07-21-2014, 11:40 PM
|
|
الجزء السادس عشر
لقد قضيت خمسة أيام في بيت عائلتي ، كان يمكن أن تكون من أجمل أيام حياتي ... لكنها كانت من أسوأها
كنت أود الرحيل عنهم في أقرب فرصة ، لكنني اضطررت كارها للبقاء بإلحاح من أبي و أمي
سامر غادر يوم الجمعة ، و قد ودعته وداعا باردا ... و غادرت أنا صباح الثلاثاء التالي باكرا .
خلال تلك الأيام الخمسة ...
كنت أتحاشى الالتقاء برغد قدر الإمكان و لا أنظر أو أتحدث إليها إلا للضرورة
و هي الأخرى ، كانت تلازم غرفتها معظم الوقت و تتحاشى الحديث معي ، خصوصا بعد أن قلت لها :
" هل تسرقين ؟ "
اعترف بأنني كنت فظا جدا ألا أنني لم أجد طريقة أفضل لأعبر بها عن غضبي الشديد و مرارتي لفقدها
في آخر الأيام ، طلبت مني والدتي اصطحاب رغد إلى المكتبة لتشتري بعض حاجياتها .
لم أكن لأفعل ذلك ، غير أنني شعرت بالحرج ... إذ أن والدي كان قد عاد قبل قليل من العمل و يسترخي ... فيما أنا أنعم بالراحة و الكسل ، دون مقابل ...
و ربما كان ذلك ، نوعا من الإعتذار ...
في ذلك اليوم كان نوار في زيارة مطولة لشقيقتي ، و مدعو للعشاء معها !
ذهبنا أنا و رغد إلى تلك المكتبة العظمى المترامية الأطراف ...
رغد توجهت إلى الزاوية الخاصة ببيع أدوات الرسم و التلوين و خلافها ... و بدأت تتفرج و تختار ما تريد ...
و على فكرة ، علمت أنها رسامة ماهرة ...
لكم كانت تعشق التلوين منذ الصغر !
أخذت أتفرج معها على حاجيات الرسم و التلوين ... ثم انعطفت في طريقي ، مواصلا التفرج ... و لم يعد باستطاعتي رؤية رغد أو باستطاعتها رؤيتي
شغلت بمشاهدة بعض الرسوم المعلقة أعلى الحائط و ما هي إلا ثوان حتى رأيت رغد تقف بجواري !
قلت :
" رسوم جميلة ! "
" نعم . سأشتري الألوان من هناك "
و أشارت إلى الناحية الأخرى التي قدمنا منها ... فعدت معها ...
انهمكت هي باختيار الألوان و غيرها ، فسرت أتجول و أتفرج على ما حولي حتى بلغت زاوية أخرى فانعطفت ...
مضت ثوان معدودة ، و إذا بي أسمع صوت رغد يناديني مجددا ...
استدرت للخلف فرأيتها تقف قربي !
و بيني و بينها مسافة بضع خطوات
تخيلت أنها تريد قول شيء ، فسألتها :
" هل انتهيت ؟؟ "
قالت :
" لا "
تعجبت !
قلت :
" إذن ؟؟ "
قالت :
" لا تبتعد عني "
يا لهذه الفتاة !
قلت :
" حسنا ! "
و مضيت ُ معها إلى حيث كانت أغراضها موضوعة على أحد الأرفف
رأيتها تأخذ أغراضا أخرى كثيرة ، فتلفت من حولي بحثا عن سلة تسوق ، و لم أجد . ذهبت لأبحث عن سلة فإذا بي أسمعها تناديني :
" وليد "
قلت :
" سأحضر سلة لحمل الأغراض "
فإذا بها تترك ما بيدها و تأتي معي !
عدنا مجددا للأغراض ، و تابعت هي اختيار ما تشاء، و تجولت أنا حتى بلغت ناحية الكتب ...
الكثير من الكتب أمام عيني !
يا له من بحر كبير ! كم أنا مشتاق للغطس في أعماقه !
