الفصــل الــأول "1"
"هل من نظير في جمالك بين الربيع ؟
بل أنت أبهى منه صحوا و اعتدالا لا يضيع"
رن الصوت القوي في مسامعي ..
يتلو أبيات الشعر بنبرة دافئة تردد صداها بين جدران الكهف الصناعي حيث نقطن.
أحب الناس هنا دوما سماع أبيات الشعر هذه ،
العابقة بالتاريخ و الزاهرة بالعواطف ،
فقد كانت تبعث فيهم القوة لمواجهة بؤس و مهالك حياة التمرد التي يحيون مخاطرها.
الكثير منهم كان يقسم بأن شكسبير لم يكتب أشعاره إلا ليلقيها القائد آلان تيسلر ،
باثا فيها روحا خاصة منعشة !
كان آلان تيسلر رجلا متفردا ،
فحتى بين جموع الرجال و النساء ،
الشجعان و البواسل هؤلاء ، كان حضوره طاغيا !
كان رجل أفعال ،
لكنه أيضا كان بارعا في التاريخ و الكلمات ..
هو (قائد فطري) قل مثيله ...
كما يحب العجوز سوانتي أن يكرر على مسامعي كل حين !
"فالريح يوما سوف تعصف بالزهيرات الصغيرة
و يغيب عنا ذا الربيع بعيد آجال قريبة"
جو من الهدوء و التأثر عم فسحة الكهف المسماة (بالقاعة الرئيسية) ،
و أنصت الناس الذين جلسوا حول آلان تيسلر الواقف ينشد أشعاره دون أن ينظر إلى الكتاب القديم بين يديه.
راح المطر يهطل بغزارة في الخارج ،
و استطعت أن أرى حركة السحب الداكنة خلال القبة الشفافة التي بناها الرجال كسقف مموه للكهف ،
و خيل إلي للحظة بأني لمحت حركة شخص سريع مر فوق الزجاج !
"و لربما استعرت بنار الشمس آفاق السماء
و لربما يوما عن بشرتها ذوى ذاك الصفاء"
وكزني داريل الذي يجلس بجانبي ،
فآلمتني حركته لحجمه الذي يكبرني بخمس سنوات !
.عبست ملتفتا إليه على الفور ، فهمس لي :
"أنت لا تنتبه و أبي ينظر إليك ....
تعرف بأن هذا بالنسبة لنا درس إجباري ، لا ترفيه !"
وددت أن اشتكي من ضربة مرفقه المؤلمة لذراعي ،
لكني اكتفيت بتدليكها بصمت ... لم أرد أن أثبت استحقاقي للقب (الصغير المدلل) الذي يدعوني به معظم الأحيان !
حولت بصري إلى أبي و وجدته ينظر إلي ... ابتسمت له باعتذار ،
فرد لي الابتسامة بتسامح فيما واصل إلقاء القصيدة :
"كل الجمال سينزوي و يساق حتما للزوال
و تدور دائرة الزمان عليه من حال لحال
لكن صحوك سرمدي ليس يذوي أو يزول
لن تسلبي هذا الجمال و لا لغيرك قد يؤول"
كانت عينا آلان تيسلر السوداوان تبرقان أكثر من المعتاد ،
و بدا وجهه ذي الوسامة الكلاسيكية مهيبا ، بريا ،
إثر انعكاسات نار الكهف التي تشتعل بجانبه !
تأملت وجهه الذي اعتدت رؤيته يرسم أقسى تعابير الصلابة في مواجهة الأعداء ،
كما يرسم أدفأ النظرات و الابتسامات في وجوه أصدقائه و أسرته ،
و شعرت بالفخر لكونه والدي ،
حتى مع علمي بأني لن أصبح ربع الرجل الذي هو عليه !
لكن ... إلى جانب شعور الفخر ،
انتابني إحساس خانق فجأة لم أفهم له سببا ...
إحساس بالوحدة ، و الإشتياق !
تراقص ظل والدي على الحائط الحجري الخشن خلفه كلما تمايلت ألسن النيران ،
و لاحظت أنه كان لايزال يقرأ القصيدة إلا أني ما عدت أسمعها !
