:
:
قد تستيقظُ أيُّ أميرةٍ على تغاريد الطّيور المنسكِبةِ بذاتِ عذوبة القبلةِ الأُولى من ابْنِ الذُّكاء تُداعِب وجنتَيها, فتجلسُ مبتسِمةً و تتمطّى بدلال ,قبلَ نهوضِها الملائِكيّ لتتأمّل مَلَكوتَ الشّمسِ من الشّرفة , و النّسائم تتلاعبُ بخصلاتِ شعرها التي لَم يَبْدُ عليها أيّ تأثّرٍ بعد نوم لابدّ أن يكون قد دام سبْعَ ساعات على الأقل.
إنّما...مَن كذب قائلاً أنّني أميرة؟!
فقد استيقظتُ-كما كلّ يوم- بدماغٍ تعذّبَ مِن زَعيق المُنبّه...سأحطّمه يومًا ما!
نهضتُّ باستعجالٍ نافِضةً شعري المنكوش مِن وجهي, لأقوم بما تقوم به أيّ موظّفة بائسة لا تريد التّأخُّر .
أيّ صباحٍ و أيّ دلال!
عليّ بالإسراع ,لا وقت حتّى لتناول الفطور , دع تأمّل "ملكوت الشّمس" لغيري ! فبينما كنت أفكّر كيف سأنتقم مِن مُنبّهي كان الوقت يجري و يسبقني ساخرًا !
اقتحمتْ والدتي الحُجرةَ و لارْتياحي -الطّفيفِ- لَم تفعل منذ قليل ,حين كنت أتواثب هنا وهناك, لإيجاد الحقيبة المناسبة و فردة حذائي الأُخرى, لأنّ المزعج "مانويل" لا بدّ أن يتسلّل لغرفتي في وقتٍ ما و يضع لمساته اليوميّة ...
للأسف هو ليس منبّهًا ولا مجال للتّفكير بتحطيمه.
-أمّي ,رجاءً, ألا تطرقين الباب؟
-أهذا حقًّا أهمّ تفصيل و أنت على وشك التّأخير؟ متى ستتناولين الفطور؟
صاحت بوجهي كأنّني طفلة , فالتهمتُ أعصابي و ابتلعتها ابتلاعًا كَي أتمكّن من الرّدّ بأدب:
-سأتناول أيّ شيء في طريقي للعمل. إلى اللّقاء.
غادرتُ غرفتي مارّة من جانبِها برشاقةِ هِرَّةٍ ،فعادت تصيح خَلفي:
-لكنّني أعدَدْتّ "نسكافيه" كما تحبّينها
و بما أنّي وصلتُ بابَ الشّقّة؛ كرّرتُ بهتاف متطاول:
-إلى اللّقاء.
لَمْ أعرف إن بدا عليّ نفاذ الصّبر , و لِوهْلةٍ لَمْ أكترثْ.
تستطيع والدتي أن تتذمّر منّي بلا انقطاعٍ دون أن تتعب.
يا لها مِن حياة!
عِبارة عن بَوتَقَة انصهرتْ فيها أيّامي ,ما بين أخٍ مزعج و أمٍّ متذمّرة و دوامٍ مَكْرور.والشّيء بالشّيء يُذكَر؛ كيف سيكون الموقف اليوم مع مديري ؟
كم سيكون تأنّقُ كلماتِه مستفِزًّا بينما يُحاضِرُ عن احترام الوقت لو تأخّرت.
هكذا كنتُ أفكّر , أثناء انتظاري لسيّارة أجرةٍ فارغة , دونما أمل.
اعترفت بالهزيمة , فرُحت أطوي الدّربَ الموحِلة مِن جرّاء مطر البارحة الغزير , وتلوُّثُ حذائي حَزٌّ جديدٌ أضفتُه لكل الاستياء الذي كان يتراكمُ في عمقي و الذي بدا أنّه لَمْ يكْفِ, إذْ كان يجب أن يمرّ أحد الشّباب السُّخفاء بسيّارته الفارِهة فيرشُقَني بالوحل .
جمدتُّ مكاني أحدّقُ بملابسي. لسوء طالِعِهِ أوقف السّيّارة و بمنتهى التّفاهة أطلّ من نافذتها, متجرِّئًا على مُخاطبتي:
-آسف. يبدو أنّك لن تستطيعي متابعة السّير هكذا. هل تسمحين لي بإيصالك؟
بإمكاننا المرور بالسّوق لاشتري لك الملابس كاعتذار.
كانت تلكَ القشّة القاصمة!
انقضضتُّ عليه أشدّه مِن ياقة القميص و قد استحلتُ إلى بركانٌ مِن حِنق و زَعيق...
-أوه فعلاً!لا أستطيع المتابعة قبل أن أشرب من دمك!يا عديم الأخلاق!
إمّا أنّ ذلك المعتوه لَمْ يعرف كيف يدافع عن نفسه,أو أنّني فقدتُ صوابي تماماً ...أو كلاهما ,فقد اجتمع المارّة و فكّوه منّي بشقّ الأنفُس.
عدتُ أسير حتّى وصلت مقرّ عملي. دخلت المكتب و أنا لا أزال فائرة.
