عرض مشاركة واحدة
  #124  
قديم 04-24-2014, 05:00 PM
 

نظرت له بدهشة و تعجب، عندما سألته عن سبب سؤاله المفاجئ هذا، قال لي: أنا لا أعلم الكثير عن لوي سوى اسمه فقط، لكن من مظهره و شخصيته أدرك بأن حياته ليست طبيعية، لذا كنت أعتقد بأن حبيبته ربما تكون مثله.
لذت بالصمت، بينما ليليان قد إخلتجت ملامحها و قالت لهانتر بغضب: مالذي تقصده بكلامك؟!
فقلت لها محاولة تهدئتها: لا تقلقي..
ثم اردفت و أنا أخاطب كليهما: لطالما كنت أريد أن يسألني أحدهم هذا السؤال لكي أفضفض ما في داخلي.
عودة للماضي
لا أتذكر الكثير للأنني لم احظى به اصلاً، و قد يكون هذا أفضل بالنسبة لي، الشئ الوحيد المحفور في ذاكرتي الدامية هي صرخات أمي الرنانة في بهو ذلك المنزل، أو بالاحرى كان سرداباً أقرب منه لمنزل، و احياناً بقع دم ليست بكثيرة قد تبعثرت على الارض مثل اللؤلؤ الاحمر في نظري الطفولي، و حضن أخي نيكولاس الدافئ و هو يضمني في حجره الآمن، أكاد أتذكر ملامح وجه الخائفة و هو يردد "لا تقلقي" و "سوف أحميك" بصعوبة شديدة، و نظرات أخي هنري و هي تنظر من خلال فتحة قفل الباب بين الحين و الآخر في تلك الغرفة المظلمة و كأنها قبر قد ضمنا ثلاثتنا بين أحضانه.
صحيح، إسمي كاثرين أليكسندر، أعيش مع أخوي اللذان هم أكبر مني، نيكولاس و هنري، هنري كان أكبرنا، أما أنا فكنت أصغر ثمرة في ذلك المنزل المشؤوم، بجانب أمي اوليفيا، إمرأة ذات شعر أسود مخملي، و أعين كحلية باهتة، من حظى بوراثة معالمها كانا اخوي نيكولاس و هنري، أما أنا و لسوء حظي، حظيت بمعالم أبي، شعر أشقر و أعين زرقاء، لست سيئة الحظ للأن هذه المعالم لا تعجبني، بل بالعكس، لكن كلما أنظر لنفسي في المرآة أرى أبي أمامي و ليس أنا، لهذا كرهت شكلي و ليس نفسي، للأنني كنت ارى "أبي" في نفسي.
كنت لا أزال طفلة لذا لا أتذكر التفاصيل، حيث كان عمري أربع سنوات، أما أخي نيكولاس كان بعمر عشرة سنوات، و أخي الاكبر هنري كان بعمر الخامسة عشر سنة، أمي كانت إمرأة طيبة القلب، قلبها أبيض بل ناصع البياض، و قد كان نادراً أن تنال حورية نقية و صادقة مثلها في ذلك الوقت، لكن لسوء حظها، كان أبي عكسها تماماً، متقلب المزاج و عصبي، رجل لطالما كان يرجع لنا في منتصف الليل و هو ثمل، فيصب جام غضبه على أمي و احياناً على أخوي، الشئ الوحيد الذي أتذكره بوضوح هو انه حاول أن يصب جام غضبه علي يوماً، و قد كان في ذروة فقدانه لعقله، كان حيوانا، فالعقل هو الشئ الوحيد الذي يفرقنا عن الحيوانات، لكن أمي كانت في ذروة حبها لزهورها في تلك اللحظة، فعندما حاولت منعه من ضربي، كانت هي الوعاء الذي يفرغ فيه غضبه في تلك اللحظة.
كان كلما يرجع لنا في منتصف الليل، تدخلنا أمي ثلاثتنا إلى غرفة النوم و تغلق الباب علينا و تقفله، و ها هنا صرخات أخي هنري و هو يطالبها بفتحه لكي يقف بجانبها، بجانبها وقت محنتها، لكنها كانت تأبى أن تفتح الباب، كان همها الوحيد هو نحن، درعيها و زهرتها..
