هاي حبايبي رجعت مرة ثانية بقصة قصيرة تحت اسم: "هل أنا مجرد رقم؟" القصة حزينة جدا جدا و هي منقولة
أتمنى أن تعجبكم فقد راقتني كثيرا.حب7حب7حب7
المدينة تكبر و تمتلئ بالناس، و تمتلئ بالمصانع و بالدخان و الدروب، وهو في كل ذلك يقف متفرجا، تسحقه غربة مريرة، فلا يحس أبدا أنه واحد من الناس الذين يملأون المدينة، أو يفعلون شيئا في الحياة، إنه مجرد واحد، تستطيع المدينة أن تظل ممتلئة حتى إذا ذهب، تستطيع الحياة أنا تظل قائمة عندما تنتهي حياته هو.
كانت كتفاه ترتطمان كل يوم بعشرات الأكتاف في الشارع، و كانت عيناه تقعان على كثير من الوجوه، و لكنه لا يعرف أحدا في كل هذه الوجوه، لا يحييه أحد و لا يحيي أحدا، حتى اسمه ينفصل عنه داخل المعمل الذي يشتغل فيه مجرد رقم من الأرقان، الرقم1431، و قبله عدد كبير من الأرقام، و بعده عدد أكبر ، لقد كانت المدينة، عندما جاءها أول مرة، أرضا واسعة خاوية، تنبت فيها الحشائش، و لقد كبرت أمام عينيه، قطعة قطعة... شاهد أول عمارة تطلع فيها، و أول دخان مصنع، و أول مقهى و أول حافلة نقل، ثم ضاع منه كل شيء، و هو الآن بعد عشرين سنة من وصوله إلى هذه المدينة، يحس أنه غريب، كل شيء غريب عنه، قد كانت في مكان ما مدرسة تعلم فيها و هو صبي، كانت أول مدرسة في المدينة تحيط بها الأعشاب و العقارب، و هو لا يذكر الآن أين تقع تلك المدرسة الصغيرة، لقد ضاعت كما ضاع هو وسط المدينة العاقة التي شهد ميلادها.
1431، لطالما وقف أمام المرآة يحاول أن يكون شيئا آخر غير هذا الرقم، و لكن المرآة تطالعه بوجه لا يعرفه أبدا، يطلع الرقم كبيرا، 1431، و لا شيء آخر، كرقم الآلة 11 في المعمل، هما معا يفعلان نفس الشيء، و المدينة تكبر كل يوم، و تمتلئ و يختنق هو بالدخان، بالصداع، بالحافلات الكثيرة، و قد رأى أول واحدة منها، ترى أين هي الحافلة رقم1؟
كان في الخامسة و الثلاثين من عمره، لا يملأ مكانا في دنيا المدينة الكبيرة، لا أهل يعرفهم، و لا أصدقاء يعرفونه، حتى المدينة التي شبت بين يديه، تتنكر له الآن، و لا تحس به في زحامه مع الناس في الشوارع و هو يتطلع إلى الوجوه، إلى العمارات و الدخان و الحافلات.
كل الوجوه لا يعرفها، و إن كانت فيها جميعا صفات منه، فيها سمرته و عيونه المحدودبة، و شفتاه الغليظتان.
و نش ذبابة عن حاجبه، ثم فكر: "إنني لن أظل هكذا أشهد ميلاد المدينة و الناس، إن جميع الناس هنا مثلي، لا أعرفهم، و لا يعرفونني، و لكنهم يتمنون أن يعرفوني، كما أتمنى أنا ذلك، لسوف نصنع معا حياتنا، و لسوف نستطيع أن نكون أكثر من رقم.
و انزوى في مقهى وكتب على ورقة بيضاء:
"هل أنت مثلي سحقتك المدينة، فلم يعد لك وجود فيها، أنا و أنت نحقق هذا الوجود، إذا اجتمعنا معا، لنكن أصدقاء إذن، و تعال إلي مساء الأحد القادم في خط الأوتوبيس(5)، فسوف أنتظرك هناك.
لقد عييت من الدخان و المصانع، و أنا أبحث الآن عن إنسان... علاماتنا و ردة بيضاء في يد كل منا على رصيف محطة الأوتوبيس(5)، سوف أنتظر هناك، أرجوك، لا تدعني أنتظر طويلا.."
كان كل شيء في نفسه قد تغير بعد أن كتب هذه الكلمات، فكأنه عاد مرة و احدة إلى صباه البعيد، و إلى صبا المدينة، يوم كانت أرضا واسعة، يغطي ترابها العشب، بلا أي مصنع، و لا أي مقهى و زحام و دخان و حافلات.
ووقف أمام دكان واشترى غلاف الرسالة، ثم و صع كلماته داخل الغلاف، و هو يبتسم بسذاجة، و اختفت ابتسامته و هو يفكر،(ماذا لو يقرأها واحد من الناس، و يسخر منه، و يتركه ينتظر على رصيف المحطة رقم(5)، و بيده وردة بيضاء، لسوف ينسحق أكثر لو حدث ذلك، إنه لا يريد أن يظل وحده في كل هذه المدينة الكبيرة، رقم 1431، و لا شيء آخر.)
مساء الأحد:
المدينة صاخبة، ممتلئة بالناس ككل مساء، الأضواءفي كل مكان، و السيارت تمضي سريعة، و الحافلات تفرغ وتمتلئ، و على رصيف المحطة رقم(5) و قف كثير من الناس ينتظرون الحافلة، كان بينهم شيخ يحمل ربطة نعناع، و هو يحاول أن يندس في الصف، و امرأة تحمل طفلة صغيرة، و تشد بيدها على طفل صغير، و كانت فتاة في حوالي التاسعة عشرة من العمر تقف أيضا، نحيفة، سوداء العينين، تتفرج بحزن رقيق على الناس، وكانت في يدها وردة بيضاء.
و صلت الحافلة، وأفرغت ركابها، و حملت ركابا آخرين، ثم جاءت حافلة أخرى، و أخرى، و الأضواء تسطع في أبواب المتاجر و المقاهي، و على الجدران، و ما زالت الصغيرة الجميلة تنتظر ، و في يدها وردتها البيضاء.
و لكن المساء يمضي، و يأتي الليل، و المدينة تمتلئ أكثر، والسيارات تقف صفا طويلا أمام الضوء الأحمر، ثم تنطلق عندما يشتعل الضوء الأخضر، والفتاة تتطلع بحزن رقيق إلى كل شيء، و في يدها وردة بيضاء.
ثم أخيرا، أخيرا جدا، يأتي الليل تماما، وتتلفت الفتاة ألى كل الجهات، و عندما لا ترى أحدا، ترفع وردتها البيضاءإلى شفتيها و تمسها برفق قبل أن تضعها في سلة الأزبال.
صباح الإثنين:
كتبت جريدة في إحدى صفحاتها الداخلية، و في مكان لا يثير أي اهتمام:
( داست حافلة مساء أمس رجلا مجهولا كان يقطع الشارع دون انتباه، وكان يحمل في يديه وردة بيضاء).
انْتَهَى.
أكملتها و الحمد لله أتمنى انها تكون نالت إعجابكم.
مقتطف من " الممكن من المستحيل" لعبد الجبار السحيمي.
صديقتكم الوفية على الدوام: