[اليونان القديمة- مدينة إسبرطة- 510 قبل الميلاد- العصر الكلاسيكي]
هبت النكباء باعثة بعضا من الحركة وسط سكينة الليل الأسحم، محركة في تيارها أفنان الشجر اليابسة المتهالكة،كانت السماء داجية خاوية إلا من امبراطورها الفتان الذي ما فتئ يزجي بتلك الأشعة التي شابهت اللجين في وميضها على سطح الغبراء، لتتحرك خصلات شعر تلك الفتاة التي كانت تحاكي العَسْجَد في لمعانها الذهبي على وقع هبوب الرياح القوية،كانت جالسة وحيدة في جنح الظلام تأنس بحضرة قيثارها الفضيّ ،تعزف بأناملها على خيوطه الرقيقة مغازلة القمر المؤتلق الذي تربع على عرش السماء و أنار مُحيَاها الناعم البهي،لتنتشر تلك الألحان الشجية مرافقة صوتها الرقيق الذي صدح في الأنحاء بترنيمة حب يونانية،يتردد صداها المصطدم بتك الأعمدة الشاهقة التي أحاطت بالقصر الباذخ الشاهق ذو الطابع اليوناني البحت،عيونها تائهة في أغوار الزمن، بكينونتها الضعيفة هائمة في ملكوت البسيطة الغادرة،تستنطق بصوتها العذب القمر،و تناجي السماء،و ترثي نفسها و تهجو قلبها الذي لم يكن ملكها يومًا،تماما كحريتها المسلوبة،هي،أمَة رخيصة من عبيد السيد الأعظم ''هيرميس''..
بحركة متثاقلة التعب و الإعياء سِمَتُها،مضت بخطوات هادئة آمنة بطيئة،بثوبها الأبيض الرث الرميم،و قدميها الحافيتين المتورمتين،سارت على الأرضية الرخامية لمدخل القصر،لتدلف من البوابة الكبيرة ناصعة البياض،نظرت لمختلف الجهات بخوف ووجل من ان تقع عليها عين احدهم فتغدو معاقبة لانسلالها من القصر ليلا،محاولة الاختباء خلف الأعمدة الحجرية المنقوشة التي ملئت الردهات،تسللت إلى الطابق تحت الأرضي المخصص للعبيد في القصر،نزلت في الدرج الحجري المتهالك الذي كان يصدر صوتا مزعا كلما استقرت قدمها الصغير عليه،إلى أن بلغت تلك الغرفة الشاسعة الحالكة،التي انتشرت فيها رائحة رطوبة قوية تكاد تفقد قدرتك على التنفس بها،سارت بحذر خشية ان تدوس على أحد العبيد الذين افترشوا الأرض نيامًا،لتصل إلى ركن في الغرفة التي كانت تسع اكثر من ثلاثين عبدا من عبيد المنزل الذين يقومون بمختلف الاعمال،جلست فيه مفترشة الأرض الباردة و ملتحفة خرقة قماش نخرة بالية لا تقيها لسعات البرد الشديدة،تجوب بعينيها الواسعتين اللامعتين بزرقتهما الصافية في دجى الغرفة ،غارقة في بحر تفكيرها الراكد،في محاولة يائسة لجمع شتات نفسها و تجميع شظايا روحها المهشمة،أو لشفاء قلبها من هذا الورم الفتاك الذي ألَّم به،و يا وباء الوله من يعرف ألمك؟!
وقعت كسمكة صغيرة لا حول لها و لا قوة في شباك الحب القاتلة،و كان صيادها ذلك السيد العظيم ''هاديس''،،
''هاديس''هو ابن السيد الاعظم في اسبرطة''هيرميس''،من تلك العائلة الغنية المتنعمة ذات الصيت الواسع في أرجاء اسبرطة،لا و بل في أرجاء اليونان قاطبة!
