عرض مشاركة واحدة
  #174  
قديم 11-08-2014, 07:56 PM
 

وأخيراً بدئت خيوط الشمس تطلق أشعتها بعد أن انتظرها بفارغ الصبر بما أن عيناه أبتا أن تنالا قسطاً من الراحة فحماسه وسعادته كانت أكبر من أن يتمكن من كبحها .. بالرغم من معرفته التامة أن حياته ستبقى كالجحيم وهو سينتقل من جحيم لآخر فعمه لن يوافق على جعله يعيش بسلام أبداً .. تنهد بتعب لينهض من فراشه ويقوم بترتيبه ثم توجه لأخذ حمام بارد لعله يقيه من حر الصيف القاتل .. وما إن أنهى الاستحمام حتى وجد جنود الحاكم وقد أحضروا له ثياب الخدم الشخصيين لأسرة روبنز .. ابتسم بهدوء وهو يتناول الثياب منهم .

بعد مدة من الزمن كان يجلس في المقعد المُقابل للحاكم ليتحدث الأخير بصوت حاد :" أتمنى أن تجيد معاملته لإنه إن لم يحبك فستعود لحياتك السابقة مفهوم ؟"
أومأ يوجين بالموافقة بهدوء ودون أن يتفوه بحرف واحد ليطبق بذلك صمت رهيب في المكان حتى توقفت السيارة عن الحركة أخيراً أمام ذلك القصر الذي تغيرت معالمه بعد ذلك الحريق الذي أخفى في طياته الكثير من الأسرار التي دُفنت في ذلك الوقت .. تجمعت ملامح الحُزن لترتسم على وجهه بدقة .. فتح الباب الخاص به لينزل ويفتح الباب للحاكم قبل الخادم الذي هم بفعل ذلك .

كان التوتر بادٍ على وجهه وهو يسير في الممرات خلف الحاكم وقد كان يخفض رأسه أرضاً .. ليصلوا أخيراً إلى تلك الصالة الكبيرة المُزينة وقد بدى أن احتفالا ضخماً يُقام بها .. كان جين يقف في منتصف المدعوين وهو يرتدي بذلة رسمية لم تتلاءم مع تقاطيع وجهه الطفولية .. كان يبتسم بسعادة وقد ازدادت سعادته عند رؤيته للحاكم ليترك موقعه ويركض باتجاهه .. ضحك الحاكم بخفة وهو يقوم بضمه إليه ليتحدث :" أهلاً عزيزي جين , عيد مولد سعيد "
أجابه الصغير بسرور :" أهلاً بك هُنا , لقد تأخرت لماذا ؟"
تحدث بصوت مرح :" لأنني الحاكم وتعلم لدي الكثير من العمل "
قطب حاجبيه بإنزعاج بسيط ولكن لفت نظره ذلك الفتى الذي كان يقف خلف الحاكم .. كان ينظر له وعيناه الزرقاوتين تحملان الكثير من المعاني التي لم يتمكن من تحليلها .. صمت الجميع وهم يراقبون الموقف فالجميع يعلم من هو يوجين .. ولا أحد منهم يعلم ماذا يخطط الحاكم لفعله ولماذا أحضره معه ؟
تحدث الحاكم مُقاطعاً ذلك الصمت :" هذا الفتى اسمه يوجين وهو في التاسعة من العُمر , سيكون خادمك الشخصي وكل شيء ترغب به يا جين فهل أنت موافق ؟"
تقدم جين باتجاه يوجين الذي جثى على ركبة واحدة واخفض رأسه بهدوء في محاولة منه لكبت تلك المشاعر المُتأججة في داخله .. فهو يرغب بضمه إليه ولكن بالتأكيد لن يُسمح له بفعل هذا الأمر .. وضع جين كفه على خد يوجين ونظر له بسرور ليتحدث :" يوجين هل ستصبح صديقي أيضاً إن طلبت منك ذلك ؟"
رفع رأسه ليرى شقيقه ينظر له بلهفة مما دفعه لرسم ابتسامة لطيفة على وجهه وهو يجيبه بهدوء :" انا سأفعل أي شيء يريده سيدي .. فأنا في النهاية سأكون هدية لعيد ميلادك من سيدي الحاكم "
اتسعت ابتسامته ليلتفت للحاكم وهو يتحدث :" شكراً لك سيدي الحاكم "
قالها وهو يحاول تقليد الحرس في أداء التحية له ولكن انتهى الأمر بسقوطه أرضاً ليبدأ بالضحك بسعادة ويتبعه البقية لذلك .. بينما توجهت تلك المرأة ذات الشعر الأشقر إليه وساعدته على الوقوف لتتحدث بحنان :" عليك أن تنتبه على نفسك جيداً يا بُني "
رمى بجسده في أحضانها ليتحدث بخفوت :" لا تقلقي يا أمي أنا بخير "
بتلك اللحظة كان هناك شخص على وشك الانفجار حيث تحدث بشيء من الغيظ :" ولماذا يجب حقاً أن أُبقي هذا القاتل في منزلي ؟"
نظر الحاكم له وقد علم أنه يستحيل ان يوافق ماكس على ذلك بسهولة ليجيبه بهدوء :" لأنني أرغب بإعطاء هذا الصغير فرصة للتكفير عن خطأه السابق قبل أن يلقى حتفه "
نظر ماكس ليوجين الذي كان قد رسم ابتسامة تحمل الكثير من السخرية في طياتها .
تدخلت تلك المرأة ذات الشعر الأشقر لتتحدث بهدوء :" لا أظن أنه سيكون هنالك شخص يخدم جين ويسعده حقاً أكثر من يوجين "
نظر لها يوجين بابتسامة رقيقة وقد بادلته هي ذات الابتسامة ليتحدث شخص آخر - لم يكن من المتوقع ظهوره أو تدخله حتى – بنبرة مُستاءة :" ولكن سيدي الحاكم وسيدتي كاميليا أنا أقوم بخدمة السيد الصغير جيداً , وإحضار هذا الطفل إلى هُنا يعني إزالتي من العمل "
تنهد الحاكم بتعب ليتحدث الصغير بشيء من العبوس :" إنه هديتي أنا , وأنا أريد الاحتفاظ به "
قال تلك الجملة وقد امسك بيد يوجين الذي نظر له بدهشة تماماً كالبقية .
ضحكت كاميليا بخفة قبل أن تتحدث :" مايك أنت لازلت المسئول عن جين .. فيوجين لا يمكن أن يوصله للمدرسة مثلاً .. وأيضاً يجدر بك أن تكون سعيداً لان يوجين سيأخذ حملاً كبيراً عنك ويساعدك في عملك "
أشاح ذلك المدعو مايك رأسه بعدم اقتناع ليتحدث الحاكم :" ما أعلمه هو أن يوجين سيبقى هُنا شئتم أم لا "
انتهى ذلك النقاش حينها بأن صمت الجميع .

بدء يوجين بعمله في اليوم التالي ولكنه كان مساعد لمايك الذي كان يطلب منه اعمال يعلم تماماً أنه لن يتمكن من إنجازها وقد لا يكون لها أي صلة بخدمة جين .. لذا كان يوجين في تلك الفترة يعيش في جحيم أكبر من سابقه فمايك وعمه وابنيه لم يعفوه من العقوبات اليومية والمهام التعجيزية .. إلا أن وجود السيدة كاميليا كان يخفف عنه كثيراً فهي كانت سيدة حنونة وقد أشفقت عليه لذلك كانت تسعى دائماً لمساعدته وإخراجه بأدنى عقوبة او من دون عقوبة .. العديد من الأيام مرت ليكمل يوجين شهره الثاني في منزل عمه .. وعلى غير العادة تجاوزت الساعة الرابعة مساءاً وجين لم يعد من المدرسة بعد !
كانت السيدة كاميليا تقف في الردهة وهي تحاول الاتصال على مايك الذي لم يجب على اتصالاتها بل كان هاتفه مُغلقاً .. يوجين كان يقف عند بوابة القصر والقلق بادٍ على تقاطيع وجهه .. بدئت الشمس بالغروب ولا أثر بعد لأي من مايك أو جين .. بحث ماكس في المُستشفيات وغيرها من الأماكن التي قد يتواجدون بها .. لكن لا أثر
يوم ويومان .. شهر كامل قد مر على اختفائهما .. لا أحد استطاع العثور على خيط واحد إلا أن اكتمل الشهر الثاني حيث أُمسك مايك وهو يحاول التسلل إلى خارج البلاد وقد اعترف أنه اتفق مع عصابة ما تشتري الأطفال لجعلهم يعملون لدى بعض الأسر بعد أن يقوموا بتعليمهم وتدريبهم عند الحدود .. وبالفعل تم العثور على جين في ذلك المكان العفن .. وقد كانوا يعاملونهم بقسوة شديدة وبدى الأمر جلياً بالنظر لجسد جين المليء بالكدمات و الجروح .
عاد جين لمنزله بعد أسبوع من العثور عليه فقد وضع في المستشفى .. بدء ذلك الطفل بتجنب الجميع إلا السيدة كاميليا التي كانت قلقة عليه وهو تمسك بها ورفض الابتعاد عنها .. كما رفض أن يقترب منه أي خادم وقد تم تلبية طلبه في الأسبوع الأول من عودته للمنزل ولكن
في الأسبوع الثاني :

