بلقيس هي ملِكة من أشهر الملِكات على مر التاريخ،
سجَّل لها القرآنُ الكريم رحلتَها مع قومها من الكفر والضلالِ إلى الإيمان والهدى،
وهي ملكة سبأٍ التي ورَد ذِكرها في سورة النمل في قوله تعالى على لسان الهدهد:
﴿ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ *
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾
[النمل: 23، 24]!
لقد ذكَر القرآن الكريم أن هذه الملكةَ كانت تعبُدُ الشمس،
وتحكُمُ عن قوة وحِكمة بلادًا مفرِطة في الغِنى والمنعة؛
لذلك لبلقيس مع سليمان عليه السلام وقومها مواقفُ كثيرة،
ولها في كل موقف عِبرة؛ لأنها لم تكن ملكة عادية فحسب،
بل هي مَثَل يحتذى به؛ فهي امرأة سَعَت إلى الهداية والإيمان
بعد أن عايَنَتْ بنفسها الأدلةَ والبراهين،
فكانت شخصيتُها أنموذجًا رفيعًا نستمدُّ منه الدروس والعِبَر،
وأول درسٍ من هذه الدروس يتجلَّى في أنها:
1-
مثال للمرأة المتَّزنة العاقلة:
التي لا تتحيَّزُ للباطل، ولا تميل مع الهوى؛
فهي لم تتركِ المجال للعصبية - سواء لقومها أو لدينها - أن تتحكَّمَ فيها،
وأن تحجبَ عنها أنوار الحقيقة،
والدليل أنها لم تمرَّ على رسالة سليمان عليه السلام مرورَ "الكرام"،
بل على العكس قرَأَتْها بإمعان وتدبُّر، وأعملت فيها فِكرها علَّها تجدُ فيها الخير.
2-
أنموذج للمرأة الصادقة المنصفة:
ويبدو ذلك من خلال وصفِها لكتابِ سليمان عليه السلام بأنه: (كريم)؛
فهي لم تحاول طَمْسَ حقيقته، بل قالت ما يُرضي ضميرَها دون مواربةٍ أو محاباة.
3-
كانت مثالاً للمرأة التي تحرص على أن تقدِّمَ الخير للجميع دون أن تحتكرَه لنفسها,
ويبدو ذلك بإعلانها على الملأ حقيقةَ هذا الكتاب أنه (كريم)،
وعرضها مضمونه حرفيًّا على قومها:
﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾
[النمل: 30، 31].
4-
كشف عن طبيعة المرأة الحقيقية التي تميل إلى السلام،,
وتُبغِض العنفَ والدماء، وتنفِرُ من الحرب والدمار، ويبدو ذلك في قولها:
﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [النمل: 34]
؛ لذلك لم يكن لجوءُ ملِكة سبأ إلى الرِّشوة - المتمثلة بالهدية - مستغرَبًا؛
لأنه الحلُّ الذي يلائم فطرتَها الأنثوية الوادعة والرَّقيقة.
5-
مثال للمرأة العفيفة الشريفة:
التي تدرِكُ أن الاحترام لا يُكتسَب بعَرْض مفاتن الجسد، ولا يُستجدَى بالإثارة والإغراء،
والدليل أنه كان بإمكانها استخدامُ هذه الوسائل لتمتحنَ نبوَّةَ سليمان عليه السلام،
لا سيما أنها اتَّصَفت بالجمالِ؛ كما ورَد على لسان الهدهد: ﴿ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
[النمل: 23].
6-
أنموذج للمرأة التي فهِمت حقيقةَ الإسلام:
فأدركت أنه ولاءٌ خالص لله تعالى، وليس مجردَ تعلُّق بالأشخاص،
أو ربيب العادة والرُّوتين، وهذا ما بيَّنَتْه بلقيسُ عندما لبَّتْ نداءَ سليمان عليه السلام:
﴿ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 31]
بأن قالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44].
بلقيس اسم اشتهرت به ملكة سبئية كانت معاصرةً للنبي سليمان عليه السلام
الذي يرجح أنه عاش في القرن العاشر قبل الميلاد( 935-970م ق.م).
غير أن المصادر العربية لا تورد اشتقاقاً مقنعاً لهذا الاسم،
ويدخله بعضهم مثل ابن دريد ضمن الأسماء الحميرية التي لا نقف لها على اشتقاق؛
لأن لغتها قد بعدت وقدم العهد بمن كان يعرفها.
ويتفرد في ذلك نشوان بن سعيد الحميري الذي حاول أن يقدم اشتقاقاً للاسم
فقال في معجمه(شمس العلوم) : "وبلقيس اسمان جعلا اسماً واحداً مثل حضرموت وبعلبك؛
وذلك أن بلقيس لَمَّا ملكت الملك بعد أبيها الهدهاد قال بعض حمير لبعض:
ما سيرة هذه الملكة من سيرة أبيها ؟ فقالوا : بلقيس. أي بالقياس فسميت بلقيس ".
