عرض مشاركة واحدة
  #143  
قديم 03-01-2015, 09:17 PM
 
- 44 -

ليتني أعود .. صفحة بيضاء

تبدأ الجروح كبيرة.. دامية..
ثم تصغر.. تجف..
تلتحم..
لكن.. يبقى مكانها بعض الألم.. وتبقى آثارها مهما مر الزمن..
مكان بلا جرح.. ليس مثل مكان جُرح..
حتماً ليسوا سواء..
إنها الحقيقة مهما حاولنا تجاهلها..
كنت أقف عند نافذة غرفتي.. أطل على إخوتي الصغار وهم يتقافزون في مسبحهم الجديد الذي اشتروه بمناسبة حلول الصيف.. يتقاذفون كراتهم وألعابهم بكل مرح..
ما أجمل الطفولة وبراءتها..
ما أجمل أن تعيش خفيفاً.. دون هم.. ولا حزن ولا مسؤولية.. ولا ذكريات مؤلمة..
ليتني أعود طفلة بريئة طاهرة..
ليتني أعود راوية التي كانت طفلة بليدة مسكينة يضحك عليها بنات أقاربها ويهزأن بها فتجري خلفهم بشعرها الأعرد المتطاير..
ليتني أعود راوية التي تفرح بالفستان واللعبة.. وتمسح دموعها في حضن أمها بعد معاركها مع ابنة عمها كل مساء..
ليتني أعود سعيدة مبتهجة كما كانت راوية يوم العيد في فستانها ذي الحزام العريض وقبعتها وحقيبتها المليئة بالريالات.. لم تكن تهتم في ذلك الوقت بضحكات بنات أعمامها اللاتي كن قد بدأن في لبس الملابس النسائية ووضع شيء من المكياج.
بينما هي تبتسم في وجوه العمات والأعمام منتظرة (العيدية) لتفتح حقيبتها كل خمس دقائق وتعد ما جمعته من مال..
لا أزال أذكر نظراتهن وهمساتهن الضاحكة علي.. وقد وضعت كل منهن رجلها على الأخرى..
لم كن يستعجلن أن يصبحن نساء؟
كنا في نفس العمر تقريباً..
لكنهن يستعجلن أن يكبرن.. أن يضعن المكياج.. الفساتين الضيقة.. التسريحة الأنثوية..
لماذا؟
هل نحن الآن سعيدات بعد أن كبرنا؟
ما أجمل أيام الطفولة.. وبراءتها..
ليتني بقيت فيها أكثر وأكثر.. ليتني لم أكبر بهذه السرعة..


* * *

حاولن جذبي إلى عالمهن السري.. الخاص..
دخلته على وجل..
- يا خبلة ما يصير تلبسين كذا خلاص السنة الجاية بتروحين المتوسط.. وش هالدلاخة؟ للحين تلبسين ملابس أطفال؟ متى بتكبرين؟
- تعالي بس.. لازم نعلمك شلون تلبسين.. تكشخين.. تتمكيجين.. تمشين بالكعب.. تسرحين شعرك.. أصلاً هالـ(كشة) يبغى لها قص.. أنتي وجديلتك!
أشياء كثيرة تعلمتها.. رغم أنها لم تكن تحبها..
لا لشيء سوى لأنهن أقنعنها أنها هكذا غريبة.. مضحكة.. يجب أن تصبح مثلهن..
تعلمت كيف تضع أحمر شفاه لامع.. وقصت شعرها..
- حتى هذه الحواجب لازم (تنظفينها).. شكلك (غلط) فيها!!
كانت قد سمعت أن هذا حرام.. لكنها خجلت وسكتت حين رأت كل الفتيات يؤيدن ما قالته ابنة عمها..
- لكن.. لحظة.. لكن..
- أقول بس.. تعالي أزينهم لك.. علشان يصير شكل عيونك أحلى!
بدأت تمشي بالملقط على حاجبها.. كانت تشعر بالألم يسري لقلبها.. كانت تعرف أن هذا خطأ.. لا يجدر بها فعله.. أن تعصي خالقها لأجل شعيرات.. لكنهن جميعاً أصررن عليها.. كلهن يقمن بذلك..
أصبح لها مظهر آخر.. لم تعد تلك الطفلة..
أصبحت شيئاً آخر.. بقصة شعرها.. ومكياجها.. وكعبها..
من عينيها كانت نظرة براءة تحاول أن تتحدث.. لكن الحاجبين المثلثين كانا يسكتان تلك النظرة ليصرخا بنظرة دهاء.. هي منها بريئة..
تحولت لمسخ..
طفلة بمظهر(..)..!


* * *

- تعالي.. وش ذا العباة.. وش ذا (القراوة)!.. يحليلك.. شكلك كنك عجيّز..!
- هاه؟
- ليش ما تلبسين عباية شبابية.. شي حلو..
- لا.. ما له داعي..
لم تكن تستطيع أن تقول لا.. أنا أحبها.. أفتخر بها..
أحنت رأسها بصمت.. ابتلعت ريقها واستسلمت..
- يا الخبلة أنتي جسمك حلو.. ليش تخبينه بهالخيمة؟ البسي عباة مخصرة.. شيء فيه أنوثة.. أصلاً الشباب هالأيام ما يبون إلا اللي كذا..
ولأول مرة تكلمت..
- وشدخلني بالشباب؟
ارتبكت ابنة عمها..
- آآ.. قصدي إذا بغوا يخطبون..
إيه..!
وغيرت العباءة واستبدلتها بأخرى كانت تسير فيها على استحياء.. حتى تعودت عليها..


