الحبكة :
مَدينةٌ يكسوها الضباب , لم تكن يوماً كذلك ! بردٌ شديدٌ اكتَسَحَ ضواحي هذه المدينة
فلطالما كان البردُ يفترسُ شوارعها المستطيلة البناء , [هوكايدو] اختارها خصيصاً لكونه
على علمٍ بأنَّ العذاب النفسيَّ يستلذُّ البرد ويزيدُ من فتكهِ حين يقوم!
تناولَ كأسَ النبيذِ من يَدِ خَادِمِهِ المُقَدم انحناءة وِقار .. لترتسم ابتسامةُ خُبثٍ على شفتيهِ .
يُحَدِقُ بالساعة الرملية الموضوعة على طاولةٍ مُربعةَ الشكل أمام مِقعده ..
هو على انتظارهما مُعلقٌ آمالهُ , الصبرُ يتهرب منه .. يُريدُ إرواء ظمأ ونيسهِ
وسيدهِ الوحيد كما يزعم !
فجأةَ , إذا هو بناهضٍ وقد اعتلاهُ خَطبُ الجنون! آن أوانهما , سقطتْ آخرُ حبات رملِ
الساعة , إماءة حلول الوقت لوطأتهما قاع القصر المُهيب .
من يراهُ يظنّه مُختلُّ العقلِ لا محالة , تصرفٌ لا يليق بصاحب نفوذٍ كنفوذه!
رمى كأس النبيذ أرضاً , آمراً تابعهُ بـإخلاء القصر وليبقى هو وحدهُ , قابلهُ
الأخر بـاحترام شديد , مُطيعاً لأوامرهِ ..
مضت ثوانٍ ولم يعد أحدٌ في القصر موجود! , إلّا هُما والآخران على أعتاب
باب القصر , وطأت قدما [تشيوا] خارِجاً بينما التابعُ تقفّاهُ بعينه فقط ولم يخرج قط!
فُتِحتْ أبواب القصرِ من غيرِ فاتحٍ , انبلجتْ وحدها !
ليلجا بزيّهما الأنيق , رَجُلا أعمالٍ هُما , تتسعُ ابتسامته كُلّما خطيا وصارا على مَقرُبةٍ
منه , وما إلّا هيَ بثوانٍ أخرى قَد مضتْ وصرخ بصوتهِ الصاخب مُرحِباً بفريستيهِ الجديدتين .
تحدّث أحدهما بـابتسامة : تشيوا لم نركَ منذ مدّة , من الجيدِ إنّ مرشدك دلّنا على قصرك
فلم نكن بعارفين للطريق جيداً لذا شكّراً لك لاستضافتنا , نُقدّم لكَ كُلَّ الاحترام ! .
وقدرِ ما أوتيَ إليه من تمكّن .. حاولَ كتم ضحكتهِ من الصدوح!
أفكارهُ المِعوجّة تريد أن تُنفّذَ فوراً ! , بطريقة أو بأخرى أقنعهما بالذهاب لقلعة [اوساكي]
ومضتْ الأيامُ وتلتها الشهور ولم يعد يُسمع صوتٌ لهما ولا عادا موجودينِ !
********
الفصل الآول : الدعوّة
استحلَّ الانحطاطُ قلبهُ مذ وافتهُ شياطين الموتِ , لم تعد لهُ حياةٌ يَملِكُها
اسمهُ يُسقى بدم قتلاه , هيّمَت غشاوة سوداء على عينيهِ وأغطية صمّت أُذُنيه ..
لا يسمعُ حشرجاتهم , صرخاتهم وغوثهم .. أيّانَ لهُ ذلك وقد ابتاعَ الظُلمةَ منه .