ليقول هنري و هو يضرب على الباب بقبضته القوية: إفتحي الباب أرجوك!
لم تقوى على الرد، فإستدار و إنكب على الارض و هو يضربها بقبضته إلى أن تهشمت يده من شدة قوته، بينما كان نيكولاس جالساً بأحد الزوايا و هو يحبس دموعه ، و أنا كنت واقفة في وسط الغرفة لا أعرف ماذا أفعل؟ كنت صغيرة ! فتاة عمرها أربع سنوات.. فتوجهت للأخي هنري و هو منكب على الارض بخطوات ساذجة طفولية، أمسكت يده التي قد نبتت براعم دماء على سطحها، ووضعت يدي الصغيرة على الجروح ثم رفعت يدي و أنا أقول: ايها الالم! إذهب!
ماكان عليه إلا أن ضمني لصدره، لا أزال أتذكر صوت بكائه ،و ملابسي التي قد تبللت بواسطة دموعه الساخنة، فإستدعى نيكولاس الذي كان واقفاً في الزاوية، و ثم جلس على الارض و قد أمسك دموعه و حكمها، و أجلسنا في حجره، ثم قال لنيكولاس: إسمعني يا نيكولاس، أنت و أنا دروع هذا المنزل، أما كاثرين فهي الزهرة..
ثم قرب فمه من أذن نيكولاس و تمتم في اذنه بضع كلمات لم أستطع سماعها، حتى لو سمعتها لم أكن للأتذكرها..
في صباح تلك الليلة، و كالمعتاد، كان أبي بعد أن يستعيد عقله ينصرف لعمله من الصباح الباكر جداً، بينما أمي تفتح لنا الباب و تستقبلنا بإبتسامة حيث كان النوم قد غلبنا، أو في اقصى الحالات أكون أنا الوحيدة التي تخلد للنوم، من حسن حظنا بأن أول ما نراه في الصباح هو وجه أمي المبتسم، مع هذا لا أزال أتذكر الكدمات التي قد خيمت على ذراعيها ، تعد لنا الافطار و نذهب للمدرسة..
في يوم من الايام، و قد كان عمري ستة سنوات، كانت أمي في كل صباح كالعادة تمشط شعري الاشقر الحريري الذي ورثته من عند أبي، في تلك الايام كان عقلي يتفتح رويداً رويداً، فسألت أمي عندها: لماذا أنا الوحيدة التي اشبه أبي؟
نظرت لي أمي بنوع من الدهشة و الاستغراب، فسألتها بشكل موضح أكثر: نيكولاس و هنري يشبهانك، لماذا أنا لا؟
واصلت تمشيط شعري حيث كان المشط ينسل فيه بسهولة و سلاسة و هي تقول بإبتسامة: لماذا تريدين أن تشبهيني؟
ثم أردفت: أنت أجمل مني بكثير، بينما عيني مملوئة بألوان قاتمة و حزينة كالاسود، عينك مليئة بلون الحياة و هو الازرق، بينما شعري أسود كالليل، شعرك أشقر حريري.
فقلت لها مغمغمة بسذاجة: لكنني لا أريد أن أشبه أبي.
توسعت عينها، ثم جعلتني أقابلها فجأة و قالت لي و هي تضع يديها على كتفي: لا تقولي هذا الكلام! فهو يظل والدك!
فقلت لها :لكنه يضربك، أليس كذلك؟ إذن أنا اكره!
ضمتني لصدرها بحرارة، و قالت لي :لا تقولي هذا الكلام مرة اخرى! الكراهية لا تولد سوى المشاكل، لم تجعلك حرة إطلاقاُ! لذا عديني بأنك لم تقولي هذا الكلام مرة اخرى؟
لذت بالصمت و لم اعطيها إجابة مؤكدة بأنني قد وعدتها، للأنني لم أحس يوماً بجناح الابوة و هو يظللني، كنت أشعر فقط بظل الامومة و الاخوة، كان أبي مجرد رجل عابر بالنسبة لي مثل أي سحابة في السماء، لذا لم أكن أعتبره يوماً كأب، حتى عندما أكون بالمدرسة، بعض زملائي الصف كانوا يتكلمون عن أبائهم، كيف انهم اشتروا لهم هذا و ذاك، و عاملوهم معاملة معينة، فقد كنت اسأل نفسي، "ياترى، كيف تشعر عندما يكون لديك أب؟" هذا السؤال الذي كان يقتلني كل ليلة .
عندما كان عمري ستة سنوات، كان عمر نيكولاس إثنا عشرة سنة، أما هنري بعمر سبعة عشر سنة، في تلك الاوقات كان أبي لا يرجع للمنزل في معظم الليالي، مما جعل الراحة تخيم على منزلنا بعد عهد طويل من الزمن، كنت أنام بجانب أخي نيكولاس في سرير، بينما هنري كان ينام على سرير بمفرده، في تلك الليلة كنت أتقلب أحاول جلب شبح النوم لعيني، ففتح نيكولاس عينيه بإنزعاج و قال لي: ألا تستطيعين النوم؟
تكورت في مكاني، و سألته: كيف تشعر عندما تملك اباً؟
أصدر صوت يدل على عدم فهمه لما أقول، أخذ يحدق في السقف و قال لي: كيف أقول هذا، لا أعرف كيف أصيغ لك الجملة..
تكورت أكثر، فقال لي نيكولاس عندها فجأة: على سبيل المثال، أبي أنا هو هنري، حيث كان يعتني بي.
عندها قلت له بشكل قاطع: لم أفهم.
إبتسم ووضع يده على رأسي و قال بعد تفكير لم يدم طويلاً: كيف تشعرين عندما تكونين معنا أنا و هنري؟
فأجبته بشغف: السعادة!
فقال لي: هذا كيف تشعرين عندما تملكين اباً.
تلك هي المحادثة الصغيرة التي كانت تحمل معانٍ عميقة قد زرعت في قلبي و عقلي و أثمرت منذ تلك الليلة، ألم تلاحظوا؟ نيكولاس لم يجبني "أنت تملكين اباً، فلماذا تسألين؟!".. بل أجابني بأنه هو و هنري مثل الابوان و في نفس الوقت أخوان بالنسبة لي، فلماذا كنت أشعر بالنقص يا ترى في قلبي؟ لماذا كنت اظن بأن زملائي في الصف يملكون شيئاً لا املكه أنا؟
و ها أنا الآن في عمر الحادي عشرة سنة، أما نيكولاس كان بعمر سبعة عشر سنة، و هنري كان بعمر إثنان و عشرون سنة، كانت قد وصلت المواصيل بأبي لجلب نساء غريبات للمنزل مما جعل أمي تذوق ذرعاً بالعيش تحت سقف هذا المنزل المشؤوم! لم تتحمل.. و أي مرأة غيرها كانت سوف تترك المنزل فوراً و ربما لم تكترث للأبنائها، لكن أمي لم تكن من هؤلاء النساء، صحيح بأنها قد عانت في تلك الفترة، إلا انها كانت هي و هنري قد إستأجرى شقة في أحد المباني السكنية..
إلى أن جاء الوقت لنخرج من عرين أبي و نتحرر اخيراً ،كان الليل قد ارخى سدوله علينا، كان أبي نائماً، فتسللنا مثل اللصوص لنخرج من المنزل، و نحن نجر حقائب السفر خلفنا، لكن توقفت قلوبنا عن النبض للحظات معدودة عندما إستوقفنا صوت صراخ أبي و هو يقول: إلى أين أنتم ذاهبون بهذه الحقائب؟
عندما إلتفتنا للخلف رأيناه ،كانت ملامح وجه قد تجهمت و تلبس به شيطان الغضب، إلتزمنا الصمت، ما عدا أخي نيكولاس حيث كان في مرحلة شباب و قال للأبي بكل جرأة هادئة:أليس هذا واضحاً، سوف نخرج من هذا المكان .
و هذا جعل أبي يغضب أكثر و أكثر حتى إنتفخت أوداجه و إحمرت عيناه، لكنه فجأة و بدون أي مقدمات هدأ بشكل مريب، و أمسك يدي و سحبني لجهته و قال: يمكنك الذهاب للجحيم الآن.
