عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 01-15-2015, 04:18 PM
 
ملحوظة : بعد طلب الأخوة الكرام تم إضافة معجم لبعض الكلمات التى قد لا يكون واضح جلي مرادها للبعض

ثعلب درمصرنجا


(الجزء الخامس)




ما ابغضها من لحظاتٍ يعرض لك فيها عقلك الباطن آلامك و يجسدها إزائك(1) تجسيدًا و ما اسعدها من أوقاتٍ حين تدرك ان لبراعة و مهارة عقلك الباطن حدٌ و زوال و أن لكل كابوسِ يجسده نهايته المحتومة مهما طال امده و بعُد أجله, ما أشدهما من شهرين ينفقهما ذو العشر سنوات فى لهيب الصحراء دون ابٍ و لا صديق و لا طعام الا القليل, يرى اخاه الشاب و قد تغير به الحال يتكلف(2) ما يتكلفه الكبار من اجل الحصول على رزقٍ يسد به جوع أسرته المرير , يصول و يجول طمعًا فى فضلات الطعام و مخلفاتٍ مُنَّ علينا بها من دول الجوار, و امه ما اوفاها من ملاكٍ تحث الدموع على الإنهمار و قد استحال خدها من كثرة ما شهد من دموع ليالى الآسى و الشقاء فأصبح حالها كحال وردة ناصعة الجمال عصفت بها رياح المآسي فأحالتها(3) وحيدةً باليةً بئيسة.

بقى الحال و استمرت عواصف الآلام تعصف بأهل الخيام فكلٌ مترقبٌ نصيب اهل خيمته من مصائب الحياة متسائلٌ بمن تنزل النازلة(4) و بمن تفتك الأمراض. يترقب الجميع ذلك اليوم الذى يقطع أواصر(5) الحزن و ينهى الحداد المتصل ,ذلك اليوم الذى يأتى حين تشتد بك المصائب و تعصف بك الأهوال يأتى مثل ذلك اليوم ليلطف الآلام و ليكون اليسرُ بعد العسر فقد وصلت فى يومٍ من أتراب(6) هذه الأيام قاطراتٌ يملئها الطعام و الشراب و الدواء فرح بها كل مواكبٍ و أسرع لها كل هالعٍ ,نزلت هذه القاطرات باليُمن و الخير على أهالى الخيام فأُقيمت الولائم و مُلِئت معدة كل جائع و إرتوى حلق كل ظمئان و إلتئم جرح كل مريض و عمت البسمة وجه كل حزين و كنت انا بين هذا و ذاك تملئنى الحيرة و تطغى عليَّ الدهشة و تباغت الأسئلة عقلى فقد أثبت منطق الحياة أن لكل عطاءٍ مقابل مساوٍ له فى المقدار و يخالفه إتجاهًا فما تُراه يكون مقابل كل هذا المنّ و الكرم ! ,و ربما لم يتأخر الجواب و لم يطل خفاؤه فقد ظهر الجواب جليًا(7) فى غضون ساعات حين وجدتُ مجموعةً من التجار أصحاب الملابس الأنيقة و النفوس المريضة أحاط بهم مجموعةٌ من الحراس أشداء البنية يطلبون صغار السن و حسناوات النساء , يعِدون بحياةٍ أفضل لكل مقبلٍ ملبٍ لدعوتهم و ينعتون كل رافضٍ للدعوة بأنه جمُ(8) الضلال , لقد خيرونا آن ذاك اما حريةً او ما ظننته نعيمًا و رخاء , أغرونا بما قدموه لنا من رزقٍ و طعام ,كان من الصعب على من ضاقت به الدنيا و عصفت به القوارع(9) ان يرفض عرضٍ كهذا او ان يفوِّت فرصة كهذه فهو و إن كان يخشى مكرهم فهو يرى بياض ملابسهم و أناقة مظهرهم و يُمَّنى نفسه بشئٍ من هذا القبيل.