كأيّ صباحٍ كان , وكما اعتاد أن يفعل عادةً .. كأسَ النبيذ لا يُفارِقُ راحة يدهِ
تُقَدَمُ كلُّ أنواع الأطعمة إليه وهو الجالس على مائدة الطعام الطويلة تُناسِبُ
حديقةَ قصره الفخمة , أنهى وجبتهُ .. مُكَلِماً بعدها كبيرَ خدمهِ وذراعه الأيمن
ــ [أكويا]! ألغِ جميع جداول أعمالي اليوم , فهو يومٌ خاص جداً !
ــ سَمعاً وطاعةَ .
انصرف فور اعتِدالهِ في وقوفهِ , والأخر تبسّمَ بخبث , تداعتْ خصلات شعره
السوداء أماماً بنسيمِ هواءٍ بارد , غطّى عينهُ اليُمنى بكفهِ , وقد أُحيلتْ نظرته للكرهِ
الدفين , همسَ مُخاطِباً نفسهُ : من التالي يا تُرى؟
..........
كَانَ جالساً عَلَى ذَلِكِ المِقعدُ النُحَاسِي الذِي تَوسط غُرفة صغِيرة تَكَفِي لِعيشِ شَخصٍ وَاحدٍ فقطَ .
لِلنَومِ يَكَاد يَفتحُ أَبوَابهُ ، و لَكنهُ لاَ يَزَال يَترقبُ ذَلِكِ الاتِصَال .
تَقدمَ إِلَى تِلكَ النَافِذة الزُجَاجِيّة يُرَاقِبُ قَطرَاتَ المَطرِ المُنْهَمِرة .
فِي سَنْغَافُورة هُو يَعِيش ، تِلك المَدِينَة التِي بَاتَت حُلم كُل طَالِبٍ جَامِعِي .
لاَ زَالتَ ذِكْرَى قُدُومِهِ لِسَنْغَافُورة مَغرُوسةً فِي عَقلِهِ و كَأَنهُ بِالأَمسِ أَتَى .
قَطَعَ تَسلسُل أَفكَارِه رَنِين هَاتِفهُ .
شَقَت الابْتِسَامَة وَجَهَهُ ، " أَخِيرَاً " أَردَف فِي نَفْسِهِ و السَعَادةُ تَغْمُرُهُ .
أَجَاب عَلَى الاتِصَالِ لِيُبَادِر قَائِلاً : مَرَحَباً أَبِي ! لِمَ تَأَخرت بِالاتِصَالِ ؟!
تَنهِيدةُ يَأَس أَطَلقهَا مُخَاطِبهُ لِيسَتَطرِد بَعدَهَا : كَمَا تَعَلم إِنْهَا فَتْرةُ الامِتِحَانَاتِ لِذَا كَانَ عَليَّ تَصْحِيح بَعَض الاخْتِبَارَات بِالمدَرسةِ .
أَردَفَ بِتَسَاؤُل : إِذاً أَنْتَ مَشغُولٌ هَذِهِ الأَيَامِ ؟
تَنْحنْحَ لِيجِيبهُ : نَعم يَا سَامر لِذَا رُبمَا لاَ أَكُونُ مُتْفرِغاً للاتِصَالِ بِكَ .
بَادرهُ بِحنَانِ : لاَ تَهتم أَبِي ، اعتنِي بِنْفسِك جَيِداً .
أَتَاهُ صَوتُ ذَلِكَ العجُوز قَائِلاً : حَفِظكَ اللهُ يَا بُنيَّ ، فِي أَمَانِ الله .
مَا إِنْ أَنْهَى جُملتَهُ حَتَى أَغلق الخَط مُعلِناً انْتِهَاءِ المُحَادثة .
وَضَعَ هَاتِفَهُ عَلَى طَاوِلتِهِ الخَشبِية و ارتَمَى عَلَى سَرِيرِهِ مُسْتَسَلِمًا لِلنْوَمِ فَمَا كَانَ يُؤَخِرهُ إِلاَ إاتصَالِ وَالِدهُ .
