميل , بيتها الصغير بشبابيكه المفوحة على صوت الماء ورائحة الزهور , ستراه الآن في ضوء القمر وتودعه , مشت وكأنها تمشي في نومها.
سلام لذيذ ملأ قلبها عندما وصلت المكان , العش الهادىء وسط جزيرة العواصف هذه , وأبتسمت لنفسها , لقد نجحت في أخفاء متعتها وحبها لهذه الواحة عن جيك , أنه سرها الذي تنتصر به عليه.
مر الوقت وهيلين غائبة في أحلامها الجميلة , لم تقدر على مقارنة هذا السحر كله ولا مفارقته , وللحظة ظنت أنها سمعت صوتا بعيدا يناديها , تذكرت قصة الجنية وأرتعشت , ترى أتسحبهاالى البحر لتختفي في عمقه...
" لماذا لا تجيبين عندما أناديك؟".
وتمزقت أحلامها الحلوة , كم كان صوته قاسيا , رفعت وجهها لتراه واقفا بقامته الطويلة والماء يقطر من شعره وكل جسمه , وقفت ببطء شديد وبدأت تمشي بعيدا عنه , كانت نصف غائبة ولم تكن تعي مدى غضبه وأنفعاله.
سألته وظهرها اليه:
" ماذا تقصد؟ كنت أجلس فقط....".
" وأنا كنت أصرخ وأنادي , صحوت ولم أجدك فأنتظرت , وأنتظرت , ثم ناديتك بعد نصف ولم تجيبي , ذهبت الى المركب أبحث عنك , وغطست في البحر أبحث عنك , خفت أن تكوني...".
كان غضبه يزداد مع كل كلمة.
" وهل يهمك أمري؟ ظننتك تريد التخلص مني بأية وسيلة!".
وقبض جيك ذراعها حتى غرزت أظافره في لحمها :
" لا تكوني حمقاء ".
ضوء القمر على وجهه مكّنها من رؤية قطرات الماء المنسابة من قبضته.
" لا تلمسني , كم مرة قلت لك لا أحب أن تضع يدك علي , ألا تذكر؟".
" أذكر وأذكر أشياء كثيرة عنك , أشياء لن تتصوري يوما أني أعرفها , ما أغباني , صدقتك وصدقت دموعك الخادعة في اليلة الأولى .
وجن جنون هيلين , يظنها كانت تمثل أذن , تكذب.
" دعني أذهب".
لكنه أعترضها ومنعها من المرور.
" هيا.... هيا لم لم تقولي ليلتها أنك لا ترغبين النوم في حجرة واحدة معي , لم تكن هناك ضرورة لكل تلك الدراماتيكية ..... و".
لم تدعه يكمل حديثه وأندفعت نحو الغابة لكن جيك أمسكها بكتفيها صارخا:
" خفت , هه؟ لأنني فهمت أنك....".
ركلته هيلين بكل قوتها فأطلق صرخة ألم:
" أيتها ال....".
" قلت لك لا تلمسني!".
وأعماها الغضب , فأخذت تضربه على صدره بكل ما لها من قوة , وبدل أن يغضب لف ذراعيه حول خصرها وحاول الأقتراب , لم تعد هيلين تتحمل , جن جنونها وأغرزت أظافرها في وجهه بيأس شديد , سمعته يشهق لكنها لم تهتم , لم تعد تهتم لشيء , وصرخت به:
" حقير , وحش , كم أكرهك".
وركضت كالمجنونة بين الأشجار , كالعمياء , كان خوفها منه كبيرا.
بعد لحظات قصيرة كان يلهث خلفها يمد ذراعيه ويمسك بها , نظرت اليه بذعر شديد وقالت:
" هيا.... هيا, أضربني ولننته من الأمر .... لا أقدر على أكثر ... هيا أضربني....".
توقفت عن الكلام فقد غلبتها دموع ودموع.
ولم يقل شيئا ,رفعت هيلين رأسها وتطلعت اليه , رأت في وجهه شيئا لم تره من قبل , وجاءت المعرفة مثل وخز الأبر : تحبه! الجنون بعينه , لكنها تحبه!
همس جيك برقة:
" يا ألهي! لا بد أنني جننت ".
وركض نحو الماء وغطس فيه .
قالت لنفسها بمرارة:
" كم يكرهني ... كم يرغب في رحيلي".
في اليوم التالي ذهبت هيلين لزيارة هانا , كانت قد نامت ليلة عودتها من الجزيرة ثلاث عشرة ساعة متواصلة , لحظة دخولها ركقتها هانا بنظرة غريبة وسألت:
" هل أنت بخير؟".
" بخير , شكرا".
أجابتها هيلين:
" أقصد.... أقصد على الجزيرة .... هل حاول الرجل؟".
عندها فهمت هيلين , نظرت الى المرأة والى التعبير القلق على وجهها.
" تقصدين جيك؟ هل حاول شيئا معي؟".
وجدت هيلين الأمر مضحكا فقط لو كانت تستطيع الضحك الآن.
" أعلم أن الأمر لا يعنيني , لكن بما أنك لا تعرفين الرجل جيدا , ومع ما قالته مارشا....".
" مارشا؟ لا أفهم".
وهزت هيلين رأسها بحيرة:
" كانت تتسللى وهي تتصور موقف جيك منك وأنتما وحدكما على تلك الجزيرة المهجورة".
" يا ألهي , بالطبع لا , كان مهذبا جدا , أعني على طريقته في التهذيب".
ظهر الأرتياح على وجه هنانا , أو هل كان هناك بعض خيبة أمل؟
وقلت ذلك لبيل .... قلت له أنك تعرفين كيف تعاملين جيك فأنت فتاة من المدينة – لندن – تعرفين قصدي؟".
ثم قربت كرسيا من هيلين:
" أجلسي .... أجلسي يا عزيزتي , سأحضر لنا شيئا نشربه , عندها تخبريني كل شيء".
قالت هانا ذلك وذهبت الى الثلاجة تحضر منها شرابا بينما كانت هيلين تراقبها بجمود ونوع من الحسرة ,من الأفضل أن تترك الجزيرة بأسرع وقت ممكن.
لم تر جيك لعدة أيام قضتها في السباحة والمشي وشراء الأغراض , ذات يوم ألتقت سيرينا والأولاد ودعتهم الى بيتها حيث جلست هي وسيرينا في الداخل وبقي الوادان يلعبان في الخارج , بينما كانتا تتحدثان سمعت هيلين صوت جيك , أضاء وجه سيرينا التي قالت :
" أنه جيك يسأل الأولاد عي ويخبرانه أنني معك في الداخل".
توترت هيلين قليلا ولم تسترح ألا عندما سمعت بابه يغلق , قالت سيرينا بلطف:
" هيلين أنت لا تحبين جيك؟".
" لا". أجابت هيلين:
" ولا هو يحبني , لا بأس !".
" أنه لطيف جدا , أنا أحبه , يهتم بي وبتوبي كثيرا , وضع بعض النقود في المصرف بأسمي , أستطيع أن أسحب منها ما أشاء عندما أشاء ".
" بالطبع".
أجابت هيلين , رباه لا تريد أن تسمع أكثر , وقفت قائلة:
" سأذهب الى المطبخ أحضر المزيد من الشراب وبعض البسكويت ".
دخلت المطبخ وأتكأت للحظة على الحائط محاولة أستعادة هدوئها ثم عادت بالشراب والبسكويت , تلك الليلة كتبت هيلين رسالة الى المحامي في ساوباولو.
بينما كانت تشتري بعض الأغراض من القرية صباح اليوم التالي ألتقت بيل , كان يوم السبت وتوقعت هيلين ردا من المحامي يوم الأثنين.
أخذ بيل منها الأغراض وحملها عنها قائلا:
" هيا سأمشي معك حتى البيت , لدي أشياء أوضحها لك".
" أن كان بخصوص الرحلة الى الجزيرة فلا بأس , لا حاجة بك للأعتذار".
قالت هيلين ضاحكة:
" أشعر بذنب رهيب أتجاه ما حدث , وقد تشاجرتما هناك , آثار أظافرك لا تزال على وجهه ".
قال بأنزعاج:
" لم تكن المرة الوحيدة التي تشاجرنا فيها , لن أكلم هذا الرجل ثانية ".
تنهد بيل بأسى:
" من المؤسف ذلك , حقا , فبأمكان جيك أن يكون رائعا".
" حقا؟".
تساءلت هيلين ساخرة:
" أذا كان رائعا لهذه الدرجة لم لم يتزوج سيرينا عندما أوقعها في المشاكل؟".
كانا قد وصلا البيت, فتح بيل الباب , وضع ما كان يحمله على الأرض , كان الأنزعاج باديا على وجهه.
" سيقتلني أن عرف أنني أخبرتك , لكن سأفعل , فأنا لا أطيق الأشياء التي تملأ رأسك عنه , ومعظمها خطأ أذا لم تكن كلها , الجميع يظن أنه والد توبي وهو يدعهم يظنون ذلك كي يحمي سيرينا منهم , عندما كانت سيرينا في الرابعة عشرة من عمرها وبدون أم لم يكن هناك من يوجهها , عاشت كما كان يحلو لها وتعلقت بشاب هيبي أميركي من عمرها , أراد أن يتزوجها وبالفعل قاما ببعض المراسم الهيبية , وقبل أن يتمكنا من جعل زواجهما قانونيا قتل الوالد في حادث وتأثرت سيرينا كثيرا , فأخبرت والدك بالأمر ووعد بالمساعدة , بدأت الأشاعات تدور حول جيك , لم يكن أحد يعرف بأمر الصبي الهيبي , ظنوا أنه جيك لأن سيرينا كانت تلحقه من مكان الى آخر".