* * *

ثم بدأت مرحلة جديدة..
- قولي لهم يشترون لك جوال.. خلاص أنتي بتروحين ثاني متوسط.. أكبر من هالكبر؟!
- بس.. أنا ما أحتاجه..
- من قال ما تحتاجينه؟ أصلاً شكلك كذا يضحك في العزايم والمناسبات كل البنات معهن جولاتهن ويتبادلن البلوتوثات وأنت مسيكينة كنك بزر ما معك جوال.. وبعدين إلى متى صديقاتك إذا بغوا يكلمونك يتصلون على البيت ويرد عليهم فلان وعلان لازم معك جوال تتصلين على صديقاتك متى ما بغيتي لو نص الليل..
وعلى مضض..
أخذت تطالب أهلها به.. حتى كان لها..


* * *

كانت تلاحظ أن مها تمضي الساعات وهي تتحدث في الجوال تضحك.. تهمس.. وتلعب بشعرها..
- من كنت تكلمين؟
- ما لك دخل.. هذه أشياء ما تعرفينها.. توك صغيرة عليها..
- مها وش تقولين..؟
- هذا يا حبيبتي عالم ثاني مالك فيه يا المسكينة..
- شالألغاز؟ من تكلمين؟
أخذت تغني.. وتدور وشعرها يطير حولها.. ثم رمت نفسها على السرير..
وتنهدت..
- مسكين اللي ما جرب الحب والغرام..
- أي حب وغرام؟ مها!!.. أنتي تكلمين واحد؟
- لا.. عشرة! خخخخخ.. إيه.. أكلم واحد.. شفيك نتاظريني كذا؟
- مها حرام عليك!
- حرام عليك أنتي اللي دافنة نفسك وشبابك.. عيشي حياتك.. شوفي حولك.. كل البنات يكلمون.. ما بقى إلا أنتي بس يالمسكينة..
- لكن..
- بلا لكن.. يا أختي عمرنا ما سمعنا كلام حلو.. اسمعي الكلام اللي عمرك ما سمعتيه.. غير الرسايل والهدايا..
وجرفتني بكلامها المعسول.. لا أعرف كيف..
بدأت على خجل..
ثم تعودت.. مات الحياء.. غاب الخوف من الله..
(كل البنات يكلمون.. أنتي بس اللي توك طفلة)
طفلة.. بزر.. نقطة ضعفي.. الكلمة التي كنت أكرهها في ذلك الوقت..
كنت أريد أن أخلع ثوب الطفولة وكل ما يمت إليه بصلة.. بأي وسيلة.. وبسرعة.. حتى لو خلعت معه آخر غلالة للحياء والإيمان..


* * *

مات كل شيء جميل..
كلمت أكثر من شاب..
الكلام المعسول تعودت عليه..
الرسائل بدأت تتكرر.. أصبت بالملل.. الملل من الحياة في خوف وقلق.. وحيرة..
ومن التقلب بين جوال هذا وماسنجر ذاك..
العلاقة لم تكن تصل إلى شيء..
كلهم يدعون الحب.. ثم ماذا؟..
يحاولون إقناعي بالخروج معهم.. ثم ييأسون من رفضي ويذهبون..
كان هذا الجدار الأخير الذي لم يسقط حمداً لله..
- طيب اخطبني!!
ضحكة طويييلة ثم..
- يحليلك.. (بزر).. أي خطبة وأنتي في ثاني متوسط..
- ثالث متوسط!
- المهم في المتوسطة.. أي خطبة.. أكيد أهلك ما راح يوافقون..
- أنت جرب..
- أقول بلا خرابيط.. خلينا كذا أحسن.. بلا زواج بلا هم..
- لكن ما يصير لازم نتزوج..
- شوفي يا ماما.. أنا رجال متعقد من الزواج.. عندي اللي مكفيني..
- طيب ليش ما تطلق زوجتك إذا ما تبيها؟ ليش نبقى كذا معلقين؟
- أوووه.. شكلك بتطفشيني..
هكذا كانت تنتهي معظم علاقاتي.. بت أعرف طريقتهم.. أسلوبهم.. كيف يبدؤون.. وكيف يكذبون.. ومتى يتغيرون.. ومتى يغضبون.. ومتى ينهون العلاقة كما يريدون..
سئمت تعبت.. تعبت من محاولات أن أخلع ثوب الطفولة..
تعبت.. من الضياع.. من البعد عن الله..


* * *

نظرت إلى نفسي بالمرآة..
رأيت نفسي بلا وجه..
بلا حياء.. بلا نور إيمان.. بلا راحة.. بلا رضا..
كنت أرتدي قناعاً قبيحاً.. مقززاً.. أهذه هي الأنوثة..؟
تباً لها إن كانت كذلك..
سأخلع هذا القناع.. وهذا الثوب الذي لا أحب..
وليقولوا طفلة.. وغبية.. ومسكينة.. سأكون فوقهم ولن أخجل هذه المرة..
سأعود لربي الذي أعرضت عنه طويلاً..
سأمرغ جبهتي في الأرض طلباً لرضاه هو.. ولن أهتم بما سيقولونه أو يفعلونه..


* * *

- رااااااوية.. شوفيني.. بأغوص..
ابتسمت وأنا أنظر إلى خلودي الصغير وهو يستعرض..
ما أروع أن يكون الإنسان مرتاحاً.. بلا مكابرة.. بلا معاص تثقل ظهره..
ذهبت الجروح.. ذهبت الأحداث.. لكن آثارها لا زالت باقية.. تحرق فؤادي كلما تذكرتها..
ليتني أعود طفلة بريئة..
ليتني أعود صفحة بيضاء..