- 49 -
هنا فقط..
ذاب الجليد
- ياربييييي.. متى يجي العيد ونحصل لنا كم عيدية.. ودي أشتري أشياء لغرفتي.. أزينها..
- ليش يعني أهلك ما يشترون لك؟
- أقول بس.. وش يشترون لي؟ كثر الله خيرهم.. أبوي ما قصر وغير أثاث غرفتي يا عمري وحط لها موكيت.. لازم أنا أجمع لي شوية فلوس وأزين غرفتي..
- مني فاهمة؟! إذا كانوا شروا لك.. ليش ما يكملون معروفهم..
- صعبة يا بدور أقول لأبوي اشتر لي تحفة أو شموع أو مزهرية أو خرابيط.. ودي أنا أشتري على راحتي.. أبوي على قد حاله الحمد لله لكن صعب أكلف عليه..
مططت شفتي على مضض..
لم أكن أفهم طريقة تفكير صديقتي.. ولا أسلوب حياتها..
الحقيقة أني لم أفهم أسلوب حياة الكثيرات ممن حولي..
لا أعرف إن كنت أنا الغريبة أو هن؟
* * *
منذ أن بلغت التاسعة ووالدي يسيّر لي نفقة شهرية..
كنت أستلم شهرياً ألف ريال كمصروف جيب لي وحدي.. وأنا طفلة..
كما أن أمي تعمل كمديرة مدرسة.. وهي فوق ذلك تمنحني كل ما أريد وأطلب.. بل إنها منحتني نسخة من بطاقة الصراف الخاصة بها منذ أن وصلت المرحلة المتوسطة..
كان لي دوماً مالي الخاص..
وحساب توفيري الخاص أيضاً منذ صغري..
كل ما أريده كنت أستطيع الحصول عليه تقريباً..
لكن..
كان هناك شيء ما أفتقده..
* * *
- بدوووور.. عطينا حلويات.. بس شوي.. الله يخلييييييييييييك..
كان أبناء أقاربي يركضون خلفي وأنا ألتفت.. ثم أنثر بعضها في الهواء في ساحة منزلنا الفخم.. ليلتقطوها كالدجاج من على الأرض..
كنت قائدة الأطفال بحلوياتي.. وكنت أستخدمها لإهانة البعض – بعدم إعطائي إياهم.. أو لتطويع البعض للانقياد لي..
وكنت أكافئ بعض الصديقات المطيعات جداً.. بدعوتهن إلى بيتنا.. الغريييب بالنسبة لهن..
أريهن عرائسي و(دباديبي) المصففة بترتيب على رف قرب سريري..
وأخرج لهن علب مكياج الأطفال الخاصة بي..
وأفتح لهن أدراجي المليئة باللعب المنوعة..
وأطلعهن على قصصي الملونة الجميلة في رفوف مكتبتي..
كما كنا نلعب في كمبيوتر الأطفال الخاص بي..
كانت غرفتي عالماً سحرياً جميلاً لهن..
لكن..
حين كنت أسمع صوت والديّ وهما يتشاجران يعلو في البيت.. كنت أرتعش خوفاً وحرجاً من صديقاتي.. فأسرع بإخراجهن إلى (الحوش) مع إعطائهن شيئاً من الحلوى كي لا يخبرن أحداً بما سمعن..
كبرت ولي شخصيتي المستقلة.. ودخلي الخاص..
ولكن حدثت نقطة التحول في حياتي.. حين أصبحت في الصف الثاني الثانوي.. فقد شاء الله أن يتوفى والدي..
لم تكن علاقتي به قوية.. لكني افتقدته..
افتقدت.. شيئاً لا أعرف كنهه.. شيء يشبه القوة التي تسندك..
ربما.. آلمني شعور اليتم دون أن أعرف..
ولم أكن أعرف ماذا ينتظرني بعد ذلك..
* * *
تمر أوراق كثيرة في حياتي.. تتطاير..
سمر بنت خالتي خطبت.. فرح بها الجميع.. كانت صغيرة.. لا تزال في الثانوية..
خطبها قريب لنا..
لا أعرف لم اختارها هي بالذات؟
فتاة عادية في كل شيء.. لا ذكاء مبهر.. ولا جمال ملفت..
ربما شيء من هدوء وما يسمونه (ثقل).. أففف هل يعتبرون هذه ميزة..؟!
مرت الورقة. وطارت بعيداً مع رياح الخريف..
* * *
دخلت الجامعة..
وذات صباح.. استيقظت وقد أكملت ثمانية عشر عاماً..
كان شيئاً غريباً.. يمكن أن يمر على أي فتاة بشكل عادي.. لكن بالنسبة لي كان الأمر مختلفاً..