توقف بيل لحظة ليشعل غليونه كانت المفاجأة كبيرة على هيلين:
" بالطبع لم يهتم جيك لهذه الأشاعات وعندما طلب منه والدك المساعدة في موضوع سيرينا أخذ يهتم بها وبالطفل من تلك اللحظة حتى الآن , الآن ترين , لو عرف بعض النااس هنا أن الطفل ليس أبن جيك لضايقوا سيرينا كثيرا".
حاولت هيلين أن تعلق :
" لكنني لم أكن....".
لكن بيل قاطعها مكملا:
" لا أحد يعلم بذلك ولا حتى هانا , لكن أليس بأمكانك أن تعرفي لماذا ؟ ألم تحزري بعد سر أهتمامه الكبير بها؟".
" هل تقصد أنه يحبها؟".
ضحك بيل:
" لا ! أنه يراها كأخت صغيرة له , لكنه وعد والدك أن يهتم بها , وهو يفي بوعده لوالدك".
" والدي؟".
لم تفهم هيلين .
" ألا ترين يا هيلين؟ لا أحد يعرف , حتى جيك يظنني لا أعرف , ربما من أجل ذلك يريد أن تذهبي من هنا قبل أن يكتشف أحد الحقيقة , جيك وحده يعلم بالسر – سيرينا أختك من أبيك , ماتت أمها منذ بضع سنوات والآن أبوها – أبوك – ولم يبق لها سوى جيك وتوبي!".
__________________________ 8- المفاجأة
أنتظرت هيلين ذهاب بيل قبل أن تستسلم لبكاء مرير , سيرينا أختها! غير معقول .... لكنها الحقيقة , لم تكن صدفة أذن تلك الرابطة العفوية , الغريزية التي أحست أنها تشدها الى الفتاة اللطيفة الطيبة , سيرينا , حتى جيك نفسه والذي كانت تحسه أحيانا يقف بينها وبين سيرينا لم يستطع تغيير تلك الأحاسيس التي كانت تجذبها الى الفتاة.
في فراشها تلك الليلة , أستعادت هيلين كل شيء , لم يكن جيك الوحش الذي تصورته , ليس فيما يتعلق بسيرينا على الأقل , كان يحنو عليها ويهتم بها فقط لأنه وعد والدها بذلك , لم تنم جيدا تلك الليلة لكنها عرفت تماما ما ستفعل في الصباح التالي.
عندما أخبرها بيل أن جيك سيغيب عن الجزيرة لبضعة أيام , تشجعت هيلين وأفضت له برغبتها في الرحيل , شرحت له السبب , ليس كل السبب بالطبع فهي لن تكون حمقاء لدرجة أخباره أنها وقعت في حب الرجل الذي لا يريد ألا رحيلها.
ذهبت لزيارة هانا لأبلاغها عن رغبتها في الرحيل , تحاشت أسئلة هانا فيما يتعلق بالأملاك التي ورثتها , كل ما أفصحت عنه كان كلاما مبهما عن أمكانية بيع حصتها لجيك , لم تكن لتخبر أحدا عن خطتها الحقيقية.
يوم الثلاثاء قامت هيلين بحزم أغراضها , لم يكن لديها الكثير , الشيء الوحيد الذي ستأخذه معها من هذه الجزيرة الى جانب حاجاتها الشخصية , صورتان لوالدها أخذتهما من هانا.
قبل أن تأوي الى فراشها تلك الليلة الأخيرة كتبت رسالة قصيرة ومباشرة لجيك , ثم قامت الى صندوق حلاها وأخرجت منه سلسلة ذهبية كانت أمها قد أعطتها أياها عندما كانت هيلين طفلة.
قبل أن تقفل الرسالة قرأتها مرة أخيرة:
" جيك , أنا عائدة الى أنكلترا في الصباح , طلبت من المحامي في ساوباولو تحويل حصتي في الأرث اليك , آمل أن تشارك سيرينا معك بحصة منه , أحببتها كثيرا وأرغب في مساعدتها , أرجوك أن تعطيها هذه السلسلة , كنت أحتفظ بها منذ طفولتي .
هيلين كاربنتر".
أقفلت الرسالة ووضعتها تحت باب بيته .
صباح اليوم التالي ذهبت هيلين الى هانا لتودعها , كان بيل سيأخذها الى المطار الصغير حيث تطير الى ستنتوز , قبّلتها هانا قائلة:
" سأفتقدك , كنت كنسمة منعشة بيننا , ستكتبين؟".
" بالطبع! أنت أيضا يجب أن تأتي لزيارتي في لندن يا هانا , كان بودي لو أبقى أكثر لكن ... أعرف ليس هذا مكاني.....".
توقفت , أنها على وشك أن تنهار , كل هذا بسبب رجل واحد........".
أبتسمت هانا بلطف , وبرغم كل المرارة التي تحملها لجيك , كأنها فهمت , فقد ضغطت على ذراع هيلين بحنان.
