من قصة مبدعتي مدمد
أوتار الموت
هبت النكباء باعثة بعضا من الحركة وسط سكينة الليل الأسحم، محركة في تيارها أفنان الشجر اليابسة المتهالكة،كانت السماء داجية خاوية إلا من امبراطورها الفتان الذي ما فتئ يزجي بتلك الأشعة التي شابهت اللجين في وميضها على سطح الغبراء، لتتحرك خصلات شعر تلك الفتاة التي كانت تحاكي العَسْجَد في لمعانها الذهبي على وقع هبوب الرياح القوية،كانت جالسة وحيدة في جنح الظلام تأنس بحضرة قيثارها الفضيّ ،تعزف بأناملها على خيوطه الرقيقة مغازلة القمر المؤتلق الذي تربع على عرش السماء و أنار مُحيَاها الناعم البهي،لتنتشر تلك الألحان الشجية مرافقة صوتها الرقيق الذي صدح في الأنحاء بترنيمة حب يونانية،يتردد صداها المصطدم بتك الأعمدة الشاهقة التي أحاطت بالقصر الباذخ الشاهق ذو الطابع اليوناني البحت،عيونها تائهة في أغوار الزمن، بكينونتها الضعيفة هائمة في ملكوت البسيطة الغادرة،تستنطق بصوتها العذب القمر،و تناجي السماء،و ترثي نفسها و تهجو قلبها الذي لم يكن ملكها يومًا،تماما كحريتها المسلوبة،هي،أمَة رخيصة من عبيد السيد الأعظم ''هيرميس''..
بحركة متثاقلة التعب و الإعياء سِمَتُها،مضت بخطوات هادئة آمنة بطيئة،بثوبها الأبيض الرث الرميم،و قدميها الحافيتين المتورمتين،سارت على الأرضية الرخامية لمدخل القصر،لتدلف من البوابة الكبيرة ناصعة البياض،نظرت لمختلف الجهات بخوف ووجل من ان تقع عليها عين احدهم فتغدو معاقبة لانسلالها من القصر ليلا،محاولة الاختباء خلف الأعمدة الحجرية المنقوشة التي ملئت الردهات،تسللت إلى الطابق تحت الأرضي المخصص للعبيد في القصر،نزلت في الدرج الحجري المتهالك الذي كان يصدر صوتا مزعا كلما استقرت قدمها الصغير عليه،إلى أن بلغت تلك الغرفة الشاسعة الحالكة،التي انتشرت فيها رائحة رطوبة قوية تكاد تفقد قدرتك على التنفس بها،سارت بحذر خشية ان تدوس على أحد العبيد الذين افترشوا الأرض نيامًا،لتصل إلى ركن في الغرفة التي كانت تسع اكثر من ثلاثين عبدا من عبيد المنزل الذين يقومون بمختلف الاعمال،جلست فيه مفترشة الأرض الباردة و ملتحفة خرقة قماش نخرة بالية لا تقيها لسعات البرد الشديدة،تجوب بعينيها الواسعتين اللامعتين بزرقتهما الصافية في دجى الغرفة ،غارقة في بحر تفكيرها الراكد،في محاولة يائسة لجمع شتات نفسها و تجميع شظايا روحها المهشمة،أو لشفاء قلبها من هذا الورم الفتاك الذي ألَّم به،و يا وباء الوله من يعرف ألمك؟!
وقعت كسمكة صغيرة لا حول لها و لا قوة في شباك الحب القاتلة،و كان صيادها ذلك السيد العظيم ''هاديس''،،
''هاديس''هو ابن السيد الاعظم في اسبرطة''هيرميس''،من تلك العائلة الغنية المتنعمة ذات الصيت الواسع في أرجاء اسبرطة،لا و بل في أرجاء اليونان قاطبة!
''هاديس''المنزه من الخطايا،المترفع عن الخطأ و الصغائر،هو الذي لا تطأ قدماه إلا كل باسق منيف،و لا تنبس شفتاه إلا بكل سديد حصيف،،
''هاديس'' هو الشمس،هو القمر،هو الكون بما فيه كبرياء و عظمة،بمكابرة أباطرة و استنكاف سلاطين،يرنو إلى المحال بخطى واثقة ثابتة،،
أين هي منه؟و هي مجرد أمة حقيرة تباع و تشترى كسلعة رخيصة ،ما خلقت إلا لتكون كذلك،إلا لتستعبد و تُهان،إلا لتنظر إليه في عليائه من بعيد،،
توسدت ذراعها الهزيلة و أسندت إليها رأسها المثقل بالهموم،طالبة بعضا من الراحة بعد عناء يوم مضني،لتستعد ليوم أكثر عناءً!
افتقت شمس باهتة في الأفق معلنة ميلاد يوم جديد،كانت قد استيقظت قبل ذلك بسويعات و اتجهت إلى غرفة حجرية خارج القصر مخصصة لغسيل الملابس ،و باشرت عملها بلا كلل،تغرق الملابس في حوض كبير من الماء و تقوم بغسلها،و هي تغني بصوتها الرقيق إبَّان ذلك،تملكها شيء من السعادة و هي تلحظ قبسا من النور يلج المكان ،تابعت شدوها بابتسامة بديعة رسمت على محياها،صوت ما استوقف سعادتها برهة قائلا:
-''هيسيتيا''...
-سمعا و طاعة سيدي..
قالت و هي تجثو على ركبتيها و تطأطئ رأسها احتراما لسيدها ''هاديس''،ذلك الشاب حسن المنظر،قوي البنية،فارع الطول،حاد النظرات،يرمقها بنظرات جامدة مستحقرا إيَّاها لأبعد الحدود،هي التي لم ترفع رأسها و لم تتجرأ على النظر في عيني سيدها،بقيت مطأطئة الرأس و قد أخفى شعرها الذهبي المديد كل ملامحها ليتدلى على الأرض حولها،لحظة صمت بارد مرَّت كدهر على قلب هيسيتيا،و كأن سيدها ''هاديس''يتمتع برؤية أمته تركع له بهذا الذل و الهوان،هكذا هو،صَلِف لأبعد الحدود،جفاء قلبه لا يقاس بمكيال،يستمتع بفكرة أن حياة أولئك العبيد العُزَّل معلقة به،و أنَّ تهلكتهم مرهونة بإشارة بسيطة منه،
-انهضي..
قال بصوته الواثق ذو النبرة الخشنة المزدرية،وقفت هيسيتيا على قائمتيها المرتجفتين اللتان لا تكادان تحملانها،دون ان تنظر إليه،أخذت تنتظر أوامره التي أبت إلا أن تستأصل آخر ذرة من صمودها،و ها هو ذا يستنفذ بوقاره و عظمته المهيبة في وقفته تلك شظايا روحها،تلك الهيبة التي استمدها من الأباطرة و الذين يُكَنَوْن بــ''الآلهة''،و الذي هو أقرب الناس إليهم،خاصة في كونه من رواد ''مدرسة كولاس'' التي لا يرتادها إلا من أوتي من العلم كثيرًا.