لقد كنت- و ان لم يخبرونى بذلك- عبئًا على اخى و ثقلًا على فؤاد امى , لم يكن نفع من وجودى و لا ضرًا من رحيلى, أطرقت كثيرًا فى التفكير لعل عقلى يلهمنى الصواب و يرشدنى الى إتخاذ القرار و لعل عقلى الضئيل لم يدرك آنذاك أن أوهام الضلال كانت تنقب لها عن طريقٍ لتحوم فيه حول عقلى موسوسةً له فى ترددٍ من الآمر الى الرحيل و التنقيب لحياته عن شكلٍ جديد, لم أدرى حينها عواقب القرار و لم أشغل بالى بالتفكير الى اين يُشدُ الرِحال كل ما علمته و تيقنته هو انى أصبحت رجلًا فى وقتٍ سابقٌ لأوانه و أن حياة اللهو و المرح لا مكان لها فى حياة الرجل الا موضعًا فى ذاكرته و لا سبيل لها فى مثل تلك الحال.

لم يكن من الصعب عليَّ إتخاذ القرار و إن كنت صغيرًا فى السن لا أقدر عواقب إختياراتى و لا أدرك متى مآبى(10) و لا أملك خبرة الكبار بل ما كان صعبًا حقًا هو ان أخبر امى و اخى بمضمون القرار و انتظر من أمٍ تعشق أبنائها و تبغض مفارقتهم و أخٍ هرُم و أحس بمسؤولياته إتجاه أخيه و شعر أنه معنيٌ بمكان ابيه – رحمه الله – ان يعطيانى ختم المُضي الى مجهولٍ لا أراه , لذلك قررت آنذاك – و إن كان عيبًا مشينًا لم يعهده أفراد عائلتنا- ان لا أخبر أحدًا بصفقتى مع التجار.

كان التجار قد أعلنوا انهم مغادرون ليلًا و على من أراد الإلتحاق أن يخلع ثوب الحرية فهناك ثوب ظننت انه مزينٌ بالعسجد(11) بالإنتظار . بتُّ ليلتى الأخيرة من ليالى الصحراء المرار فى أحضان أمى الدافئة التى أتمنى أن تحوى الأقدار على المزيد من حرارة أحضانها حين اللقاء, لم أنتظر طويلًا ليقع أخى و تتبعه امى فى ثباتٍ عميق من شدة الإرهاق , نهضت فى هدوء و حذرٍ شديد مرسلًا قبلةً خفيفةً لتستقر على وجه أمى آمِلًا ألا توقِظها , كان من الصعب الذهاب تاركًا خلف ظهرى من إنتقاهم قلبى ليملأ أركانه بحبهم فلم أدرى لحياتى سبيلًا طوال العشر سنوات غير سبيل عائلتى و كان من العسير تجنب إخبارهم الى أين شددت الرحال – و ان كنت نفسى لا أعلم وجهتى – .

خالفت تلك الليلة و لأول مرة قانونًا من قوانين امى فدائمًا ما كانت تقول لى "إن لم يكن المرء صادقًا أمينًا مع والديه فمع من اذًا سيكون" ,ترددت كثيرًا و انا أخطو فوق الرمال وسط مخيمات اللاجئين متذكرًا سلاسل الذكريات و حنين الماضى و لكن عذرًا امى و اخى فقد رددها لى أبى من قبل و ها انا أرددها الآن فانا من أضع قوانيني لأنه ما من أحدٍ غيرى يصنع واقعى ...



مرادفات :

(1) إزائك : أمامك
(2) يتكلف : يتحمل
(3) أحالتها : حولتها
(4) النازلة : المصيبة
(5) أواصر : سلاسل
(6) أتراب : أمثال
(7) جليًا : واضحًا
(8) جمُّ : كثير
(9) القوارع : المصائب
(10) مآبى : رجوعى
(11) العسجد : الذهب

بقلمى / MnsMas

تنويه بسيط : تم تقسيم الفصول الأساسية لأجزاء صغيرة كما سبق حتى يسهل نشرها و يسهل على القارئ متابعتها لذلك أعتذر إن شعر البعض بقصر الجزء المنشور , و بذلك تكون كل الأجزاء
السابقة المكتوبة -قصدًا- بنظام السرد هى المدخل الأساسى للتوغل فى أحداث الرواية.