أفسح لهم حارس القصر و أدخلهم في الردهة الأولى , توقفت غاردينيا وهي تحدق بصدمة إلى بضع لوحات كبيرة ملقاة فوق بعضها و ممزقة مهملة بينما الزجاج المتحطم في كل مكان !!, كانت اللوحات ثمينة للغاية لأن براويزها من الذهب والفضة المنقوشة , و تعرفت لصدمتها إلى لوحة "دآيمنـد و اخيه الأصغر الذي قد توفي منذ زمن بعيد "سيلفرس "..
نظرت نحو برآيس الذي بدا شاحباً هو أيضاً , و لكن فجأة ظهر صاحب القصر الحالي الذي هتف و من خلفه خادمين يحملان لوحة آخرى :
_ آووه لم اظن بأن الأميرة ستشرفني الآن ! , لكن أنا مشغول قليلا , احذري من هذا الزجاج سموك , لم أرغب بأن تري هذه الفوضى الآن..
واقترب يبتسم بفخر , لكن اختفت ابتسامته وهو يرى المستشار , قال ببرود : .. وأنت هنا أيضاً..
رد برآيس بهدوء و نظرة ثلجية : أني هنا مع الأميرة , مالذي تفعله بتحف القصر..؟!
رد الوزير بصفاقة وعجرفة : لا شأن لك , أنه قصري.. ولك الأمور التي تزعجني سألقي بها إلى المحرقة !.
شهقت غاردينيا بتوتر : لا , أرجوك , هذه الأمور ثمينة.. لـ...
قاطعها الوزير بنعومة : لكن يا أميرة أنتِ لا تفهمين...
ثم ألقى الخادمين اللوحة الكبيرة التي كانا يحملانها و ظهرت أنها رسمه بديعة لـ , سيدة تبدو في شبابها البهي , سيدة في غاية الجمال ذات شعر بني ذهبي , وعينين بلون البحر الداكن , فوق رأسها ما بدا كطوق من الؤلؤ الجميل , اللوحة لوجهها و حتى كتفيها , ترتدي لباساً بلون أزرق ياقوتي , و قد رسمت ابتسامة خلابة في ثغرها..
لكن ما سمر غاردينيا و غابت وسط ظلام الفكر , رؤيتها للقلادة الزمردية الزرقاء المميزة تزين عنق السيدة الجميلة الغامضة , والتي لم تعد كذلك , هذه بلا شك والدة دآيمند.. والقلادة هي نفسها التي ترتديها..
تحسستها بصدمة و صوت الوزير يعيدها للواقع : والدك هو من سلمني هذا القصر , جزاءً لأفعالي و اعمالي البطولية وحكمتي في المعارك أيضاً..
سقطت اللوحة بعنق و تحطم زجاجها أمام عينيها , فرفعت بصرها بكره شديد إليه وكادت تصرخ به لولا أن قال المستشار فجأة بهدوء : حسنا إذن , بما أني أتيت في هذا الوقت فدعني اساعدك..
قال الوزير ببرود : سألقيها بعيدا عن القصر في حفرة المحرقة و هنالك بعض التحف الضخمة تحتاج لكثير من الرجال لحملها وبيعها فهي تحوي مجوهرات ثمينة..
لم تكد تتنفس أنه هو من يجب حرقه !! و كيف يفعل والدها شيء كهذا لوزير معتوه خبيث !!, حدقت بصدمة نحو برآيس الذي تابع بهدوء وهو يغمز لها بحركة خفية : حراسي هنا , سأطلب منهم مساعدتك.
همهم زارو موافقاً ثم قال : لكن سأتوقف عند هذه ! , لأن لدي حفلة الليلة يجب أن أسوي استعداداتها , الملك لا يحتاجني لاجتماعات الليلة , لكنك أنت مشغول أليس كذلك ؟!.
باختصار لا يود أن يدعو "برآيس" الذي قال بأدب : بالطبع أنا مشغول للغاية.. و ...
