عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 04-25-2015, 03:18 PM
 
(3)

نعمة العقل:
اليوم يوم إجازة، حالة من الطرب والفرحة على تلك الأوجه الصَّغيرة؛ فقد وعد مسلم صغارَه بالخروج، لكن مسلم كعادته يُحب البيتوتة في زمَن العجائب؛ فهو يحذر من الأماكن المختلطة، ويتجنَّب العالم الرَّحْب بصخبه ومشاكِلِه، خاصَّة أنَّ أولادَه بدؤوا في سنّ التَّمييز والأمر أصبح أشدّ حساسية!

وإن كنَّا من قبلُ نحبّ الأماكن الخاصَّة والاستجمام على السَّاحل، فلن أستطيع أن ألوح لتِلْك الأماكن اليوم بمظهري الجديد.

إلاَّ .. وسأجد الجميع يلوحون رؤوسَهم تجاهَنا وكأنَّهم يُشاهدون مخلوقات فضائيَّة، ويتمنَّون نزوحَها الفوري, عمومًا هذه الأماكن أيضًا لم تعُدْ تصلح لنا بِحال، فاللَّهُمَّ أتْمم علينا نِعَمَك، واحفظ علينا ديننا.

في الشَّهر الماضي أخذتُ الأولاد إلى حديقة الأسماك، وكانت أسوأ غلْطة؛ فقد كنت أظنّ أنَّ ذلك سيطوّر عندهم النَّاحية المعرفيَّة، حين يتعرَّفون على أشكال كثيرة من الأسماك، وينصرِف ذهنُهم للتفكُّر في ملكوت السَّماوات والأرض.

والأسماك على أشكالِها تقع، لكن اتَّضح لي أنَّ النساء هي الَّتي على أشكالها تقع!

بعدها قرَّرت العدول عن فكرة الرحلات لحين إشعارٍ آخَر؛ فحفظ البصَر لا يعدله سلامة، والخوف على الذَّراري واجبٌ أبوي، لكن يوم الإجازة هذه المرَّة بدأ ساخنًا في البيت، مشحونًا بالمظاهرات، والَّتي بدأت بمظاهرات سلمية ثمَّ تطوَّرت إلى ثوريَّة، استسلمت على إثرها لرغبتهم، ولكن بشرط الخروج إلى مكان (للصّغار فقط)، بالتَّأكيد لم أصرِّح لهم: لماذا؟ - وإن كنت أحسب أنَّ كبيرهم يفهم أكثر منّي - على أن تُراعى الحالة الاجتماعيَّة، والشروط التَّرشيديَّة المتَّفق عليْها مسبقًا.

بدأنا الرِّحلة بسلام، اتَّفقنا قبلها على المكان الرَّسمي، إنَّها حديقة الحيوانات حيثُ لا كهوف ولا إضاءة خافِتة ولا تجمُّعات شبابيَّة، فنحن في وضَح النَّهار، ولا يوجد سوى مكانٍ مُتواضِع لشرب الشَّاي، والحيوانات تنام قبل العصْر وهذا جيّد جدًّا.

بفضْل الله - عزَّ وجلَّ - كلّ شيءٍ جيّد، وإن كان الأمر لم يخلُ من المعازف الصَّاخبة، الَّتي ذكَّرتْني بما كان يدرس لنا في التَّاريخ قديمًا: "إنَّ من أهم أسباب ركود الدَّولة العبَّاسيَّة: انتشار التَّرف والمعازف والقيان والغانيات". وإن كانت اليوم معازف بلا ترف مادّي، ولكن استبدلتْه بلاد العجائب بالتَّرف المعنوي المتمثّل في بعض الاختِلاط غير موثوق المصدر، فلا أعتقد أنَّ هذا الشَّابَّ سيخرج مع زوجِه الكريمة حاملا كشْكولا للمحاضرات، وكذا الزَّوجة صنوان، ولا أعتقد أنَّ تلك النَّظرات الجائعة هي من أنفُس سليمة تتوق إلى الحياء!

وعلى قفص الكلاب وقفْنا نتأمَّل وتذكَّرت وفاءَه وصدقه مع أصدقائِه، والَّذي وصفه الأحنف بن قيس قائلاً: "إذا بصبص[1] الكلبُ فثِق بودّ منه، ولا تثِق ببصابص النَّاس، فرُبَّ مبصبص خوَّان".
قلت في نفسي: ألا تهتدي لمثْل هذا القول فتياتُنا الأريبات!

للأسف الشَّديد، بدا لي في بعض الأحْيان أنَّ ما بداخل الأقفاص أميَل للفطرة ممَّن بخارجها، بدا لي أحيانًا أنَّ تلك الحيوانات أشدّ تمسُّكًا بقِيَمها المتوارثة منَّا كبشر:
فما قرأْناه في كتُب الطَّبيعة والأحياء عن طبيعة القِرْد مثلاً نجِده مثالا حيًّا في حديقة الحيوان، لَم يتغيَّر ولم يحِد عن ثوابته، فطبيعتهم القبليَّة لم تزل غالبةً عليْهِم، ومشاعر الأمومة لم تزَلْ تتفجَّر من حنايا هذه القردة، ولَم تترك صغيرَها رغبةً في وظيفةٍ ومستقبلٍ أفضل!

وكذا الجمل الشَّهم الحييُّ، إنَّه نفسه منذ خلقَه الله؛ فغيرتُه على حُرْمَتِه لم تتبدَّل!

والدّبّ المفترس لم يُهْمِل يومًا النزول تحت الماء رغْم برودة الطَّقس.

ولا زالت الزَّرافة تأبَى أن تفارق العلا، ولَم تُطَأْطِئ رقبتَها لتأكُل من خشاش الأرض.

وغريبٌ فعلا هذا الفيل الضَّخم، ألا يُدْرِك أنَّه يمكن في لحظة قوَّة وغدْر أن يضغط بإحْدى قدميْه على حنجرة الحارِس، مطالبًا إيَّاه بالمزيد من القوت! إنَّ فطرتهم لم تزَل كما هي فماذا دهانا؟!


حقًّا فقد:
غَاضَ الوَفَاءُ وَعَزَّ فِي الإِنْسَانِ
وَأَرَاهُ بَيْنَ طَبَائِعِ الحَيَوَانِ
فَالكَلْبُ يَحْمِلُ لِلصَّدِيقِ مَوَدَّةً
بَيْضَاءَ يَحْفَظُهَا مَدَى الأَزْمَانِ
لا يَنْمَحِي عِنْدَ الشَّدَائِدِ حُلْوُهَا
أَوْ تَنْتَهِي بِطَوَارِقِ الحَدَثَانِ
سِيَّانِ فِي القَصْرِ المَشِيدِ وَفَاؤُهَا
أَوْ بَيْنَ مَتْرَبَةٍ بِدَارِ هَوَانِ

"الشاعر أحمد أفندي محفوظ".

أحيانًا أقول:
الحمد لله على نِعْمة العقل حينما يكون العقل نِعْمة.

والحمد لله على قلَّة العقل حينما يكون العقْل نقمة.

ـــــــــــــــ
[1] يقال: بصبص الكلب إذا حرَّك ذنبه.


(انتهي ...)



__________________
إن كانت غزوة أحد قد انتهتْ
فإن مهمة الرماة
الذين يحفظون ظهور المسلمين
لم تنته بعد..!!
طوبي للمدافعين عن هذا الدين كل في مجاله،
طوبى للقابضين على الجمر،
كلما وهنوا قليلاً
تعزوا بصوت النبيِّ
صل الله عليه وسلم
ينادي فيهم:
" لا تبرحوا أماكنكم " !