الفصل الرابع : السباق 4 - السباق استرخى (خالد) فى مقعده، داخل مكوك الطوارئ، الذى ينطلق به نحو المحطة الفضائية العربية (م - 9) وراح يراجع الخطة فى هدوء للمرة العاشرة.. كان المفروض أن يصل به المكوك إلى المحطة، ومن هناك يحصل على جهاز دفع فضائى نفاث، من تلك الأجهزة البسيطة، التى يستخدمونها للسباحة فى الفضاء، عند القيام بعمليات رصد أو إصلاح خارجية، ثم يستعين بمركبة فضائية صغيرة، تنطلق به نحو القمر الصناعى، ثم تتركه على مسافة كبيرة منه، وعليه بعد هذا أن يدور حول القمر، والمكوك المتصل به، ويتجه نحوهما من الخلف، بحيث لا تنتبه إليه أجهزة الرصد.. وعندما يصبح داخل القمر، يبدأ الجزء الثانى من الخطة، حيث يوقف عمل أسلحة القمر الصناعى كلها، ثم يهاجم مكوك الفضاء، ويحاول إلقاء القبض على الجاسوس.. ولو أنه عجز عن هذا، فليس أمامه سوى الانتقال إلى الجزء الشاق من الخطة.. ذلك الجزء الخاص بنسف القمر والمكوك معاً.. إنه ما زال يذكر كيف تهدَّج صوت رئيس المخابرات الفضائية، وهو يناقش معه ذلك الجزء من الخطة.. لقد شرح له فى وضوح أن عملية نسف القمر الصناعى والمكوك غير مأمونة، وأنها قد تؤدى إلى عواقب وخيمة.. بالنسبة له وحده.. أو أنها عاقبة واحدة، لو شئنا الدقة.. ففى هذه الحالة، ونظراً لقصر الوقت، لن يكون أمامه سوى أن ينسف القمر والمكوك، و… وأن ينسف نفسه معهما.. قالها رئيس المخابرات الفضائية فى صراحة ووضوح، وهو يناقش معه الجانب الفنى للمهمة، ثم سأله : - والآن.. هل تقبل المهمة ؟ ولحظتها لم يتردَّد (خالد) قط.. لقد أجابه فى سرعة وحزم : - نعم.. أقبل المهمة يا سيدى. عندئذ صمت رئيس المخابرات لحظة، قبل أن يسأله فى حسم : مهما كان الثمن. شدَّ (خالد) قامته، وهو يجيب : - نعم يا سيِّدى.. ما دام الأمر يتعلق بشرف وأمن الوطن، فأنا أقبل المهمة، وأعد بأن أبذل قصارى جهدى فيها، وأن أقاتل للفوز، مهما كان الثمن. قالها، فران صمت تام على المكان، وتطلَّع رئيس المخابرات إلى عينيه مباشرة، ثم ربَّت على كتفه، وقال : - وفَّقك الله (سبحانه وتعالى) يا ولدى. استرجع ذهنُه الموقف كله، ثم تمتم : - إننى أحتاج إليه بالفعل.. أحتاج إلى توفيق الخالق عزَّ وجلَّ. ثم نهض، واستخدم بوصلته الفضائية لتحديد القبلة، وأخذ يصلى فى خشوع، دون أن يجول بباله لحظة واحدة أن وصوله إلى المحطة الفضائية سيحمل له مفاجأة.. مفاجأة مذهلة.. * * * انعقد حاجبا القائد فى شدة، عندما طالع تقرير الأمن، وسمع حديث رئيس القاعدة وهتف بضباطه : - هذا يعنى الكثير.. الكثير جداً.. منظمة (القلب الأسود) تمتلك مكوك فضاء، وتطلقه نحو محطتنا الفضائية.. ليس لدى تفسير لهذا سوى أنها محاولة لاحتلال (م - 9)، والسيطرة على المجال الفضائى. قال أحد ضباط أركان الحرب فى توتر : - لابد وأن نحذر طاقم المحطة يا سيدى.. صحيح أنهم يمتلكون أسلحة قتالية محدودة، طبقاً لقانون الفضاء العام، ولكنهم يستطيعون صدّ هجوم المكوك لفترة على الأقل، حتى يصل مكوك (خالد) ورفاقه، وهم مدربون على القتال، فى مثل هذه الظروف. لم يكد يتم حديثه، حتى صدر أزيز شاشة الاتصالات، وظهر ضابط