تلفت حولي و الذعر يتصاعد بداخلي ،
بدا و كأن حاجزا غير ملموس راح يفصل بيني و بين الحضور في الكهف فجأة !
تعالت همهمة حشود يائسة حزينة من مكان ما ،
و شعرت بقلبي ينقبض في ردة فعل مألوفة على تلك الأصوات !
شيئا فشيئا ..
غطى السواد الصورة أمام عيني حتى ما عدت أرى غيره !
و راح هلعي يتعاظم حين ارتفعت تلك الهمهمات البائسة من أفواه غير مرئية بالنسبة لي ...
ثم و كالسحر ...
ألفيت نفسي أبصر من جديد ،
بوضوح الكوابيس !!
رحت أتلوى بشقاء البشرية كلها دون أن أستطيع تحطيم قيودي أو مغادرة مقعدي المعدني البارد !!
و الهمهمات و الهمسات اليائسة تنساب إلى أذني كترنيمة عذاب تزيد في شقائي !
كنت في (ساحة العدل و القصاص) مع جمهور أجبر على المجيء و المراقبة ،
أحاطني بعض رجال الأمن في بقعة جلوسي ذات الإطلالة الاستثنائية على المنصة ،
حيث يجري كل العرض !
رأيت والدي .. القائد آلان تيسلر الذي لم تفارق اسمه يوما نبرات التقدير و الاحترام ،
يساق الآن معصوب العيون ،
مقيد الأيدي ،
مهلهل الثياب ، إلى منتصف منصة الإعدام !
ارتأى (الأسياد) بأن إعداما علنيا فكتوري الطراز و الوحشية سيكون أمثل عقاب رادع للثوار و المتمردين ،
و أن القضاء على قائدهم بهذا الشكل سيكسرهم و يحطم أي رغبة لديهم في مقاومة سلطتهم !
و كان لسخرية القدر التي جعلت (الأسياد) يلجأون إلى حيلة من التاريخ الأغبر الذي يحتقرون وحشيته ، أكثر من كافية لمحو مصداقيتهم !
كان علي الجلوس و المراقبة ،
فيما يمشي أبي إلى موته منتصب الظهر ،
مرفوع الرأس كرامة و كبرياء !
توجب علي المراقبة ،
و الحبل السميك الخشن يلف حول رقبته ،
وهو يعتلي الدرجة المرتفعة حيث سيتدلى مشنوقا حتى الموت !
و المراقبة .. بصمت .. كانت شيئا استحال علي القيام به حينها ..
في لحظة ما انفجرت حنجرتي بالصراخ رفضا و احتجاجا على ذلك المشهد المتطرف ،
لقد شهدت موت الكثير من الأصدقاء و الأهل حتى قبل أن تقتحم قوات (الأسياد) مخبأنا في تلك الليلة الدموية ،
و كنت على علم مسبق عن الكيفية التي ستنتهي بها الأمور لحظة ألقي القبض علينا !
لكن حتى الحقائق التي عاش المرء يعرفها و يتوقعها طوال حياته ،
قد تكون عصية التقبل على الصبي في العاشرة ... لم يرد وداع مثله الأغلى بذلك الشكل !
صيحتي أيقظت شيئا في الحضور الخامل بخضوع ،
جعلتهم يفتحون أعينهم على حجم الخسارة ،
من غير آلان تيسلر .... لا مقاومة ، لا أمل !
و كان انفجار الحشود هائلا جدا ...
إنما نتيجته مأساوية دموية بمقتل العشرات ...
و تجمدت عيناي برعب على صورة أبي ...
و قد خبتت ارتعاشة الموت في أطرافه ..
حتى سكن تماما !
*
-يتبع ... أرجو عدم الرد-
|
__________________ - أستغفر الله وأتوب اليه عدد ما ذكرهُ الذاكرون
و غفلَّ عن ذكرهُ الغافلون !
التعديل الأخير تم بواسطة darҚ MooЙ ; 05-11-2014 الساعة 08:38 PM |