كان يعني انتقال التصرف في إرثي إلي شخصياً..
لم يكن هناك الكثير ممن ينازعني بالإرث.. زوجة أبي لم تنجب.. ووالدي ليس له سوى أخت واحدة مسنة..
تنازلت عن نصيبها.. ولم ترغب سوى بشقة من العمارة التي في مكة..
كل شيء.. آل لي..
اجراءات كثيرة ومعقدة.. دخلت المحكمة عدة مرات.. والبنك مرات عديدة..
آثرت بيع الشركة.. بمشورة خالي وأمي.. على أن أحتفظ فقط بنسبة من أسهمها تدر علينا ربحاً سنوياً..
بقيت أيضاً مجموعة من العمائر في مكة وجدة.. أيضاً آثرت إيجار العمائر بأكملها.. ليصلني ريعها سنوياً..
* * *
لم أكن أريد أن أكون مهمة..
لكن الأهمية هي من طاردتني..
حين أجلس مع صديقاتي.. يرن جوالي فجأة..
- مدام بدور.. ممكن رقم الحساب بسرعة..
- مدام بدور.. العمارة معروضة للشراء بسعر مرتفع جداً.. هل ترغبين؟
- مدام بدور.. هل تريدين إجراء الحوالة للبنك الفلاني أم الفلاني؟
كنت أشعر بالحرج أمام صديقاتي..
أتمنى.. أتمنى.. أن أكون بسيطة بينهن.. لكني عبثاً لم أستطع..
أسمعهن يتحدثن عن مواسم التخفيضات.. أفضل الأسعار.. يتحرين وقت نزول المكافآت..
وأنا.. لم أكن أجد رابطاً.. لأتكلم معهن في هذه المواضيع التي لا تهمني أبداً!
كنت أتمنى أن أتصنع ذلك.. لكني لا أعرف كيف أكذب!
كنت أسمع البعض يتهامسن..
- ما شاء الله تصدقين أن شركة العقار المعروفة كانت لوالدها وقد ورثتها عنه؟
- معقولة؟
- يوووه وأكثر! هذي اللي تشوفينها بدور بنت (..).. كل أملاك أبوها صارت لها.. عندها عماير وشركات!!
- يا مامااا!.. لو كنت مكانها وشوله أجي الجامعة.. كان أنام في بيتي أصرف لي وأمشي لي راتب وبس..! ..
- هههههه
* * *
حتى حين ألبس ساعة فخمة.. كنت أشعر بالألم من نظرات صديقاتي.. المنبهرة بصمت.. أو المنكسرة بصمتٍ أيضاً..
- شفتي ساعتها! روليكس بميتين ألف!!!
حقاً لا أعرف ماذا أفعل.. إن لبست.. لم أرض الناس..
وإن لم ألبس.. لم أرضهم أيضاً..
تباً لهم.. مهما فعلت.. لن يحبوني..
شعور بالوحدة يكتنفني أينما أذهب..
حولي زميلات.. لا أستطيع تسميتهن صديقات..
لا أحبهن... لكني لا أجد غيرهن..
يتملقن كثيراً.. يمدحن ويثنين..
يردن أن يوصفن بأنهن (يماشين) بدور بنت المليونير.. أو المليونيرة..
أعرف ذلك جيداً.. ولا أحبهن..
لكني لا أجد غيرهن..
أجدني مجبرة على ارتداء النظارة السوداء هرباً من كل شيء..
منذ سنتين لم أعد أستطيع الاستغناء عنها.. تشعرني بشيء من الراحة حين أجلس وحدي..
أصبحت أحب الوحدة.. الغربة.. بعيداً عن الأعين المتطفلة.. أو الحاقدة..
أعيش في قالب من جليد..
كم يضايقني هذا المال.. يخنقني.. يعصرني في بوتقة خانقة..
يضع حواجز سميكة من جليد بيني وبين الآخرين..
حتى المحبين الطيبين.. يتجنبوني.. وكأني ملطخة بالإثم..
ربما يستحون مني.. ربما يعتقدون أني أشتري الناس؟
* * *
تخرجت من الجامعة..
وتطايرت كثير من الأوراق..
جلست بملل في البيت.. أرد على الاتصالات هنا وهناك..
مللت كثيراً.. وضاقت بي الدنيا..
حاولت أن أجد عملاً.. ولو في مدرسة أهلية..
الكل صعق!
ماذا تريد هذه؟!!
المال لديها..
لكن.. أنا لا أريد المال.. أريد.. لا أعرف..
شجعتني أمي لما رأته من حالتي النفسية.. ووحدتي..