بعد أن أكمل جملته، ما رأيته هو وجه هنري الغاضب و هو يدفع بقبضته في وجه أبي ليطرحه ارضاً، ثم أمسك يدي و أعادني لجانبه و قال للأبي: لا تفكر أن تجعلها مثلك.
لم أفهم كلامه في ذلك الوقت، لكن الاهم بأن إنتهى بنا المطاف و قد خرجنا من ذلك المنزل الملعون الذي كنا نقيم فيه طقوس حزننا الابدية ، ما شعرنا به في تلك الليلة هو شئ لا أستطيع وصفه، يجب أن أكون أعظم شاعرات العالم لكي أستطيع أن اصفه و لو بكلمة، كنت أشبه بعبد قد إستعاد حريته، و أنا متأكدة بأن أمي و اخوي قد شعروا بأضعاف ما شعرت به، للأنهم كانوا أكثر إدراكاً في ذلك الوقت مما يجعل هذا يرتبط بتذكر تفاصيل ما كان يحدث من ظلم..
عشنا بعد هذا أنا و أمي، و اخوي في تلك الشقة الواسعة، كنت سعيدة حيث نعمت براحة تحتاجها أي فتاة في عمري، أما نيكولاس فسح له المجال لكي يفتح براعم حماس شبابه حيث كانت ترفض أن تخرج كل هذا الوقت، هنري قد حظى بوظيفة محترمة تليق بمستواه العلمي و ساعد أمي في الدخل، أما أمي احسستها و كأنها تستمتع بآخر لحظات عمرها معنا، لم اراها سعيدة من قبل هكذا..
واصلنا حياتنا بعد أن تحررنا من ذلك القفص، مضى شهر..
كانت الساعة 7:00 ليلاً، حيث تجمعنا على مائدة العشاء..
سألت أمي نيكولاس و هي تضع الصحون على المائدة :كيف حال دراستك؟
فأجابها نيكولاس بنوع من الانزعاج: لما تريدين أن تعرفي كل شئ؟
فأجابه هنري بسخرية: من عادة الاهل أن يقلقوا على الصغار.
فضرب نيكولاس الطاولة و قال له بغضب: ماذا؟! من تدعوه بالصغير؟! عمري سبعة عشر سنة كما تعلم!
ثم نظر لي و قال :كاثرين هي الصغيرة الوحيدة هنا.
فقال له هنري و الابتسامة الساخرة لا تزال على محياه: الفتيات يبلغن أسرع من الفتيان كما تعلم، بجانب أنك لا تعتبر رجلاً إلا إذا وصلت لسن ثمانية عشر سنة.
إلتزم نيكولاس الصمت عندما امرته أمي بأن يجلس بهدوء، فجلس قربي بينما أنا كنت أمسك ضحتكي الطفولية تلك، لكن هذه الضحكة لم تستمر طويلاً عندما قطعها صوت جرس الباب، نحن نعلم بأن لا أحد سوف يأتي لزيارتنا على سبيل المثال، فأوجس الجميع خيفه من ذلك الصوت سالب الابتسامة، إنتصبت أمي على رجلها و قال بإبتسامة مزيفة: ربما هو المالك، جاء لكي يأخذ الاجار.
لم أدرك في ذلك الوقت ،فأخبرتها بسذاجة: ألم تعطيه الاجار يوم أمس؟
إنتصب كل من نيكولاس و هنري على رجليهما في ذلك الوقت، فوقفت على رجلي عندما رأيت الجميع قد إبتعد، ما إن وقفت، حتى أخذني نيكولاس و قادني لغرفتي، أدخلني داخل الغرفة و قد كانت إبتسامة تبعث الراحة في روحي مرسومة على وجه، أدخلني ثم أقفل الباب من الخارج، فتوجهت نحو الباب و أنا أضرب عليه بقبضتي الضعيفة و أقول: ماذا يحدث؟ لماذا؟
إلى أن سمعت ذلك الصوت الذي لم اسمعه منذ شهر و هو يقول صارخاً بغضب: هل إعتقدتم بأن بمقدوركم الهروب مني؟! أين كاثرين؟!
