ادواء الاخلاق الفاسدة ومداواتها الجزء الثاني الحمد لله وكفى وسلام على عبده الذين اصطفى وبعد نواصل ايه الاخوة الكرام ما جاء في هذا الكتاب القيم للامام الأوحد , البحر , ذو الفنون والمعارف أبو محمد ; علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الفارسي الأصل , ثم الأندلسي القرطبي اليزيدي مولى الأمير يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي -رضي الله عنه- المعروف بيزيد الخير , نائب أمير المؤمنين أبي حفص على دمشق , الفقيه الحافظ , المتكلم , الأديب , الوزير الظاهري , صاحب التصانيف فكان جده يزيد مولى للأمير يزيد أخي معاوية . وكان جده خلَف بن معدان هو أول من دخل الأندلس في صحابة ملك الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ; المعروف بالداخل . ولد أبو محمد بقرطبة في سنة أربع وثمانين وثلاث مائة . قال رحمه الله
واعلم أن كثيراً من أهل الحرص على العلم يجدون في القراءة والإكباب على الدروس والطلب، تم لا يرزقون منه حظاً. فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالإكباب وحده لكان غيره فوقه، فصح أنه موهبة من الله تعالى، فأي مكان للعجب ها هنا! ما هذا إلا موضع تواضع وشكر لله تعالى، واستزادة من نعمه، واستعاذة من سلبها. ثم تفكر أيضاً في أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلم، ثم من أصناف علمك الذي تختص به. فالذي أعجبت بنفاذك فيه أكثر مما تعلم من ذلك، فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك واستقصاراً لها، فهو أولى، وتفكر فيمن كان أعلم منك، تجدهم كثيراً، فلتهن نفسك عندك حينئذ، وتفكر في إخلالك بعلمك، وأنك لا تعمل بما علمت منه، فلعلمك عليك حجة حينئذ، ولقد كان أسلم لك لو لم تكن عالماً.
واعلم أن الجاهل حينئذ أعقل منك وأحسن حالاً وأعذر، فليسقط عجبك بالكلية. ثم لعل علمك الذي تعجب بنفاذك فيه من العلوم المتأخرة التي لا كبير خصلة فيها، كالشعر وما جرى مجراه، فانظر حينئذ إلى من علمه أجل من علمك في مراتب الدنيا والآخرة، فتهون نفسك عليك، وإن أعجبت بشجاعتك، فتفكر فيمن هو أشجع منك. ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله تعالى فيم صرفتها، فإن كنت صرفتها في معصية، فأنت أحمق، لأنك بذلت نفسك فيما ليس ثمناً لها، وإن كنت صرفتها في طاعة، فقد أفسدتها بعجبك. ثم تفكر في زوالها عنك بالشيخوخة وأنك إن عشت فستصير من عدد العيال، وكالصبي ضعفاً.
على أني ما رأيت العجب في طائفة أقل منه في أهل الشجاعة، فاستدللت بذلك على نزاهة أنفسهم ورفعتها وعلوها. وإن أعجبت بجاهك في دنياك فتفكر في مخالفيك وأندادك ونظرائك، ولعلهم أخساء وضعفاء سقاط، فاعلم أنهم أمثالك فيما أنت فيه، ولعلهم ممن يستحيا من التشبه بهم لفرط رذالتهم وخساستهم في أنفسهم وأخلاقهم ومنابتهم، فاستهن بكل منزلة شاركك فيها من ذكرت لك، وإن كنت مالك الأرض كلها، ولا مخالف عليك، وهذا بعيد جداً في الإمكان، فما نعلم أحداً ملك معمور الأرض كله على قلته وضيق ساحته، بالإضافة إلى غامرها، فكيف إذا أضيف إلى الفلك المحيط، فتفكر فيما قال ابن السماك للرشيد وقد دعا بحضرته بقدح فيه ماء ليشربه، فقال له: يا أمير المؤمنين فلو منعت هذه الشربة بكم كنت ترضى أن تبتاعها؟ فقال له الرشيد: بملكي كله. قال: يا أمير المؤمنين فلو منعت خروجها منك بكم كنت ترضى أن تفتدي من ذلك؟ قال: بملكي كله. قال؟ يا أمير المؤمنين أتغتبط بملك لا يساوي بولة ولا شربة ماء! وصدق ابن السماك رحمه الله.
وإن كنت ملك المسلمين كلهم، فاعلم أن ملك السود، وهو رجل أسود رذل مكشوف العورة جاهل، يملك أوسع من ملكك. فإن قلت أنا أخذنه بحق، فلعمري ما أخذته بحق إذا استعملت فيه رذيلة العجب، وإذا لم تعدل فيه فاستحي من حالك، فهي حالة رذالة لا حالة يجب العجب فيها. وإن أعجبت بمالك، فهذه أسوأ مراتب العجب، فانظر في كل ساقط خسيس هو أغنى منك، في تغبط بحالة يفوقك فيها من ذكرت.
واعلم أن عجبك بالمال حمق، لأنه أحجار لا تنتفع بها إلا أن تخرجها عن ملكك بنفقتها في وجهها فقط، والمال أيضاً غاد ورائح، وربما زال عنك، ورأيته بعينه في يد غيرك. ولعل ذلك يكون في يد عدوك، فالعجب بمثل هذا سخف، والثقة به غرور وضعف. وإن أعجبت بحسنك، ففكر فيما يولد عليك مما نستحي نحن من إثباته، وتستحي أنت منه إذا ذهب عنك بدخولك في السن، وفيما ذكرنا كفاية.
وإن أعجبت بمدح إخوانك لك، ففكر في ذم أعدائك إياك، فحينئذ ينجلي عنك العجب. فإن لم يكن لك عدو، فلا خير فيك ولا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له، فليست إلا منزلة من ليس لله تعالى عنده نعمة يحسد عليها، عافانا الله. فإن استحقرت عيوبك، ففكر فيها لو ظهرت إلى الناس، وتمثل إطلاعهم عليها، فحينئذ تخجل، وتعرف قدر نقصك إن كانت لك مسكة من تمييز.
واعلم بأنك إن تعلمت كيفية تركيب الطبائع، وتولد الأخلاق من امتزاج عناصرها المحمولة في النفس، فستقف من ذلك وقوف يقين على أن فضائلك لا خصلة لك فيها، وأنها منح من الله تعالى لو منحها غيرك لكان مثلك، وأنك لو وكلت إلى نفسك لعجزت وهلكت، فاجعل بدل عجبك بها شكراً لواهبك إياها وإشفاقاً من زوالها، فقد تتغير الأخلاق الحميدة بالمرض وبالفقر وبالخوف وبالغضب بالهرم. وارحم من منع ما منحت، ولا تتعرض لزوال ما بك من النعم بالتعاصي على واهبها تعالى، وبأن تجعل لنفسك فيما وهبك خصلة أو حقاً، فتقدر أنك استغنيت عن عصمته فتهلك عاجلاً أو آجلاً.
ولقد أصابتني علة شديدة ولدت علي ربواً في الطحال شديداً، هذ ما سنطلع عليه غدا ان شاء الله بحوله وقوته |