قاطعه زآرو ببرود و تأمر: حسنا مهما يكن , هلا جلبت حرآسك لآخذ هذه القمامة بعيداً .. بينما أتكلم أنا قليلا مع الأميرة..
كشر برآيس بوجهه , و الوزير يوجه كلامه للأميرة : لا شك بأنك مرهقة للغاية و أنا حتى لم أقدم لك الشراب , يالا قلة ذوقي..
رددت غاردينيا بحقد في قلبها , قلة ذوق فقط !!.. , نظرت نحو برآيس لعله ينقذها لكنه غادر بهدوء .. و اضطرت للبقاء الساعة التالية وهي جالسة معه تستمع لأحاديثه المبالغ بها و المزيفة , بينما راقبت بعينيها من الشرفة الطلة إلى الحديقة الأمامية حرآس برآيس ينقلون اللوحات بحذر إلى العربة .. ضيقت جبينها مفكرة , يبدو برآيس متعاون جدا و متفهم .. هل يمكن أنه يعرف بتاريخ هذا القصر أو ربما... سكانه أنه ذكي و ربما يعرف شيئا ما...!
_ يا أميرة , هل استمعتِ لقولي...؟!
نظرت بتوتر نحوه , ولكنه بدا فجأة جدياً جداً وهو متكأ على الأريكة المقابلة لها مميلاً نفسه قليلا إليها ناظراً بتركيز في عينيها..
قالت الأميرة بقلق : آسفة.. كنت حالمة قليلاً..!
ابتسم لها و قال بنعومة : أود أخذ رأيك بالكثير من التغييرات التي سأجريها هنا.. كما أو أيضا ومنذ زمن طويل سماع جوابك لهذا..!
شعرت بأنها في ورطة , لكن انتظرت بنفاذ صبر شديد عودة برآيس ليخلصها من هذا الوضع ..
_ اعتقد بأني سمعت صوت الخيول...
ونهضت بسرعة , لكنه نهض أيضا و أمسك بيدها قائلا : استمعي إلي يا أميرة..
اضطرت للنظر في وجهه وهي تقول : ماذا ؟!.
_ أريد حقاً أن اتزوج بك , أنا مهتم لأمرك جداً و سأفعل كل ما بوسعي لأسعادك يا أميرة غاردينيا..
حقا هذا صادم لكنه بالطبع لا...! , قالت بتوتر : لا اعتقد بأني...
_ سأنتظر جوابك بجدية .. نحن متلائمان حقاً و بمراتب عالية..
شعرت بسخافة ما يقول , تفضل الموت على هذا ..!! , قالت ببرود وهي تسحب يدها : لا يمكنك الزواج بي , أنا مريضة بشكل سيئة و ربما قد أموت قريباً...
رفع حاجبيه قائلا : لا تقولي مثل هذا الكلام , بالطبع أنتِ ستعيشِ طويلا , و بسعادة.. معي...!
هزت رأسها قائلة بهدوء وجدية : لا , بصراحة.. أنا لن أتزوج أبداً.. ربما أحاول أن أزوج والدي مستقبلاً !.
قال بحده مفاجئة : ماذا ! , لا يمكن هذا بالطبع , الملك يجب أن يضمن استمرار مملكته.. ما تقولينه غير معقول..
شعرت بالصدمة لاكتشاف خداعه و تبدل نبرته و نظرة عينيه , أنه يحاول التمكن منهم و عندما يتزوج بها سيكون هو ملك المستقبل !!..وهي ستموت شابة وهو سيعيث فساداً بسبب اخلاقه السيئة و ستضيع المملكة و الأدهى سيضيع اسم الملك و سلالته !!.. هذا لن يحدث أبداً , آوووه انتابها القلق الشديد الممزوج بالرعب , قد يكون والدها حقا يثق بهذا الخبيث الماكر .. ولكنها لن تتزوج به ولو كان آخر رجل في الحياة !
سمعته نبرته المدعيّة الرقة وهو يعود للأمساك بيديها : أنا سأكون خادمكم المخلص .. و سأنشر السعادة بطريقك..