لم أكن قد قرأت ُ كتابا منذ مدة طويلة ... أخذت أتفرج عليها و أتصفح بعضها ... و انتقل من رف إلى آخر ، و من مجموعة إلى أخرى ... حتى غرقت في البحر حقا !
كانت أرفف الكتب مصفوفة على شكل عدة حواجز تقسم المنطقة ...
و الكثير من الناس ينتشرون في المكان و يتفرجون هنا أو هناك ...
دقائق ، و إذا بي أسمع صوت رغد من مكان ما !
كان صوتها يبدو مرتبكا أو قلقا ... لم أكن في موقع يسمح لي برؤيتها ... فسرت بين الحواجز بحثا عنها و أنا أقول :
" أنا هنا "
و لم أسمع لها صوتا !
أخذت ُ ألقي نظرة بين الحواجز بحثا عنها
ثم وجدتها بين حاجزين ...
" أنا هنا ! "
حينما رأتني رغد أقبلت نحوي مسرعة تاركة السلة التي كانت تحملها تقع على الأرض و حين صارت أمامي مباشرة فوجئت بها تمسك بذراعي و ترتجف !
كانت فزعة !!
وقفت أمامي ترتعش كعصفور مذعور !
نظرت إليها بذهول ... قلت :
" ما بك ؟؟ "
قالت و هي بالكاد تلتقط بعض أنفاسها :
" أين ذهبت ؟ "
أجبت :
" أنا هنا أتفرج على الكتب ! ... ما بك ؟؟ "
رغد ضغطت على ذراعي بقوة ... و قالت بفزع :
" لا تتركني وحدي "
نظرت ُ إليها بشيء من الخوف ، و القلق ... و الحيرة ...
فقالت :
" لا تدعني وحدي ... أنا أخاف "
لكم أن تتصوروا الذهول الذي علاني لدى سماعي لها تقول ذلك ... و رؤيتها ترتجف أمام عيني بذعر ...
لقد ذكرني هذا الموقف ، باليوم المشؤوم ...
قلت :
" أ أنت ِ ... بخير ؟؟ "
فعادت تقول :
" لا تتركني وحدي ... أرجوك ... "
لم يبدُ لي هذا تصرفا طبيعيا ... توترتُ خوفا و قلقا ... و تأملتها بحيرة ...
سرنا باتجاه السلة ، فأردت سحب ذراعي من بين يديها لحمل السلة و إعادة المحتويات إلى داخلها ... لكنها لم تطلقها بسهولة ...
و عوضا عن ذلك تشبثت بي أكثر ثم بدأت بالبكاء ...
لم يكن موقفا عاديا ، لذا فإن أول شيء سألت أمي عنه بعد عودتنا للبيت :
" ما الذي جعل رغد تفزع عندما تركتها في المكتبة و ابتعدت قليلا ؟؟ "
أمي نظرت إلي باهتمام ... ثم قالت :
" ماذا حدث ؟؟ "
" لا شيء ... ذهبت ألقي نظرة على الكتب و بعد دقائق وجدتها ترتجف ذعرا ! "
عبس وجه والدتي ، و قالت :
" و لماذا تتركها يا وليد ؟ قلت لك ... انتبه لها "
أثار كلام أمي جنوني ، فقلت :
" أمي ... ماذا هناك ؟؟ ما لأمر ؟؟ "
قالت أمي بمرارة :
" لديها رهبة مرضية من الغرباء ... تموت ذعرا إذا لم تجد أحدنا إلى جانبها ... إنها مريضة بذلك منذ سنين ... منذ رحيلك يا وليد ! "
لقد صدمت بالنبأ صدمة هزت كياني و وجداني ...
أخبرتني أمي بتفاصيل حدثت للصغيرة بعد غيابي ... و الحالة المرضية التي لازمتها فترة طويلة و الذعر الذي ينتابها كلما وجدت نفسها بين غرباء ...
لم يكن صعبا علي أن أربط بين الحادث المشؤوم و حالتها هذه
و كم تمنيت ...
كم تمنيت ...
