أنين الذكريات ينخر الجسد..
فرفقاً بالقلب أيها الحنين..!
في غمرة لحظات السعادة التي شحت علينا..تتقافز لعقولنا بمساعدة الحنين صورُ لماضِ راح ولن يَعد.ماضٍ تناسيناه لكي نستطيع الأستمرار بالحياة،ماضٍ نقاوم الحرقة التي تجتاحنا حين نفكر به..حين نحاول عدم التأثر به مهما مرّ عليه من الزمن فهو ما زال حاضراً بالذاكرة كأنه حدث البارحة لا قبل أيام،سنوات،عقود او حتى قرون !
مؤلم أن تتذكر تلك الأيام المزرية التي كنت بها بعد أن توارى تحت تربان المقابر من تحب وقد آخذه وحش الموت منك وأنت لم تشبع منه..لم تودعه جيداً..لم تقبل الوجنة التي تلامس الآن تربةً بتَ تغار منها بسبب ذلك..أيام كنت أنت كالشبح الهائم في فضاء اللاتصديق..! تأبى مفارقة سعادة عشتها مع من مات فكيف لو كان من مات أقرب الأشخاص إليك..؟ اكثرهم فهماً لك..!
اتستطيع بعد عدة أيام كأسبوع مثلاً او ربما شهر نسيان فقدك له وتستمر بحياتك دون أن تلتفت بظهرك لشبح ذكرياتك..؟!
وقفت أمام البحر الهادر بأمواجه العاتية كأنها تصارع للبقاء على قيد الحياة والرياح تعصف بقوة جعلتها تشد المعطف الأسود من حولها..تطلعت بِعيونها الدهماء الممتلئة بالدموع الشفافة التي تبدو دافئة مقارنة بجو أواخر ديسمبر..! إلى الشمس التي بدأت تغيب بلونها القرمزي وقد بدأت نجيمات صغيرات تظهر في السماء الحمراء والتي بدأت تَسوّد..ناشدتها بصمت متألم طالبةً السلوى منها للهرب من ذكرياتٍ قاسية..دموية..ذكريات ماضٍ ذهب ولم يعد آخذاً معه احد أهم الأشخاص في حياتها السابقة..ماذا تفعل لتنسى تلك الذكريات التي تطعن قلبها بسكين من حديد مكوي بنار فتزيد من ناره المشتعلة..لم تكن تستطيع فعلَ شيء سوى المراقبة..لم تستوعب وضعها إلا عندما سقط من تحب أمام عينيها مضرجاً بدمائه القانية اللزجة..حينها استوعبت شيئين..وضعها الذي كانت فيه وفقدانها رغبتها بالحياة حين رأته يسقط وتتلقفه الأرض بدل ذراعيها..!
أيعقل أن الذكرى تعذبها اكثر رغم مرور الأعوام عليها..سبع سنوات مرت وما زال الألم يزداد قسوة وتمزيقاً لاحشائها..شهقة خرجت من بين شفتيها لتتبعها شهقات آخرى أحرّ منها وأقوى لتجاهد لتسحب انفاسها المخنوقة وتبلع غصة بؤس أصرت أن تثبت في بلعومها مانعة عنها الكلام او حتى ابتلاع ريقها اليابس..إلا انها قاومت تلك الغصة لتخرج حينها صرخة عالية اخترقت الجو الذي أحاط بالبحر وتردد صداها فبدت كصرخة ذئب جريح في قفص صياده وهو يرى من بين قضبان سجنه ضوء القمر يتلألئ..سقطت على الأرض من شدة إرهاقها وعيونها زائغة تتطلع بلا تركيز في نقطة وهمية فوق البحر..! تتذكر بالتفاصيل المملة ما حدث كانها تعيشه الآن..!
"" فتحت عينيها السوداوين ببطئ بسبب الألم الذي تحس به..أحست بشيء دافئ يسيل بجانب رأسها ومن فوق اصابعها..ارادت التحرك لكنها لم تستطع لأن يديها وقدميها مربوطة الى الكرسي من الخلف..تأوهت بصوت منخفض وصل الى سمع المربوط بنفس وضعيتها والذي كان مستيقظاً..
همس بصوت متحشرج بسبب الألم الذي آلم به:هل أنتِ بخير جوري..؟!