" أعرف يا عزيزتي , أعرف".
في الطائرة , حاولت هيلين أن تستريح لكن أفكارها لم تسمح لها بذلك , ترى هل أستلم الخال فيليب برقيتها ؟ هل سيكون بأنتظارها في مطار لندن , أن لم يكن ستذهب الى البيت في سيارة أجرة , عليها العودة بسرعة الى بحر العمل , الى حياتها السابقة , كان مجيئها الى هذه الجزيرة يعني الجنون بعينه , لكن لا بأس , أنتهى كل شيء الآن , بعد بضعة أيام ستكون في وظيفتها ثانية ولن تسمح لأي شيء أو أي شخص بأيلامها بعد اليوم... ليس لوقت طويل على الأقل , أذا قدم لها جيك لوغان شيئا أيجابيا فهو أنه حررها من عقدتها القديمة وعدم قدرتها على الشعور بالراحة في حضور أي رجل كان.
حاولت هيلين الهروب من أفكارها , تطلعت من نافذة الطائرة الى السماء الزرقاء الصافية , لكن المرارة.... وشيئا من الحزن لم يتركاها لحظة.
كان الخال فيليب في أنتظارها على أرض المطار , وفي اللحظة التي جلسا فيها في سيارته الرولز الرمادية نظر اليها قائلا:
"هيا , أنطقي أيتها السيدة الصغيرة!".
نظرت هيلين اليه وشعور بالذنب يملأها , خالها العزيز ببزته الرمادية , وقميصه الأبيض المكوي جيدا , دائما مثال الأناقة , ودائما دعاية حيّة للمتجر الفخم الذي يملكه , لكن برغم ملابسه الأنيقة الرسمية لم يكن يوما متشنجا , في الخمسين من عمره كبير الجسم , أصلع قليلا , يمشي في الحياة بكل هدوء ورزانة مبعدا عنه كل توتر وأنزعاج متظاهرا بعدم وجود مبرر لتعقيد الحياة.
" أكتفيت من الحياة على جزيرة أستوائية , هذا كل شيء".
أجابت متصنّعة الخفّة.
" هل لي سيكارة؟".
" لا, أنت لا تدخنين , ولن تبدأي الآن, وأن كنت تظنين جوابك هذا يكفيني فأنت مخطئة يا عزيزتي , من هو أو ما هو؟ ثم بأمكاني أن أضيف أنك تتفجرين صحة وعافية , وهذا اللون البرونزي سيظهر كل العارضات بجانبك كزهور باهتة".
أبتسمت له هيلين بحياء , وأضاف قائلا:
" في أية حال ستكونين ضيفتي لبضعة أيام تخبريني خلالها كل شيء".
" ليس هناك الكثير ".
قالت هيلين وتطلعت من نافذة السيارة , رمقها خالها بنظرة قلقة لم تنتبه لها.
في اليوم التالي , وكان يوم سبت , اليوم الذي يذهب فيه الخال فيليب لممارسة لعبة الغولف عادة , جلس في غرفة الطعام المطلّة على نهر التايمز وقبالته جلست هيلين.
" لقد قررت أن أن أبقى اليوم في البيت أحتفالا بأبنة أختي العزيزة , ربما نخرج لنتناول الغداء معا , ما رأي عزيزتي هيلين في هذا؟".
عرفت هيلين سبب رغبته في الخروج معها الى أحد المطاعم , هناك يظن أنها ستتكلم وتخبره بكل شيء , مهما يكن فلا مبرر لأبقاء كل شيء في داخلها الى الأبد.
أفترت شفتاها عن أبتسامة خفيفة وقالت:
" لا سبب لأن تدعوني الى الغداء في مطعم , سأخبرك بكل شيء هنا , معك حق , أشياء كثيرة حدثت ولك كل الحق في معرفتها , لكن أرجوك يا خالي......".
كانت هيلين على وشك البكاء لكنها أكملت:
" أرجوك هل يمكن أن تنسى كل شيء بعد ذلك؟ أقصد الأشياء التي سأخبرك عنها".
" يا فتاتي العزيزة".
قال والأهتمام باد على وجهه:
" أن كنت لا تريدين أخباري أو تشعرين بعدم القدرة على ذلك.... أوه... أنا لست سوى عجوز فضولي , لا بد أنه رجل ما... من يكون؟".
" جيك لوغان".
وسكبت لنفسها فنجانا من القهوة ويدها ترتجف.
" سأبدأ من الأول.... هناك الكثير الكثير".
قاما من غرفة الطعام وذهبا الى مكتبة الخال فيليب الدافئة والمليئة بالرفوف المكتظة بمختلف أنواع الكتب , هناك أخبرته بكل شيء , تقريبا كل شيء , منذ لحظة وصولها الجزيرة الى أن ودّعها بيل وأستقلت الطائرة.