لو أن عمّار يعود للحياة ... فأقتله ... ثم أقتله و أقتله ألف مرة ...
إنه يستحق أكثر من مجرد أن يقتل ....
قالت أمي :
" و عندما توالت الهجمات على المنطقة ، اشتد عليها الذعر و المرض ... و وجدنا أنفسنا مضطرين للرحيل مع من رحل عن المدينة ... لم يكن الرحيل سهلا ، لكن العودة كانت أصعب ... قضيت معها فترات متفرقة في المستشفى ... لم تكن تفارقني لحظة واحدة ! بمشقة قصوى ذهب والدك و شقيقك لزيارتك في العاصمة ، تاركين الطفلة المريضة و أختها في رعايتي في المستشفى ، إلا أنهما منعا من الزيارة و أبلغا أن الزيارة محظورة تماما على جميع المساجين ! "
و أمي تتحدث و أنا رأسي يدور ... و يدور و يدور ... حتى لف المجرة بأكملها
تساؤلات كان تملأ رأسي منذ سنين ، و جدت إجابة صاعقة عليها دفعة واحدة ...
أسندت رأسي إلى يدي ...
رأتني أمي أفعل ذلك فقالت :
" بني ... أ أنت بخير ؟؟ "
رفعت يدي عن رأسي و قلت :
" و لماذا ... لماذا زوجتموها لسامر و هي بذلك السن المبكر جدا ؟؟ "
قالت :
" لمن كنت تظننا سنسلم ابنتنا ؟؟ إنها تموت ذعرا لو ابتعدت عنا ... هل تتصور أنها تستطيع الخروج من هذا المنزل ؟؟ لا تخرج في مكان عام إلا بوجود أبيك أو سامر ... كانت ستتزوجه إن عاجلا أم آجلا ... فرفعنا الحرج عنهما لبقائهما في بيت واحد "
قلت :
" لكن يا أمي ... إنها ... إنها .... "
و لم تخرج الكلمة المعنية ...
أتممت :
" إنها صغيرة جدا ... ما كان يجب أن تقرروا شيئا كهذا ... "
و تابعت :
" كان يجب ... كان يجب ... إن ... "
و لم أتم ...
ماذا عساي أن أقول ... ؟؟ لقد فات الأوان و انتهى كل شيء ...
لكن الأمور بدت أكثر وضوحا أمامي ...
هممت بالذهاب إلى غرفة سامر التي أستغلها ، من أجل تنفس الصعداء وحيدا ...
توقفت قبل مغادرتي لغرفة المعيشة حيث كنا أنا و أمي ...
التفت إليها و قلت :
" أ لهذا لم تخبروها بأنني دخلت السجن ؟؟؟ هل أخبرتموها أنني ... لن أعود ؟؟ "
والدتي قالت :
"أخبرناها بأنك قد تعود ... و لكن ... بعد عشرين عاما ... و قد لا تعود ... "
كانت أمي تبكي ...
بينما قلبي أنا ينزف ...
قلت :
" و لكنني عدت ... "
والدتي مسحت دموعها وابتسمت ، ثم تلاشت الابتسامة عن وجهها ... و نظرت إلي باهتمام و قلق ...
قلت :
" و يجب أن أرحل "
و تابعت طريقي إلى غرفة سامر ...
فضول لم استطع مقاومته ، و قلق شديد بشأنها دفعني للاقتراب من غرفة رغد المغلقة ... و من ثم الطرق الخفيف ...
" أنا وليد "
بعد قليل ... فتح الباب ...
كنت أقف عن بعد ... أطلت رغد من الداخل و نظرت إلي
رأيت جفونها الأربعة متورمة و محمرة أثر الدموع
قلت :
" صغيرتي ... أنا آسف ... "
ما إن قلت ذلك ... حتى رفعت رغد يديها و غطت وجهها و أجهشت بكاءا
زلزلني هذا المشهد ... كنت أسمع صوت بكائها يذبذب خلايا قلبي قبل طبلتي أذني ّ
قلت بعطف :
" رغد ... "
رغد استدارت للخلف و أسرعت نحو سريرها تبكي بألم ...
