عرض مشاركة واحدة
  #119  
قديم 10-30-2014, 03:58 PM
 
كانَ الثّلاثينيّ ذو الشّعر النّحاسيّ و العينَين الأبنوسيّتََين واقفاً يتأمّل العشبَ المزركش بزهراتٍ هنا وهناك , في الفَسحةِ الأماميّة لمنزله , عندما استرعَت لورا- المُستعيرةُ لونَ شعرِه -انتباهَهُ بقولها:
-أبي
-ماذا تريد صغيرتي ؟
بذاتِ دِفء تلكَ الظَّهيرةِ ردَّ , فتمشّى اِنزعاجٌ طفوليّ على محيّاها عبّرتْ عنه مِن فورِها:
-أنا لستُ صغيرة
انحنى لمستواها وحملها بين ذراعيه قائلاً بنبرة مُتسليَّة:
-إذن ما الذي تريدينَه أيّتها الكبيرة ؟
أجابَت بجماسٍ و عيونها الزّرقاء تحدّق لأعلى بألقٍ بَهيج:
-أريد أنْ أُحلّق في تلك السّماء الصّافية !
سألها بشيءٍ مِن الجدّيّة هذه المرّة:
-وكيف هذا ؟فأنتِ لا تملكين أجنحة .
بتفكُّرٍ أجابَت:
- قال معلّمي أنّنا نستطيع التّحليقَ إذا رسمْنا طريقاً بين الأرض والسّماء.
ساءَلَها بنفس أسلوبِها:
- ما الذي تقصدينه؟ كيف هذا ؟!

تنهّدتْ...لِمَ عليها شرْح كلّ شيء؟!

-الأحلام .إنّها الأحلام يا أبي ... هي الطّريق التي سنرسمُها لتوصلَنا إلى السّماء .
مالَ برأسه باسماً أمامَ تباطُئِ فيلَسوفَتِه- كما لو انّها تُلَقِّن طفلاً- و استمرّ يناقِشُها:
- ماذا ستجدين هناك ؟
-السّعادةَ.. بعيداً عن الحزن والشّقاء. هكذا قالَ لنا الأستاذ
مزيجُ اهتمامٍ و استغرابٍ تهادى مع رنّتِه :
- في هذا العمر أنتِ ... ماذا تعرفين عن الحزن والشقاء؟!
بنبرةٍ حالمةٍ ردّدت , كأنّها تُناجي اللاّ حدودَ فوقَهما:
-أنَّ هذه االمشاعر تجعلُ القلبَ يتألّم ، يصرخ , ولا تندملُ جراحُه.
سحبَ الأبُ نفَساً عميقاً , و الكلماتُ تتغلغلُ في روحِه فتُلامِسُها ,لتنبعِث مع زفيرِه تأثُّراً:
-أخمّنُ أنّ هذا ما قالَهُ المعلّم أيضاً. صح؟
بِبَراءةٍ أعلنتْ:
-نعم ,وأنا أحبُّ معلّمي جدّاً ,بل وكلّ الطّلاب يحبّونه أيضاً!

فكّرَ الأبُ كيف أنّ الحياةَ لا بدّ قَدْ أثقلَت كاهلَ ذاكَ الرَّجل بالهُموم. قبلَ أن يسترسِل طويلاً في أفكارِه أتى الصّوت النّسائيّ مُحبّبُ الحِدّة-مِن خلال نافذة المطبخ :
-هيه أنتما! الغداءُ جاهِز فهيّا تعالَيا.

قبّل الأبُ وجنتَيّ صغيرَتِه مُنزلاً إيّاها أرضاً وهو يهمِسُ بمَرَح:
-لا تُخبري أمّك عن رغبتِك تلك . فلْتَكُن سِرّاً بيننا .
أشارَ لها بسبّابته أمامَ شفتَيه , فقلّدتهُ هامسَةً بدورها:
-اتّفقنا

عدّلا مِن وقفتهما باتّفاق حين أقبلَتْ ريتّا بصدريّة المطبخ تعلو تنّورَتها, و ابتسامةٍ شَقيَّةٍ تلوح على ثغرِها. عيناها الزّرقاوان تلتمعان كحجَرَين كريمَين بين خصلاتِ غرّةٍ رَمليّةٍ أطلّت مِن تحت مِنديل الشّعر.

ضربتِ المرأةُ على كتف زوجها بخفّة , وهي تؤنّب مُمازِحةً:
- أنا أتعب في المطبخ وأنت وابنتك تتسلّيان هنا؟ يا العدل !
- أعرف ,أعرف... تغارين مِن لورا الجميلة لأنني قبّلتها لا أنتِ . لقد أصبحتِ في الخامسة والثّلاثين وما زلتِ...-
قاطعَتْ مداعبَتَه غير المضحكةِ جدّاً برأيها:
-سام؟ أنت محروم من تذوّق طعامي . اذهب إلى أمّك علّها تعلّمك كيفيّة التّحدُّث إلَيّ .
راضاها سَريعاً:
-أوه عزيزتي! كنت أمازحك . أنتِ تعرفين أنّ لكِ الحُبّ الأكبر.

بخِفّة قبّل جبينها, وركض متجهاً نحو المنزل بينما ناداها:
-هيّا أيّتها الكَسُولُ, تعالي قبل أن تقضي لورا على كلّ شئ!
هروَلتْ خلفَه ضاحكةً , وهي تُتَمتِمُ شيئاً عن أنّ الفتاة سِرّ أبيها أحياناً.



__________
__________________