عرض مشاركة واحدة
  #144  
قديم 04-17-2014, 05:33 PM
 




[الفَصْل الخَـــــاصِ -2-]

اكفهرت السماء و تزاحمت فيها المُعْصِرَات الطَافِحَة بحبات المطر،لتحجب أسراب السحب الهائلة نور الشمس البرتقالي الباهت المرتطم بشبابيك ذلك المنزل الصغير المنعزل،القابع وسط حقل كان قبل مدّة زاخرا بالاخضرار،لم يعد الآن سوى مساحة قاحلة خالية من كل أمارات الحياة،كان ذلك الرجل جالسا بوحدة منقطعة النظير وسط هدوء و سكون سربل أصقاع المنزل الصغير العتيق،الذي تجلت فيه صورة شبح الفقر المدقع،كان وحيدا،لدرجة أنه كان ينصت إلى وقع انفاسه المضطربة،ينظر بعينين متعبتين غائرتين في وجهه النحيف إلى الحقل الخاوي تارة،و يجوب منزله الفارغ تماما تارة أخرى،يحاول جمع شتات نفسه و روحه المعذبة،و إقناع ذاته أن الموتى..لا يعودون.
صوت ما قطع ذلك السكون القاتل الذي ساد المكان صادحا في صروحه،قاطعا لحظاته المشبعة بعبق الوحدة،الخالية إلا من صوت تكات الساعة التي تكاد تمل تردد صداها في المكان،رفع رأسه الذي اثقلته الهموم و أخذ يصغي السمع لصوت ابنته الرضيعة الباكية،هذا الذي جعل نسمة من السعادة تلج روحه المسهدة الواصبة و تُنسيه شيئا من وحدته المردية،ليسرع نحو غرفة ابنته،كانت في مهد خشبي قديم مهترئ،ملتحفة إزارا رميما باليا،تبكي بحرقة شاكية جوعها،بردها و حاجتها لحضن دافئ عطوف،يرثي حالتها المزرية و يبكي على ما تعانيه رضيعة لم تكمل ربيعها الأول،حملها بين ذراعيه،ضمها إليه محاولة إيقاف بكائها،أخذ يربت على شعرها البني الخفيف قائلا بحنان،تخنقه العبرة:
-لا تبكِ عزيزتي،أرجوك يورا لا تبكِ.
بكت يورا الصغيرة بلوعة يتَم ووحدة،صوتها الرقيق الذي علا في المكان اخترق قلب والدها الجريح ليرديه داميا متألما،هو الذي ذاق ويلات الألم و الجوى مذ فقد زوجته،و فقد ما كان يملك من حقول تسد جوع عائلته الصغيرة المعوزة،هو الآن عاجز حتى عن إعالة ابنته الصغيرة الوحيدة،التي غدت يتيمة بعد وفاة أمها بعد ولادتها بأسبوع،جراء حمى أصابتها،و أودت بحياتها تاركة يورا و آساي وحيدين.
ضمها أكثر إليه لتنزل عبراته سيلا جارفا على وجهه الأسمر،و يجهش باكيا بضعف شديد و قد اقتنع انَّه ما باليد حيلة،و أنه سيخسر ابنته التي سيقضي عليها الجوع،جثا على الأرض معانقا إياها ،هي التي زادت حدة بكائها و هي ترى والدها في تلك الحالة،و كأنها تشعر به، معرضة للدغات البرد القارص،و أنياب الجوع التي كانت تفترس جسدها الهزيل الصغير،ضما صوتهما المتألمين،و عبراتهما الصادقة التي تئن في صمت،ليردف آساي و هو ينظر لوجه يورا الصغيرة البريء:
-لا أود خسارتك كما خسرت كيوكو،يورا ابقي مع والدك،أنا أحبك..
