..وُجوم..ذلك السفاح البارد الذي عاث جمودا في صروح ذلك البهو العظيم..!
..صوت جرس الساعة العظيمة التي اِعتلت برجا من الصوان السمج تردد في الردهات..ليقطع ذلك التبليم القاتل و يجعل بعضا من سِمَات الحياة تدب في تلك الأجساد المقوسة اليابسة..المنحنية أمام عظمة عرش السلطان الذي تجلى كجرم براق في سماء داجية أمام أعينهم التي كادت تفلت من محاجرها دهشة و عجبا..لتتعالى معه همسات و همهمات الأنام المجتمعين في ذلك المرتع الرحب..أولئك الذين اجتمعوا تارة أخرى في بهو إيوان السلطان العظيم..بالغين حضيض الذل و الهوان أمام ملكهم المعظم..
كان متوسطا ذلك البهو الباذخ السني..على كرسيه الذهبي العظيم المرصع بلآلئ و جواهر..قعد مرتديا تاجه المهيب البراق كشهاب ثاقب..و ممسكا صولجانه الذي زاد من وقاره و تبجيله..ناظرا باحتقار إلى حشود البرايا الأدنى منه..محتقرا سحنهم و صورهم الرميمة..و أدثرتهم البالية النخرة..ووجوههم الشاحبة التي اعتلت أجسادا هزيلة عجافا..
على شماله..جلس مستشاره و كلبه الوفي..القاضي بأمور الناس أجمعين..يقترب منه كل هنيهة ليهمس بأذنه كلَيْمات و يعود لمجلسه بابتسامة قذرة اعتلت وجهه المدور السمين..
ضرب السلطان بصولجانه على أرضية القاعة الرخامية البراقة بعد هنيهة ليعود التبليم سيدا لبؤر المكان..و تكاد الأنفس تتوقف و القلوب تكف عن الخفقان..أنظار خاشعة شاخصة في الملك المعظم و مستشاره بوجل..منتظرين ساعة الفصل..و كلمة القضَاء..
أومأ الملك لمستشاره أن يقترب منه..ليهمس في مسامعه هنيهة..سرعان ما وقف بجسده البدين و هتف في الناس:
-فليدخل الحراس و المجرم الحقير..!
فُتحَ الباب العظيم على أوداجه..ليظهر من خلفه نفر من الحراس الأشداء..ضخام الجثث..يقتادون كائنا آخر ما يُوصف به هو..''إنسان..!''
كان عجوزا هرما قد بلغ من العمر ما بلغ..خرع الجسد وهن المحيى..برأس اشتعلَ شيبًا و ظهرٍ تقوسَ بفِّعل الهموم التي أثقلت كاهله و أعيَت أيَّامه..عينان جاحظتان بارزتان من وَجههِ الأسمر الأعجَف ما فتئتا تجوبان صروح المكان بدهشة اعتلتهما..كان يتشِّح كِسَاءً رَماديا رمِيمًا لا يكادُ يقي جسده زمهرير الشتاء المُرْدِي..يسير بخطى متثاقلة زادها وصبا ذلك الثِقَل الحديدي المربوط إلى كاحله بسلاسل من الفولاذ ..حافي القدمين سار ليمتثل أمام العرش..وسط تلك الحشود التي ما انفكت تتمتم و تتهامس ما إن بان أمامهم..
وقف..و بالكاد فعل ذلك..!ليقف معه حارسين شديدين ليحرصا على عدم فرار المجرم..هو الذي لن يهرب حتى و إن أُتيحت له الفُرصة..!فجسده المكدود لن يسعفه ليخطو بضع خطوات أخرى حتى..!
..رمقه السلطان نظرات استحقار و ازدراء شديد..ليتكلم و يتردد صوته الجهوري الخشن في الأنحاء:
-إنه يا سيدي مدَّ يده القذرة على ممتلكات السلطان المعظم..و نهب نعجة من نعاج الملكِ..!