الاتصال عليها، وهو يقول : - اتصال جديد مع (القلب الأسود) يا سيدى. هتف القائد فى لهفة : - أوصلنا به على الفور. لم تمض ثانية واحدة، حتى كانت صورة (بلاك هارت) تملأ الشاشة، بملامحه المخيفة فى دائرة الظل، وهو يداعب رأس النمر، قائلاً : - معذرة أيها السادة.. أردت أن ألتقى بكم على وجه السرعة، قبل أن تقدموا على أى تصرف أهوج أو أحمق. صاح به القائد فى غضب : - لماذا أطلقتم مكوكاً فضائياً نحو محطتنا يا (بلاك)؟ أشار (بلاك) بيده، وقال : - لا تجعل هذا يقلقك أيها القائد، فالمكوك يشبه تماماً مكوكاتكم العسكرية، ويحمل نفس الشعار، حتى أن رجالكم فى المحطة (م - 9) سيتصورون أنه أحدها، وسيستقبلونه فى اطمئنان. هتف القائد : - لن يخدع هذا رجالنا أبداً. أجابه (بلاك)، وهو يشير بسبَّابته فى برود ساخر: - هل تعتقد هذا؟ لم يكد ينطقها، حتى هوت حزمة ليزرية من الفضاء، وسحقت برج الإرسال فى القاعدة، فانفجر وأصدر دوياً هائلاً، امتزج بضحكات (بلاك) الساخرة الظافرة، وهو يضيف : - معذرة أيها السادة، فمنذ هذه اللحظة ستستقبلون رسائلى فحسب، ولن تكون لديكم القدرة على الرد، وطبقاً لحساباتى، سيحتاج الأمر منكم إلى سبع ساعات أخرى، لبناء برج اتصالات جديد، وفى هذه الفترة سنكون قد أحكمنا سيطرتنا على الموقف كله. وقهقه ضاحكاً، قبل أن يستطرد : - بالمناسبة.. لقد رصدنا عملية إطلاق مكوك الطوارئ، ويؤسفنى أن أبلغكم أننا سنكون بانتظاره، عندما يصل إلى المحطة الفضائية، وأعتقد أنه من الأفضل ألا تضيعوا وقتكم فى انتظاره، فلن يعود إليكم أبداً. قالها وجلجلت ضحكاته الشرسة فى المكان، وصورته تتلاشى تدريجياً، حتى اختفت، وتركت الجميع فى قاعة الاجتماعات، وقد خيَّم عليهم صمت ممزوج بالمرارة والألم.. مرارة الهزيمة.. * * * "وصلنا إلى المحطة (م - 9).. استعدوا للهبوط..". فتح (خالد) عينيه مع ذلك النداء، الذى تردَّد فى المكوك، فاعتدل، وأحكم رباط حزامه فى اهتمام، وسأل الملاح المجاور له: - هل شاهدت (م - 9) بالفعل؟ أشار الملاح إلى شاشة الكمبيوتر، وهو يقول : - ها هى ذى.. سنصلها بعد عشر دقائق على الأكثر. انعقد حاجبا (خالد)، وهو يتطلَّع إلى الشاشة، قبل أن يسأله فى اهتمام : - يوجد مكوك فضائى آخر هناك.. أليس كذلك ؟ ألقى الملاح نظرة على الشاشة، قبل أن يقول : - بلى.. ولكن هذا عجيب!.. لماذا لم يخبرونا بوجوده؟.. المهبط هناك لن يحتمل مكوكين معاً. ازداد انعقاد حاجبى (خالد) فى شدة، وتعلَّق بصره بذلك المكوك الثانى، وانطلقت الأفكار فى رأسه بسرعة البرق، قبل أن يهتف فجأة : - توقَّفوا.. لا تهبطوا فى المحطة. التفت إليه قبطان المكوك فى دهشة، قائلاً : - ماذا تعنى؟!.. لقد وصلنا بالفعل، ولا يمكننا ألا.. قاطعه (خالد) فى صرامة عنيفة : - لا تجادلنى يا رجل.. تراجع على الفور.. قم بتشغيل الصواريخ العكسية، وابتعد عن هنا بأقصى سرعة. حدَّق فيه القبطان بدهشة، وهمَّ بإلقاء سؤال ما، إلا أنه لم يلبث أن أطبق شفتيه، وتذكَّر أن ما لديه من أوامر يمنح (خالد) سلطة مطلقة فى اتخاذ القرار، فغمغم فى ضيق : - سمعاً وطاعة. وانطلقت الصواريخ العكسية بالفعل، وبدأ المكوك يدور حول نفسه، مبتعداً عن المحطة، و(خالد) يضغط أزرار الاتصال بالمحطة الأرضية، قائلاً : - من مكوك الطوارئ إلى المحطة الأرضية.. هناك مكوك آخر يحتلّ المهبط.. أريد تفسيراً.. أكرِّر.. كرَّر النداء عشرات المرات، إلا أنه لم يتلق جواباً، فى حين انبعث من أجهزة الاتصال بالمحطة الفضائية صوت خشن غليظ، يقول : - لماذا تتراجع يا مكوك الطوارئ؟.. كل شئ معدّ لهبوطك فى المحطة. هتف (خالد) : - هل يعرف أحدكم صاحب هذا الصوت؟ تبادل الجميع نظرات الدهشة، قبل أن يقول القبطان فى عصبية : - لم أسمعه من قبل قط!.. من هذا بالضبط؟ كان هذا الجواب يؤيد تماماً مخاوف (خالد)، الذى هتف : - ابتعد إذن يا رجل.. ابتعد بالله عليك. لم يكد ينطقها، حتى صرخ الملاح فى ذهول وارتياع : - المحطة تطلق صواريخها نحونا.. ماذا يحدث هنا؟ ومع آخر حروف كلماته، ارتجَّ المكوك فى عنف، وظهر انفجار صامت فى الفضاء(*)، فصاح (خالد) : - أربعون درجة إلى اليسار، وانطلقوا إلى الأمام بأقصى سرعة. قالها وهو يعدو نحو حجرة الطوارئ، فى محاولة لتشغيل أسلحة المكوك، الذى ارتجَّ بعنف أكثر، ثم اختل توازن الضغط والهواء فيه بغتة، على نحو كاد يعيد (خالد) إلى كابينة القيادة فى عنف.. وبكل قوته، تشبَّث (خالد) بباب حجرة الطوارئ، وبنظرة واحدة إلى الخلف، أدرك عمق المأساة.. لقد تحطمَّت النافذة الكبيرة لكابينة القيادة، وألقى الانفجار طاقم المكوك كله خارجها، فى الفضاء اللانهائى.. وكاد صدر (خالد) ينفجر، مع ذلك التغير المباغت فى الضغط والحرارة، ولكنه استجمع كل قوته، ودفع جسده داخل حجرة الطوارئ، وضغط زر إغلاق الباب، وهو يلتقط اسطوانة أكسجين، ويضع قناعها على وجهه بسرعة.. وفور إغلاق الباب، انطلقت أجهزة الطوارئ تعمل على الفور، لمعادلة الضغط والحرارة داخل الحجرة، وبرزت ثياب الفضاء الخاصة، فدفع (خالد) جسده داخل إحداها، وهو يغمغم فى مرارة : - قتلوا الجميع.. هؤلاء المجرمون قتلوا الجميع. ومن حسن حظه أن تعادل الضغط ودرجة الحرارة بسرعة، وإلا لانفجرت رئتاه، وتفجرت الدماء من عروقه(*) لكن حلة الفضاء، بخوذتها الزجاجية المستديرة، جعلته يتجاوز هذه الميتة البشعة، فى نفس الوقت الذى ارتجّ فيه المكوك بعنف للمرة الثالثة.. كان من الواضح أن هؤلاء، الذين احتلوا محطة الفضاء، قد قرَّروا نسف مكوك الطوارئ، تماماً، ما دام يرفض الهبوط عليها.. وبسرعة، غادر (خالد) حجرة الطوارئ، ودفع جسده دفعاً، وهو يسبح فى الفراغ، بعد انتهاء الجاذبية الصناعية داخل المكوك، متجهاً نحو مخرج الطوارئ، وهو يلتقط حبلاً طويلاً، ومطرقة معدنية كبيرة.. وعندما ارتجّ المكوك للمرة الرابعة، كان يعبر مخرج الطوارئ، ويسبح فى الفضاء، مبتعداً عنه.. ومن خلفه، انفجر مكوك الطوارئ.. انفجر فى صمت رهيب مخيف، على الرغم من الوهج العنيف، الذى صحب انفجاره، وتناثرت شظاياه فى الفضاء، وراحت تنطلق فى كل الاتجاهات، دون أن يوقفها شئ.. أى شئ.. أما (خالد)، فقد وجد نفسه يسبح فى فضاء سرمدى، بلا أجهزة توجيه، وجسده يبتعد عن محطة الفضاء بلا هدف.. وبلا أمل.. * * * أسند قائد القوات رأسه على راحتيه فى مرارة