06-11-2014, 04:05 PM
|
|
الجزء الثامن ذات يوم ... و فيما كنا أنا و نديم و بعض شركاء الزنزانة نسلي أنفسنا باللعب بالحصى ، و هي لعبة سخيفة اخترعناها من أجل قطع الوقت الذي لا ينتهي ، و كنا نسر أو نتظاهر بالسرور أو نقنع أنفسنا به ، فتح الباب و دخل مجموعة من العساكر . توقفنا جميعا عن اللعب ، و انسابت أنظارنا نحوهم . لم نكن نشعر بأي طمأنينة لدى دخول إي منهم ... فمجيئهم ينذر بالشر و الخطر بدأ العساكر يجولون بأبصارهم فيما بيننا بازدراء و تقزز . ثم تقدم أوسطهم خطوة للأمام و قال : " نديم وجيه " و جعل ينقل بصره من واحد لآخر ... نديم أجاب بعد برهة : " أنا " استدار العسكري إلى رفاقه و أومأ إليهم تقدّم اثنان منهم و أقبلا نحو نديم ... و قالا بحدة : " انهض " نهض نديم ببرود ، فإذا بهما يطبقان عليه بشراسة و يقودانه نحو الباب ... نديم سار معهما دون مقاومة ، فيما كانت أفئدتنا وجلة متوقعة شرا . لم ينبس أحدنا ببنت شفة ، و بقينا في صمت رهيب و نحن نراقب نديم بقلق ، فيستدير هذا الأخير ليلقي علينا نظرة و يبتسم ... خرج العساكر بنديم و أقفلوا الباب و بقينا في صمت فظيع لبضع دقائق ... كنت أنا أول من أصدر صوتا اخترق جدار الصمت الموحش حين قلت : " إلى أين أخذوه ؟ " هز البقية رؤوسهم في حيرة و تساؤل ... مضت ساعتان أو أكثر و نحن في هدوء و قلق ... في انتظار عودة نديم و بدا أنه لن يعود .. بدأت أذرع الزنزانة ذهابا و جيئة و أنا أدعو الله ألا يكون نديم قد أعدم ... و بينما أنا كذلك ، إذا بالباب يفتح مجددا ، و يدخل اثنان من العساكر يحملان نديم و يلقيان به أرضا ، ثم ينصرفان ... أقبلنا بسرعة نحو نديم فإذا بالدماء تلطخ جسمه و ملابسه... و إذا بالجروح و الكدمات الملتهبة تغطي جسده ... " نديم ! ماذا فعلوا بك ؟؟ " صرخت في ذعر و أنا أرفع رأسه و أسنده على ركبتي ... لم يكن نديم بقادر على الكلام من شدة الإعياء و كان جليا لنا أنه تعرض لتعذيب شديد ... تناوبنا جميعا في العناية به حتى بدأت الحياة تجري في عروقه . أخبرنا فيما بعد بأنهم أوسعوه ضربا من أجل الإدلاء بمعلومات لا علم له بها ... و أنهم في طريقهم لإعدامه حتما في اليوم التالي ، حضر العساكر أيضا ، و ما أن دخلوا السجن حتى ارتعشت قلوبنا جميعا و اشرأبت أعناقنا و تعلقت أبصارنا بهم في حالة لا توصف من الذعر في تلك اللحظة كنت أجلس جوار نديم أنظف بعض جروحه و بلا شعور مني أمسكت بذراعه بقوة خشية أن يأخذوه ... هتف أحدهم : " معتز أنور " انتفضنا جميعا ، و كان معتز ، و هو أحد زملاء الزنزانة ، و أحد مجرمي السياسة، أكثرنا انتفاضا و ذعرا صرخ معتز بفزع : " لا " و تقدم العساكر نحوه ، و هو يتراجع للوراء و يداه ترتجفان و العرق يغرق جسمه الهزيل ... تقدم العساكر بلا رحمة و أمسكوا به و هو يصرخ و يقاوم في عجز ، و قادوه خارجا . و ما هي إلا ساعة و نصف الساعة ، حتى أعيد إلينا بحالة سيئة ، مليئا بالجروح و الكسور أيضا . أصبحنا نعيش حالة مستمرة من الخوف الشديد ، و لم يستطع أحدنا النوم بعدها . و أصبحنا لمجرد سماعنا لأي صوت يصدر من ناحية الباب ، يركبنا الفزع المهول و جاء اليوم التالي ، و جاء العساكر مجددا ... كنا جميعا متكومين قرب بعضنا البعض ، و أعيننا محدقة بهم ، و كل منا في خشية من أن يكون التالي ... " وليد شاكر " عندما نطق باسمي صعقت ، بل و صعق جميع من معي ... أخذ قلبي يخفق بعنف ، و أنا أراقب العساكر يتقدمون نحوي خطوة خطوة صرخت : " لكنني لست على علاقة بالسياسة " لم أكد أنهي جملتي إلا و العساكر قد أمسكوا بي ... حاولت سحب يدي من بين أيدهم بكل ما استطاعت عضلاتي إمدادي به القوة ... و فشلت ... " أنا هنا لجريمة قتل ... لا شأن لي بالسياسة " حاولت مستميتا التخلص منهم و مقاومتهم دون جدوى قادوني عنوة نحو الباب و لم يستطع أحد زملائي النطق بكلمة واحدة و أنا أسحب إلى الخارج نظرت إلى نديم و قلت : " ماذا سيفعلون بي ؟ ما الذي فعلته أنا ؟ " نديم أغمض عينيه بقوة ، في أسف و ألم و كأنه يقول : أرثي لك ، ويل لك مما ستلقى ... و لقيت ، ما لم ألقه في حياتي مطلقا ... لقيت... أصنافا من العذاب التي أتوجع و أتلوّى من مجرد ذكرها ... عذابا ... ينسي المرء اسمه و جنسه تمنيت ساعتها ، لو أن أمي لم تلدني لو أنني قتلت نفسي يوم قتلت عمّار لو أن الله خلقني بلا أعصاب و إحساس ... و لا قلب ... و لو أن الدنيا خلت من اسم العذاب و اسم السجون و حتى من اسم رغد ... الأوقات الوحيدة في حياتي كلها ، التي تمنيت فيها لو أن رغد لم تكن ... و لم توجد ... أصبت بكسر في أنفي جعل شكله يتغير و تظهر انحناءة صغيرة أعلاه . بقيت ممدا على سريري بلا حراك ليومين ، كان فيها من بقى من زملائي سالما يعتني بي ، و بنديم و معتز ، و اثنين آخرين ... بعدها بأيام ، علمنا من الحارس أن اسمي قد أدرج خطأ ضمن قائمة المجرمين السياسيين ! مجرد خطأ ... ! كان ذلك بعد عدة أشهر من زيارة سيف الأولى و قبل أشهر أخرى من زيارته التالية و التي ابتدأها بقول : " وليد ! ماذا فعلت بأنفك !؟ " سردت على سيف ما حصل ، و وعدني بان يتم ذكر هذا في ملفي . عندما سألته عما جد في موضوعي أخبرني بأن والده لا يزال يدرس الأمر ، و لدى سؤالي عن أهلي قال : " اختفوا ! " زاد ذلك ضيقي و إحباطي الشديدين و قضى على بقايا الأمل بالخروج من هذا المكان ... بدأت أؤمن بأنهم قد قتلوا جميعا في الحرب ... و إن كان الأمر كذلك ، فإنني لا أرغب في الخروج ... بل أرغب في الموت .... أحقا لم يعد لأهلي أي وجود ؟؟ أماتوا ؟ أم تخلوا عني ؟ أم ماذا ؟؟ و رغد ؟؟ ماذا حل برغد ؟؟ في تلك الليلة ، رأيت كابوسا أفزعني ... رغد و سامر يلهوان بالدراجة الهوائية ، ثم يهويان في حفرة مليئة بالجمر المتقد ثم تشتعل النيران و تكبر ، و تحرق منزلنا ... و آتي صارخا أحاول إخراج رغد من الحفرة ... و أمد يدي فإذا بي أخرج حزاما طويلا تأكله النيران ... و أقرب وجهي من الحفرة ، فإذا بي أرى وجه عمّار في الداخل ، يبتسم ثم يقهقه و أسمع صراخا يدوي السماء صراخ رغد ... " و ليـــــــــد ... أنا خائفة ... تعال " أفقت من نومي مذعورا ، و العرق يبلل ملابسي و فراشي ، كما تبلل الدموع وجهي المفزوع ... كنت أرتجف ، و أتنفس بصعوبة بالغة ... و بلا إدراك اهتف " رغد ... رغد " صديقي نديم أقبل نحوي و أخذ يهدئني و يطمئنني ... " هوّن عليك يا وليد ... لم يكن إلا كابوسا " لم أشعر بنفسي و أنا ارتمي على صدر نديم و أبكي بقوة و أهذي ... " أريد العودة لأهلي ... دعوني أراهم و لو مرة واحدة ثم اقتلوني ... لا أريد الموت قبل ذلك ... أريد أن أحقق أحلامي ... أريد أن أكمل دراستي ... أريد العودة إلى رغد ... كان يجب أن أقتله ... انتظريني يا رغد فأنا قادم ... " و نهضت كالمجنون ... و توجهت نحو الباب و أخذت أضربه بعنف و أصرخ : " أخرجوني من هنا ... أخرجوني من هنا أيها الأوغاد " لحق بي نديم ليمنعني من إثارة مشكلة ألا أنني أبعدته عني بركلة قوية من رجلي ... و ظللت أركل الباب بشدة و أنا مستمر في الصراخ ... حضر مجموعة من الحراس و فتحوا الباب ، ثم انهالوا علي ضربا بعصيهم حتى شلوا حركتي ... و انصرفوا ... لم يجرؤ أحد السجناء على فعل شيء حتى لا يلقى ذات المصير و منع عني الطعام في اليوم التالي تدهورت صحتي الجسدية و النفسية بشدة بعد تلك الليلة ، و قضيت عدة أسابيع طريح الفراش ... و ربما هذا ما منع العساكر من تطبيق نظام التعذيب اليومي على