عرض مشاركة واحدة
  #145  
قديم 03-01-2015, 09:29 PM
 
- 46 -

قوة عينيها

كانت نادية بطلة شعبية في المدرسة..
فقد كانت من النوع الذي لا يؤخذ حقه ولا تسكت عن أي تجاوز ضدها أو ضد غيرها.. لذا كنا نراها النموذج القوي الذي نحب ونحلم أن نصبح مثله..
لم تكن من النوع الذي يتشاجر دون سبب.. كلا.. لم تكن كذلك أبداً..
على العكس..
كانت لا تتشاجر إلا لأسباب وجيهة.. وفي الوقت الذي يخشى فيه الجميع من الحديث أو الاعتراض..
لقد كانت تمتلك قوة غريبة لا تملكها أي فتاة رأيتها في حياتي..
ذات يوم كان هناك مجموعة من الفتيات أو المخلوقات التي تشبه الفتيات يجلسن كحلقة قرب المقصف.. كان موقع جلوسهن سيئاً ومزعجاً للجميع فقد أغلقن الطريق أمام كل من تريد الشراء من نافذة المقصف الكبيرة..
كان من الواضح أنهن تعمدن ذلك لكي يعلم الجميع مدى قوتهن.. ولا أعرف ما الذي يفرحهن في هذا؟؟
لم يستطع أحد أن يواجههن بشكل قوي..
فقد كانت الجازي رئيسة المجموعة وهي فتاة مخيفة بكل ما تعنيه الكلمة بدءاً من جسمها الطويل القوي وتصرفاتها الحادة وهيئتها المسترجلة..
تأففت الكثير من الفتيات.. وأبدين تذمرهن وانزعاجهن لكن دون جدوى..
حتى أبلة منى مراقبة الساحة حادثتهن عدة مرات دون جدوى..
وفي النهاية رأتهن نادية..
فتحمست لعمل شيء..
- نادية.. أرجوك.. أرجوك.. لا تتهوري.. لا تقتربي من هؤلاء المجانين..
- قلت سأذهب يعني سأذهب..
- نادية أرجوك لا تجازفي بنفسك..
- ولماذا أجازف ماذا سيفعلن؟
- أنظري للسلسلة اللامعة التي تتدلى من جيبها.. قد تلسعك بها بكل سهولة..!
- أتحدى.. إنها أجبن من أن تفعل ذلك.. لا شيء يجعلها تتجرأ و(تنفخ) نفسها سوى خوفكن وجبنكن فقط!
وانطلقت بكل ثقة لتشتري من المقصف..
- لو سمحتوا شوي!
ولم يعرها أحد اهتماماً.. كانت كل فتيات الشلة ينظرن لبعضهن ثم ينظرن لها بازدراء ويتابعن ضحكاتهن..
رفعت صوتها..
- هذا يعني.. أنكن لا تردن التحرك.. حسناً سأتحرك أنا إذاً..
وانطلقت بشكل خاطف وجنوني.. تدوس عليهن بكل قوة..!!
كان منظراً غريباً.. مضحكاً.. مخيفاً.. رهيباً.. لا أعرف..
انطلقت صرخاتهن المتألمة العالية.. وهي تدوس بكل قوتها بحذائها الرياضي على أرجلهن وتتعمد ذلك.. وتقفز من حضن واحدة لأخرى غير آبهة بصرخاتهن وتوجعاتهن.. لتعبر نحو نافذة المقصف..
اجتمعت كل فتيات المدرسة على الموقف الرهيب..
وقفت الجازي بكل قوتها.. وصرخت بصوت أجش..
- هييييييييييه!! خير!! خير؟! ماذا تريدين؟
وبكل برود ردت نادية..
- لاشيء.. أريد فقط أن أشتري من المقصف..!
وذهبت لتشتري..
انطلقت الجازي خلفها وسحبتها من كتفها.. وصرخت كأسد هائج..
- تعالي كلميني..
كانت نادية متماسكة تماماً.. فقط التفتت نحو الطالبات وقالت..
- اشهدن جميعاً.. إنها تتعدى علي بيدها!! هل شهدتن؟
انتفخت أوداج الجازي وأصبح وجهها أحمر..
- انظروا.. انظروا لها.. إنها تنفخ أمامي بقوة.. لنر ماذا تستطيع أن تفعل؟
شعرت بالخوف الشديد على نادية.. فرغم قوة شخصيتها وعنادها الشديد وشجاعتها الغريبة.. إلا أنها ذات جسم نحيل ضعيف.. وقد بدت أمام الجازي كقطة صغيرة أمام أسد هائج..
- طيب.. طيب يا الـ.. (..)
بكل غرابة.. ولا أعرف لماذا أعطت الجازي نادية ظهرها وهي تسير شبه منهزمة.. وتردد (سأريك.. سأريك!)
صرخت فيها نادية لكل جرأة وقوة وحماس.. بصوت عال..
- هيا.. هيا..! اذهبي.. ولا تعودي للجلوس مرة أخرى مع قطيعك في هذا المكان مرة أخرى.. وإلا فإنني سأرتدي كعباً حاداً المرة القادمة..!