وأسف، عندما تلقى خبر نسف مكوك الطوارئ، وغص حلقه بسخط لا حصر له، ورئيس القاعدة يقول فى ألم : - كان ينبغى أن نتوقع هذا.. لقد فشلت المهمة قبل أن تبدأ. هتف به رئيس المخابرات : - اصمت بالله عليك. عقد رئيس القاعدة حاجبه، وهو يقول فى صرامة : - أى قول هذا؟.. إننا رجال حرب، والمفروض أن نواجه المواقف بكل الواقعية والحزم، وأن نبحث الخطوة التالية دائماً، دون أن نتوقَّف لحظة واحدة لنبكى على الماضى. رفع قائد القوات عينيه إليه، وقال : - أنت على حق.. لقد وضعنا الكثير من الثقة فى جيش من رجل واحد، وركَّزنا جهودنا كلها على خطة محدودة.. لقد أخطأنا أيها السادة، ومن الضرورى أن نعترف بهذا. قال رئيس المخابرات فى توتر : - لم يكن لدينا خيار آخر. ألقى قائد القوات نظرة على ساعته، قبل أن يقول فى أسف ومرارة : - ولم تعد لدينا فرصة للقيام بمحاولة أخرى.. لم يعد أمامنا سوى أن نعيد دراسة الموقف، وأن ننتظر رد فعل (بلاك هارت). ثم زفر فى مرارة عنيفة، مستطرداً : - ويا له من موقف!.. وفى هذه المرة، ران على المكان صمت ثقيل.. صمت لم يقطعه أحد.. قط.. * * * راح جسد (خالد) يسبح فى الفضاء ببطء، مبتعداً عن المحطة الفضائية، مع الموجة التى صنعها الانفجار، وأدرك عقله بسرعة أنه لو لم يجد وسيلة للتوقَّف، فسيظل جسده يسبح مبتعداً إلى ما لا نهاية، بتأثير القصور الذاتى(*).. وبكل خبراته السابقة، راح عقله يعمل ويعمل، فربط طرف الحبل فى ذراع المطرقة، وألقى المطرقة نحو المحطة، مستغلاً النظرية نفسها.. ولانعدام المقاومة تقريباً فى الفضاء، انطلقت المطرقة نحو المحطة الفضائية بلا توقُّف.. وأصبح الأمر أشبه بسباق عجيب.. جسد (خالد) يبتعد عن المحطة، والمطرقة تتجه إليها.. وكان الأمر يعتمد على سرعة الحركة.. وعلى طول الحبل.. وفيما عدا هذا، لم تكن هناك وسيلة واحدة، يتحكَّم بها (خالد) فى حركة جسده، وكل ما يحيط به مجرد فراغ.. فراغ لا نهائى.. وفوقه، تألَّقت الأرض ككوكب ضخم مضئ، مع انعكاس ضوء الشمس البعيد عليها.. هذا لو أن ظرف المكان يتناسب مع فراغ سرمدى كهذا.. ثم انحسم السباق.. لقد بلغت المطرقة المحطة، قبل أن ينتهى طول الحبل.. وفى حذر خبير، جذب (خالد) الحبل، وراقب المطرقة من بعيد، وهى تنزلق على سطح المحطة، محاولاً تعليقها بأى جزء بارز منه.. ولقد نجح.. أمسكت المطرقة بأحد أنابيب الحرارة الخارجية، المنتشرة على سطح المحطة الفضائية، وتوقَّفت حركتها، وأصبح بإمكان (خالد) أن يجذب جسده بواسطة الحبل، حتى يصل إلى المحطة.. وفى بطء، راح يقترب من المحطة الفضائية متراً بعد آخر، حتى لم يعد أمامه سوى سبعة أمتار، و… وفجأة أفلتت المطرقة، واندفع جسده مرة ثانية إلى الخلف، وابتعد عن المحطة.. لقد خسر بغتة فرصته الأخيرة.. والوحيدة.. * * * |
__________________ - عـــنـــدما أشتاق لكِ
- و لا أستطيع الوصول إليكِ..أخبريني يا صديقتي بالله عليك
- بأي حق هذا؟؟
- أكاني كودو..كنتي و لا زلتِ توأم روحي و نصفي الثاني
- فإن وصلتكِ رسالتي فواصليني..
- فوز<<<ملاكـ العناد
التعديل الأخير تم بواسطة ~ رحيق الأمل ~ ; 11-22-2015 الساعة 12:30 AM |