''هاديس''المنزه من الخطايا،المترفع عن الخطأ و الصغائر،هو الذي لا تطأ قدماه إلا كل باسق منيف،و لا تنبس شفتاه إلا بكل سديد حصيف،،
''هاديس'' هو الشمس،هو القمر،هو الكون بما فيه كبرياء و عظمة،بمكابرة أباطرة و استنكاف سلاطين،يرنو إلى المحال بخطى واثقة ثابتة،،
أين هي منه؟و هي مجرد أمة حقيرة تباع و تشترى كسلعة رخيصة ،ما خلقت إلا لتكون كذلك،إلا لتستعبد و تُهان،إلا لتنظر إليه في عليائه من بعيد،،
توسدت ذراعها الهزيلة و أسندت إليها رأسها المثقل بالهموم،طالبة بعضا من الراحة بعد عناء يوم مضني،لتستعد ليوم أكثر عناءً!
افتقت شمس باهتة في الأفق معلنة ميلاد يوم جديد،كانت قد استيقظت قبل ذلك بسويعات و اتجهت إلى غرفة حجرية خارج القصر مخصصة لغسيل الملابس ،و باشرت عملها بلا كلل،تغرق الملابس في حوض كبير من الماء و تقوم بغسلها،و هي تغني بصوتها الرقيق إبَّان ذلك،تملكها شيء من السعادة و هي تلحظ قبسا من النور يلج المكان ،تابعت شدوها بابتسامة بديعة رسمت على محياها،صوت ما استوقف سعادتها برهة قائلا:
قالت و هي تجثو على ركبتيها و تطأطئ رأسها احتراما لسيدها ''هاديس''،ذلك الشاب حسن المنظر،قوي البنية،فارع الطول،حاد النظرات،يرمقها بنظرات جامدة مستحقرا إيَّاها لأبعد الحدود،هي التي لم ترفع رأسها و لم تتجرأ على النظر في عيني سيدها،بقيت مطأطئة الرأس و قد أخفى شعرها الذهبي المديد كل ملامحها ليتدلى على الأرض حولها،لحظة صمت بارد مرَّت كدهر على قلب هيسيتيا،و كأن سيدها ''هاديس''يتمتع برؤية أمته تركع له بهذا الذل و الهوان،هكذا هو،صَلِف لأبعد الحدود،جفاء قلبه لا يقاس بمكيال،يستمتع بفكرة أن حياة أولئك العبيد العُزَّل معلقة به،و أنَّ تهلكتهم مرهونة بإشارة بسيطة منه،
قال بصوته الواثق ذو النبرة الخشنة المزدرية،وقفت هيسيتيا على قائمتيها المرتجفتين اللتان لا تكادان تحملانها،دون ان تنظر إليه،أخذت تنتظر أوامره التي أبت إلا أن تستأصل آخر ذرة من صمودها،و ها هو ذا يستنفذ بوقاره و عظمته المهيبة في وقفته تلك شظايا روحها،تلك الهيبة التي استمدها من الأباطرة و الذين يُكَنَوْن بــ''الآلهة''،و الذي هو أقرب الناس إليهم،خاصة في كونه من رواد ''مدرسة كولاس'' التي لا يرتادها إلا من أوتي من العلم كثيرًا.
-الليلة،أريدك أن تعزفي على قيثارك في حضرة أعظم أسياد ''اسبرطة''.