كان موقفاً غريباً.. لا أعرف كيف انسحبت الجازي أمام نادية.. رغم أنه بضربة واحدة من كفها الغليظ كان بإمكانها أن تسقط نادية صريعة..!
أيقنت أنها قوة شخصيتها.. قوة الحق في عينيها الحادتين.. والتي حولت ضعفها لقوة مخيفة..
ولهذا أصبحت كل الفتيات المشاكسات يخشين نادية ويتجنبن مواجهتها..
وأصبحت كل فتيات المدرسة يحببنها ويقفن في صفها..
ذات يوم.. حصل لي موقف لن أنساه.. كنت أسير مع صديقتي في ساحة المدرسة..
حين جاءت إحدى الفتيات المتهورات وهي تجري مسرعة واصطدمت بي بقوة فأوقعتني أرضاً وأكملت ركضها دون حتى أن تلتفت إلي أو تعتذر..
كانت سقطتي مؤلمة وقوية.. فقد ارتطم رأسي بجدار قريب..
وحين استطعت الوقوف وترتيب شعري، اقتربت مني نادية وهي غاضبة.. وقالت..
- نوال!.. لماذا تسكتين؟ اذهبي وحادثيها.. لقد تعودن على قلة الذوق والاحترام.. وهن بحاجة لمن يوقفهن عند حدهن..
شعرت بالخجل من نفسي.. بالفعل كنت أحتاج لأن أواجه من ظلمني وآخذ حقي منه.. لكن.. نظراً لضعفي الشديد.. لم أستطع يوماً أن أفعل ذلك.. كنت أتظاهر دوماً بأني أسامح الناس.. لكن الحقيقة هي أني أخاف من مواجهة الآخرين حتى لو كانوا مخطئين..
- تعالي.. قومي.. هيا..
أمسكت يدي.. وسحبتني..
- اسمعي.. أنا لن أتدخل.. فقط سأمسكها لك.. وأنت تصرفي.. مفهوم؟
ابتلعت ريقي بصعوبة وأنا أجري معها بارتباك..
وحين وجدت الفتاة تضحك مع زميلاتها رمقتها بنظرة قوية ونادتها بحدة..
- تعالي.. تعالي لو سمحت..
نظرت الفتاة إلينا بجمود يشوبه خوف واستغراب..
- نعم.. ماذا؟
- تعالي.. وواجهي هذه الفتاة التي أسقطتها بجريك الأهوج قبل قليل..
اقتربت ونظرت إلي نظرة غبية.. فلم أعرف ماذا أقول..
نظرت لنادية والعرق يتفصد من جبيني..
- آآآه.. آآ.. أنا.. ممم.. لماذا أسقطتني؟
- لا أدري.. لم أرك أصلاً.. أنت كنت تقفين في مكان خطأ!!
كانت نادية تراقبني بهدوء دون تدخل.. فتلعثمت مرة أخرى.. وقلت بصوت مرتعش..
- كلا.. لم يكن مكاني خطأ.. آآآ.. أنت كنت مسرعة..
ضحكت الفتاة باستهتار مقيت.. وأعطتني ظهرها لتكمل حديثها مع زميلاتها..
فصرخت نادية عليها..
- لو سمحت!!! الحديث لم ينته..!
يا الله! اجتمع بعض البنات حولنا.. شعرت بأني في ورطة.. ماذا أفعل؟ أريد أن أنسحب..
- ليس من حقك أن تجري بجنون كالأطفال وتضربي الناس ثم تقولي.. لم أرهم!!
شعرت الفتاة بالخوف فقالت..
- طيب.. والمطلوب..؟
- أن تعتذري لها..
نظرت إلي وهي تمط شفتيها ثم قالت..
- آسفة..
- انتبهي مرة أخرى حين تجرين.. فالناس ليسوا لعباً..
حمدت الله أن الموقف انتهى.. وسرت بعيداً وأنا أشعر باعتزاز لم أشعر مثله من قبل..
قالت لي نادية..
- نوال.. اسمعيني جيداً.. التسامح لا يعني أن تتركي حقك يضيع.. وأن تتركي الآخرين يتجاوزون حدودهم معك.. بتسامحك مع أمثال هؤلاء فأنت تتركين الطريق يتسع أكثر فأكثر لهم ولتجاوزاتهم.. إذا أردت أن تسامحي الآخرين فسامحيهم.. لكن وأنت قوية.. وليس.. وأنت ضعيفة.. هل تفهميني؟
بعد مرور عشرات السنين على ذلك الموقف لازلت أتذكر كلماتها بكل دقة..
حتى الآن.. لا أعرف إن كان كلام نادية صحيحاً تماماً أم لا..
ولا أستطيع أن أحكم ما إذا كان أسلوبها صحيحاً أم لا..
أعرف أننا كنا مراهقات.. لم ينضجن على نار الحياة بعد..
وما عرفته حقاً من خلال خبرتي في الحياة..
إن الإنسان إذا فقد قوته في الحق.. وسكت عن الظلم ضعفاً..
فإنه يفقد أول معالم إنسانيته..