بقيت واقفا عند الباب لا أقوى على شيء ... لا على التقدم خطوة ، و لا على الانسحاب ...
" رغد يا صغيرتي ... "
لم تتحرك رغد بل بقيت مخفية وجهها في وسادتها تبكي بمرارة ... و يبكي قلبي معها ...
" رغد ... أرجوك كفى ... "
ثم قلت :
" توقفي أرجوك ... لا احتمل رؤية دموعك ! "
و لم تتحرك رغد ...
تقدمت خطوة واحدة مترددة نحو الداخل ... و نظرت إلى ما حولي بقلق و تردد ...
المرآة كانت على يميني ، و حين تقدمت خطوة رأيت صورتي عليها ... و حين التفت يسارا ... رأيت صورتي أيضا !
فوجئت و تعلقت عيناي عند تلك الصورة !
لقد كانت رسمة لي أنا على لوحة ورقية ، لم تكتمل ألوانها بعد !
نقلت بصري بين رغد الجالسة على السرير تغمر وجهها في الوسادة ، و صورتي على الورقة !
كيف استطاعت رسمي بهذه الدقة !؟ و بمظهري الحالي ... فأنفي محفور كما هو الآن !
كيف حصلت على صورة لي لترسمها ، أم أنها رسمتها من خلال المرات القليلة العابرة التي نظرت فيها إلي ... !؟
" يشبهني كثيرا ! أنت بارعة ! "
ما إن أنهيت جملتي حتى قفزت رغد بسرعة ، و عمدت إلى اللوحة فغطتها بورقة بيضاء بسرعة و ارتباك !
ثم بعثرت أنظارها في أشياء كثيرة ... بعيدا عني ... و أخذت تفتح علب الألوان الجديدة التي اشترتها من المكتبة باضطراب ...
رجعت للوراء ... لم أكن أملك فكرة لما علي فعله الآن ! ماذا علي أن أفعل ؟؟
أظن ... أن علي الخروج حالا
الجملة التي ولدت على لساني هذه اللحظة كانت :
" أحب أن أتفرج على رسوماتك ! "
و لكن أهذا وقته !
رجعت خطوة أخرى للوراء و أضفت :
" لاحقا طبعا ... إذا سمحت ِ "
رغد توجهت نحو مكتبتها و أخرجت كراسة رسم كبيرة ، و أقبلت نحوي و مدتها إلي ...
في هذه اللحظة التقت نظراتنا
كان بريق الدموع لا يزال يتلألأ في عينيها الحمراوين ، ينذر بشلال جارف ...
أخذت الكراسة ....
و قلت و قلبي يتمزق :
" لا تبكي أرجوك ... "
لكن الدمعة فاضت ... و انسكبت ... و انجرفت ... تقود خلفها جيشا من الدموع المتمردة ...
" رغد ... سألتك ِ بالله كفى ... أرجوك ... "
" لا أستطيع أن أتغلب على ذلك ... كلهم مرعبون ... مخيفون ... أشرار ... يريدون اختطافي "
و انفجرت رغد في بكاء مخيف ... هستيري ... قوي ... و ارتجفت أطرافي ذعرا و غضبا و قهرا كدت أصرخ بسببه صرخة تدوي السماء ...
أراها أمامي كما رأيتها ذلك اليوم المشؤوم ... و أضغط على الكراسة في يدي و أكاد أمزقها ...
تمنيت لو أستطيع تطويقها بين ذراعي بقوة ... كما فعلت يومها ... لكنني عجزت عن ذلك
تمنيت لو ...
لو أخرج جثة عمار من تحت سابع أرض ... و أقتله ، ثم أمزقه قطعة قطعة ... خلية خلية ... ذرة ذرة ...
لو يعود الزمن للوراء ... لكنت قتلته في عراكي معه آخر مرة ... و لم أدع له الفرصة ليعيش و يؤذيك ...
