03-01-2015, 09:42 PM
|
|
- 50 - مولودي.. ليس لي بهدوء.. فتحت درجي..
سحبت صندوقي الغالي.. وضعته في حضني..
فتحته وبدأت أخرج دفتر خواطري.. وأوراقي المتناثرة..
قصائد..
خواطر.. شعر حر..
قرأت.. وقرأت..
هذه كانت في المرحلة المتوسطة..
وهذه في الصف الأول الثانوي..
هذه كتبتها.. أيام الاختبارات النهائية حين كنت في سنة ثالث..
وهذه وأنا على أعتاب الجامعة..
هذه خواطري حين كنت أختار التخصص ووقعت في حيرة..
وهذه قصيدتي حين فقدت صديقتي بسبب سفرها لمدينة أخرى..
وهذه حين سمعت بوفاة معلمتي الغالية رحمها الله..
كنت أسحب الأوراق واحدة بعد الأخرى.. أقرأها.. فتنساب دموعي..
كانت قصائدي تلك بمثابة البنات لي.. خرجن من صلب قلبي..
أقفلت عليهن طويلاً هنا..
وها هن يعدن للحياة بشكل مثير..
لكن..
لم يكن هذا سبب بكائي.. * * * - أريد أن أكتب باسم مستعار..
- بلا خرابيط.. تدرين أني ما تعجبني هالحركات!
- أي حركات يا عبد الله.. هذي أدب.. أدب راقي ومحترم.. وفي مجلة محترمة.. وعلشانك بس راح أكتبها باسم مستعار.. وش يضرك طيب؟
- بس!.. أنا ما أحترم اللي نسوي هالحركات..
- رجعنا على سالفة (الحركات).. أقول لك كتابة أدبية.. تقول (حركات)..؟!
صرخ بقوة.. وهو يرمي الجريدة على الأرض ويقف..
- إيه حركااااااااات ونص.. شعر ومياعة وكلام فاضي.. قلت لا.. يعني لا!!
وأسرع يخرج ضجراً من الصالة.. وقبل أن يخرج.. عاد وهو ينظر إلي بحدة ويشير بسبابته..
- والله وبالله.. لو دريت أنك مرسلة لأي مجلة أو جريدة لا تلومين إلا نفسك!
كانت رغد الصغيرة تطل من باب غرفتها بخوف.. وحين خرج.. همست بخوف من بعيد..
- مامااااااااااا.. ليش بابا معصب؟!
- تعالي حبيبتي.. ما فيه شي.. * * * أغمضت عيني..
وابتعدت عن الواقع.. سافرت لشاطئ بعييييد..
نظرت لأوراقي.. لخطي الجميل.. وللرسومات التي رسمتها بدقة مع كل خاطرة..
بحار وشواطئ جرداء.. وموانئ.. وسفن مسافرة نحو المجهول..
تنفست بقوة..
شعرت أني أقدم على عمل قاس جداً لكن لابد منه..
أمسكتها بقوة.. وقفت أمام نار صغيرة أشعلتها في الحديقة..
عدت بذاكرتي لمرحلتي المتوسطة.. حين كنت أحلم أن أكون كاتبة كبيرة..
ثم للمرحلة الثانوية حين أصبحت أحلامي أكثر واقعية..
حلمت أن يكون لي باب أو عمود في مطبوعة..
وفي الجامعة.. أصبحت أحلم فقط أن تنشر لي مشاركة واحدة..
لكنه اشترى أحلامي بلا ثمن..
وباعها بلا مقابل..
لتمت الآن فهذا أرحم من أن تبقى حبيسة الأدراج سنوات طويلة..
وقفت رغودة قربي وهي تنظر إلي باستغراب..
- ماما ماذا ستحرقين؟
- أحلامي.. يا صغيرتي..
- ماما لا تحرقينها.. حلوة فيها رسمات حلوة.. مساكين الطيور لا تحرقينهم..
نظرت إلى صورة طائر يحلق بعيداً فوق البحر.. رحمته..
فكرت قليلاً.. ضممت رغودة وابتعدت.. * * * - سعاد.. أسلوبك رائع جداً..
أنت لست مجرد هاوية مبتدئة..
أعني.. أسلوبك.. مميز جداً.. أنت تنافسين كبار الشعراء.. لماذا لا تنشرين إنتاجك؟ حرام أن يبقى حبيس الأدراج والدفاتر!
- دكتورة عفاف.. أنت تبالغين.. ليس لهذه الدرجة..
- بل وأكثر.. صدقيني.. يجب ويجب أن تنشري إنتاجك.. أنت مبدعة وأسلوبك مؤثر لدرجة كبيرة.. مجموعة قصائدك هذه لو نشرت في ديوان فسيكون ناجحاً جداً.. تفتقد في الساحة الأدبية لدواوين شعرية بهذه اللغة القوية المبهرة..
ابتسمت بألم وخفضت رأسي..
- لا أستطيع..
- لماذا؟
- لا تعرفين يا دكتورة.. هذه الدواوين ليست ملكي..
- لماذا ألست أنت من كتبها؟
- أنا من كتبها.. لكنها ليست ملكي للأسف.. وليس قراري أن أنشرها أم لا.. زوجي.. يرفض فكرة النشر نهائياً..
- أمر مؤسف.. لكن ماذا عن فكرة النشر باسم مستعار..
- يرفضه أيضاً.. لا أمل..
أخفضت رأسي وأنا أقاوم دموعاً ثقيلة كيلا تسقط..
- على هذه القصائد أن ترضى أن تبقى حبيسة الأدراج طيلة العمر.. إنه حكم مؤبد!
أطرقت الدكتورة قليلاً ثم انتفضت فجأة..
- لدي فكرة.. أعطني القصائد وسأتولى نشرها لك بنفسي.. باسم مستعار.. أعرف ناشراً جيداً.. وسأتولى النواحي الإدارية.. فقط اختاري اسماً وأنا سأتولى الباقي.. لن يعلم زوجك بهذا الأمر..
شعرت بحيرة.. وقررت أن أعطي الأمر فسحة من أمل.. * * * بعد أشهر طويلة..
ناولتني النسخة الأولى من الديوان..
أمسكته بحذر بين يدي كمولود صغير.. كانت يداي ترتجفان.. تأملته بشغف والدموع تترقرق في عيني..
ما أجمله..
تصفحته.. إنها قصائدي.. ظهرت للحياة أخيراً..
أطلق سراحها من قفصها.. وها هي تحلق نحو الأفق البعيد..
يا له من شعور.. هزني من الأعماق..
شعرت بالفخر بقصائدي الصغيرة.. لقد استطاعت أن تفعلها..
أغلقت الديوان لأتأمل الغلاف..
هناك.. لم أكن أنا..
كان إسم انسانة أخرى..
انسانة مجهولة.. لا حياة لها على أرض الواقع..
شعرت بالألم الذي لم أتصوره..
مولودي البكر الصغير.. يؤخذ مني.. وينسب لغيري.. وأنا أرى كل ذلك بأم عيني!
ضممته بقوة..
هنا بين دفتي هذا الكتاب.. كانت دموعي.. أحلامي.. وآمالي.. ومشاعري..
هنا.. نبض قلبي.. ودفق دمي..
ضممته بقوة.. وأخذت أبكي..
على مولودي الذي ليس من حقي أن أفرح به.. ولا أخبر أحداً عنه..
مولودي الذي سرق مني.. قبل أن يولد.. |