ورغم بعض المحاولات، فإن المصادر الأجنبية لم تفلح أيضاً في تقديم تفسير مفيد للاسم،
ولعل أشهر تلك المحاولات ما جاء به (روش ROESCH )
في مقالٍ نشره عام( 1880م/ 1297هـ) وهو أن بلقيس كلمةٌ يونانية تعني جارية (PALLAKIS )،
ربما كان لها علاقة بالكلمة العربية (PILAEGES ) وبالمعنى نفسه.
على أن مثل هذا التفسير يُوحي بأن صاحبة الاسم كانت امرأةً ضعيفةً وتابعة،
وهو أمرٌ لا يتفق مع أوصاف تلك الملكة عند الإخباريين؛
فقد ذكر ابن هشام في روايته لكتاب( التيجان) لوهب بن منبه أنه لَمَّا حضرت أباها الوفاة
جمع وجوه مملكته وأهل المشورة، وكان من جملة ما قاله له لِيُسَوِّغ استخلاف بلقيس عليهم:
" إني رأيتُ الرجالَ، وعَجَمْتُ أهلَ الفضل وسبرتهم، وشهدتُ من أدركتُ من ملوكها فلا والذي أحلفُ به
ما رأيت مثلَ بلقيسَ رأياً وعلماً وحلماً ". أو ما ذكره على لسان (هدهد مارب)،
وهو يصف الملكة لهدهد سليمان بقوله:
" ملكتنا امرأةٌ لم يرَ الناسُ مثلها في حسنها وفضلها وحسن تدبيرها وكثرة جنودها والخير الذي أعطيته في بلدها ".
ومِمَّا يمكن اجتهاده في هذا الشأن أن تكون التسميةُ كنيةً في الأصل منحوتةً من كلمتين إحداهما الاسم(قيس).
ويذكر ابن الكلبي في ( جمهرته ) قيساً ضمن شجرة نسبها؛
فهي (بنت القيس)كقولهم (ابن القيس) أو( أبو القيس)، فتصبح الكلمتان بعد النحت ودَرْج الكلام بلقيس،
ثم جرى كسر القاف بعد ذلك قياساً على ما هو مشهور في مثل هذه الكُنى
كما تنتهي كلمتا (أبو الفقيه) أو (ابن الفقيه) إلى بلفقيه و(أبو القاسم) إلى بلقاسم .
غير أن التواتر المشهور عند نشوان أن أباها هو الهدهاد بن شرحبيل،
وينتمي إلى ذِي سحر من المثامنة وهي الأبيات الثمانية من حمير،
أو هو الهدهاد بن شرح بن شرحبيل بن الحارث الرائش كما يذكر الهمداني.
والقرآن والتوراة- وهما المصدران الأساسيان لقصة ملكة سبأ -لم يوردا لها اسماً؛
فالتوراة تنعتها بـ(ملكة سبأ) أو (ملكة تيمنا) أي (ملكة الجنوب)،
وتذكر أنها زارت النبي سليمان، وقدمت له هدايا ثمينة، والقرآن الكريم لا يذكر اسماً لها.
قال الله تعالى: " وجئتك من سبأٍ بنبأٍ يقين إني وجدت امرأةً
تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرشٌ عظيم " (النمل:22-23).
أما المصادر العربية الأساسية في قصة هذه الملكة فتذكرها بالاسم بلقيس
خاصة كتاب( التيجان) لابن هشام وكتاب( الإكليل) للهمداني و(القصيدة الحميرية)
لنشوان الحميري يقول نشوان:
أم أينَ بلقيسُ المعظَّمُ عرشُهُا أوصرحُهُا العالي على الأضراحِ
زارتْ سليمانَ النبيَّ بتدمرٍ مِنْ ماربٍ ديناً بلا استنكـاحِ
وقصة الملكة بلقيس ذائعة منذ القدم، وقد تجاوزت شهرتها مسرح أحداثها،
وتناقلتها شعوبٌ أخرى بصيغ مختلفة وروايات متعددة، وتناولتها شروحات التوراة وكتب تفسير القرآن،
ودخلت في قصص الأنبياء ونصوص القديسين المسيحيين،
وعُنِيَتْ بتفاصيلها كتبُ الأخبار والتاريخ خاصةً اليمنية منها،
واستلهمتها روائع الفنانين الأوروبيين في عصر النهضة مثل رافائيل ورويموندي وجبرتي.
واتُخِذَ موضوع القصة أساساً لكتاب الحبشة المعروف( كُبْر أنجست) أي كتاب (مجد الملوك) .
وقد كان لانتشار القصبة أثر في تنازع الناس حول الملكة،
واختلافهم في اسمها وأصلها وموطنها؛ مِمَّا أضفى عليها أخباراً مصطنعةً وألواناً متعددةً
كادت تَغلِب نواة القصة التاريخية، وتحولها إلى حكاية شعبية تُروى في أزمنة متفاوتة ومواطن متباعدة.
على أنَّ أشهر حادثة في حياة تلك الملكة هي زيارتها للنبي سليمان عليه السلام
والقرآن الكريم قد نص على هذه الحادثة،
وما كان من كلام الهدهد وكلام بلقيس وكلام سليمان وإسلامها مع سليمان لله رب العالمين .