إنني كنت ُ السبب ...
نعم أنا السبب ...
و قد انتقم مني أبشع انتقام ...
و أي انتقام ؟؟
ثمن بقيت أدفعه منذ ذلك اليوم ، و حتى آخر لحظة في حياتي البائسة ...
ما ذنب صغيرتي في كل هذا ...؟
خسئت أيها الوغد ...
هنا أقبلت أمي التي يبدو أنها سمعت بكاء رغد ... و وقفت إلى جانبي لحظة تنقل نظرها بيني و بين رغد ، ثم تقدمت إلى رغد
" عزيزتي ؟؟ "
رغد ارتمت بقوة في حضن والدتي ... و هي تبكي بألم صارخ ... و تقول بين دموعها :
" لا تتركوني وحدي ... لا تتركوني وحدي ... "
أمي طوقت رغد بحنان و أخذت تربت عليها بعطف و تهدئها ...
ثم نظرت إلى باستياء و قالت :
" لماذا يا وليد ؟؟ "
في غرفة سامر ، أجلس على السرير ، أقلب صفحات كراسة رغد ...
الكثير من الرسومات الجميلة ...لأشياء كثيرة ... ليس من بينهم صورة لأحد أفراد العائلة غير دانة !
صورة لها و هي صغيرة و غاضبة !
و العديد من صور أشياء خيالية ... و أشباح !
لا أعرف ما الذي تقصده بها ...
كانت ساعتان قد انقضتا مذ خرجت من غرفتها تاركا إياها تهدأ في حضن والدتي
الآن أسمع طرقا على الباب
" تفضل "
و دخلت والدتي
" وليد ... العشاء جاهز "
تركت الكراسة على السرير و خرجت مع أمي قاصدين غرفة الطعام . قبل أن نصل، همست أمي لي :
" وليد ... لا تثر ذلك الأمر ثانية رجاءا "
فأومأت برأسي موافقا .
و لم أسمح لنظراتي أن تلتقي بعيني رغد أو للساني أن يكلمها طوال الوقت .
بعد ذلك ، ذهبت مع أبى نتابع آخر الأخبار عبر التلفاز ، في غرفة المعيشة
لا يزال الدمار ينتشر ... و الحرب التي هدأت نسبيا لفترة مؤقتة عادت أقوى و أعنف ... و أخذت تزحف من قلب البلدة إلى الجهات الأربع ...
تم غزو مدينتين أخريين مؤخرا ، لم تكن الحرب قد نالت منهما حتى الآن ... و تندرج المدينة الصناعية التي نحن فيها الآن ، في قائمة المدن المهددة بالقصف ...
كنت مندمجا في مشاهدة لقطات مصورة عن مظاهرات متفرقة حدثت صباح اليوم في مدن مختلفة من بلدنا .... و رؤية العساكر يضربون المدنيين و يقبضون على بعضهم ...
منظر مريع جعل قلبي ينتفض خوفا ... و أثار ذكريات السجن المؤلمة المرعبة ...
في هذا الوقت ، أقبلت رغد تحمل مجموعة من الكراسات و اللوحات الورقية ، و جاءت بها إلي !
" تفرج على هذه أيضا ... هذا كل ما لدي "
وضعتُ الكراسات على المنضدة المركزية ، و جلست رغد على مقعد مجاور لمقعدي ... تراقبني و تنتظر تعليقاتي حول رسوماتها الجميلة ...
إن عيني كانت على الرسومات ، إلا أن أذني كانت مع التلفاز !
بعدما فرغت من استعراض جميع الرسومات قلت :
" رائعة جدا ! أنت فنانة صغيرتي ! أهذا كل شيء ؟؟ "
رغد ابتسمت بخجل و قالت :
" نعم ... عدا اللوحة الأخيرة "
و أخفت أنظارها تحت أظافر يديها !
لماذا قررت رغد رسمي أنا ؟ و أنا بالذات !؟؟
إنها لم ترسم أحدا من أفراد عائلتي ... فهاهي الرسومات أمامي و لا وجود لسامر مثلا فيما بينها !