بعد أن أنتهت من الحديث , نظر اليها الخال فيليب والذي كانيستمع بأنتباه شديد وبدون أية مقاطعة , وقال:
" أتعلمين ؟ لقد أحسست بشيء ما في رسالتك , وبالمناسبة أرسلت لك كل هذا قبل يومين من وصولك , يا عزيزتي لم أكن تصوّر كل هذا عندما أنهلت عليك بأسئلتي ! يا عزيزتي المسكينة".
تطلع اليها بعطف وقال :
" من الأفضل أن تنسي هذا الجيك لوغان بسرعة".
ثم قطب حاجبيه كمن يحاول تذكر شيء ما:
" لوغان – لوغان- هل قلت أنه أسترالي؟".
" لهجته توحي بذلك , ثم أظن أن بيل أو هانا ذكرا شيئا من هذا أمامي".
ورفعت هيلين يدها الى رأسها :
" وهل يهمّ ذلك؟".
وأطلقت ضحكة عصبية:
" حدسك صحيح ... أذكر عندما رأيت تلك اللقطة الفوتوغرافية وهو على مركب والدي , وظهر ك|أنه يحاول أخفاء وجهه عن الكاميرا , ظننت أنه مجرم هارب....".
وصمتت فجأة .
أنفجر الخال فيليب ضاحكا:
"هذا مثير , أحب أن أرى تلك الصورة يوما ما , لدي شعور غريب".
ورغم حيرة هيلين لم يشأ الخال فيليب الأفصاح أكثر .
عادت هيلين الى الروتين السابق لحياتها مع فرق واحد هو أن زميلاتها أكثرن من الحديث عن التغيير الذي لاحظنه فيها , ليس فقط لونها البرونزي ولا شعرها الجميل الذي أضافت اليه شمس الجزيرة لمعانا جديدا , بل كما قالت لها أحدى زميلاتها ذات يوم:
" أنه أشعاع داخلي , لمعان ما.... جديد يا عزيزتي , أخبريني كيف حصلت عليه وسأحاول أن أفعل الشيء ذاته!".
لكن بالطبع لم تسطع هيلين أخبارها أنه كله بسبب ذلك الرجل الغريب وأطواره غير العادية , لن تخبر أحدا بل لن تستطيع حتى لو رغبت في ذلك , وبرغم حماس هيلين المتجدد للعمل ألا أن الشعور الموجع بالفراغ كان يلازمها , وكانت تعرف أنها لن تقوى عليه ألا , ربما , مع مرور الوقت.
الجانب العملي في طبع هيلين مكّنها من تنظيم أوقاتها وملأها بالعمل والنشاط , فلم يبق عندها وقت للتفكير أو للتذكر , كانت تعرف أنها لن ترى جيك لوغان أبدا , طيلة حياتها , وأمام تلك المعرفة أرادت أن تبكي , لكن لا لن يبكيها أي رجل بعد اليوم , هكذا قررت.
بعد مضيّ أسبوعين على رجوعها وبينما كانت تجلس أمام المرة تضع اللمسات الأخيرة على وجهها قبل مواجهة الجمهور الكبير المنتظر في الصالة , سمعت الهمس المتبادل بين العارضات , كان الجميع في حمى فاليوم حفلة عرض لأحدث أزياء جيرالد .... هرج ومرج في الداخل مثل خليّة نحل بينما كل ما يراه المدعوون هو أناقة الثياب المعروضة وسحر العارضات الجميلات.
وبالطبع في لحظة خروج العارضات الى الصالة يصبح الكلام صعبا ألا ربما كلمة هناك بينما تعود أحداهن لتخلع ثوبا وتلبس آخر , ومن الهمس الدائر عرفت هيلين أن هناك شخصا غير عادي بين الجمهور , الجمهور المكّون عادة من الكهول والعجائز , أقتربت هيلين , التي لم يكن دورها قد أتى بعد للخروج الى الصالة من أحدى زميلاتها وهي تغيّر ثوبها وسألتها:
" ماذا هناك؟".
" رجل في المقعد الخلفي ... جهة اليسار , يا الله!".
فهمت هيلين وقررت أن تحاول رؤية ذلك الرجل الذي سبّب كل هذا الهرج بين العارضات , أنتظرت حتى جاء دورها ثم أخذت نفسا عميقا , رفعت ذقنها الى أعلى , وأبتسمت الأبتسامة الضرورية عند العرض , وبدأت مشيتها الأنيقة المتعالية بين مقاعد المتفرجين.
سمعت هيلين المعلن يقول:
" هيلين تلبس أحد أجمل...".
ولم تأبه لبقية الكلام , فالعارضة تنتظر سماع أسمها فقط , كانت قد بدأت تقترب من الوسط.... بضعة خطوات أنيقة, وقفة في الوسط مع حركة مثيرة ونظرة متعالية , ثم السير في الممر الطويل وهمسات الأعجاب تتعالى , بالطبع هيلين معتادة على كل ذلك , تجيب عليه بأبتسامة دافئة , مدروسة , لا تعني شيئا , فقط تمرّن على تحريك عضلات الوجه , وبدأت بالعودة , في اللحظة التي أستدارت بها حاولت أن تحوي الصالة كلها بلمحة سريعة , وكادت تهوي الى الأرض , غير معقول! مستحيل! الرجل هو جيك لوغان.
