هل يصح قول من يقول إن الصوفية أنواع تكلم الناس في التصوف والصوفية وبيان حقيقة حالهم وأمرهم، ومن المهم ملاحظته أنه يوجد في التصوف والصوفية من الاختلاف والتباين ما يستدعي مراعاته عند بيان حقيقة أمرهم، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن الصوفية ثلاثة أصناف، صوفية الحقائق، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسم.
وذكر أن أصل أمر التصوف كان من المبالغة في التزهد والتعبد، وكان أكثر ذلك بالبصرة، وأنه اختلف أهل العلم في ذمهم ومدحهم، قال: «والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل الطاعة، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، ومن كل الصنفين من يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب.
ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه.
وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة .....»(1).
وبهذا يظهر أن وصف شيخ الإسلام لهؤلاء بأنهم القسم المحق أو صوفية الحقائق إنما هو بالنظر إلى القسم الآخر، وليس المراد أنهم على حق وصواب في كل ما ذهبوا إليه، ولكن المراد أنهم ممن قصد الحق وتحراه، ولكن حصل منه في اجتهاده خطأ أو ضعف، وهو في ذلك كسائر أهل الإسلام الذين يخطئون فيما يقصدونه من الخير والطاعة.
ولذلك وجد في كلام أولئك المتقدمين منهم كلام كثير جيد، ووجد فيه أيضاً ما ينكر عليهم، وهكذا في أفعالهم أيضاً، فمنها ما هو موافق للسنة ومنها ما هو مخالف لها، كتعذيبهم لأنفسهم وغير ذلك مما لم يكن عليه الصدر الأول.
ويقول الشيخ أحمد بن حجر رحمه الله أن الصوفية قسمان:
«قسم محقون، وهم الذين تقيدوا بالكتاب والسنة، ولم يتجاوزوهما، وكل ما في الأمر أنهم غلبوا جانب الآخرة على الدنيا، كالجيلاني(2) والجنيد(3) وسهل التستري(4) وأمثالهم.
وصوفية مبطلون، وهم الذين يخالفون الكتاب والسنة، ويتعدون حدودهما، ويأتون بعقائد ما أنزل الله بها من سلطان، وبأعمال مخترعة يتبرأ منها الكتاب والسنة المطهرة منها، كاعتقادهم بوحدة الوجود، واختراعهم أذكاراً، واحتفالات يمتزج فيها الذكر بالرقص، ويختلط فيها الرجال والنساء، ويدق فيها الطبول، وتنشر فيها الأعلام، ويأتون بالمخاريق كضرب أنفسهم بالسكين والخنجر وأكل النار، اللهم اهد عبادك إلى الصراط المستقيم»(5).
قلت وهذا تقسيم عام، يتميز فيه أولهم عن آخرهم، من دخلت عليهم بعض المخالفات مع حسن المقصد، ومن زاد انحرافهم وانحرفت عقائدهم حتى خرجوا من الدين، أو كادوا، وكل من هؤلاء وهؤلاء درجات وأقسام.
ومما ينبغي التنبه له أن التصوف بالمعنى الأول وهو التزهد والتعبد لا يمكن الآن إطلاقه على مجتمع الصوفية أو شيء من طوائفهم، وإن كان قد ينطبق على بعض أو كثير من الأفراد ممن ينتسب إليهم أو لا ينتسب إليهم.
فإنه ومن زمن طويل أصبح التصوف عبارة عن طرق ومذاهب استقلت بعقائدها ومصادرها عن أهل السنة، وأظهرت المخالفة لهم في اعتقادات كثيرة وطقوس عديدة لا تمت إلى الكتاب والسنة بصلة، ولذلك يقول الشيخ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه «تحذير المسلمين» معرفاً بالصوفية، عندما أراد التحذير من مبادئهم وبدعهم:
«نشأت الصوفية بعد منتصف القرن الثاني الهجري، والتصوف عقيدة فلسفية قديمة، نشأت قبل الإسلام في الفلسفة الإشراقية المنسوبة إلى أفلوطين، والفلسفة الهندية القديمة، والعقائد البوذية والفارسية والنصرانية.
ولما جنح بعض المسلمين في أوائل القرن الثاني الهجري إلى الزهد والإعراض عن الدنيا، وبدؤوا يختلطون بغيرهم من الأمم بعد الفتح الإسلامي، انتقلت مجموعة من الفلسفات والعقائد غير الإسلامية إليهم، وامتزجت بأفكار(6) الزهاد المسلمين، وتحول الزهد إلى تصوف، وأقام الصوفيون من المزيج الجديد نهجهم في الحياة.
وبدأ التصوف يظهر بأنه منهاج غايته فتح القلوب على علوم غيبية، لا تتلقى عن الرسل، بل تتلقى في نظر معتنقيه بطريق الكشف عن الله رأساً، ثم التحقق بعد ذلك من أنه لا موجود في الكون إلا الله.
وبذلك يصبح العبد هو الرب، والرب هو العبد، بل الكل شيء واحد في الحقيقة، متفرق في الصورة فقط، وطريق الوصول إلى هذا العلم الغيبي (الكشف) هو المجاهدة بصور كثيرة، تختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص، ولكنها في كل صورها تجمعها أمر واحد، هي تعذيب النفس، وترديد أذكار معينة»(7).
وهذه العبارة مع اختصارها، إلا أنها أعطت صورة دقيقة عن مبدأ أمر التصوف وتحوله بما دخل عيه من الفلسفات القديمة، ومصدر هذه الأفكار الدخيلة أيضاً، وما وصل إليه بعد ذلك من البدع والضلال، وطريق تدرجه إلى أن وصل إلى ما وصل إليه.
ومن تأمل الدراسات الموسعة عن الصوفية والتصوف، يجد أن هذه العبارة تشير إلى الحقائق التي تثبتها تلك الدراسات، وانظر على سبيل المثال: التصوف المنشأ والمصدر، وكتاب: دراسات في التصوف(8)، وكتاب: المصادر العامة للتلقي عند الصوفية(9)، وهذه هي الصوفية(10).
---------------------------------------------------
(1) مجموع الفتاوى: (11/18).
(2) هو عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله جنكي دوست الجيلي البغدادي، تفقه على أبي سعيد المخرمي وسمع أبا غالب الباقلاني وأحمد بن المظفر بن سوس وجعفر بن أحمد السراج وغيرهم، ولد في سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، وتوفي في سنة واحد وستين وخمسمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء: (20/439).
(3) الجنيد بن محمد الخراز، ويقال له القواريري لأن أباه كان يبيع الزجاج، أصله من نهاوند، ومولده ومنشؤه بالعراق، تفقه على أبي ثور، وهو من شيوخ الصوفية، صحب السري السقطي والحارث المحاسبي، توفي عام سبع وتسعين ومائتين.
طبقات الصوفية للسلمي ص: 155، سير أعلام النبلاء: (14/66).
(4) هو سهل بن عبد الله بن يونس أبو محمد التستري، قال الذهبي: الصوفي الزاهد صحب خاله محمد بن سواء ولقي في الحج ذا النون المصري وصحبه، وقال له كلمات نافعة ومواعظ حسنة، وقدم راسخ في الطريق، توفي سنة 283.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي ص: 206، سير أعلام النبلاء: (13/330).
(5) تطهير الجنان والأركان ص: 10، وانظر: تنزيه السنة والقرآن ص: 27-28.
(6) في الأصل: «أفكار».
(7) تحذير المسلمين ص: 124، وانظر: البابية والبهائية ص: 4، الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر ص: 202، مجموع فتاوى ومقالات وخطب الشيخ أحمد بن حجر رحمه الله: (12/26)، العقائد السلفية: (2/269).
(8) كلاهما للشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله تعالى.
(9) للشيخ صادق سالم صادق، وانظر أيضاً: مصرع التصوف للبقاعي، ومصرع الشرك والخرافة لخالد الحاج، وغيرها كثير جداً.
(10) للشيخ عبد الرحمن الوكيل. -------------------------------
__________________ إن كانت غزوة أحد قد انتهتْ
فإن مهمة الرماة
الذين يحفظون ظهور المسلمين
لم تنته بعد..!!
طوبي للمدافعين عن هذا الدين كل في مجاله،
طوبى للقابضين على الجمر،
كلما وهنوا قليلاً
تعزوا بصوت النبيِّ
صل الله عليه وسلم
ينادي فيهم:
" لا تبرحوا أماكنكم " ! |