قلت :
" متى تنهينها ؟ "
لا زالت تتأمل أظافرها و كأنها تراهم للمرة الأولى !
قالت :
" غدا أو بعد الغد ... "
قلت :
" خسارة ! لن أراها كاملة إذا ! "
رفعت رغد عينيها نحوي فجأة بقلق ، ثم قالت :
" لماذا ؟ "
أجبت :
" لأنني ... سأرحل غدا باكرا ... كما تعلمين ! "
اختفى صوت الأخبار فجأة ، التفت إلى التلفاز فإذا به موقف ، ثم إلى أبي ، و الذي كان يحمل جهاز التحكم في يده ، فرأيته ينظر إلي بعمق ... و إلى أمي فوجدتها متسمرة في مكانها ، تحمل صينية فناجين و إبريق الشاي ...
و كنت شبه متأكد ، من أنني لو نظرت إلى الساعة لوجدتها هي الأخرى متوقفة عن الدوران !
حملق الجميع بي ... فشعرت بالأسى لأجلهم ... كانت نظرات الاعتراض الشديد تقدح من أعينهم
أول من تحدث كان أمي :
" ماذا وليد ؟؟ و من قال أنك سترحل من جديد ؟؟ "
صمت قليلا ثم قلت :
" قلت ذلك منذ أتيت ... انتهت الزيارة و لابد لي من العودة "
قال والدي مقاطعا :
" ستبقى معنا يا بني "
هززت رأسي ، و قلت :
" و العمل ؟؟ ماذا أفعل ببقائي هنا ؟؟ "
و دار نقاش طويل حول هذا الموضوع ، و بدأت أمي بالبكاء ، و رغد كذلك !
و حين وصلت دانة ـ و التي كانت لا تزال تتناول العشاء مع خطيبها في غرفة الضيوف ، و جاءت تسأل أمي عن الشاي ، و رأت الوجوم على أوجهنا ثم عرفت السبب ـ بكت هي الأخرى !
أردت أن أختصر على نفسي و عليهم آلام الوداع .. سرعان ما قلت :
" سأخلد للنوم "
و ذهبت إلى غرفة سامر
أخذت أقلب كراسة رغد مجددا ...
كم أثارت ذكريات الماضي ... كم كانت شغوفة بالتلوين ! لقد كنت ألون معها ببساطة ! كم أتمنى لو ... تعود تلك الأيام ...
جمعت أشيائي في حقيبة سفري الصغيرة التي جئت بها من مدينتي
ضبطت المنبه ليوقظني قبل أذان الفجر بساعة ...
كنت أريد أن أخرج دون أن يحس أحد بذلك ، لئلا تبدأ سلسلة عذاب الفراق و ألم الوداع ... كالمرة السابقة ...
و حين نهضت في ذلك الوقت ، تسللت بهدوء و حذر خارجا من المنزل ...
كان السكون يخيم على الأجواء ... و الكون غارق في الظلام الموحش ... إلا عن إنارة خافتة منبعثة من المصباح المعلق فوق الباب
خرجت إلى الفناء الخارجي ، و كان علي أن أترك الباب غير موصد ... و سرت إلى البوابة الخارجية ... فإذا بي أسمع صوت الباب يفتح من خلفي ..
استدرت إلى الوراء ... فإذا بي أرى رغد تطل من فتحة الباب !
صمدت في مكاني مندهشا !
رغد أخذت تنظر إلى و إلى الحقيبة التي في يدي ... ثم تهز رأسها اعتراضا ... ثم تقبل إلي مسرعة ...
" وليد ... لا ... لا ترحل أرجوك "
حرت و لم يسعفني لساني بكلمة تناسب مقتضى الحال ... سألتها :
" لم ... أنت مستيقظة الآن ؟؟ "
رغد حدقت بي مدة ، و بدأت الدموع تنحدر من محجريها ...
" أوه ... كلا أرجوك ! "
قلت ذلك بضيق ، فأنا قد خرجت في هذا الوقت خلسة هروبا من هذا المنظر ...