يجب أن تفكر بسرعة, قالت بكل هدوء و تماسك تملكه : آه أنا أشعر بالتعب .. يجب أن أعود للقصر..
_ لكن...
فتحت الأبواب فجأة و دخل برآيس يتبعه أحد حراسه , قال المستشار بشك وهو يحدق بهما : لقد نقلناها للمحرقة مثلما قلت , كما أن الشمس على وشك المغيب , يجب أن نعود... سمو الأميرة ؟!
هربت الأميرة بسرعة من الوزير قائلة كي لا تكون غير لبقة : عمت مساءً..
فتح لها باب العربة فقفزت صاعدة بسرعة و جلس برآيس بهدوء , ركب الحرآس خارج العربة و انطلقت عند الشفق... بعد دقائق قصيرة , قال المستشار بهدوء ولطف وهو يراقب توتر يدي الأميرة :
_ أكل شيء بخير يا أميرة ؟!. هل أنت متضايقة ؟..
تأوهت غير قادرة على الكتمان أكثر , قالت له كل شيء تقريباً إلا استنتاجاتها التي دارت بعقلها , بدى على برآيس القلق لكن ليست الصدمة .. طمئنها وهو يمسح على يديها برقة :
_ آووه لا تخافي أبداً .. أنت لن تكوني مجبورة قط على المضي في أي شيء تكرهينه !.. كما أن الملك لن يفعل هذا بك , أنت غير موافقه صحيح..!
أحمرت وهي تجيبه : أجل ! . أعني , أنا لا أدري الزواج بشخص لا ارتاح إليه , ربما لن أتزوج أبدا , فأنا مريضة جداً و أخشى... أخشى أن يطمع الاخرون بالمنصب وأنا سأموت على أية حال تاركة خلفي مقعد العرش خالياً... آووه لماذا لم يتزوج أبي مجدداً لأجل أن ينجب الوريث !!.
حدق بها المستشار بدهشة أولاً , فهذه أفكار كبيرة , حسنا ومقلقة.. لكن قال لها بثقة : أولاً أنت لن تموتي ! , ستشفين .. مرضك هذا ليس بالخطير و أنت قوية جدا و مع المحافظة على الدواء سيختفي كل شيء , كما أنه يجب أن تكوني مع شخص تحبينه و تثقين به و كل شيء سيسير على ما يرام ما أن يراك الملك سعيدة سيسعد هو بشدة أيضاً أنا واثق..!
شعرت برغبة في البكاء , ربما هذا تفاؤل كبير, لكنها تعلم بأن الأمل غير موجود .. فهي لن تجد شخصا يحبها بصدق , وهي لن تقدر على النطق بهذا.. ربما سيتقرب منها الكثيرون لاحقاً , لأنها طفلة الملك الوحيدة و ربما لأنها ستموت وستخلي أمامهم السبيل للملك..!!
شهقت متذكرة و قالت تسأل برآيس بلهفة : مالذي حدث مع اللوحات ؟!.
طمئنها بابتسامة واثقة هادئة : أنها بأمان, لقد خبئتها..
شكرته بعمق حقيقي و هي تكاد تبكي : آووه شكراً لك برآيس , أنك نبيل رائع منقذ...
تبسم لها و همس بلطف : و أنتِ كذلك سموك , تصرفتِ بنبل شديد , و كنت ذكية جداً لتفكيرك وأخباري بهذا الشأن المهم , أنا أشكرك للغاية على هذا.. و أتمنى أن تطلعيني على أي أمر مهم يطرأ و تحتارين بشأنه , أنا بخدمتك دائماً..
خطر ببالها المستقبل القريب , فقالت له بقلق : لكن بقي الكثير في القصر وسـ...
هدئها بثقة وهدوء : أعرف هذا.. لدينا الكثير من الاجتماعات القريبة , فهو سيكون منشغلا معنا.. وذلك الحين ستكون هناك خطة أخرى..!
