عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 01-02-2014, 03:42 PM
 







وتبدأ أعمال خالد التي اشترك فيها متطوعاً بعد إسلامه بشهرين
أو ثلاثة أشهر بغزوة مؤتة التي التقى فيها المسلمون
وعددهم ثلاثة آلاف بطل يصاولون في ميدان مكشوف
فيالق الروم التي تربو عليهم سبعين ضعفاً.

في هذه الغزوة قاتل زيد بن حارثة رافعاً راية رسول الله [صلى الله عليه وسلم]
حتى شاط في رماح القوم وتلقف الراية جعفر بن أبي طالب،
وأقبل على الروم يجالدهم بعنف وصبر شديدين،
فأنحوا عليه بالضرب الدراك حتى قتل.
وتقدم ابن رواحة إلى حمل الراية في الساحة المضطرمة وهو يهدر بالشعر،
وطفق يصول بين الصفوف حتى قتل،
وإن المعركة لفي أشدها.
في هذه اللحظة الرهيبة المزلزلة، تطلعت العيون إلى قيادة جديدة تنقذ الموقف
وتحفظ للمسلمين هيبتهم في أول معركة لهم مع الدولة الرومانية الكبرى.
وما هي إلا لحظة حتى اهتدى المسلمون بوحي
البديهة ونور العقيدة وهداية الفداء إلى القائد المنقذ،
وإذا بثابت بن أقرم يأخذ الراية
ويصيح: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم.
قالوا: أنت، قال: لا، ما أنا بفاعل. واتفقت الكلمة على خالد بن الوليد،
فإذا هو يصنع لساعته خير ما يصنع في ذلك الحين، وهو الارتداد المأمون.
والارتداد المأمون أصعب من النصر في هذا المأزق الرهيب،
خصوصاً وخالد لا يريد إشعار الروم بالانسحاب
بل كان يريد أن يوقع في روع عدوه أنه ينوي الهجوم أو يقصد إلى الحيلة.
صمد خالد في الميدان حتى المساء ، وأبلى في هذا اليوم بلاء لم يبله قط في غزواته الكبرى على كثرتها،
حتى إنه ليروى عنه أنه
قال: اندقّت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، ما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية.
حتى إذا دخل الليل، وتوقف الطرفان عن القتال، أعاد تنظيم قواته القليلة،
فلما طلع الصباح توهم الروم أن مدداً جديداً أقبل على جيش المسلمين،
وكانوا قد ذاقوا منهم أمرّ المذاق بغير مدد وهم مفاجأون،
فلما ذهب خالد يدافع القوم ويناوشهم ملحقاً بهم أفدح
الخسائر دون أن يعرض قواته لالتحام عام لم يتبعوه حذراً من الكمين أن يحيط بهم من
ورائهم فيضربهم ضربة لا تنفع معها عدة ولا عدد.
قفل خالد راجعاً بجيشه إلى المدينة بسلام،
يتلقى تكريم النبي له بإضفاء أكبر لقب في الإسلام عليه.
إنه منذ اليوم يسمى "سيف الله" لأنه بتراجعه
هذا قد حقق نصراً لا يقل عن تقدمه وانتصاره.

ومنذ ذلك اليوم أصبح خالد موضع ثقة النبي عليه السلام، يندبه في كثير من المهام، صغيرها وكبيرها.
وكان خالد في مهامه كلها البطل الذي لا يهزم، والسيف الذي لا يفلّ.



وتدور الأيام ويلاقي الرسول عليه السلام وجه ربه
وتتمرّد القبائل وتمتنع عن دفع الزكاة،
ويهب الخليفة الأول لقمع المرتدين وكسر شوكتهم،
فلا يرى كفءاً لهذه المهمة الخطيرة غير خالد.