استيقظ جين بفزع إثر الكابوس الذي هاجمه ليبدأ بالبكاء برعب .. دخلت السيدة كاميليا بسرعة إلى جناحه الخاص لتضمه وتحاول تهدئته وفي النهاية اصطحبته معها إلى الأسفل حيث كان الحاكم يجلس هُناك وقد بدى على ملامح وجهه القلق .. تنهدت السيدة لتتحدث بحزن :" إنه هكذا من ذلك اليوم , هو غير قادر على النوم بسلام كما أنه يخاف من الخدم .. لا أعلم ماذا علي أن أفعل "
تحدث الحاكم بهدوء :" لقد سمعت أنه توقف عن التحدث بطريقة طبيعية أيضاً"
أخفض الصغير رأسه وقد تشبث بوالدته أكثر ليتحدث ماكس :" أجل فهو يتلعثم في كلامه .. المشكلة ان أساتذته يقولون أنه غير متعاون البتة وأيضاً ديريك وأليكسس غير قادرين على استيعابه "
نظر الحاكم إلى ذلك الفتى الذي كان يقف يراقب الوضع بحُزن شديد وهو غير قادر بل غير مسموح له بالاقتراب ليتحدث بصوت جهوري :" ألم ترغب بمساعدته ؟ لا أظن أنني أحضرتك لهذا المنزل لتقف هناك "
أخفض رأسه بيأس بينما تحدثت كاميليا :" جين هو من طلب منا إبعاد الجميع عنه "
أجابها بهدوء حاد :" إذن لا فائدة من بقائه هُنا صحيح ؟"
كادت عيناه أن تذرفا الدموع وهو يشعر حقاً بالعجز الشديد .. إلا ان الحاكم أردف :" جين روبنز هذا الفتى هو خادمك ومن الآن سيعود للعمل وسيرسلك لغرفتك "
رفع الطفل رأسه إلى الحاكم وقد توسعت عيناه برعب واشتدت قبضته الصغيرة في الإحكام على ثياب والدته ليتحدث بصوت خائف ومُتقطع :" ل..لا ..أر..يد "
نظر له بغضب وقد طلب من السيدة كاميليا أن تنزله أرضاً وبالرغم من رفضها لتركه وهو خائف إلا أنها أطاعت الحاكم وتركته ليبدأ بالبكاء .. نظر الحاكم ليوجين كأمر لأن يتقدم ويأخذه لغرفته .. رمق يوجين شقيقه الباكي بنظرة مترددة فهو لا يريد أن يشعره بالخوف أو القلق .. هو لم يأتي إلى هُنا كي يكون السبب في بكائه ولكن .. إن لم يفعل شيئاً الآن فوجوده سيكون بلا فائدة !
تنفس بعمق قبل أن يتقدم منه بينما تشبث جين برداء والدته وهو يحاول الاختباء وأن لا يظهر أمام يوجين الذي كان يقترب منه .. وعلى خلاف ما توقعه الجميع فقد انحنى يوجين لجين وهو يرسم ابتسامة لطيفة على شفتيه قبل أن يجلس على ركبة واحدة ليتحدث بلطف :" سيدي الصغير أرجوك اسمح لي باصطحابك إلى غرفتك للنوم مُجدداً "
نظر جين له بخوف ليتحدث بصوته الخائف :" ل.. لا .. أر..يد .. الذ..هاب "
وضع يوجين يده على شعر جين الذي ارتعب من تلك الحركة ليرتفع صوت بكائه بينما تحدث الآخر بحنان :" سيدي أنا لن أقوم بإيذائك أو خيانتك لو مهما حدث "
هدأ قليلاً ليتحدث بصوته الباكي :" لِ .. لم..اذا ؟ "
بدى على وجهه التفكير قبل أن يرسم ابتسامة رقيقة على وجهه :" أخبرني ألستُ أنا هدية ميلادك ؟"
أومأ الصغير بالموافقة .. ليُردف يوجين :" إذن أنت تمنيت أن أكون أنا صديقك و خادمك وكل شيء .. لكن هل تمنيت أن أخونك ؟"
أومأ هذه المرة سلباً لتزداد ابتسامته وهو يكمل :" إذن كيف لي أن أخونك ؟ فأنا بالنهاية هديتك التي تمنيتها أنت فقط .. ولذلك لن أفعل شيئاً سيئاً لك ."
ابتسم جين وهو يومأ بالموافقة وقد رسم ابتسامة مُفعمة بالبراءة على وجهه ليتحدث :"ه..ل .. ست..صبح ..حا..رسي... أي..ضاً؟"
أجابه يوجين وهو يُمسك بيده :" إن كان سيدي يريد أن أُصبح حارسه أيضاً فأنا بالتأكيد سأحميه حتى النهاية "
وبذلك كان يوجين قد كسب ثقة جين بل وأصبح بمرور الايام صديقه الوحيد الذي لا غنى له عنه .. وبالتأكيد كانت السيدة كاميليا تُساندهُما دائماً فهي عاملت يوجين كأحد أبنائها أيضاً .. ولكن عندما أكمل يوجين العاشرة وجين السابعة تعرضت لحادث أفقدها حياتها .. في ذلك اليوم بكى يوجين وكأنه فقد والدته للمرة الثانية ولم يتمكن من منع دموعه من الانهمار ولا حتى لأجل جين الذي توقف عن التحدث
لأي أحد أو تناول الطعام والشراب لمدة ثلاثة أيام مُتتالية .. فهي كانت كالأم لهما .. صحيح أن زوجها لم يكن بالرجل الصالح ولكنها كانت كالنور الذي يضيء للآخرين في الظلام .. وفي النهاية حُبها للصغيرين هو ما دفع به لتدبير حادث يُنهي من خلاله حياة من أقسم أن يمضي بقية عمره إلى جانبها وأن يقاسمها الأوقات السعيدة والحزينة .. تلك التي كانت أُماً لأطفاله .. تسبب في قتلها ليخون بذلك كل الوعود التي أطلقها لها وذنبها أنها عاملت ابنا شقيقه بلطف وحنان لتعويضهم عما فقدوه .. بل وتفاخر بذلك أمام يوجين الذي ازداد شعوره بالحزن وبدء شعور من الذنب يتسلل إلى قلبه المريض أساساً .. وبذلك انتهت مرحلة من حياة الشقيقان والتي كانت أرحم – لواحد منهما على الأقل – من القادم بكثير .



__________________


شكراً غاليتي


زيزي(زيزو) على الأهداء حب6

رد مع اقتباس