بعد أن سمعت صوت أبي، إزدادت صرخاتي و أنا أطالبهم بفتح الباب، لكن ليس هناك من مجيب! فإنهرت على ركبتي و أنا لا أزال ممسكة بمقبض الباب في محاولات يائسة لفتحه، لم ألحظ إلا دموع قد خرجت من عيني الزرقاء قد بللت الارض تحتي، في هذه الليلة، كانت أكثر ليلة بكيت فيها منذ نعومة أناملي، و كأنني قد ولدت للدنيا للأول مرة، صراخي كان يمتد في ذلك الفراغ الشاسع بدون أي مجيب، كنت أريد مساعدتهم، الوقوف بجانبهم، حمايتهم! لكن ليس هناك طائل من مواصلتي للضرب على سطح الباب الاصم، فأمسكت إحدى دماي المحشوة بالقطن، و إحتضنتها بحرارة ،و أنا أضع يدي على أذني لكي امنع صوت الصراخ المزعج من التسلل إلى اذني!
بعد مرور عشر دقائق تقريباً، هدأ الضجيج فجأة و بشكل يبعث الريبة، إنتصبت على رجلي و توجهت نحو الباب ظناً مني بأن كل شئ قد إنتهى، و الراحة سوف تعود و تخيم علينا مرة اخرى، فوقفت بجانب الباب منتظرة بأن يفتحوه لي، لكن إنتظاري طال مدة طويلة، ربما كنت أنتظر بجانب الباب عشرون دقيقة كاملة يائسة و محبطة، في نفس الوقت كنت متشوقة لرؤية وجه أمي مع انني لم أفارقها سوى عشر دقائق، تأكدت بأن أبي لم يدنو لجانبنا مرة اخرى، لكن الصمت الصادر من الخارج مريب، و إنتظاري قد طال، لم أسمع أي صوت، لا صراخ أبي، و لا حتى صوت نيكولاس و هنري و أمي، فضربت على الباب بأكبر قوة عندي ! بعد ثوان فتح هنري لي الباب..
إستقبلني في احضانه التي لطالما شعرت بدفئها، لكن هذه المرة كان مختلفاً، كنت مختفية فيه، و كأنه كان يمنعني من رؤية ما في الجانب الآخر، و كأنه كان يحميني تحت جناحه، هذا ما إستشعرته من نقاء و دفء حضنه، لكن الواقع يبقى واقعاً، مهما كانت مشاعره نقية، لم تغير شيئاَ، فكلما حاولت الافلات منه شد أكثر و سجنني في حجره، عاودتني الرغبة بالبكاء، فقلت له بصوت على وشك أن يبكي بدموع معنوية :هنري.. اتركني ..
فأطلق شهقة قوية قد رنت في طبلة اذني، ظلت يده الممسكة بي ترتشف بشكل مرعب، صوت أنين يقطع القلب قد إنبعث منه، تركني للأرى وجه و قد كانت عليها آثار لكمات، زرقاء و أرجوانية، فوجهت نظري حيث نيكولاس للأرى وجه و قد سال خيط من الدماء على وجه ،كان يحدق للأسفل بأعين تدل على وهن و حزن عميقان حتى انا لم أستطع الوصول لقاع عيونه على الرغم من المدة التي أخذتها و أنا أحدق في عينيه
وجهت مستوى نظري في نفس مستواه، للأرى جسد أمي و هو مضطجع على الارض، بدأ جسدها يزرق رويداُ رويداً و ببطئ قاتل، في تلك اللحظة كان حاصد الارواح يجول في المكان و هو يزرع بذور العزاء في الزوايا، لعلها تثمر بخير، بينما أبي قد إختفى و هذا شئ طبيعي.
"أمي قد ماتت"، هذه الجملة التي رفضت أن أصدقها، فقد وقفت مكاني أفكر و أفكر، في ماذا؟ لا شئ، لم أستطع التعبير بأي عاطفة في ذلك الوقت، لا بالبكاء أو الدهشة أو حتى الاستغراب، إنعقد لساني و لم أستطع النطق بكلمة واحدة، حتى أن قلبي قد لاذ بجناح الصمت، تم قطع كلماتي الداخلية و الخارجية، و كأنني قد ولدت مرة اخرى من عدم بدون أي أحد حولي!