لا إراديا،سحبتها كلمته تلك من أغوار ذاتها لترفع وجهها ملائكي الملامح و تنظر في عيني''هاديس''المخضرتين لأول مرَّة،مردفة بصوتها الرقيق الذي قلَّ ما سمعه بشر:
قال بجمود و هو يغادر المكان،تاركا إياها هائمة على وجهها بين أفكار تشتت و تبددت في كل ردهات خلدها،عزفت للعديد من المرات أثناء مناسبات عدَّة،لكنها خائفة هذه المرَّة،فكلمة ''خطأ''مرادف لكلمة''موت''في هذه الحالة،ما الذي ستفعله؟
هي لا طالما كانت أمة و لم تكن يوما من مرتادي مراتع اللهو و الطرب،ترى انها ليست سوى مجالس تضيج باسوداد الخطايا البشرية الخانقة،الليلة ستكون واحدة منهم،لسويعات قليلة ستلج عالمهم المزهر،ذَهبت بها إحدى العبيد و كانت مكلفة بتزيين سيدة القصر ذاتها إلى غرفة خاصة بالتزيين،كان عليها جعلها حسناء لتلبي أذواق جهابذة اللهو و رواده،لتكون في مقام أسياد اسبرطة و اليونان قاطبة،ببسيط الأشياء جعلتها تبدو ملكا جاء بهيئة امرأة،نزلت بذلك الثوب الطويل الأبيض الذي زاد من رونق طلتها،حاملة قيثارها الذهبي بيدها،ولجت تلك القاعة التي أُقيم فيها ذاك المجلس،ما إن فعلت حتى كان محطًا لتلك العيون ذات اللمعة الابليسية،نظرة ذئاب متلذذة بذلك الوجه البريء الساحر،جلست في ذلك الركن المجهز لها،بستائر حريرية ملونة و مقعد لم يسبق لها ان جلست على مثله،كانت ترمش بعينيها غير مصدقة لما هي فيه،كان الأمر أشبه بالجلوس وسط الجنان بالنسبة لها،تنظر بعينين تعلو زرقتهما الدهشة إلى أرجاء القاعة الشاسعة الرحبة،رمقها سيدها''هاديس'' بنظرة بها إيماءة بأن تباشر غنائها،أخذت قيثارها الذهبي و مررت عليه أناملها الرقيقة المرتجفة،خوف ووجل تملكا فؤادها،ماذا لو عزفت أغنية لا يرغبون بها؟أتسألهم ام تباشر الغناء؟لا يمكنها الحديث،حتى لو تحدث فإن صوتها الرقيق لن يصل مسامعهم،قررت أن تتفوه بتلك الكلمات على عجل،فهذا قد يعتق روحها من أن تزهق بخطأ غير مقصود، بعسر حاولت النطق و رفع صوتها ليسمعها أولئك الأسياد الذين كان أغلبهم ضائعا في غياهب السُكْر و الثمالة،أخذت نفسا عميقا لتقول بصوت شبه مرتفع:
-معذرة أسيادي،ما الذي تودون سماعه؟
توجهت الانظار إلى ذلك الصوت الملائكي الرقيق الذي زاد من تلك العيون المستذئبة لمعة،رمقها ''هاديس'' نظرة جامدة فيها شيء من العتاب،ليردف:
-اعزفي ما تشائين ''هيسيتيا''..
قال أحد الحضور،ليعقب ثانٍ بملامح ثمالة :
-لماذا تكون حسناء مثلها مجرد أمة؟من المفترض أن تكون خليلتك ''هاديس''!
شدت قبضة يدها محاولة اخفاء تلك الملامح المتألمة الخائفة،قررت الشروع بالعزف،مررت اناملها عليه بهدوء،لتصدح تلك الألحان النقية نقاء روحها،التي طرب لها الحاضرون و أخذوا يصغون السمع لها، صوتها الملائكي الذي ترنمت به ترنيمة حب،أغنية ''إفروديت'' إلهة الحب و الجمال،نغمة صوتها النقي العذب سلبت ألبابهم و قلوبهم،فبدؤوا يعرضون طائل الأموال على ''هاديس''لبيعهم إياها،متنافسين للظفر بها،إلا أنها تابعت الغناء،لم تكن تحفل بهم،وجدت في غنائها هذا مناجاة ''لهاديس''بحبها المقدس له،كانت فرصة سانحة لها للبوح بكل تلك المشاعر المتضاربة المختلجة بعمق روحها المأسورة،وصلت إلى تلك المرحلة،التي تقول فيها المغنية اسم محبوبها،ترددت،لكن جموح موجة مشاعرها الهائجة هزمها،أضعفها،قالت تلك الكلمة،خرجت من بين شفتيها بلا شعور منها،نطقتها:
هي لم تنطق،بل قلبها من فعل،اعترفت بعشقها له،بهيامها به،قالتها فحسب ببراءة مطلقة،نظر الجميع إليها،خاصة هاديس الذي بقي شاخص الأعين بها،انبلاج عينيه كان كفيلا بإيضاح دهشته العارمة،اعترافها الغير مباشر بحبها له ّأثار تلك الموجة بعمقه،غضب و حنق تملكه في تلك اللحظة،ما قالته ''هيسيتيا'' ذنب لا يغتفر،و خطيئة حالكة عقابها الوحيد هو الموت..