بالكاد استطاعت الكلام من بين شفتيها المتشققتين:انا بخير جاك.هل أنتَ بخير..؟ سكتت قليلا تعطي الوقت لعينيها اللتان كانتا تتجولان في ارجاء المكان الذي هما فيه.عقلها كان يعمل يحاول الاستيعاب لكن حبذاً..اردفت بقهر ويأس بعد أن سمعت هسمه الخافت بأنه بخير :أين نحن جاك لقد بدأت أخاف!
اجابها بنفس التعب وعينيه تزاول نفس ما تزاوله عينيّ جوري:لا أتذكر سوى إننا كنا نتمشى بالحديقة ثم ضُربنا من الخلف وسقط مغشياً علينا..
همهمت جوري بانها فهمت..التقطت اذنيها اصوات لأقدام تقترب منهما..فجأة انقشع الظلام وظهر امامهما رجل كبير بالسن..رجلٌ وسيم ..شعره كان اسوداً تتخله تلك الفصل البيضاء التي تدل على بدأ فترة كبره..رشيق الجسد متناسق القوام..جالت عينيها على ملابسه يرتدي بدلة رجال الأعمال كحلية اللون وتبدو غالية الثمن..عادت الى وجهه..عيون حمراء غريبة تشبه عيون مصاصي الدماء..!
اقشعر بدنها حين رسم على شفتيه ابتسامة مقززة رغم انها جميلة..تكلم بصوت هادئ ظاهريا خبيث باطناً:اهلاً وسهلاً بكما..جاكسون..جوري !
صمتَ قليلاً ليردف بمكر:أنت تتسائلون الآن لما أنتما هنا..؟ اممم سأجيبكم لكن بعد آن نقدم واجب الضيافة..!
اتبع ذلك لحسه بلسانه طرفي شفتيه ثم آمره رجلاً ضخماً واقف ورائه بأن يفعل شيئاً لم يسمعاه لأنه قاله بصوت منخفض..!
تقدم الضخم من جاك ولكمه في بطنه لتسيل الدماء من فمه..لكمة جعلت جوري تصرخ بقوة كأنها من تلقتها..تلا ذلك تقدمه من جوري وصفعه لها بقسوة ادارت رأسها للجانب الآخر..ابتسم الرجل المهندم بينما عاد التفت الضخم ليقوم بفتح الحبال التي تربط يدين وقدمي جوري وجاك بالكرسي..
دلكت بأصابعها على معصمها المحمر من الدماء التي تسيل من ذراعها..ثم وضعتها على قمة رأسها والتي تسيل دماءاً ايضاً.تقدمت من جاك تطمئن عليه وقلبها قد تعدت دقاته الملايين..: هل أنت بخير..؟
اجابها دون ان يزيح عينيه من عيني الرجل الذي امامها وهو يمسح الدماء من شفتيه:انا بخير صغيرتي..الاهم الآن..اكمل كلامه موجهه الى الذي امامه:"من أنت..؟ ولمَ نحن هنا..؟!"
صفق بيديه ضاحكاً بخبث وهو يقول:انت رائع..انك حتى لم تصرخ من تلك الضربة.."
ليردف بمكر بينما بدا صوته متألماً قليلاً:من انا لا تعرفوني لكن انا اعرفكم..اما لمَ انتم هنا فهذا خطئكم..لقد حذرتكم منذ يومين لكنكم لم تستجيبوا..!
تمتمت جوري بلا تصديق وقد توسعت عينيها:انت صاحب رسالة التهديد تلك..؟!"
نظر لها جاك بلا فهم ليقول بخفوت:"أي رسالة جوريتي..؟!"
همست له بتشتت وعقلها يفكر محاولاً ربط الأحداث:رسالة جاءتني قبل يومين كان بها اعتراف حب واعجاب لي اضافة لتهديد بقتلك إن لم اصبح صديقة صاحب الرسالة..ظننتها مزحة فلم أهتم لها وقد اخبرني والدي أن اتركها لأنها من احد التافهين !!"
اكملت تكلم الواقف امامها:لك..لكن كيف..انا لا أعرفك ولم اقابلك بحياتي..؟!"
قهقه الرجل بلا مرح ليقول بشرّ:"انا داميان..اخي هو صديق جاك..هو لم يعرفني لأنه لم يقابلني يوماً ولا يعرف ان اخ صديقه..رأيتك مرة معه ووجدت نفسي اعشقك وقد قررت ان اعترف لكِ واتزوجك لكنك لم تفارقي هذا الصعلوك الذي بجوارك..أرسلت لكِ الرسالة ولم تهتمي "
همهم جاك بعدم فهم وصدمة:"من هو اخاك..؟!"
تمتم داميان:"لقد مات اخي منذ زمن..والان يجب عليك الموت..انتِ وحبيبك هذا !"
قالت بلا استيعاب:"من هو حبيبي..أتقصد جاك..؟! هو ليـــ..."
لم يمهلها الوقت لتتحدث بل رفع مسدساً كان يمسكه واطلق رصاصة تجاهها لكنها لم تصبها بل اصابت جاك الذي ركض ليقف امامها متلقياً الرصاصة بدلها..همس لها قبل أن يسقط على الأرض جثةَ هامدة تسيل منه الدماء:"اهتمي بنفسك وبزوجتي وطفلي داني.."
بقيت لثوان تحدق به وهو على الأرض لا يتحرك..ايقظها من شرودها ضحكات داميان الخبيثة لتنظر له بعيون محمرةّ وقد تجمعت بها الدموع..تقدمت بسرعة منه هو ومن معه وضربته بل لقنته درساً لا يٌنسى إذ انها ضربته بكوعها على صدره بقسوة ثم بقدمها على رجليه وعاجلته بقبضة على وجهه وانفه ثم امسكت رأسه وضربته بالأرض وفعلت المثل مع الآخرين..ومع آخر ضربة له سمعت صفارات الشرطة تعلو..ابتسمت بأطمئان لتسقط على الأرض مغمياً عليها.."
تنهدت جوري وهي تحاول مسحَ دموعها من عينيها اللتان تمطران إلا انها لم تستطع فقالت بألم:
-عندما استيقظت من الغيبوبة التي كنت بها..كان موت جاك حقيقة لم استوعبها وكذبت ذلك..كنت أراه امامي يبتسم لي..لم أعي إلا بصفعة من ليون صرخ بي بالحقائق كلها..انا مذنبة انا من قتلت جاك فكيف سأربي طفلاً ينمو الآن بأحشائي وانا مجرمة..
كان هذا صوت ادوارد الغاضب البائس..تقدم من مكانه والذي كان خلفها إذ تركها تنفس عن ألمها..لا ينكر ان فضوله هو ما منعه عن ايقافها حين كانت تسرد القصة عليه..اراد بشدة معرفة من كان جاك الذي يموت غيرة منه..لكنه الآن يلعن شيطانه وفضوله..جاك الذي كرهه هو من انقذ حبيبته وجورية قلبه..امسكها من ذراعيها واوقفها وهي منكسة الرأس تعبة ثم سحبها لحضنه يدفئها بهذا الجو..تركها تبكي على صدره لحين شعر بأنفاسه تهدأ ودموعها تتوقف..تكلم بصوته الهادئ الذي تعشقه:"حبيبتي انت لا ذنب لكِ بهذا..لذا أرجوكِ يكفي..بل يجب ان تفرحي لأنك الآن حامل..نحن اكتشفناه اليوم وهي ذكرى وفاة جاك..سيكون جاك جديد بيننا إن كان ولداً..حبيبتي انظري من هذه الناحية.."
رفعت عينيها المنتفختين له فبدت بصورة مثيرة امامه..كحل عينيها قد سال وشعرها الغجري يتطاير من بين ذراعيه اللتان تحيطانها..ابتسم حين قالت:ستسمح لي ان اسميه جاكسون..!
قهقه بصوت عالي بينما عبست هي..زاد من احتضانها ليقول بهمس:"مالكة قلبي ومهجة عيني..هو طفلك سميه ما تشائين..ليردف بعبوس وغيرة حين رأى سعادتها:"لكنك لن تدليله كثيراً لأني سأعتبرها دلالاً لجاك الكبير وانا اغار.."
ضحكت عليه بينما تقول بانفاس لاهثة من الضحك:"انت حبيبي يا اهوج.."
ضحكا معاً ليمسك ادوارد يدها ويآخذها لسيارته التي رصفها قريباً من الشاطئ..فتح لها الباب وانحنى كالأمراء بينما هي تدخل..جلس بجوارها وراء المقود يمسك بأحدى يديها بيد والاخرى يقود السيارة بيد بسلاسة..سألته بفضول:"الى اين نذهب..؟!"
ابتسم ابتسامة ملائكية وعينيه تبعث لها رسائل حبه:"الى الســعــادة...!"
يتبع ×