إلا أن رغد بدأت تبكي بحدة ...
" لا تذهب وليد أرجوك ... أرجوك ... ابق معنا "
قلت :
" لا أستطيع ذلك ... أعني ... لدي عمل يجب أن أعود إليه "
و في الحقيقة ، لدي واقع مر يقف أمامي ... علي أن أهرب منه ...
رغد تهز رأسها اعتراضا و استنكارا ... ثم تقول :
" خذني معك "
ذهلت لهذه الجملة المجلجلة ! و اتسعت حدقتا عيني دهشة ...
رغد قالت :
" أريد أن أعود إلى بيتنا "
" رغد !! "
دخلت رغد في نوبة بكاء متواصل ، خشيت أن يخترق صوتها الجدران فيصل إلى البقية و يوقظهم ... و نبدأ دوامة جديدة من الدموع ...
قلت :
" رغد ... أرجوك كفى ... "
رغد قالت بانفعال ، و صوتها أقرب للنوح منه إلى الكلام :
" أنا ... وفيت بوعدي ... و لم أخن اتفاقنا ... لكنك كذبت علي ... و لم تعد ... و الآن بعد أن عدت ... تبادر بالرحيل ... و تنعتني أنا بالخائنة ؟ إنك أنت الخائن يا وليد ... تتركني و ترحل من جديد "
كالسم ... دخلت هذه الكلمات إلى قلبي فقتلته ... و زلزلتني أيما زلزلة ...
قلت مندهشا غير مستوعب لما التقطت أذناي من النبأ الصاعق :
" لم ... لم ... تخبري أحدا ... ؟؟ "
رغد هزت رأسها نفيا ...
قلت بذهول :
" و لا ... حتى ... سامر ؟؟ "
و استمرت تهز رأسها نفيا و بألم ...
فشعرت بالدنيا هي الأخرى تهتز و ترتجف من هول المفاجأة ... تحت قدمي ّ
قالت :
" كنت ُ أنتظر أن تعود ... لكنهم أخبروني أنك لن تعود ... و لا تريد أن تعود ... و كلما اتصلت بهاتفك ... وجدته مقفلا ... و لم تتصل لتسأل عني و لا مرة طوال هذه السنين ... لماذا يا وليد ؟؟ "
لحظتها تملكتني رغبة مجنونة بأن أضحك ... أو ... أو حتى أن أتقيأ من الصدمة !
لكن ...
ما الجدوى الآن ...
كبتّ رغبتي في صدري و معدتي ، و رفعت نظري إلى السماء ... أُشهد ملائكة الليل على حال ٍ ليس لها مثيل ...
و حسبي الله و نعم الوكيل ...
سمعت صوت تغريد عصفور شق سكون الجو ... و نبهني للوقت الذي يمضي ...
و الوقت الذي قد مضى ...
و الوقت القادم المجهول ...
كم سخرت الدنيا مني ... فهل من مزيد ؟؟؟
" صغيرتي ... أنا ذاهب ... "
رغد ظلت تنظر إلي و تبكي بغزارة ... و لم يكن باستطاعتي أن أمسح دموعها ...
استدرت موليا إياها ظهري ... لكن صورتها بقيت أمام عيني مطبوعة في مخيلتي ...
سرت خطى مبتعدا عنها ... نحو البوابة الرئيسية للفناء ، و فتحتها ...
قلت :
" اقفلي الباب من بعدي .. "
دون أن التفت نحوها ... فهو دوري لأذرف الدموع ... التي لا أريد لأحد أن يراها و يسبر غورها ...
" وليــــــــــد "
و كعصفور يطير بحرية ... بلا قيود و لا حدود ... و لا اعتبار لأي شيء ... أقبلت نحوي ...
استدرت ... و تلقيت سهما اخترق صدري و ثقب قلبي ... و بعثر دمائي و مشاعري في لحظة انطلقت فيها روحي تحلق مع الطيور المرفرفة بأجنحتها ... احتفالا بمولد يوم جديد ...