تركت قيثارها و جثت على الأرض راكعة،أدركت انه لا مفر الآن من موتها بعد إشادتها بحبها لسيدها،الحب جريمة،و خاصة أنها أحبت سيدها،تقدم نحوها و نيران الغضب تتأجج بأعماقه،أمسكها من شعرها الحريري المديد،ليجعلها تقف مجبرة،صفعها بقوة لتسقط وسط القاعة باكية،اقترب منها مجددا و نزل إلى مستواها قائلا بغضب:
-كيف تجرئين أيتها الحقيرة!
ليركلها بقوة جعلها تسعل دمًا دنس ثوبها الأبيض،بصوت مرتجف متلعثم قالت مترجية بخوف:
-آسفة سيدي،آسفة،أرجوك ارحمني!
لم يأبه بترجيها،لم يأبه بشعورها،عيشها من عدمه لا يعنيه،و الآن و قد تسببت بانزال قيمته أمام أسياد عظام،فإن جزائها هو الموت،وقف و صاح في الحراس ساخطا:
-خذوها إلى الساحة،اقتلوها!
هبَّ الحراس لتنفيذ أمر سيدهم،جروها خلفهم إلى الساحة الكبيرة،في جثم ليل أظل المكان بجناحيه الحالكين،كان صوت بكائها و ترجيها يعانق سواد الليل،لكن ما من مستجيب لاستغاثتها،ما من مجيب لمناجاتها،كانت تقاد نحو حتفها،ثُبتت على شجرة عظيمة وسط الساحة الكبيرة،ليقف حولها الجميع من عبيد و أفراد أسرة و عظماء البلد الآثمين،يرمقونها بنظرات استحقار لفظاعة جريمتها،مخبئين تحت قناع العدل سواد خطاياهم و جرائمهم،هل الحب جريمة؟هم تغاضوا عن كل تلك الآثام التي يرتكبونها،لكنهم لم يتغاضوا عن الحب،أم أنه ليس من حق أمة حقيرة أن تحِبَ؟
أولى أشعة الفجر تخرج إلى الحياة،لتضيء بعضا من ذلك الدجى الذي أغدق المعمورة،هناك كان ذلك الملاك،غارقة في دمائها القانية،التي اختلطت مع بياض ثوبها الذي مثَّل بياض قلبها الصافي،جثة هامدة،باردة،ملقاة بلا اهتمام وحيدة هناك،ليست ضحية حرب،بل هي ضحية حبٍ،ضحية وحوش بشرية بلا رحمة،ساغبة لسفك الدماء،كل ذنبها أنها أحبته،كل ذنبها ّأنها مجرد أمة،أمة وقعت في شراك الحب،حب سيدها،هي وهبته قلبها،و هو سلبها حياتها ببرود،بجمود،بلا شعور،ارتطم نور باهت بجثتها تلك،ليظهر وجهها الناعم ببراءته كأنه وجه ملاك نازل من السماوات،و قد رحلت روحها النقية إلى مكان آخر،لتحتفي بحلمها المبتور،و حبها المقتول،و ذكراها التي غابت في دهاليز النسيان.