جسدي ... إلا إن أدركوا أنهم كانوا مخطئين ! جسدي ، و الذي كان ضخما و قويا ، تحول إلى عظام متراكمة فوق بعضها البعض بلا حول و لا قوة ... بعد فترة وجيزة ، صدر قرار يمنع زيارة السجناء ، و لم يعد سيف للظهور مجددا و انتهى أملي الوهمي بالخروج من هنا .... و استسلمت أخيرا لحياة السجون .... حاولت أن أصف لكم بعض الذي قاسيته في ذلك السجن الذي قضيت فيه فترة شبابي اليافع ... و التي ضاعت سدا ... فترة جافة قاسية أكسبتني جفافا و خشونة لم أولد بهما و لم أتربى عليهما و غيرت في بعض طباعي ، و بدأت أدخن السجائر كان الحارس يتصدق علينا بسيجارة واحدة ، ندور بها فيما بين شفاهنا جميعا ... و تقتسم همومنا و نقتسم سمومها .... و مر عام آخر ... و أكثر ... ألمّ المرض بصديقي نديم من جراء التعذيب المستمر ... كان على فراشه ، و كنت اعتني بجروحه و إصاباته التي لم شملت حتى أطراف أصابعه ... " وليد .. " " نعم يا عزيزي ؟ " " يجب أن تخرج من هنا ... " قال نديم ذلك ثم رفع يده و مسح على رأسي ، ثم وضعها فوق كتفي . " يجب أن تخرج من هنا يا وليد و إلا لقيت حتفك " " إنني هالك لا محالة ... لا جدوى و لا أجمل ... " " افعل شيئا يا وليد و غادر هذا المكان ... إنك لا زلت شابا صغيرا ... " كنت الأصغر سنا بين الجميع ، و أكثرهم تذمرا و شكوى ، و بكاءا ، إلا أنني هدأت و استسلمت لما فرضته الأقدار علي ... و لم يعد الأمر يفرق معي ... ابتسمت ابتسامة استهتار و سخرية ، و يأس ... نديم كان ينظر إلي بعين عطف شديد و محبة أخوية ... قال : " اسمعني يا وليد ... لدي مزرعة في المدينة الشمالية ، حيث كنت أعيش مع ابنتي و زوجتي ... متى ما خرجت من هنا ... فاذهب إليهما و أخبرهما بأنني كنت أفتقدتهما كثيرا و أنني بقيت على أمل العودة إليهما دون يأس لآخر لحظة في حياتي ... " " نديم ... " قاطعني قائلا : " لا تنس ذلك يا وليد ... و إن احتاجتا مساعدة منك ... فأرجوك ... ابذل ما باستطاعتك " أقلقتني الطريقة التي كان نديم يتحدث بها ، هززت رأسي و قلت : " لماذا تقول ذلك يا نديم ...؟ " و انتظرت أن يجيب لكنه لم يجب ... و تحركت يده الممدودة على كتفي ، ثم هوت للأسفل ... و ارتطمت بالفراش ... و سكنت سكون الموت ... إنا لله ... و إنا إليه راجعون .... بعد سنتين من ذلك ... و في أحد الأيام ... و فيما أنا مضطجع على سريري بكسل و عدم إكتراث ، أدخن بقايا السيجارة بلا مبالاة ، و انظر إلى السقف و أرى الحشرات تتجول دون أن يثير ذلك أي اهتمام لدي ... إذا بالباب يفتح ، ثم يدخل بعض الضباط معظم زملائي وقفوا في قلق ... أما أنا ، فلم أحرك ساكنا ... و بقيت أراقب سحابة الدخان التي نفثتها من صدري ترتفع للأعلى ... و تتلاشى ... " وليد شاكر " هتف أحد الضباط ... فقمت بتململ و التفت إليه ببرود لم يعد يهمني إن كان لدي أي درس جديد في الضرب أو غيره ... عاد الضابط يهتف بحدّة : " وليد شاكر " نهضت عن فراشي و وقفت ازاء الضباط و أجبت بضجر : " نعم ؟ " و أقبل بعضهم نحوي ، فرميت بالسيجارة أرضا و سحقتها باستسلام ... أمسكوا بي و قادوني نحو الباب ، فسرت بخضوع تام ... عندما صرت أمام الضابط الذي ناداني ، رمقني بنظرة احتقار شديدة و هي نظرة قد اعتدت عليها و لم تعد تؤثر بشعوري ... قال : " وليد شاكر ؟ " أجبت : " نعم أنا ، و لا علاقة لي بالسياسة ، أرجو أن تتاكد من ذلك جيدا " رفع الضابط يده و صفعني على وجهي صفعة قوية كادت تكسر فكي ... ثم قال : " هذه تذكار " التفت إلى زملائي و عيني تقدح بالشر ، و قابلتني نظراتهم بالتحذير ... فكتمت ما في صدري ، ثم قلت : " ثم ماذا ؟ " ابتسم الضابط ابتسامة خبيثة دنيئة ، ثم قال : " لاشيء ! فقط ... أفرجنا عنك "
|
|