كيف عادت هيلين الى غرفة الثياب , ماذا فعلت بعد ذلك , لم تكن تعي شيئا مما حصل .
رأت المسؤولة , الآنسة وجه هيلين الشاحب , فقالت :
" أجلسي يا عزيزتي , هل بك شيء؟".
وسكبت لها بعض الماء لتشرب.
" شعرت بالدوار , هذا كل شيء دقيقة واحدة وأكون بخير".
ترى هل تخيّلت ذلك؟ لكن الفتيات رأينه وتهامسن عنه! وهي رأته بوضوح شديد , كان يلبس بذة فاتحة اللون وقميصا أبيض يظهر لونه البرونزي , أنه رائع خصوصا هنا في جو لندن الضبابي , ما كان أجمله , السيكار في يده , وعيناه على المسرح.
لكن غريب! لميظهر عليه أنه عرف هيلين , وأخذ توترها يشتد وهي تلبس ثوبا رماديا من الحرير البارد وتعود الى الصالة , كم تمنت لو تأخذ عارضة أخرى مكانها لكن العدد المحدود لم يكن يسمح بذلك , في الصالة لم تستطع هيلين مقاومة رغبتها في التطلع بأتجاه جيك , كان المقعد خاليا , جيك لوغان قد ذهب , فقط دخان سيكاره ورائحته كأنما ليقولا لهيلين أن الأمر لم يكن حلما.
لحظة أنتهاء العرض , حملت هيلين حقيبتها وخرجت مسرعة غير مبالية بنظرات التعجب على وجوه زميلاتها , كانت تقصد مكتب خالها فيليب في الطابق الأعلى , أنه الوحيد الذي تستطيع التكلم اليه الآن.
سكرتيرة الخال فيليب , أمرأة في أواسط عمرها لم تفقد الأمل بعد في أن يطلب الخال فيليب يدها للزواج ,حاولت منع هيلين من الدخول قائلة أنه مشغول , لم تعرها هيلين أي أهتمام وأندفعت الى داخل المكتب دون أن تقرع الباب.
جيك لوغان كان يجلس في الكرسي الكبير المريح يشعل السيكار للخال فيليب بكل راحة , لحظة دخول هيلين تطلع الأثنان بأتجاهها ثم وقفا , الكثير الذي كان لدى هيلين لتقوله أختفى , ولم تعد تقوى على الكلام.
أقترب منها الخال فيليب بأهتمام :
" هيلين كنت أريد....".
لكن هيلين لم تكن تستمع له , أستدارت الى جيك مستفسرة :
" ماذا تفعل هنا؟".
أقترب جيك , وقال بهدوء:
" جئت لأراك , هل نستطيع الذهاب الى أي مكان لنتحدث؟".
" لا".
ورفعت ذقنها الى أعلى بكبرياء .
" ليس هناك ما نتحدث عنه".
ثن قالت موجهة الحديث الى خالها:
" آسفة لدخولي عليك هكذا وبدون أستئذان , لم أكن أعرف أنك مشغول , سأذهب الى البيت الآن....".
جيك أقترب منها وأمسك ذراعها بلطف لكن بحزم:
" لا , لن تذهبي ألا أذا ذهبت أنا معك".
أعماها الخوف والغضب :
" خال فيليب , هل ستترك هذا الرجل......".
" أظن عليك الأستماع الى ما لديه , فالرجل قطع آلاف الأميال ليأتي ويراك , ألا تظنين.....؟".
عرفت هيلين أنها لن تلقى المساعدة هنا , سحبت ذراعها من يد لوغان:
" أخبرتك من قبل , لا أحب أن تلمسني".
تنفست بصعوبة :
" وأنا أعني ما أقول".
كانت عيناها تلمعان غضبا , وكانت أجمل من أي وقت مضى , كان ذلك واضحا في عيني جيك ونظراته المليئة , لكن هيلين لم تر شيئا من ذلك , بل أندفعت خارجة من المكتب , في طريقها الى الخارج سمعت بضع كلمات وججها خالها الى ضيفه:
" أتركها الآن يا جيك...".