نطق ذلك المستشار الذليل..و هو يرمي بالتهمة على العجوز الوهن المسكين..جثا على ركبتيه واصبا.مطأطئ الرأس..ليقول بصوت أنهكه التعب..و خنقه الظلم و التعسف:
-سيدي السلطان..إنٍّي خادم لكَ منذ عقود..أفنيت حياتي في خدمة جلالتكم..ما أنا إلا فلاح في أرض حضرتكم..نال مني و من اولادي الفقر المدقع..و أغدقني الإملاق و العوز..و قد ترجيت جلالتكم أن تهبوني ما أسد به جوعي و سغب أبنائي لكسرة خبز..لكنكم نهرتموني..و إني و الله للموت أحب لي من أن أمد يدي و أسرق من ممتلكات غيري..!
-اخرَس..أتُكَذّب الملك و أعوانه..؟
صاح المستشار و قد انتصب من مكانه حَنِقًا ساخطا..تحت همهمات الشعب المجتمعين هناك..أومأ الملك له مرة أخرى أن اهدئ..فعاد لمجلسه كما يعود الكلب المنافق هازا ذيله لسيده..همس السلطان له الحكم النهائي..ليضرب بصولجانه على الأرض و يترك للمستشار النطق بالحكم:
-حُكِمَ على هذا المجرم بالموت ..,و تقطيع أطرافه في ساحة الإعدام أمام الملأ ليكون عبرة لمن يعتبر..!
أثار ذلك الحُكم الجائر تباينا على وجوه عامة الشعب..لكن الحُرَّاس القساة أمروهم بالهتاف للملك مُجبَرِين..فآخر ما يُمكن أن يُفكر به أحدٌ هو الاعتراض عن قرار الملك..او إبداء رأيه مهما كان..فرأسه سيُقطع عن عنقه بمجرد التفوه ببنت شفة..!
رفع العجوز رأسه المطأطئ ما إن تناهى إلى مسامعه الحكم..ابتسم ابتسامة غريبة..ابتسامة ترجمت ما يعانيه قلبه الذي يعتصر تحت شدة الظلم و الجور..ليلقي نظرة جاب بها ردهات المكان..و لم يسترجعها إلا مبللة بعبراته المظلومة..لٍيُساق بعدها من قبل الحراس إلى ساحة الإعدام..بلا مقاومة منه..و لا اعتراض على الحكم..اكتفى بتلك الدموع الصادقة..و الابتسامة الأخيرة..لِيُقتاد تحت هُتافات الجموع المرغمة:
-يحيى العدل..!يحيى الملك..!
عدل..!؟أي عدل هو الذي يُمنع المُتهم من الدفاع عن براءته ..و يُكتفى بسماع إدعاء مزعوم من وجوه يفوح منها عبق الإجرام من تحت أقنعة العدل و الإقساط..!
ساحة واسعة ممتدة على مرمى البصر..مقفرة لا امارة من أمارات الحياة فيها..سوى منصة للإعدام..بها مقصلة لمعت شفرتها تحت وهج الشمس البرتقالية الباهتة..
هناك..وُضِعت كومة بيضاء عظمية من الجماجم..جماجم ضحايا الجور و الظلم..التي بَنَت ذلك العرش العتيد..ضحايا تلك المحكمة الجائرة..التي لا يُسمع فيها صوت أحد إلا الملك القاتل..الساغب لسفك الدماء..
محكمة يحكم فيها القاتل المجرم على البريء الطاهر..و تبتر فيها الأحلام و الآمال..و تقتلع فيها الأرواح النقية من مساكنها.لتفسح المجال أمام شياطين الإنس ليعتلوا أكثر فأكثر..!
وُضِعت هناك جماجم كل المجرمين حتى يصيروا عبرة للجميع..وُضعت هناك..لتبني ..عرشا على الجماجم..!