كانت دموع هنري تسري على خديه و قد إنكب على الارض مثل أيام ريعان شبابه، أما نيكولاس كانت دموع تسابق خط الدماء الذي قد أصبح مثل الهامش على وجه، هاذان المنظران قد أدميا ذاكرتي إلى الابد، مهما فعلت لم أستطع محوها من دماغي
إقتربت من أمي في تلك اللحظة و إنهرت على ركبتي، أمسكت يدها الباردة كالثلج الاصم ، و وجهت كلمات لفمها الاخرس عساه أن يتكلم و لو للحظات معدودة قبل الوداع الابدي، و قلت لها و كأنني أكلم إنسان ينبض بالروح و ليس إنسان قد أنتزعت منه الروح للتو: أمي.. إنهضي هيا! يجب أن ..يجب أن..
لم أعرف كيف أكمل جملتي، حاولت أن أجد برهاناً على انها حقاً قد ذهبت للجانب الآخر، فتركت يدها لتسقط من تلقاء نفسها، في تلك اللحظة فاضت عيني بالعبرات التي تحمل في طياتها حزن عميق لا يعرف أغواره إلا من ذاق ألم اليتم في عمر البرعم الصغير، لم يعرف ما شعرت به إلا اليتيم وحده، و ليس يتيم الاب! بل يتيم الام..
تم دفن أمي تحت الارض، بعد أن تم تسجيل سبب الوفاة و هو سكتة قلبية مفاجئة، و قد كانت بسبب انها مريضة بضغط الدم، و بالاضافة إلى منظر هنري و نيكولاس امامها و هم يضربون و يذلون تحت أرجل ابيهم، و صوت بكائي المسموع من الغرفة المقفلة تلك.. أي إمرأة بقلب أم لم تتحمل هذه الاشياء ابداً! سواءاً كانت هذه المرأة أماً حقيقة أم لا! فالمرأة وعاء لتجمع العواطف، تعاني ،تحزن، تبكي، تتحمل أكثر من مئة رجل قوي.. لذا لا بد من إستراحة.. إستراحة لم تشقى بعدها ابداً.. إنه لشئ مضحك بأن الموضوع يشبه شربة الماء التي لم تظمأ بعدها ابداً!
أتذكر بأنها قالت قبل عدة أيام من وفاتها، وضعت يديها على كتفي و قالت لي: كاثرين، لقد أصبحت إمرأة في عمر ليس من الواجب عليك أن تصبحي فيه ،لذا..
ثم أردفت بإبتسامة :إعتني بأخويك.
و كأنها كانت تعلم بدنو أجلها، و بقرب ملك الموت منها قرب الظل من صاحبه، و سكرات الموت و هي تأتي بجانبها مثل القرين ، إلى أن رجعت حيث سوف نرجع كلنا في يوم ما، الملاذ الاخير لهذا الجنس من الناس، تحت الارض.
تم وضعها و الاطباق عليها بكومة التراب الحقيرة، بينما أنا و أخوي نكتسي بالسواد الاصم ،كنا نحن الثلاثة الواقفون على قبرها فقط، حيث كنا همها الوحيد، لذا نحن فقط من له الحق أن يقف على قبرها و ينتحب من اجلها، يضع الزهور عليه..
بعد تلك الحادثة، أصبحت الهم الوحيد لهنري و نيكولاس، لماذا يجب علي أن اكون الهم الذي يحمل على عاتق الناس فقط؟ لماذا ؟ لماذا أستشعر في عين أخوي الشفقة علي بعدما غابت رائحة أمي عن هذه الشقة؟
تلك كانت الافكار التي تجوب في عقلي بعد وفاة والدتي، لذا إتخذت قراري بأنني سوف أعتمد على نفسي من اليوم فصاعداً!
__________________
.
.
،*
Laugh until tomorrow ♡
رد مع اقتباس