كانت هيلين مستلقية على سريرها في بيت الخال فيليب , عندما عاد لها رجع كلمات خالها الأخيرة , ناداه جيك... جيك فقط بدون كلفة وكأنه يعرفه جيدا , وأنتفضت جالسة , أنها لا تفهم شيئا مما يدور حولها , ثم ماذا يفعل جيك لوغان هنا , في لندن؟ وللحظة أحست هيلين بقرصة ندم لتركها المكتب بتلك السرعة , ربما كان عليها التروي وأخبار هذا الرجل برأيها الكامل فيه , وحش كريه ! لكن لا ! ... هذا ليس صحيحا , وبرغم كل عواطفها الخارجية وأنفعالاتها , عرفت هيلين أن تلك الرجفة في ركبتيها والخفقان المتزايد الذي داهمها عند رؤيته , لم يكونا سوى مؤشر لأحاسيسها الحقيقية الدفينة , أنها تحبه ! أجل تحبه!
قامت عن السرير .... لقد جاء كل تلك المسافة وماذا فعلت هي؟ أعطته الأنطباع بأنه من أكره الرجال في العالم كله , أحست بالخوف , ماذا لو أختفى هكذا .... فجأة ... تماما كما ظهر , ماذا لو لم تره ثانية!
خضّت الفكرة هيلين فجمدت في مكانها , يم ببطء ذهبت الى الباب وفتحته , على الأقل لتذهب وتعتذر من خالها... وربما تسأله أن كان...
بينما كانت تنزل الدرجات المؤدية الى الصالون فتح الباب الخارجي ودخل منه رجلان.
ألتقت عينا جيك بعينيها ورأى مشاعرها الحقيقية على وجهها , لم يحاول أخفاء أحاسيسه رغم وجود الخال فيليب الذي أحس بضرورة الأنسحاب , وقبل أن يغلق باب الممر المؤدي الى المطبخ , أسترق الخال فيليب نظرة أخيرة ليرى هيلين تكمل نزول الدرج بأتجاه جيك الذي كان مادا يده وكأنما ليأخذ يدها , رأى الخال شيئا لا يوصف ولا يعبر عنه بكلمات يجري بين الأثنين أبتسم لنفسه أبتسامة سرّية صغيرة وأغلق الباب خلفه بأحكام.
__________________ 9- حمامتان
كان لدى الطرفين الكثير من الشرح والتفصيل , لكن الأهم من كل ذلك أن جيك عبر آلاف الأميال ليقول لهيلين أنه يحبها.
ذات يوم كانا يجلسان في حديقة قريبة من بيت هيلين , جيك يحيط كتفي هيلين بذراعيه وكأنه لن يتركها تهرب بعد اليوم , وهيلين تنظر حولها بدهشة , لم تر يوما بهذا الأخضرار , ولا السماء بهذا الصفاء حتى الهواء ... ورفعت رأسها الأسمر الجالس الى جانبها:
" أليس كل شيء رائعا !... كل شيء... كل شيء؟".
أبتسمت لها عيناه بحنان:
" من حيث أجلس... نعم ".
" أوه , جيك , كم كنت قاسية معك!".
قالت وتنهدت :
" ليس بقساوتي أنا معك ... هيلين دعيني أشرح لك أنا......".
" أوه لا يهم , أرجوك".
ورفعت عينيها الواسعتين اليه:
" ألا ترى ؟ كل ما يهمني الآن أنك هنا حاولت التظاهر بعكس ذلك لكن الواقع كان , أنني أحسست بتعاسة كبيرة منذ اللحظة التي تركت فيها الجزيرة , كنت أعرف أو ظننت أنني أعرف أنك تكرهني.....".
" أرجوك يا هيلين , توقفي!".
قال بأسى شديد:
" لا تقولي شيئا كهذا , يعذبني كثيرا أنني عاملتك بتلك الطريقة البشعة , لكن ألا ترين كنت أحاول كبت غرائزي ولجم رغبتي الطبيعية في أمتلاكك عندما كنا وحيدين على الجزيرة , أنت نفسك قلت عني وحش في أحدى لحظاتك الصريحة".
وافقت هيلين مبتسمة:
" وأشياء أخرى كثيرة , كنت أيضا أظن أنك مجرم هارب....".
" ماذا؟؟".
وبدأ يضحك.
شرحت له هيلين عن الصورة الفوتوغرافية وكيف ظهر جيك وهو يرفع يده الى وجهه وكأنه يحاول أخفاءه, عندها أنفجر جيك بضحكة مدويّة.
" فعلا هذا ما حدث , لكن ليس بسبب ذلك أيتها الصغيرة البلهاء ...".
قال الكلمتين الأخيرتين بتحبب:
" ربما أستطاع خالك فيليب شرح الأمر أفضل مني؟".
عندها تذكرت هيلين التعبير الغريب على وجه الخال فيليب عندما أرته الصورة.
" لا... بل الآن أنت تفسر لي كل شيء".
" حسنا يا آنستي , منذ خمس وعشرين سنة وعندما كنت أنا في السادسة من عمري هاجر والداي الى أستراليا حيث باشرا العمل هناك ونجحا في فتح عدة مخازن كبيرة , والدي من عمر خالك فيليب تقريبا كانا صديقين حميمين وكانت بينهما منافسة شديدة في العمل , بقيا على أتصال لفترة ثم أنقطعا , عمّا قريب يعود الأتصال بينهما".
