"افردْ جناحيكَ و حلقْ "
أأفردُهما الآن؟لا أظنُ أنه بإِمكانِي التحليق ،فأَنتِ مَا غدَوتِ بجانبي.
حتى و إن حَاولتُ أن أُحلقَ فلنْ أستطيعَ،فروحُكِ بعيدَة..بعيدة.
كُنتِ تقولينَ أنه ليسَ مستحيلاً ،ليس مستَحيلًا أن أحلُم.
لكنَه غدَا مستحيلاً الآن..من بعدِكِ،عزيزتِي.
"افرِدْ جناحيْكَ و حلِق "
..أعلى تِلكَ الأكمة الباسقة وَقَفَ،بجسدَهِ العجَاف الصغير،و وَجههِ الواهنِ،محدِقًا بعينيهِ الجاحظتين ذواتِ الشحوب الجليِّ و البراءة الطفولية الواضحة بالأفق ،بالشمس التي ما كادت تبزغُ إلَّا تلك الأشعة الطفيفةُ التي كانت تزجي بها لتنير وجه البسيطةِ بعدَ ليل طويلٍ.
تقدمَ بضعة خطوات متلاصقةٍ،حتى يقتربَ أكثر من الحافة الصخريَة المنيفة،و يلقي بناظريه للأسفلِ،ليرمق ذلك المكان الذي سيكون مقبرته،سيفتح أحضانه ليستقبل أحلامه،آلامه،و ربما قطعًا من جسدهِ كذلك.
ألقى نظرة أخيرة على صروح المكان،لم يسترجعها إلا مبللة بعبراتهِ،ليطبقَ جفنيه بعدها،لتكون هذه ربما هي إطباقتهما الأبدية..
"لكنني لا أستطيع التحليقَ ! "
"بلا تستطيع ! أحلمْ فحسب "
قالَ ببراءة أطفال و هو يمسكها من تنورتِها الغجرية المفعمة بالألوان،متمسكا بها بيديهِ الصغيرتين،هائما بناظريهِ في ابتسامتها الواسعةِ الجميلة.
نزلتْ إلى مستواهُ لتحملهُ و تضعهُ على كتفيهَا دون أن تفارقَ الابتسامة وجهها المشرق ذو السمرة المحببةِ و العينين السوداوتين الواسعتين الوديعتَينِ،و تشيرَ نحو الأمامِ بمرحٍ مردِفَة:
"أجل..! أَترى تلك الطيور؟أخبرتني ذاتَ يومٍ أنها لم تكن تطير،بل كانت تسير على سطح الغبراءِ مثلنا،لكن كان هناك طائر صغير،لا طالما تعلق بالسماءِ و رغب بالتحليقِ بها،و أصرَّ على حلمِهِ ذاكِ،إلى أن جاء يوم،أصبح الطيران صفة العصافير و الطيورِ،أتَرَى؟!حتى و إن لم يكنْ باستطاعتنَا الطيرَان في الحقيقةِ،يمكننا أن نَحلمَ بهذا"
أخذَ يحدقُ في الأفق من أعلى تلك الربوة،من أعلى كتفيها،منبهرًا بكلماتها التي كان لها صدى عميق على قريحتهِ،فكرَ برهة زمنِ بما قالتهُ،لتشق الابتسامة طريقها على وجهه الطفولي البريء،و يصدح صوته الرقيق هاتفًا:
أمسكتهُ من كفيهِ بقوة مبتسمة بغبطة عارمة،لتردف:
لتنزله من على كتفيها،و تجثُو بجوارِه على ركبتيها معانقةً إياه بحرارةِ،مضيفةً و قد تجمعت الدموع في مقلتيها:
"أعدُكَ،لن اترككَ هنا،سوف تعيشُ بني،لَن أسمحَ لهُم بسرقةِ ضحكتكَ هذه أبدًا"
سألها ببراءة و هو يمسحُ دموعها من على وجنتَيها،أمسكتْ يَديه و أخذت تقبلهما بحبِ،لتضمهُ بعدها بقوةِ إلى صدرها و تقول:
"لا تخفْ صغيري،لا شيء،لكن عِدنِي،أنكَ ستحقق أحلامكَ مهما حصلَ"
"أعدكِ أمي،لكن أرجوكِ لا تبكِ "
ببراءَة أطفال و بنبرة بكَاء وعدَ أمهُ،على تلك الربوة نفسها.
"اِبتعدْ بني،لا تقتَرِبْ أرجوكَ..!"
ركلَهُ بقوة و حنق بعيدًا،ليرتطم جسده الصغيرُ بإحدى الصخورِ على تلك الربوةِ،نزف دمًا،لكنه وقف على قدميه الهزيلتين و عاد ليدافعَ عن أمهِ،التي كانت بين أيدي مجموعة من الجنود الفرنسيين المدججين بالسلاحِ،مواجهين جسدها الأعزلَ،يجرونا بسلسالهمْ تحت وقع الشتائم اللاذعة،تحت وقع صراخها..مناجاتها.
"تبًا لكِ أيتها الحقيرة اصمتِي"
صفعها ذلك الجنديّ الوغدُ إلى أن سقطت أرضًا،لينهالَ عليها رفقائهُ السفلة بالضربِ أمامَ مرأى ابنها الواهن الضعيف.
لقد كانوا مجموعة جنودِ سُكارى لم يجدوا في طريقهم إلاَّ هذه المرأة الريفية الشابةَ وحيدة اعلى ربوة منعزلة هناكَ،فقرروا ارغامها على الذهابِ معهم.
"لن آتيَ معكمُ أيهَّا الأنذال!"
قالتْ و هي تقاومُ ضرباتهم،بوهن و صوت مبحوح بالكادِ يصلُ مسامِعَهُم،و في لحظة طيش،سحب أحدهم سلاحهُ،ليصيبها برصاصه الطائش خطأً.
صرخَ،و هو يحدق بوجهها الذي لا طالما عهدهُ مبتسمًا،لم يغدُو مبتسمًا كالعادة،بلا ملامح،جامدًا،و قد تبعثر شعرها الأسودُ الغزير.
فَرَدَ يديهِ في الهواءِ،على حافة الربوة تلك،مطبقًا جفنيه،بجسده الطفولي الصغير،وحيدًا هناكَ،ليترك نفسه يهوي من أعالي تلك الربوة المنيفة..لتتهشم أحلامه،آماله البريئة،ذكرياته البسيطة.
"فَرَدْتُ جَنَاحيَّ..لكنَنِي لمْ أُحَلِقْ..أمي"