منذ الساعة التي أجريت فيها المقابلة الشخصية ، و طرح علي السؤال عن خبراتي و مؤهلاتي و عملي في السابق ، أدركت أن الأمر لن يكون يسيرا ...
حصلت على الوظيفة رغم ذلك بتوصية حادة من صديقي سيف ، الذي ما فتئ يشجعني و يحثني على السير قدما نحو الأمام
و خلال الأشهر التالية ، واجهت الكثير من المصاعب ... مع الآخرين .
بطريقة ما انتشر نبأ كوني خريج سجون بين الموظفين ، و تعرضت للسخرية و المعاملة القاسية من قبل أكثرهم
كنت أعود كل يوم إلى المنزل مثقلا بالهموم ، و عازما على عدم العودة للشركة مجددا ، إلا أن لقاءا قصيرا أو مكالمة عابرة مع صديقي سيف تنسيني آلامي و تزيح عني تلك الهموم ...
أصبح صديقي سيف هو باختصار الدنيا التي أعيشها ...
توالت الأشهر و أنا على هذه الحال ، و كنت أتصل بأهلي مرتين أو ثلاث من كل شهر ... اطمئن على أحوالهم و أحيط علما بآخر أخبارهم
علمت أن رغد التحقت بكلية الفنون و أن دانه قد حددت موعدا لزفافها بعد بضعة أشهر .. و أن والديّ يعتزمان تأدية الحج هذا العام ...
أما سامر ، فقليلا جدا ما كنت أتحدث إليه ، حين أتصل و يكون صدفة متواجدا في المنزل ، إذ انه كان يعمل في مدينة أخرى ...
في الواقع ، أنا من كان يتعمد الاتصال في أيام وسط الأسبوع أغلب الأوقات .
لقد تمكنت بعد جهد طويل ، من طرد الماضي بعيدا عن مخيلتي ، إلا أنني لازلت احتفظ بصورة رغد الممزقة موضوعة على منضدتي قرب سريري ـ إلى جانب ساعتي القديمة ـ ألمها ثم أبعثرها كل ليلة !
حالتي الاقتصادية تحسنت بعض الشيء ، و اقتنيت هاتفا محمولا مؤخرا ، إلا إنني تركت هاتف المنزل مقطوعا عن الخدمة .
أما أوضاع البلد فساءت عما كانت عليه ... و أكلت الحرب مدنا جديدة ...
و أصبح محظورا علينا العبور من بعض المناطق أو دخول بعض المدن ...
في مرات ليست بالقليلة نتبادل أنا و سيف الزيارة ، و نخرج سوية في نزهات قصيرة أو مشاوير طويلة ، هنا أو هناك ...
في إحدى المرات ، كنت مع صديقي سيف في مشوار عمل ، و كنا نتأمل مشاهد الدمار من حولنا ...
الكثير الكثير من المباني المحطمة ... و الشوارع الخربة ...
مررنا في طريقنا بأحد المصانع ، و لم يكن من بين المباني التي لمستها يد الحرب ... فتذكرت مصنع والدي الذي تدمر ...
قلت :
" سبحان الله ! نجا هذا من بين كل هذه المباني المدمرة ! ألا يزال الناس يعملون فيه ؟؟ "
أجاب سيف :
" نعم ! إنه أهم مصنع في المنطقة يا وليد ! ألا تعرفه ؟ "
" كلا ! لا أذكر أنني رأيته مسبقا ! "
ابتسم سيف و قال :
" إنه مصنع عاطف ... والد عمّار ... يرحمهما الله ! "
دهشت ! فهي المرة الأولى التي أرى فيها هذا المبنى ... !
أخذت أتأمله بشرود ... ثم ، انتبهت لكلمة علقت في أذني ...
" ماذا ؟ رحمهما الله ؟؟ "
سألت سيف باستغراب ، معتقدا بأنه قد أخطأ في الكلام ... قال سيف :
" نعم ... فعاطف قد توفي العام الماضي ... رحمه الله " |
|