رغم أن حديثه غريب قليلا ولم تفهم ما يقصده , لكنها قالت : أرجوك أن تطمئنني على ما يحدث !
_ بالطبع مولاتي , كوني مطمئنه .. سيكون كل شيء بخير..!
أخذت تنظم انفاسها المتسارعة المتهالكة , حسنا كان هذا جيداً , برآيس وضعته في أعلى قائمة الموثوق بهم ,بعد والدها ..و .. فقط هي لا تملك غيرهم... حسنا هي لا تثق بصاحب العيون المعدنية , لكنه تثق بجسارته و نبله .. و يحتاج لتحسين أساليبه في الحديث قليلا و التصرفات العنيفة المرتجلة أيضاً و التسلسل و الأفعال الغير متوقعة...!
جلست كئيبة في غرفتها مساءً , الجميع مشغول , وهي لا ترغب أبداً برؤية أي أحد أو البحث بأي شيء حتى..
نظرت إلى صفحة البركة البعيدة التي يلمع عليها ضوء القمر المتسلل من بين الغيوم , اختلط الفضي بالسوداء و شكل ببطء عينيه , ثم كامل وجهه المثالي البارد الهادئ , نظراته العميقة التي تعاكس لهجته الحادة القاتلة تأخذها لسحر بعيد... كما أنه هو بعيد... دآيمنـد من النوع.... فكرت بأسى و قلبها يفقد نبضه ... من النوع الذي لا يحب أحداً , ربما... هو لن يتزوج بأي شابة , ربما لاحقا يجب أن يستمر نسل عائلته هو أيضاً... فهو وحيد .. غاضب... بارد ... لقد فقد مشاعره منذ زمن طويل...
كما أنه يكره بشدة... بشدة والدها الذي سلم قصر عائلته العريق إلى مخادع كاذب... و المصيبة بأن والدها يثق بذلك الكاذب و يرفض التفهم مع دآيمنـد صاحب الحق الذي يسعى إليه..!
تنهدت بأسى , وهو يكرهها أيضا ولاشك .. ربما نبله و كياسته ومبادئه الرفيعة منعته من قتلها... لكن هي لا تكرهه .. قبضت على قلبها وهي تجلس على حافة سور الشرفة تنظر إلى السماء الزرقاء الداكنة و نجوم الؤلؤ المتناثرة فيها بعشوائية...
ربما ... اشتاقت إليه قليلاً , أو كثيراً جداً , لدرجة أنها تتمنى لو تحدث عاصفة مريعة الآن !.. فهو فارس الليل المتسلل .. لقد أنقذها كثيراً.. وذلك الوقت... عندما كانت على شفى الموت , كان يهتم بها كثيراً .. وكان يصبح... يصبح ... رقيقاً دافئا بشكل جميل , لا تكاد تصدق وجود هذا الجانب..
تبسمت دون أن تعي لنفسها , دآيمند يمكن أن يصبح رائعاً للغاية ساحراً تماماً لامعاً صلباً حقاً كالألماس !.
_ مالذي تتبسم له صغيرتي بروعة هكذا ؟!.
شهقت وهي تلتف لتنظر نحو والدها الذي يتقدم بابتسامته الرائعة المليئة الدافئة , أمسك بيديها و احتضنها لقلبه بدف يبعدها عن برودة النافذة...
قال هامساً : أريد أن أجلس معك حتى تغفو عيناك الواسعتين هاتين , واحكي لي عن قصة ابتسامتك , يجب أن أجلب الشيء الذي رسمها لأجلك...!
آوه حسنا هذا طريق خطر..! , لكنها ابتسمت متنعمة بالدفء : الهدوء و السلام فقط.. أحكي لي أنت أي قصة لابتسامتك...
جلس على الطرف السرير وهو يغطيها و يمسك بيدها التي فوق الغطاء : هذه قصة بسيطة لكن عميقة , سرها هو أنتِ , فكونك بخير ابتسامتي تظل أبدية لأجلك.. |