ويسير خالد إلى قمع المرتدين، فيقوم وحده بأوفر سهم في هذه الحروب،
ويقمع أخطر الفتن التي تهددت الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها،
، وقد أبدى في قمع هذه الفتن من ضروب الشجاعة العنيدة والقيادة
البصيرة النيرة، الخبيرة بإدارة المعارك واستثارة النفوس ما يجل عن الوصف والبيان.

ولقد أرسل غير مرة فرسه،
وترجّل مقاتلاً على قدميه، وهو يهتف بالمجاهدين
يستثير كوامن الإيمان والحمية في نفوسهم، فإذا هم يتأججون
حماسة ويندفعون كالسيل الهادر لا تخطر لهم الهزيمة على بال،
لأنهم صمموا على النصر أو الاستشهاد.

وكان يميز المهاجرين من الأنصار، ويميز الأعراب، كل بني أب على راية،
ويصيح بهم: أيها الناس تمايَزوا حتى نعرف من أين نُؤتى،
ثم يحمل على القوم في مقدمة المجاهدين.


وكان لهذه الشجاعة الفريدة، ولهذه العبقرية النادرة في
استثارة النفوس وإذكاء حماستها أثرها فيمن معه من صناديد الصحابة.
فقد تجاوبت الساحة بأصوات الأبطال،
يوصي بعضهم بعضاً
ويتنادون: يا أنصار الله، النصر أو الشهادة، فكنت لا ترى
إلا شهيداً ثبت في موضعه حتى قتل،
أو زاحفاً إلى الإمام يبغي إحدى الحسنيين.


وكان طبيعياً أن تتصدع صفوف المرتدين تحت مطارق الإيمان الحي،
وأن ينكشفوا منكسرين منهزمين،
وإن خيل خالد لتتعقب فلولهم فتصيب منهم ما شاء الله لها أن تصيب.

تم لخالد التوفيق في قمع المرتدين،
وهذا نصيب خالد من وقاية الإسلام في أرضه،
فإذا بشهرته تطير في الآفاق، ويسبق اسمه المهيب إلى
أطراف الدولتين المتربصتين بالعرب ودعوتهم الجديدة،
ليخط في سجل القدر نصيبه في دفع الخطر
الخارجي عن الإسلام، وإن لأوفى النصيبين.


اتفقت كلمة الصحابة على حرب فارس والروم،
وسيف الله بوداي الوبر في اليمامة لم يطل استقراره في غمده بعد
وكأنما قدر لهذا السيف ألا يغمد في تلك الفترة
الخطيرة في حياة العرب. فهاهو ذا الخليفة الصديق يندب خالداً لضرب فارس،
ويمده ببطل من أعظم أبطال المسلمين هو القعقاع بن عمرو أرسله
أبو بكر إلى خالد وهو يقول للصحابة: لا يهزم جيش فيه مثل القعقاع.

وتولى البطلان العظيمان مصاولة الفرس،
فأتمّا في سنة واحدة ما أعيى الرومان أن يتموه في أجيال.

لقي خالد الفرس في خمس عشرة وقعة لم يهزم ولم يخطئ
ولم يفشل قط في واحدة منها. فما كان لخالد
أن يخطئ عن خدعة أو عجلة أو قلة أهبة،
ودستوره في القتال أن يسير بجيشه دائماً على تعبئة كاملة لينقض
على عدوه حيث لقيه
كان أبداً كما وصفه عمرو بن العاص: في أناة القطاة ووثبة الأسد.

لقد حباه الله شجاعة ويقظة وخبرة وسرعة ومعرفة
بما هو لازم في وقت لزومه،
ولم تخذله خصلة من هذه الخصال قط في ساحات فارس
ولا في ساحات الشام،مع اختلاف الميادين،
واختلاف الأحوال، واختلاف الأعداء.

وترامت الأنباء يوماً بعد يوم إلى المدينة بأخبار النصر وغنائم القتال،
فما يكاد يفرغ الناس من الابتهاج
بنصر حتى يوافيهم البريد بنصر جديد.

وسبقت الضربات الخالدية كل آمال الآملين في سرعة الظفر بدولة الأكاسرة.
فقال أبو بكر وهو يبلغ الناس أنباء الظفر ليزفوا
بشراها
إلى الجزيرة العربية: يا معشر قريش!
عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله...
أعقمت النساء أن يلدن مثل خالد؟


لقد دوّخ خالد الفرسَ، وخضد شوكتهم،
فليكمل إذن ما أناط به القدر من مهام، وليتم دوره التاريخي المرسوم.
ها هو ذا الخليفة الصديق يندبه لحرب ا
لروم وهو يقول: لأنسينّ الرومَ وساوس الشيطان بخالد بن الوليد.

ويسير خالد إلى الشام ليدير رحى معركة اليرموك،
المعركة الخطيرة الفاصلة في حياة العرب والرومان على السواء.

واستعد الفريقان غاية ما في الوسع من استعداد
ووحد خالد القيادة، وعبأ قواده وجنوده تعبئة ملائمة للتعبئة الرومانية.
ثم عمد إلى القوة المعنوية يوليها حقها من عنايته الكبرى،
فأخرج المقداد يقرأ على الجيش آيات من كتاب الله،
ودعا كل رئيس أن يخطب جهده ويبصرهم بمرماه في حركاته.

ثم اشتبك الجيشان، وانكشف في الهجمة الأولى قلة المسلمين
أمام كثرة الروم، ثم ثاب المسلمون إلى عزماتهم بنخوة الإيمان،
ونخوة العزة، وحب الاستشهاد، فصمدوا صمود الجبابرة
غير حافلين بما مسهم من قرح، وما أحاط بهم من نصب ولغوب.

وأفلحت الكرة الثانية، وتقهقر الروم،
وعلت أصوات المسلمين مكبرة هازجة بالنصر المبين.

في معركة اليرموك بلغ خالد قمته العليا التي لا
مرتقى بعدها لراق، لقد قمع فتنة الردة،
وضرب دولة الأكاسرة ضربته الدامغة،
ووحد قيادة المسلمين في حرب الرومان،
فصدهم إلى ما وراء حدودهم مدحورين.

في هذه الفترة التي ارتقى فيها خالد إلى الأوج،
جاءه الأمر بعزله عن القيادة من الخليفة الجديد عمر بن الخطاب،
وتولية أبي عبيدة بن الجراح مكانه،
لأنه كان يعتقد أن أبا عبيدة –بعد معركة اليرموك-
أحق بالموقف الجديد من خالد، لأنه موقف التسليم والمسالمة،
واستلال الحقود وضمد الجراح وتقريب القلوب،
وفي جميع أولئك يتسع المجال لهوادة أبي عبيدة
ويضيق بضربات خالد، ولأن عمر أخذ عليه إسرافه في بعض الأعطيات.

فكيف تلقى خالد هذاالنبأ؟

تلقاه بروح الجندي المؤمن بالواجب
، والواجب يحتم عليه السمع والطاعة لقائده فيما أحب أو كره.
لم تثر في نفسه ثائرة،
ولم تحدثه نفسه بهجسة من عصيان وهو القائد المظفر،
الذي طبقت شهرته الأفاق، وملك على الجنود قلوبهم، فهم يحبونه حباً عظيماً
ولا يعصون له أمراً وإنما وقف في علياء عظمته،
وعلى ربوة إيمانه وانتصاراته،
يلقي في سمع الإنسانية أبلغ درس في الإخلاص للواجب، ونكران الذات،
وإيثار المصلحة العامة قائلاً لأبي عبيدة وهو
ينفذ فيه أمر الخليفة
بمقاسمته ما له: أجل ما أنا بالذي يعصي أمير المؤمنين، فاصنع ما بدا لك.



لكأن القدر أراد له هذه النهاية، ليرقى به إلى أفق عال وضيء،
فضلاً عما وصل إليه من مكانة سامقة ومقام كريم.


الرجاء عدم الرد

رد مع اقتباس