رؤية الدماء وتناثر الأجزاء ،
منظر أصبح يستهويني في كل مرة أخوض بها شجاراً،
أستغرق مدة قصيرة صراع بالأيادي فما ألبث أن أخرج سكيني الأحمر –الذي سرت أعرف به – وأحول الشجار الى معارك دامية .
أرقص مع خصمي بكل خفة وبشاعة ، وسكيني تتقاطر دماً ومع أندفاعه المتهور تشق سكينتي العزيزة طريقها الى أي مكان تصله بدون اكتراث لخطورة الأمر أو التفكير بوفاة الخصم !!
فالقوة والسيطرة كانت همي الوحيد ،
أودّ أن أكون الأعظم والأقوى ،
أودّ أن يسطع اسمي في عالم الجريمة بكل وحشية .. بدون مبالاة بالنتائج أو الآثار أو حتى الأحقاد التي تزرع بكل من خطفت سكينتي" حبيباً أو عزيزاً " .
كنت أسير مشدود القامة ،
متفاحراً بنقل أحد الضحايا الى العالم الآخر قبل أن
أنتبه الى قامة صغيرة تجاريني بالسير ، بقيت أنظر أليها بملل شديد الى أن وقفت أمامي بثبات
وهي تشير الى الخلف قائلة :-
-لقد طلب مني رجل ..
توقفت ثم استدارت لتجد الزواية التي قصدتها فارغة ، رمشت بعينيها بدهشة
فقالت متوسلة بعد أن رأتني أهم بالسير : -
-سيدي ، صدّقني لقد كان هناك رجل طلب مني أن أعطيك رسالة ،
شدتني كلمتها الأخيرة ،
فقلت لها بضيق محاولاً إخفاء لهفتي : -
-هات مالديك ..سريعاً .
فتشت بسترتها وقد بدت على ملامحها الصغيرة البيضاء قلق جارف حيال أختفاء الرسالة ، نظرت ناحيتي لنيل فرصة أخرى في أيجاد الرسالة بجانب عمود الأنارة ،
أحاسيس غريبة تفجرت بداخلي تدفعني بشدة بمنح هذه الصغيرة أمنيتها الحالية .
سرت الى ناحية الكرسي المعروض أمام المحل ،
تبعتني بأمل كاد أن ينتهي عندما سمعتني أحدثها :-
-ليس هناك فرصة ..
قاطعت كلماتي بلهجة أشبه بالبكاء :-
-ولكن سيدي ..
بترت جملتها وتابعت :-
-أخرى فقط !!
أبرقت عيناها بنشاط بعد أن كاد يخفت ثم رفعت أسمالها البالية وهرولت الى الزقاق القديم ،اختفت خلف الحائط الكبير دقائق معدودة ثم ما لبثت أن عادت فارغة اليدين ، وقد تكللت بخيبة أمل ظهرت مؤلمة بشدة
وهي تنطق حروفها :-
-لم أجدّ شيئاً سيدي .
همت بالمسير ولكنها عادت ناحيتي تقول :-
-سأصف لك الرجل ، هل بأمكان ذلك أن يجدي نفعاً لأحصل على قطعة نقدية ؟!.
تريثت بالأجابة وأنا أتفحص
وجهها الصغير الطفولي ،
وشعرها الكستنائي الفوضوي ،
وقامتها التي تتمايل برقة لمعرفة أجابتي أو بالأدق لأستدرار عاطفتي ،
حول تلك الفتاة تدور أفكار ذي هالة سوداء بعقلي فلم أكن من النوع المصغيّ المطيع في حياتي ، فقط في حالتها أصبحت
ككلب يتم ترويضه على الطاعة!!
تململت بمقعدي ثم أجبتها بتوتر لا أعرف مصدره :-
-هاتِ
ابتسمت بعذوبة كادت أن تزيل غلاف القسوة الذي مازال الطقس الدائم على قلبي ،
ثم تحدثت مندفعة وهي تتلاعب بخصلات شعرها الصغيرة اللآمعة :-
-لقد كان شاباً أسود الشعر والعينين ، طويلاً للغاية ، يبدو كفارس قادم من الحكايات .
تضجرت وجنتيها خجلاً ثم أعادت صيغة حديثها برصانة :-
-شاب ، سواد الشعر والعينين ، طويل ، ويرتدي معطفاً أسود طويل ..و..و .و
لو لم أوقف حديثها لأسهبت بوصف أدّق التفاصيل التي يغفل عنها الراشد ، تظهر خباثة الأطفال عندما يبرزون مواهبهم بشكل ملفت لنيل ما يهدفون أليه .
استفسرت عن ذلك بنظراتها فلم أجد حلاً لطرد نظراتها تلك
سوى بألقاء قطعة نقدية من فئة الدولار ، لتنحني بسرور وتغادرني باسمة ، ضاحكة .
.ميلر.
حطيت رحالي بنزل صغير ،
يفتقر الى الأصالة والحضارة ،
قليل الزبائن والأثاث .
دفعت لصاحب النزل -6000 دولار- وهذا مبلغ مبالغ فيه لنزل صغير معزول في أطراف مدينة بودى التي تعتبر من المناطق الأجرامية وهذا ما قصدته من رحلتي هذه !
جلست على المقعد وأنا أتفرس بملامح الرجل العجوز –مالك الفندق - ، إنها حقاً ملامح أثرية بتجاعيده الكثيرة ،
وعيناه الضيقتين الزرقاوان ،
وشعره الأبيض الذي يجعله أشبه الى دب قطبي مع جثته الضخمة التي لا توحي بهزاله ،
بل كان للتجاعيد الدور الفاضح كوّن هذا الرجل أثرياً حقاً !!
-100 سنة ، سيدي .
حوّلت نظراتي ناحية المتكلم ، لأجد ذاك العجوز الذي كان يقف بجوار الزبون الثمل ، يقف بجواري وقد اتسعت ابتسامته بخبث ، حصنّت أفكاري بحجاب كثيف وأنا أبادله ذات الأبتسامة لأخفي ملامح الدهشة
فقلت له مازحاً :-
-هل هذا طبق رئيسي في قائمتكم ؟!
لقد كان ثعلباً بحق وهو يوسع ابتسامته بدهاء ليجيب :-
-عمري سيدي ، لقد قضيت زمناً طويلاً في الخدمة العسكرية ومن خلال تجربتي
استطيع أن أخمن بما تفكر به ناحيتي أو ناحية أي شخص كان .
ابتسمت بطرف فمي وقلت له معظماً :-
-إنك كهل عظيم ، كان على التاريخ أن يعظم اسمك .
استدار بخفة شاب وليس عجوز في مئات عمره ، فأجاب :-
-لست أمتلك ذات المقدار من التعظيم لغبائك ، أيها الشاب الأنجليزي .
قاطعته بمكر خفيّ :-
-أمريكي ، أنا من السكان الأصليين .
لم يعلّق بل اكتفى بابتسامة ساخرة ثم اتجه ناحية الطاولة الأخرى الى شاب
يقاربني سناً بشعر أسود يصل الى شحمة أذنه ،
فسمعته يخاطبه باعتذار :-
-المعذرة سيد جون ، قد تسوء حياتي إن خسرت شاباً مثلك !!
انتعشت ذاكرتي بسماع الأسم فابتسمت لحظي الذي يأتي لي راكضاً بدل أن أغدو أليه زاحفاً كما هو حال هذه المدينة المضطربة !!