عملت..
لم أتحمل التعب والأوامر الكثيرة في بداية الأمر.. تنقلت من مدرسة لأخرى.. تعبت..
شخصيتي لا تتناسب مع هذه الأعمال.. لكن ماذا أفعل..
* * *
تزوجت إلهام ابنة خالي التي تصغرني بسنوات..
وكذلك ابنة عمتي الصغرى..
تزوجا في صيف واحد..
ورأيت أمي تنظر إلي في الزواج بألم..
لم يكن أحد يتقدم لخطبتي أصلاً.. الكل كان يخشى الاقتراب منا..
بدور بنت فلان؟.. كم ستطلب مهراً؟
لم يكونوا يعرفون أني لست بحاجة لمهر ولا لذهب.. ولا أي شيء.. كل شيء كان لدي..
كنت أريد فقط.. شيئاً.. لا أعرفه..
* * *
ذات عام.. أو نهار – لا أعرف متى وصلت إليه..
كنت في الساحة حيث كانت نوبة المراقبة الخاصة بي.. الطالبات يتمشين هنا وهناك ويتناولن فطورهن.. وألمح بعض بنات الثانوي يشرن إلى بلوزتي الغريبة اللي اشتريتها من رحلتي الأخيرة لأوربا..
تعودت على تهامسهن وإشاراتهن لتفاصيل مظهري..
كنت أسير بضجر..
حين وجدتني أقترب من مصلى المدرسة.. تلك الغرفة الصغيرة في الساحة..
ماذا قد يوجد هناك..؟
أعمل هنا منذ سنة.. ولم أعرف يوماً ماذا يحدث هناك؟
اقتربت.. كان هناك صوت رقيق جميل..
معقول؟ طالبة تلقي كلمة..؟
أطللت برأسي..
رأيتها.. (مرام) تلك الطالبة النحيلة المؤدبة.. كانت تجلس في منتصف الحلقة وتتحدث عن فضل تدارس القرآن الكريم وفضل حلقات الذكر..
لم يكن حولها سوى خمس أو ست طالبات.. لكن.. كنت أشعر بأن هناك من يجلس معهن!..
كان المجلس عامراً بشيء.. لم أعرفه.. شيء رائع وعظيم..
أهو الحب؟ أهو الراحة والطمأنينة؟ أهي البساطة؟ لا أعرف.. لم أكن أعرف كيف أصف..
ثم بدأن يسمعن نصابهن من الحفظ.. بأصوات جميلة.. واحدة تلو الأخرى.. يا الله.. ما أجملهن.. ما أسعدهن..!
شعرت بمن يربت على كتفي..!
التفت..
كانت عفاف.. معلمة التاريخ ومشرفة المصلى..
- شاركينا يا أبلة بدور.. تفضلي..
- ماذا؟!
شعرت بالخجل وأنا بنظارتي السوداء.. وكعبي العال أن أدخل..
تعودت على وضع حواجز بيني وبين الآخرين.. كيف.. آآ..
لكني لم أقاوم الدعوة.. شيء كان يجذبني..
رفعت النظارة.. وخلعت الكعب.. ودخلت خلفها..
كنت أسير بخجل... وكأني طفلة صغيرة..
جلست بين طالباتي..
فأخذت المعلمة عفاف.. تتحدث مرة أخرى عن أهمية وفضل مجالس الذكر وتثني على الطالبات لعزمهن ولهمتهن العالية.. وأنهن استقطعن هذا الوقت الثمين المريح لهن لطاعة الرحمن..
كنت منسجمة.. ومتأثرة جداً..
شعرت بشيء بارد جامد في داخلي وحولي.. يذوب بدفء.. ويغسل روحي.. بنقاء..
أطلت عدة طالبات من الباب.. وتهامسن..
- أبلة بدور هنا!.. تعالوا شوفوا!!
ودخلت واحدة ثم أخرى..
وبعد قليل كان هناك أكثر من عشرين طالبة تستمع لكلمة مؤثرة ألقتها أستاذة عفاف لتشجع الطالبات على حضور دروس وحلقات المصلى وتذكرهن بنعيم الآخرة..
يا الله.. ما أجمل هذا الشعور بالسكينة..
هذا ما كنت أفتقده منذ سنوات.. رغم كل ما لدي..
أن أكون.. أنا.. الأمة الفقيرة إلى الله.. لا بدور (المليونيرة)!
أردت أن ألتصق بجدران المصلى.. أن أقبلها واحداً واحداً..
أن أقبل أرض المصلى..
أن أحضن طالباتي الرائعات..
أخيراً.. خلعت ردائي.. ووجدت ما أفتقده..