عرض مشاركة واحدة
  #134  
قديم 03-01-2015, 08:50 PM
 
في مكان .. اسمه قلبي



- أففف.. الدرس ممل.. (يحوم) الكبد!!
- خخخخخ.. ومتى ما صار كذا؟
- أقرف من فيثاغورس وشلته.. ناس مريضين.. وجابوا لنا المرض بنظرياتهم..

تصرخ المعلمة..
- مريفة وندى.. خير؟ وش عندك؟
- ما فيه شي يا أستاذة.. نتناقش في الدرس..
- ما شاء الله.. من زود الحرص..!

ونظرت إلينا نظرات (حارقة).. ثم صرخت..
- قومي يا مريفة.. قومي على السبورة حلي المسألة..
- شكراً يا أستاذة.. ما يحتاج..
- وشو اللي ما يحتاج؟!
- خلي درجات المشاركة لغيري.. عندي درجات كثيرة..
ضحكت الطالبات..
- أقول.. عن الاستهبال.. وقومي..!
سحبت نفسي بتثاقل من الكرسي المحشور قرب الجدار في آخر صف..
- إنا لله.. والله يا أستاذة حصة حرام.. تضيعين وقتك ووقت الطالبات..
صمتت وهي تنظر إلي..
وحين وقفت أمام السبورة..
- يالله قدامك مثلث طول ضلعيه 9 سم 2 سم.. كم طول الوتر؟
- الله أعلم..
- أقول يا مريفة.. ترى زودتيها..
- والله يا أبلة.. ما أدري..
- نظرية فيثاغورس..!
همستُ بتحسر..
- الله ياخذ فيثاغورس جعله الحمى..
- معقولة؟! هذي ثاني سنة تعيدينها.. ولحد الآن ما تعرفين نظرية فيثاغورس؟؟
- وشو اللي خلاني أعيد السنة غير هالـ (فيثاغورس) حسبي الله عليه؟
نظرت إلي بهدوء نظرة عميقة.. ثم همست..
- ارجعي مكانك..

* * *

رغم كسلي ومشاغبتي..
فمعظم المعلمات كن يحببني ويتقبلن شقاوتي بصدر رحب..
وكن يسألن عني في حال غيابي ويعتبرنني متعة الفصل..

أما في البيت..
فكنت مختلفة تماماً..
حين أدخل أشعر أني ألج إلى سجن مخيف مظلم..
والد متسلط قاسٍ.. متزوج من امرأة أخرى ولا يزورنا سوى يوم أو يومين في الأسبوع.. فقط ليثور ويصرخ ويتأكد من أنه لا يزال يسيطر علينا بغضبه وظلمه..
وأم ضعيفة أنهكتها الأمراض العضوية والنفسية..
وثلاثة أخوة فاشلين في الدراسة وفي الحياة..
كنت أنزوي في غرفتي لا أعرف ماذا أفعل.. أهرب للنوم.. محادثة الصديقات على الهاتف.. وقراءة مجلات الشعر الشعبي.. وأكتب القصائد في حبيب لا يعيش إلا في خيالي..
كان هذا عالمي..
لا أخرج منه إلا حين أسمع صوت صراخ أبي على أمي..
أو حين يأتي أحد أخوتي آخر الليل وهو غائب العقل والوعي.. ويتشاجر مع أمي..
أو..
حين تناديني أمي لأشرب معها القهوة في الليالي الباردة الموحشة..
فأجدها تجلس وحدها في المجلس.. الذي يفوح برائحة عودها.. أجدها تمضغ وحدتها وألمها.. وخيبتها في ثلاث شباب يافعين..
مسكينة هذه المرأة..
ضعيفة.. محطمة..
افترسها الألم والمرض فلم يبق منها سوى بقايا قلب جريح..
لكن.. كما أحبها.. وأستدفئ بوجودها في هذا البيت الموحش..
فإني أكره ضعفها وسلبيتها.. وهزيمتها.. وحزنها..
وأتمنى أن أكون امرأة أخرى على عكسها تماماً..
أحب أن أكون قوية.. ناجحة.. محبوبة..
و.. سعيدة..
حين أخرج للمدرسة.. أرتدي شخصيتي الأخرى.. التي رسمتها لنفسي بدقة..
فتاة قوية مرحة.. محبوبة.. سعيدة.. لا تهتم ولا تبالي بشيء.. لا تخيفها الدراسة ولا المدرسات ولا حتى المديرة..
الكل يعرفني في المدرسة فأنا مشهورة رغم كسلي.. كان الجميع يحبني.. وكنت محور اهتمام المدرسات والطالبات في كثير من الأحيان..

* * *

كنت أشعر بالغثيان أثناء درس التاريخ.. أصوات الخيول والسيوف أرهقتني.. استأذنت..
كانت الساحة خالية..
والسماء ملبدة بالغيوم..
قطرات خفيفة من المطر بدأت تتساقط هنا وهناك..
جلست على (دكة) أمام دورات المياه وأخذت أنظر للسماء الحالمة..
و.. بكيت بهدوء..
شعرت أن الأم حياتي كلها أصبحت أمام عيني في تلك اللحظة..
كنت وحيدة وصغيرة.. تحت السماء العظيمة المتلبدة بالغيوم..
كانت أمي قد دخلت المستشفى منذ أيام.. ولا أحد يعلم بذلك هنا..
فكرت.. ماذا يمكن أن يحصل لي لو..
لو.. توفت أمي..لا!.. يا رب.. يا ربي.. احفظها لي..
لا أستطيع حتى التفكير في ذلك..
أنا الآن شبه يتيمة.. فماذا لو فقدتها..؟
أخذت أبكي.. على حالي.. وعلى أشياء كثيرة.. في حياتي..
ابتل وجهي بالدموع واختلطت مع قطرات المطر على وجهي..
شعرت بالبرد..
وانتبهت لأن الوقت قد مر علي..
وحين هممت بالوقوف.. فوجئت بأمل تقترب مني وهي مستغربة..
- مريفة؟!! ما بك؟
- هه.. لا شيء..
- شكلك غير طبيعي..
- لاشيء.. جلست قليلاً أرتاح.. فابتل وجهي..
سكتت أمل وعلى وجهه ملامح استغراب..
- مجرد ألم في بطني.. لا تخافي..
وأسرعت نحو فصلي وأنا أمسك ببطني متظاهرة بالألم فيه..
بينما الألم في مكان أعلى بقليل..
مكان لا يعرفه أحد.. اسمه.. قلبي..