وضحك ضحكة ذات معنى .
" لا أصدق......".
همست هيلين :
" أنها الحقيقة , أقسم لك".
" والصورة؟ ما علاقتها؟".
" آه , منذ عشر سنوات قررت ترك البيت والعيش وحدي وحصلت مشاجرة بين وبين والدي بسبب قراري , وأقسمت وقتها أن لا أعود الى البيت ألا بعد أن أتدبر أموري..".
ثم هزّ كتفيه متابعا:
" أما بالنسبة الى الصورة...... لا شيء مهم , فقط لديّ كره طبيعي للوقوف أمام آلة تصوير , على كل حال الآن سأكتب لوالدي وأصالحه , أنا متأكد من أنه يرغب في مقابلة خطيبة أبنه الحسناء , أليس كذلك؟".
" أنا لم أقل أنني......".
بدأت تتكلم ببطء , قاطعها جيك:
"أنا لم أقل أنني......".
بدأت تتكلم ببطء , قاطعها جيك:
" طبعا ستفعلين , لست بالسواد ولا البشاعة التي صوروني بها أمامك , ليس فيما يتعلق بالنساء على الأقل , أما مارشا.....".
" أظنني أعرف ". أجابته:
" هل كانت تلاحقك؟".
" أجل وجعلت الأمر واضحا , أخبرتها بصراحة أنني لا أقترب من النساء المتزوجات , أما سيرينا و......".
" عزيزي جيك .... كم أنت مظلوم".
أقترب منها جيك :
" أتشفقين عليّ أحب ذلك".
وأقترب منها أكثر , أبتسمت بمرح وأبتعدت عنه قليلا لكنها قالت:
" أوه جيك... كم أحبك .... أحببتك حتى عندما كنت أتخيّل أنك وسيرينا......".
" أعرف , أخبرني بيل بكل شيء , أنه رجل طيب , هيلين أتذكرين كل تلك الملاحظات عن المدارس الداخلية وغيرها ... كنت فقط أشعر بالمرارة لأعتقادي بأنك أتيت الى الجزيرة لأخذ ما تستطيعين أخذه ,وكان والدك قد أخبرني عن دفعه كل تلك الأقساط الخيالية ....".
" ماذا؟".
لم تصدق هيلين ما سمعت.
" ماذا تعني؟".
وأحس جيك بالحرج:
" ألم تخبرك أمك عن ذلك؟ هيلين أنا آسف , كم كنت وحشا...".
" لا تقل ذلك".
وهزت رأسها قليلا:
" الآن بدأت أفهم , أمي وأنا قلّما نلتقي.... ولست آسفة على ذلك , هي أعطتني تلك السلسلة الذهبية عندما كنت صغيرة , وعندما رأيت السلسلة التي كنت أنت تضعها وكانت مماثلة لها تماما , عرفت أنها من والدي , وأحسست برغبة في أعطاء سرينا السلسلة التي معي".
ونظرت الى يديها بتأمل ثم قالت:
" آه يا جيك ... كم أتحرق لمعرفة أشياء كثيرة عن والدي ستخبرني أنت, أنت عرفته وأحببته, يوم كنا على جزيرة العواصف , أحسست لأول مرة أنني في بيتي في ذلك المكان الجميل , بالفعل في بيتي لأول مرة في حياتي".
قال بهدوء:
" والدك كان يخطط لبناء بيت صغير هناك يا هيلين لكنه مات قبل أن نباشر العمل.........".
نظرت اليه هيلين والدهشة تملأ وجهها:
" لقد عرفت .... أنا رأيت البيت رأيته هناك بجانب النبع , كلما جلست قربه كنت أتخيّل البيت الصغير , لذلك لم أكن أحب أن تراني هناك , كان المكان يخصني وحدي!".
ضحك جيك :
" سنبني البيت معا يا هيلين وسنذهب اليه وحدنا , نمضي فيه أسابيع حلوة- أنا أرسم ......و".
" ترسم؟ أنت ترسم؟".
نظر اليها فجأة وبحرج.
" ألم تري أبدا لوحة للوغان؟".
" لوغان؟ يا ألهي! هل أن.........؟".
" نعم أن كان بأساعتك تحمّل فنان كزوج ؟".
" أوه جيك .... حبيبي جيك , عندي لوحة لك في شقتي لكنها نسخة , لم أستطع شراء الأصل.......".
" قال بحنان:
" الآن يكون لك الأصل ... أصل الأصل , لوغان بنفسه , أتستطيعين تحمّل ذلك؟".
" نعم..... طبعا , جربني .... أرجوك......".
ولم تعد تأبه بمن حولها , رفعت وجهها الى وجهه ... وطارت حمامتان عاليا .... عاليا في سماء لندن الصافية!
تمت ![](http://im45.gulfup.com/PTvTo.gif) |
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة ام بطن ; 02-23-2014 الساعة 03:52 PM |