لينزع قميصه الرث البالي الذي كان آخر ما يقي جسده الهزيل العجاف،و يغطيها به،عله يبث شيئًا من الحنان و الدفء في جسدها الصغير،شدت على اصبعه بيدها الضعيفة الصغيرة و خبأت رأسها في حضنه،لتغلق عينيها المحمرتين المتورمتين من حدَّة البكاء و تنام بهدوء،تنام متناسية جوعها وبردها الذي وقاها إيَّاه خرقة القماش البالية تلك التي لفها بها آساي،متناسية ذلك الحرمان الي تعيشه رضيعة مثلها،نظر إليها آساي بشفقة،لترتسم ابتسامة غريبة على شفتيه صاحبتها تلك العبرات المتلألئة على مُحياه،و يردف:
-آسف..يورا..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ
صوت ضربات متتابعة على البوابة الخشبية المتهرئة تردد على مسامع آساي،ليوقظه من غفوته ،وجد نفسه نائما بوضعية غير مريحة،جالسا على الأرضية الصلدة الباردة،محتضنا يورا الصغيرة بقوة،و هي لا تزال نائمة ببراءة بين يديه،ملتحفة قميصه البالي ممسكة بإصبعه كما نامت قبل ساعات،وضعها في مهدها و ارتدى قميصه،ليسير بخطى متثاقلة متعبة نحو البوابة التي كانت الطرقات القوية تتزايد عليها بشدة،فتحها ليتفاجئ بما رأى،لقد كانت ثكنة عسكرية في دورية لها عبر أرياف اليابان للتجنيد الإجباري لشباب المنطقة،أخذ آساي يرمق أولئك الجنود بنظرات مستغربة،ليقول بصوت منهك واصب:
-ماذا هناك؟
-هناك مرسوم من الامبراطور تجنيد جميع الشباب في صفوف الجيش،عليك الذهاب معنا.
نزلت كلماته على آساي بمثابة صاعقة،لم يستوعب كلماته تلك،أخذ يحدق به بعينين منبلجتين مستغربتين،ليردد بهمس:
-أذهب..معكم؟
-آساي ناكامورا،عليك الذهاب معنا الآن.
-لا أستطيع..لدي طفلة رضيعة..لمن سأتركها؟
-الأولوية للوطن،ابنتك ستوضع في الميتم،على الأقل ستعيش هناك أفضل من العيش في هذا الاسطبل!
-لا..لن أترك ابنتي
قال ذلك بانفعال شديد و هرع نحو الداخل،حمل يورا و كان ضربا من الجنون ألَّم به،أخذ ينظر يمنة و يسرة باحثا عن مفر من الجنود الذين تبعوه إلى الداخل،مدججين بالسلاح،محاولين مواجهة آساي الأعزل و طفلته الصغيرة الرضيعة،كان يضمها إليه أكثر و يصرخ متحديا الجنود الذين حاصروه:
-ابتعدوا..إيَّاكم و ان تلمسوا يورا..
-ستأتي معنا شئت أم أبيت،لا تضطرنا لاستخدام القوة معك!
-قلت لكم اذهبوا من هنا..إيَّاكم و الاقتراب!
هجم أولئك القساة عليه،تحت تهديد السلاح،أمسكوه و جروه معهم إلى الخارج،بعد أن اخذوا منه يورا،كان يحاول الإفلات منهم،إلا أنه لم يستطع سوى الصراخ و مناداة يورا التي كان أحدهم يحملها،بينما كانت تبكي بحرقة و كأنها تنادي على والدها،تناجيه،امتزج صوت بكائها و اضطرابها بصوت والها الذي صدح في المكان..
-يورا..اتركوني أيها الاوغاد..أعيدوا إليَّ ابنتي!يورا والدك هنا لا تخافي..والدك هنا!
صرخ..و عبراته تنهمر من عينيه بحرقة،كانوا يردعونه و يبعدونه عنها،يجعلونها يتيمة الأبوين،و يفقدونها والدها..بؤرة الحنان الوحيدة التي تبقت لها،هي كانت تبكي نافرة من ذلك الجندي،تحرك يديها باضطراب و كأنها تنادي والدها قائلة"ابقَ معي أبي..أرجوكَ!"..
- يـــــــــورا..!
كانت آخر كلمة نطق بها،آخر ما سمعته يورا من صوت والدها،لتبقى وحيدة،تصارع الحياة...


يتبع..


__________________
...