عرض مشاركة واحدة
  #147  
قديم 03-01-2015, 09:32 PM
 
حتى لا تجف البئر

منذ أيام.. لم تعد جدتي تتحدث كثيراً كعادتها..
لا أعرف ما الذي حصل..
كل شيء طبيعي..
أعمامي يأتون لزيارتها بالتناوب..
وفي العصر نخرجها لتجلس معنا في الحوش.. نحتسي القهوة ونأكل بعض التمر أو الرطب..
لا مشاكل..
لا شي يكدر صفو حياتها..
لكنها فجأة.. دخلت في حالة سكون غريبة..
لم تعد تتحدث وتعيد قصصها القديمة كل يوم..
أصبحت تجلس صامتة معظم الوقت.. تقلب عينيها في فنجانها.. أو في الفراغ..
وتأخذ نفساً عميقاً وهي تذكر الله..
كنت دائماً مشغولة عنها..
بواجباتي.. اختباراتي.. مكالماتي مع صديقاتي.. النت.. ملابسي.. تماريني الرياضية..
كنت أشعر أن يومي مزدحم جداً.. ولا وقت لدي لكي أجلس معها وأسمع اسطواناتها القديمة المكررة..
كنت أكتفي بالسلام عليها كل صباح وهي تقلب مذياعها القديم الذي ثبت عمي مؤشره على إذاعة القرآن الكريم (حتى لا (تضيع) عنها وتنادينا عشرين مرة في اليوم لنعيده).. أمر لأقبل رأسها وأودعها وأنا ذاهبة للمدرسة..
أحياناً قليلة..
حين لا أكون نائمة عصراً.. أجلس معهم في الحوش.. أشرب بعض القهوة على عجل..
ثم أعود لغرفتي..
أحاديث جدتي كانت تشعرني بالدوار..
كلها محدودة لا تخرج عن أربع قصص: قصة ولادة بقرتهم المتعسرة.. وقصة مرضها الدائم في طفولتها وذهاب أهلها بها للمقبرة لطرد الشؤم عنها.. وقصة زواجها بجدي وهي صغيرة تلعب بالطين.. وهناك أيضاً قصة تعرض والدها لهجمة الذئاب في مزرعته..
حفظت هذه القصص الأربع بكل تفاصيلها الدقيقة.. حتى مللت..
وأصبحت أشعر بالغثيان كلما بدأت تسردها من جديد...
ياااااااا الله..!!
من يستطيع أن يجلس مع جدتي ويتحمل إعادة قصصها كل مرة؟! لا أتخيل!
حتى أعمامي حين يأتون لزيارتها.. يحاولون ألا يعيدوها إلى الماضي.. يشغلونها بسرعة في أحاديث الحاضر..
فلان قام بكذا.. فلان يريد كذا.. وفلانة أصبحت كذا..
وهكذا..
أصبحوا يعرفونها جيداً..
أي فرصة تتاح لها سوف تستغلها بسرعة وتعود بنا لقصصها القديمة..
كانت تحاول جاهدة أن تفتح سيرة الماضي.. وتتحدث..
لكن الجميع كان يحاول بسرعة أن يقطع الحديث ويغير مجراه حفاظاً على رؤوس الجميع من الصداع..!
بالنسبة لجدتي..
كنت أشعر في كل مرة.. أنها تعتقد أنها تروي القصة للمرة الأولى..
لم تكن تشعر ولا بجزء بسيييط من ذاكرتها.. أنها تقولها للمرة المائة وعشرين بعد الألف..!!
كانت تسعى للعودة لماضي.. تريد أن تحرك دوامة تفكيرها قليلاً..
لكننا لم نكن نسمح لها بذلك..
فبدأت تذبل شيئاً فشيئاً.. دون أن نشعر..
لا أعرف كيف اكتشفت ذلك..
حين جلست معها في غرفتها ذات يوم..
لم تكن تشعر بوجودي جيداً.. كانت مستلقية على سريرها.. وقد تدلت جدائلها الحمراء على الوسادة..
وكانت تنظر للسقف.. أو شيء لا أعرفه..
أحسست أنها تعاني من فراغ كبير لا نشعر به..
كانت صامتة على غير عادتها..
اقتربت منها.. وبدأت أمسد ساقها النحيلة.. وهي ساكتة تماماً..
تنهدت..
ثم سألتني..
- ما عندك اختبار؟
- لا..
- بتطلعين السوق الحين؟
- لا..
سكتت..
شعرت أنها لا تعرف ماذا تقول..
رحمتها كثيراً..
فالحديث مع جيل آخر صعب بالنسبة لها..
إنها مثل السمكة التي لا تجيد العيش إلا في الماء.. هي لا تستطيع الحديث إلا وتعود للماضي..
ونحن حرمناها من ذلك..
كانت تتنفس من خلال حديث الماضي..
تتذكر أحبابها.. عالمها.. روائحها.. الزمن الذي كانت فيه قوية.. محبوبة.. تتحرك بهمة.. تفكر.. ذلك هو عالمها الحقيقي..
أما الآن..
فماذا لديها؟
غرفة صغيرة.. أحفاد يتذمرون من الجلوس معها.. أو .. يتصنعون ويجاملون ذلك..
أبناء سئموا من أحاديثها المكررة.. مهما حاول الجميع برها.. والإحسان إليها..
في تلك اللحظة..
عرفت أنها تشعر أن الجميع (يتصنع) أن يسعدها..
هي كانت تريد ذلك الزمن البعييييد..
ونحن حرمناها منه.. بكل أنانية.. لا أحد يريد أن يسمعها.. لا أحد يترك لها الفرصة لذلك..
كانت بحاجة لمن يغرف من منهل خبراتها القديمة.. ومن يسمع قصصها.. ممن لم يعش ذلك الزمن..
كانت مثل البئر..
إذا لم يشرب منه أحد.. فإنه ينضب..
لكننا رفضنا أن نشرب منه.. وتركنا مياهه تأسن.. وتجف..
- (يمه.. سولفي لي عن بيتكم أول..)
نظرت إلي بشيء من الاستغراب.. والحماس..
شعرت بعينيها تضيئان..
وبدأت تحكي وتحكي.. حتى وصلت لقصة البقرة.. التي سمعتها ألف مرة قبل ذلك..
حاولت أن أبدو كمستمعة جيدة.. وأن أهمهم بتأثر بالغ وأبتسم عند الحاجة..
وهي فرحة.. وتصف التفاصيل بحماس.. حتى النهاية..
حين خرجت من غرفتها.. كانت نظراتها مختلفة.. ووجها الشاحب قد عادت له ألوان الحياة..
نظرت إلى ساعتي..
نصف ساعة فقط!
ما يضرني لو أني قضيت كل يوم نصف ساعة.. أستمع لقصصها القديمة..
حتى لا تجف البئر؟