لا بدّ أنّي ظهرتُ كخارجة مِن ملحمة بطوليّة , إذْ لَم يبقَ أحدٌ إلاّ و لاحقني بطارف عينه.
كادَ زملائي الثلاثة في المكتب يمطرونني بالأسئلة
لولَمْ أُنتشَلْ منها إلى ما هو أسوأ: استدعاءٌ مِن قِبَل المدير.
في مكتبه استمعت لمحاضرة احترامِ الوقت , ثم قَبْل أن أغادر دونما كلمة
سألني:
- ألديكِ مشكلة ما؟
استدرتُ نحوه بردّي:
-لِمَ ؟هل يبدو عليّ شيءٌ مِن هذا القَبيل؟؟
أظنّه قلق بعض الشّيء و أنا أغلق الباب و أعود باتّجاه طاولته مُحشرِجة:
-جميلٌ جدًّا أنْ كلّفتَ نفسك بالسّؤال! أنا لستُ أميرة ,حسنًا؟ أنا فتاة مكافحة!أحتمل والدتي ولا أردّ عليها, أحتمل مضايقات أخي و للأسف لا أستطيع تحطيمه,مع المنبه ذي الصّوت العالي!ماذا لو لَم أُرِدِ النُّهوض ؟!أيجب أن أُحرم من النسكافيه؟ها؟و ليكُن بعلمك أنّ أمّي تحضّرها ثقيلة مع القليل من الحليب و الكثير من السّكّر ,تمامًا كما أحبّ...و الآن...
مالَ صوتي للتّباكي و أنا مُسترسِلة:
-عليّ الوقوف متأخّرة أمامك...مِن بعد صباح عصيب ,و قبلها ذلك الغبيّ الذي رُميَ في طريقي ...
عادَ صوتي يشتدُّ بينما رحتُ أعصِر عُنقاً وهميّاً بين قبضتَيّ:
-أعني حقًّا, تستطيعون أن تكونوا معدومي الضّمير! شقيقي يعبث بأغراضي، صاحب السّيّارة يحاول الاستخفاف بي , و جنابُك جالسٌ هنا مثل"بروفسور" يُلقي محاضرة!مسكينة زوجتك ,عليها احتمال ثرثرتك كلّ يوم!
بعد أن تقيّأتُ كلّ ما اعتمل فيَّ مِن سلبيّة وَعيتُ على ما اقترفته بحقّ مُرتّبي الشّهري: سيُحسَم نصفه -هذا إن لَم أُفصَل مِن وظيفتي!
و للحقّ, حظّي العاثِرُ ليس ذنبَ مديري . صارحتُ نفسي بكوني أخطأتُ و على هذا الأساس همهمتُ اعتذاري بعد صمتٍ حَرِجٍ تخلّله نقْرُ أنامله على السّطحِ الخشبيّ أمامَه:
-سيد ميندوزا , أنا حقًّا متأسِّفة على ما بدر منّي. كان صباحًا شاقًّا و...-
قاطعني باقتضاب :
-لا بأس .إلى عملكِ الآن.
في مكتبي رحتُ أمسّد صِدغَيَّ باستسلام للصّداع , مُفكِّرة براتبي الذي ربّما أعدمتُه اليوم. قد أُطرَد, و لَن أسمع النّهاية مِن أمّي و مانويل و الجيران و هذه الدّنيا التي تكرهني .
ظلَلتُ أجترُّ أفكاري إلى أن دخل الآذن العجوز-المخلوق الوحيد الذي لا يثير أعصابي- ووضع أمامي ...كوب "نسكافيه"ه.
نظرتُ إليه بتساؤلٍ فردّد مُبتسِمًا بعطف:
-ثقيلة مع القليل من الحليب و الكثير من السّكّر ,تمامًا كما تحبّين
- دييغو ...سمعتني إذًا؟
بامتنانٍ تمتمتُ فردَّ مُداعبًا:
-السّؤال هو :مَن لَم يسمعكِ؟
عضضتُّ على شفتيّ بخجل , بينما همس في أذني بمكرٍ مُحبّب:
- لا تقلقي بشأن وظيفتك, فقد هدّدتُّ السّيّد ميندوزا أنّه لو فكّر بطرد
؛فضحتُ جنونَه عندما لا يحصل على قهوته المعتادة.
ضحكتُ , بينما كان زميلاي ينظران إلينا بين فينة و أخرى دون تعليق طوال الوقت.
مضى العجوز دييغو مردّدًا بخفّةٍ بينما تابعتُ ظهره المنحني :
-ماذا لو توقّفتُما عن إدمان المنبّهات ...أليس أفضل لأعصابكُما؟
تبسّمتُ لنفسي قبل أن أرتشف مِن كوبي, فتنسرِبَ في جَوفي النّكهةُ المميّزة المُريحة , و المُفتقِرة للمسة أمّي...
التي -رغم كلّ شيء-تعرف ما أحبّ فتحرص عليه.
ربّما ليست الحياة سيّئة جدًّا معها و مع مانويل الأحمق الصّغير الذي أحبّ
رغم كلّ إزعاجاته.
نعم ، لستُ بأميرة
لكنّ لديّ ما لا تمتلكه....ذلك الاحساس الذيذُ بالبهجة،
شعور تبثّه أبسط الأشياء ولو بعد حين من المتاعب.
: