يمنحون الحبَّ.. على طريق الحياة
كان يوماً حاراً اشتدت به ريح السموم..
واكتست به السماء بحمرة الغبار..
- أعوذ بالله من غضب الله..
أغلقت أمي النافذة.. وهي تسعل من أثر الغبار الذي دخل علينا.. وخرجت من غرفة الجلوس..
لم أكن أعرف ماذا أفعل..
صعدت إلى غرفتي.. استلقيت على السرير..
لم يكن هناك من مكان نذهب إليه في هذا الجو.. ولا شيء نفعله..
فتحت النت..
كانت أمولة على المسنجر..
- أهليين شأخبارك؟
- أخباري.. طفش.. غبار وضيقة صدر..
- يا بنت الحلال هونيها.. يكفي أمولة العسل معك على الخط.. يا الله فكيها عاد.. (وجه مبتسم)
سكت..
إنها لا تعلم شيئاً.. لا تعلم أي شيء..
- سوسة.. وينك؟
- هنا..
- ليش ما تردين.؟ (وجه عابس)
- ..
- يوه.. شكلك سرحانة على الأخير..
(وجه ممتعض)
- تعرفين يا أمولة أحد يشتري الهموم؟ والله لو أعرف من يشتريها لأبيعها بفلوس الدنيا كلها..
- يوء يوء يوء.. وش ذا؟ صايرة شاعرة وأنا مدري عنك؟ أي هموم يا حلوة.. هموم وعندك صديقتك أمل؟ ما يصير!
أخذت تفكر طويلاً.. هل تسرعت؟ هل تخبرها؟ الأمر جلل..
- لا خلاص ولا شي..
- يا شيخة على مين حركات البزارين هذي؟ وش ولا شي؟ وش عندك؟
- ...
- أقول بتقولين وإلا أعصب (وجه أحمر غاضب)
- ههه أمزح معك.. فعلاً ما فيه شي..
- إيه أكيد كنت تفكرين بلمى.. يا أختي بالطقاق فيها.. بدالها ألف..
حصة في سرها (أي لمى أي بطيخ!)..
- إيه صح.. هذا هو همي.. شلون تتركني كذا؟.. يعني ذا الطالبة الجديدة بتنفعها.. وإلا علشانها جاية من المدرسة الفلانية وتركب عدسات صارت شي.. من زينها كنها طالعة من قبر جدي بذا العيون البيض..
- لووووول
- ..
- خخخخخ.. رهيبة يا حصوص.. جبتيها.. إي والله عدساتها ذا السماوية كنهن بيض.. عيونها تروع!
- وأنا صادقة.. وإلا شعرها اللي كنه شيب مصبوغ بكركم.. أعوذ بالله.. مسكينة .. وشايفة نفسها بهالشعرتين مغير تلفح فيهم يمين ويسار.. ياي على المياعة.. لا تتكسر..
- صادقة.. أنا ما عجبني لون شعرها بايخ.. أي أحمر (بورغاندي) على قولتها؟ والله إن لونه برتقالي كنه صرصور..
- طيب.. المهم. بروح ذا الحين.. شكل أمي تناديني.. مع السلامة..
- باي حصوصة..
أقفلت حصوص المسنجر..
كانت تكذب.. لم يكن هناك من يناديها..
وضعت رأسها على يديها على المكتب.. وأخذت تبكي..
شيء ما كان يحتبس في صدرها لا تعرف لمن تقوله؟
* * *
في المدرسة.. لم يلاحظ أحد التغير والسكون الذي طغى على حصة.. ولم يلمح أحد نظراتها الحزينة.. الكل كان ينظر إليها كطالبة مشاغبة.. ولا وقت لأن يفكر أن حصة يمكن أن تكون حزينة..
فقط كانت هي.. من لاحظ ذلك.. أثناء الدرس.. كانت تنظر إليها.. فتجدها سارحة في عالم آخر..
تمازحها تداعبها.. فترد بابتسامة صفراء..
شيء ما كان متغيراً..
بعد انتهاء الدرس..
اقتربت منها.. همست بهدوء وهي تشير إلى الباب وهي تبتسم ابتسامتها الدافئة..
- تعالي.. أريدك..
خرجت مرتبكة..
- هلا أستاذة!.. عسى ما شر؟
- ولا شر ولا يحزنون.. ممكن أكلمك في الفسحة.. ودي أسولف معك شوي..
نظرت إليها باستغراب..
- خلاص؟ أنتظرك!
وابتسمت كعادتها وربتت على كتف حصة وأسرعت إلى فصلها التالي..
* * *
في الفسحة أتت..
خرجت لها أبلة مها رغم تعبها الظاهر..
- أستاذة.. معليش افطري..
- لا.. ما يحتاج.. أنتي أهم..
وابتسمت بدفء..
وقفتا في مكان هادئ..
- حصة.. أنا أثق بكلامك.. هل عدت إلى محادثة الشاب؟
- ماذا؟!
- أنا أسأل فقط..
- المشكلة ليست هنا..
مطت المعلمة شفتيها..
- مشكلة في البيت.. أليس كذلك؟
بدأت دموع حصة تنساب.. وهي تبتلع رعشات حلقها..
- مشكلة؟.. (بلوة)!
وضحكت وهي تخنق عبراتها..
سكتت أبلة مها في انتظار الحديث..
- أبي.. تصوري أستاذة مها.. أبي اكتشفت به شيئاً..
ومسحت أنفها بالمنديل..
- أبي اكتشفت أنه يكلم امرأة!!
وقفت أبلة مها بهدوء ولم تغير ملامح وجهها الهادئة وكأنها كانت تتوقع أي شيء..
- تصوري!.. وجدت رسائل غرامية في جواله بالصدفة.. امرأة بنفسها قد كتبت له.. تصوري.. والله يا أستاذة إني لا أكذب..
- لحظة.. هل أنت متأكدة؟
- متأكدة ولدي الدليل.. وجدته قد أرسل إليها في الرسائل المرسلة أيضاً..
وأخذت تبكي أكثر..
- أنا.. لا أعرف ماذا أفعل؟
بكت ثم أكملت..
- هل تعرفين يا أستاذة مها.. لقد.. قررت الانتقام منه.. لقد عدت إلى محادثة الشاب الذي كنت أكلمه قبل سنة..
- الذي تبت من علاقتك به؟
- نعم.. أريد أن أحرق قلبه كما حرق قلبي.. وقلب أمي المسكينة التي لا تعلم..
مسحت المعلمة على رأسها..
وقالت بهدوء..
- حبيبتي.. إذا كان والدك يأخذ سماً قاتلاً.. هل تنتقمين منه بأخذ نفس السم؟ إنك بذلك تقتلين نفسك أنت.. وليس نفسه!
انظري إلي.. واسمعي جيداً..
لا أنكر أن صدمتك مؤلمة.. من المؤلم أن يصدم الإنسان بمن يثق بهم..
لكن.. يجب أن تكوني أقوى من كل هذه الآلام..
ماذا سوف تجنين من هذه العلاقة؟
غضب الله.. الخوف.. القلق.. السمعة السيئة.. ألم أمك المسكينة التي خنت ثقتها..
أما والدك.. فلن يؤثر عليه هذا الأمر..
كان الأجدر أن تحاولي نصحه وتوجيهه بطرق غير مباشرة.. ثم بطرق مباشرة.. أن تدخلي طرفاً ثالثاً قادراً على الحوار بينكما.. أن تبلغي أمك مثلاً..
لكن أسلوبك هذا.. مع احترامي.. أسلوب غبي..!
- لكن أستاذة مها.. أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً..
- كلا تستطيعين..
هل جربت الدعاء له؟ هل جربت قيام الليل؟ هل صليت في الثلث الأخير ودعوت من كل قلبك؟ أم أسرعت فقط بإغواء الشيطان نحو جهازك لتحادثي ذلك الشاب؟ هل هذا الحل في نظرك؟
- لا أعرف.. والله لا أعرف!
وأخذت تبكي..
- المشكلة أنه لم يكن لدي من أكلمه.. من أبثه ألمي..
- هذا ليس عذراً يا حصة.. كان بإمكانك أن تأتي إلى محادثتي.. أن تفرشي سجادتك وتبثي همك إلى الله.. أن تحادثي والدتك أو أي شخص تثقين به.. لكن بالله عليك ما الذي سيفيدك حديثك مع الشاب؟
بكت بينما أستاذة مها تمسح على كتفها..
- لا أنا.. ولا أمك ولا كل من في هذا العالم يستطيعون أن يعيدوا أباك.. واحد فقط من يقدر.. ربك.. الجئي إليه يا غاليتي.. وسترين.
* * *
وذات مساء..
بعد أربع سنوات وسبعة أشهر من ذلك اليوم..
في صندوق بريد المعلمة مها الإلكتروني.. كانت هناك رسالة خاصة..
من حصة:
(الحبيبة الغالية أبلة مها..
كيف حالك؟
..
ألا زلت تذكرين ذلك اليوم؟
لم أعد أحادثه مذ حينها.. قطعت علاقتي السخيفة به.. وانتهيت..
الحمد لله..
أما قصة أبي..
فسأقول لك ما حصل..
أخبرت والدتي.. حدثت مشكلات كثيرة حينها بين أمي وأبي..
و.. تطلقا..
مررت بأيام عصيبة ومؤلمة أنا وإخوتي..
لكني تماسكت.. اتبعت نصيحتك.. واظبت على قيام الليل والدعاء لهما..
أربع سنوات.. لم أتوقف يوماً..
قبل ستة أشهر فقط عاد والديَّ إلى بعضهما.. الحمد لله حياتنا الآن رائعة..
والدي تغير كثيراً.. وكذلك أمي.. وهي حامل الآن.. ههههه شيء طريف أن أحصل على أخ في هذا العمر.. أليس كذلك؟
طبعاً نسيت أن أخبرك أني أدرس الآن في الجامعة السنة الثالثة..
حين أتذكر شريط حياتي.. تمر أمامي أحداث سوداء عاصفة كثيرة.. ثم.. فجأة.. تظهر صورتك كنجمة بيضاء ساطعة تنير دربي..
أحمد الله أن كنت معي ذلك اليوم وإلا لكان لحياتي مسار آخر – بمشيئة الله..
معلمتي وأمي الغالية أبلة مها.. أحبك من كل قلبي..
ولا أعرف كيف أشكرك..
فالأشخاص الذين يمنحون الحب مثلك على طريق الحياة نادرون.. نادرون جداً..)
* * *
على لوحة المفاتيح..
كانت قطرات دافئة تتساقط..