الصَّبَاحُ قَدَ أَتَى و أَشِعةُ الشمْسِ تَسلَلتْ لِغُرفتهُ ، فَتَحَ عَيْنَيهِ بِخِفةٍ ، رَمَشَ عِدة مَرَات قَبَلَ أَن يُدرِك حُلُول الصَّبَاحِ .
نَهِضَ مِنْ سَرِيرِهِ و لاَ يَزَالُ النْوَمُ بِعينِهِ .
أَخَذ حَمَاماً سَرِيعاً و ارتَدَى مَلاَبِسهُ خَارِجاً لِجَامِعته .
وَصَلَ إِلِى ذَلِك المَبْنَى الضْخَم ، بُنِيِّ الَلوَنِ هَو ، شَاهِقٌ و كَأَنْهُ يُنَافِسُ نَاطِحَات السِّحَاب .
بِدَاخِلِهِ عَشرَاتُ المَبَانِي لِكلٍ مِنْهَا تَخصُصّ مُعَينْ ، و نَافُورةُ بِشْكلِ أَسدٍ صُمِمَت .
بِالتَحدِيدِ اِتَجهَ لِتلك القَاعة حَيثُ مُحَاضرتِهِ الأُولَى .
تَوَالت المُحَاضرَات وَرَاءِ بَعضِهَا بِسُرعَة وَ اِنقضَى الدَوَام الدِرَاسِي .
تَوَجهَ لِمَطعمِ [ سَاوَر بُوس ] كَمَا اِعتَاد لِتنَاولِ طعَامِ الغَدَاءِ .
لاَ يَزَال جَاهِلاً لِلطبَخِ ، فَقَط البيضِ هُو مَا يُجِيدُ إِعْدَادهُ .
اِهْتَزَ هَاتِفهُ لِيخرِجَهُ مِنْ جَيبهِ بِانْزِعَاجٍ .
رٌقْمٌ غَرِيب تَوَسطت شَاشةُ الهَاتِفِ ، مِنْ الرَمْزَ كَانَ وَاضَحَاً أَنْ المُرسل يَابَانيَّ الجِنْسِية .
رَفَعَ إِحْدَى حَاجِبيهِ مُنْدَهِشاً .
فَتحَ الرِسَالةَ و قرأَهَا وَ سُرْعَانَ مَا اِنْتَابَهُ شُعُورٌ بِالرِيبةِ .
فَمُحْتَوَى الرِسَالة كَانَ عِبَارة عَنْ دَعوِةِ لِلذَهَابِ إِلَى اليَابَانِ وَ بِالتَحدِيدِ إِلَى [ هُوكَايّدُو ] لأَذْكَى الطَّلاَب عَلَى مُسْتَوَى العَالِمِ .
بِالأَسْفلِ كُتِبَ مَوعِدِ إِقْلاَعِ الطَائِرةِ .
رَفَعَ كِتْفَيهِ لاَ مُبَالِياً فَرُبْمَا قَدْ أَتْتَهُ خَطَأً أَوْ أَنْ المُرِسل مُجْرد مُخَادِعٍ لاَ أَكْثْرِ .
حَالــمَا انتَهَى مِنْ الغَدَاءِ اتجْهَ لِشْقَتِهِ الصَّغِيرةِ .
اِتَجْهَ لِسَرِيرِهِ عَازِماً عَلَى أَخْذِ قِسْطٍ مِنْ الرَاحَةِ .
مَرتَ ثَلاَثةُ سَاعَاتِ اِسْتَيْقظَ بَعدَهَا بَدأَ بِمُذَاكرةِ دُرُوسِهِ .
فَاجآهُ طَرقُ البَابِ ، بَادَرَ بِفَتحِ البَابِ ، لِيْجِدَ فَتَى أَبْيَضِ البَشرة ، أَخَضرُ العَينْينِ ، بُنِيُّ الشَعَرِ ، رُبَمَا ابنُ العِشرِينْ عَامَ .
مَد لَهُ ذَلِكَ المَاثِلُ أَمَامهُ ظَرف صَغِير كُتِبَ عَلَيْهِ [ إِلَى الطَالِب سَامْر ] .
أَرَدف الوَاقِفِ عَلَى البَابِ : هَذهِ تَذَاكِرِ الطَائِرَةِ التِي حَجزَهَا السَّيدُ [ تِشيوا ] ، نَتْمَنَى حُضُورك ، إِلَى اللِقَاءِ .
ثمَ غَادرَ مُلِوِحاً لَهُ مُوَدِعاً إِيَاه .
لَمْ يُحرِك سَامِر سَاكناً ، بَقيَّ مُتَسَمِراً مَكَانْهُ .
إِذًا مَا كُتِبَ بِتلكَ الرِسَالةِ كَانَ صَحِيحاً .
شَخْصٌ مَشْهُور لِمْ يْسَمع عَنْهُ قَطَ يَدْعُوهُ للِيَابَانِ .
لِمَ اخَتَارهُ هُو ؟ هَلَ هُو فَائِقُ الذَكَاءِ لِتلكَ الدّرجَة ؟
عَشَرَات الأَسئِلة اِرْتَطمت بِجِدارِ رأَسِهِ دُونْ أَنْ يَعْثر لَهَا عَلَى إِجَابَة .
لَكِنْ شَيءٌ وَاحِد فَقَط كَانَ يَعْرِفَهُ ، أَنْهُ عَلَيِهِ الذَهَابُ و مُقَابلة ذَلِكَ المَجهُول .
...........
قبل عدّة أيام ..
أحياء فقيرةُ المباني , بعيدة كل البعد عن الحال الجيّد , دلفتْ شابة في مقتبل العشرين
الغرفة , ترتدي ثياب شُبهَ رَثّة .. وفي طريقها للرف المقصود حيّتْ أخيها القعيد
ابتَسَمتْ لهُ : أمير , أبي كلّم أخي اليوم , قال إنّه بحال جيدة , كم أحسده يستطيع الدراسة خارجاً
بينما أنا محبوسة في جدران هذا البيت القديم والفقير !
لم ينبس بحرف , فقط بادلها الابتِسامة .. هي لم تذق معاناته كي تعرف معنى البأس ..
تحسدهُ على شيء تكرهُ فعله , تركت المدرسة منذ المرحلة المتوسطة بينما سامر تابع الدراسة
واجتهد في عمله الجزئيّ حتى حصل على مُنحة دِراسية من جامعة في فلسطين ..
حرّك كُرسيه مُتجِهاً للخارج مُتجاهِلاً إياها , حكّت شعرها البنيّ الأشعث بِـانزعاج
أعادتْ الكؤوس على الرف الخشبيّ القديم , فجأةً سَمِعتْ صوتَ جرس الباب , استغربتْ
قليلاً فوالدها لن يعودَ حتّى الغداء , وأمّها في العمل .. ليسَ هُناكَ زائرٌ لهم في العادة .
ترددتْ قليلاً في فتح الباب , فهي وأخوها وحدهما في المنزل ناهيها عن كون أخيها عاجز
عن السير , ارتَدَتْ نِقابها ثم العباءة سائرة بتردد ..
وما إن فتحت الباب شَهُقَتْ , تسمّرت , ما الذي يفعلهُ هُنا؟ .. ابتسمَ لها قائلاً بمرح
ــ ما بكِ أُختاه , هل هذا ترحيبٌ يليقُ بـأخيكِ المسافر؟ إلى متى سأبقى واقِفاً على الباب؟
أفاقتْ من شرودها , فنزعتْ النِقابَ مُدخِلةً إيّاه , هي لا تضمّهُ في العادة بل هو من يفعل
لكن لِمَ هذه المرّة إكتفى بالتحديق في أرجاء المنزل , وكأنّه باحِثٌ عَنْ شيء !
ــ أبي وأمي ليسا هُنا , والأهم كيف لك أن تعود والعامُ لم ينتهِ ؟
ــ آه .. بشأنِ سؤالكِ فـ .. صحيح أخذتُ إجازة وأتيتُ لأراكم , مضى وقتٌ طويل .
شكّتْ في إجابته , التوتّر بادٍ عليه , يتحاشى النظر إليها ! دخل غُرفةَ أمير تارِكاً
إيّاها على عتبة الباب , حيّاهُ بصورة طبيعية , تبادلوا الحديثَ إلى حلول الليل وقد
سُرَّ والداهُ برؤيته .. وما أسعدهما هو خبر الرحلة لليابان .
هنئوهُ فردًا فردًا بتهللٍ فَرِحٍ في تعابيرهم بِـاستثناء كوثر الّتي حاولتْ كبح جِماح
غيرتها وغيظها . وفيما حكوهُ .. ترسّلَ أبوه المُسِنُ في الحديث
ــ حقّاً أنا فخورٌ بِكَ , صيت اسمِكَ سيرتفعُ بين الناسِ يوماً ما , عندما تغدو طبيباً
ناجِحاً , لو كان الأمرُ بيدي لذهبنا جميعاً لليابان لكن التذاكر مُكلِفة .
ــ إن شاءَ الله , شُكراً لك أبتاه .. كُلّ هذا بفضل الله ثم أنتَ .. بالحديثِ عن التذاكر
فلديّ تذكرتان معي , إضافيتان منه .. [تشيوا] قال أحظر من تشاء معك ..
صحيح هُناك إشاعات حولهُ لكن الإشاعة تبقى إشاعة , إذن من منكم يأتي معي
فأنا لم أكوّن صداقات قويّة في الجامِعة بسنغافورة , وأنتم أولى بالإياب ..
إنبلجتْ عينا كوثر , لو كان بيدها لقفزتْ صائحة "أنا أريد الذهاب" !
تمالكتْ نفسها قليلاً إلى إن أتى الفرجُ ونطق الأب : خذ كوثر فقط .
تساءل سامِر وليس شخصاً واحِدا من أراد : لِمَ وأمير؟ أعلم أنّهُ غير قادر على
المشي لكن هكذا ستذهب التذكرة الأخرى هباءً ..
ــ هو مُرهقٌ والسفرُ يُرهِقهُ أكثر , لذا خذ كوثر فقط , فأنا وأمّك لا نريدُ السفر .
انتهتْ المحاورة , فغادرَ كُلٌ لغرفته .. أوّصَدَ سامِر البابَ قطّب جبينهِ
ناظِراً بحنق , هكذا راحتْ إحدى الفرائِس لكن ما بيدهِ حيلة ..
همسَ بصوتٍ خافِتْ : كوثر أو أمير أو حتى أنا .. من يهتم! المهم سنُرضيه!
وبعدَ يومين انطلقا للمطار , وكأيّ وداعٍ كان .
عادَ الأبُ للمنزل وحين همَّ بفتحِ البابِ , رنَّ صوتُ هاتِفه وكان المتصلُ الراحلُ
توّاً ألا وهو سامِر , أجاب مُتعباً من اجواء السيّارة
ــ سامر , هل حدثَ مكروه لك كي تتصل , لقد أقلعت طيّارتك الآن كيف لك المقدرة
على الاتصال؟
لم يفهم سامِر شيئاً , جلسَ على سريره بقلق
ــ أبي , ما الذي تتحدثُ عنه؟ أين سافرت , وأيّ طائرة؟
ــ الطائرة الراحلة لليابان , قلتَ إنّ المدعو [تشيوا] عرض الرحلة عليكَ وأخذتَ
كوثر معك لأن تشيوا أرسل لك ثلاث تذاكر , وقد انطَلَقتْ طائرتك قبل عودتي للمنزل .
ارتجفَ بدنُ سامِر , هو لم يُخبر مخلوقاً بأمرِ الرحلة , كيف لوالدهِ أن يعرف!
ــ وكم مضى وانا في فلسطين معكم؟
ــ ما بك أسئلتك غريبة , لا اذكر كم بالضبط فأنا رجل كبير في السن , لكن يتجاوز
مدّة أسبوع على ما اعتقد .
ــ حسناً , في حِفظ الله .
أغلق الخطَّ في وجه والده , هو لا يريدُ سماع المزيد! خاطبَ ذاتهُ بعصبيّة
ــ لا ريب في كونه يُمازِحَني ! أسبوع؟ وأخذتُ كوثر , ما هذا بحق الله !
لم أغادر سنغافورة حتّى كي أرجع وأنا في منتصف العام الدراسيّ , لكن لحظة!
أبي قال إنّ كوثر سافرتْ لليابان ومعي أنا ؟ هُراء!
رمى الهاتفَ غاضِباً على سريرهِ , يكادُ عقلهُ ينفجرُ مِنْ شدّة التفكيرِ فيما قال
والده الذي لا يكذب وليس له هدفٌ من الكذب هكذا , هو لم يخطئ الرقم بالتأكيد .
عزم على السفر فـهو لا يعلم ما الذي ينتظرُ أُختهُ هناك ومع شابٍ غريب ليس هو!
*************
الفصل الثاني : بداية العذاب
نظرت من تلك النافذة الصغيرة ذات الإطار المعدني وعلامات الذهول ترتسم على وجهها المستدير ، لم ترى منظراً أجمل مما تراه الآن ، هضابٌ تكسوها ثلوجٌ ناصعةُ البياض تفصل بينها جداول مياه صغيرة قد تجمدت من شدة الصقيع ، منظرٌ لم تتخيل يوماً بأنها ستراه ، أشاحت بنظرها نحو أخيها لتجده نائماً وعلامات التعب ظاهرةٌ على وجهه ، ابتسمت فكل ما تراه هنا بفضله رغم كل شيء ، لم تعتقد يوماً بأنها قد تسافر في طائرة فكيف إذ هو يأخذها إلى المكان الذي تمنت رؤيته منذ الصغر ، البلدُ الذي تولد فيه المعجزات ، اليابان . قررت ألا تزعجه فعادت لتأمل المناظر الخلابة ، لكن قاطع تمتعها صوتٌ مزعجٌ وضوء أحمر بثّا في نفسها الذعر والفزع ، أمسكت بذراع أخيها لتضمها إليها وأغلقت عيناها ، استيقظ فزعاً من نومه ليلتفت حوله عسى أن يفهم شيئاً ، بعد ثوانٍ صدر صوتٌ يطلب منهم أن يرتدوا المظلات التي وُضعت تحت كراسيهم القماشية لتنقذهم في مثل هذا الموقف ، نهض سامر من مقعده طالباً من أخته البقاء ، لم ترفض له ذلك فهي بالفعل قد تسمرت في مكانها من شدة الخوف الذي سيطر عليها ، أسرع إلى الغرفة التي تلي غرفة جلوسهم ليجدها خاويةً من الحياة لا نبض فيها ، تمتم مع نفسه : هذا المكان سيكون جيداً ليجلس على الأرض ويتلفظ بكلماتٍ لو سمعها أحد ما كان ليعيش بعد سماعه لها ، لم تمضِ ثوانٍ حتى تخرج سحابةٌ سوداء من الرمز الذي رسمه على الأرض ، وقف وابتسامةُ صغيرة ترتسم على وجهه ليردف قائلاً : إن الطائرة تهوي وسيدنا لن يرضيه ذلك لذا الطائرة لن تقع ولو اضطررنا لحملها بأنفسها ، لم تلفظ السحابةُ شيئاً بل أختفت بعد أن أنهى سامر حديثه ، ثوانٍ حتى عادت الطائرة كما كانت
...............
كأس نبيذ ، أضواء مطفئة ، موسيقى صاخبة، أجواءٌ شيطانية لم يعتد على الجلوس إلا بوجودها ، ارتشف من كأسه رشفة لينظر إلى الرمال وهي تنزل ، ظهرت على وجهه ابتسامة ، ينتظر آخر حبة رملٍ لتعلن معها وصول وجبةٍ جديدة ، سيكون الهديةَ الأفضل لسيدي ، كانت هذه الجملة تستولي على تفكيره حين دخل عليه أحد خدمه ، انحنى بوقارٍ ثم سأل سيده بالنهوض فقابله بالإيجاب ، نظر إلى الأرض فهو لا يجرُؤ على النظر في عيني سيده اللتان تشتعلان شراً ، عينان سوداوان كظلمة الليل أو بالأحرى كسواد قلبه ، علامات الخوف باديةٌ على وجهه مثل كلّ مرةٍ يقف فيها بين ذراعي رئيسه ، لكن الرعب ازداد عندما حدّثه سيده بصوته الغليظ
- لماذا تقاطعني ؟؟ ألم أقل أنه لا يحلُّ لأحدٍ مقاطعتي عدا [أكويا] ؟؟
- ل..لقد أمرني ..أ..أ..[أكويا] بـ..بـ..بسؤالك عن ...بقية المـ..المدعوين
أخرجها الخادم بعد صعوبةٍ بالغةٍ من حلقه الذي جفّ هيبةً منه
- قُل له إني لا أهتم ، فهم مجرد ألعابٍ سأتسلى بها ، المهم ذلك الشاب فهو سيكون أفضل هديةٍ حصل عليها
علاماتُ دهشةٍ تغزو وجهه ، آلاف التساؤلات حيرت عقله ، ماذا يقصد بأنهم لعبٌ سيتسلى بها ، وذلك الشاب هدية !! لمن ؟؟! ، نظر إليه سيده بعينيه آمراً إياه بالإنصراف، أصدر كرسيه صوتاً عندما نهض عنه ، اتجه ببطءٍ نحو النافذة الضخمة المطلة على حديقته ، أطفأ الموسيقى وقام بفتح الستائر الحمراء القانية ، نظر إلى الخارج وتحديداً إلى السماء ، عادت ابتسامات الخبث لوجهه متسائلاً ، متى ستصل يا سامر فسيدي وأنا ننتظر قدومك بتلهف وشوق ثم أغلق الستائر ليلعلن عودته لتلك الأجواء من جديد
في الخارج..
رأسه سينفجر من كثرة المتاهات التي ترتسم فيه ، رعشةٌ قوية استولت على جسده ، كلمات رئيسه أصبحت تصدح في أذنه كما الموسيقى الصاخبة التي يضعها ، حالة هذيانٍ أصابته ، تشويش أعتلى مشاعره ، حتى قرر أن أفضل وسيلة للنجاة مما هو فيه الهروب من القصر ، اتجه صوب [أكويا] الذي كان منشغلاً بما أمره به [تشيوا] ، علامات إرهاقٍ استولت على وجهه الشاحب المليء بالتجاعيد ، لم يذق للنوم طعماً منذ ثلاثة أيام ، طرق الشاب على الباب ليأذن له [أكويا] بالدخول ، لم يطل البقاء فقط أكتفى بقول ما أمره به [تشيوا] وانصرف . خطوات مثقلةٌ مشى بها نحو مدخل القصر ، شعورٌ بالفرحة اعتمر قلبه ، لا يفصل بينه وبين هذا الكابوس سوى عتبةٍ واسعةٍ ، خطوةٌ وتصبح الحرية من نصيبه ، ليظهر لونُ أحمرٌ يتوسط العتبة البيضاء، كانت ذلك أثر حذائه على مدخل القصر ، لم يخطُ خطوةً غيرها.
............
صوت قطراتٍ جذبت انتباهه ، كان أحد الخدم وأصغرهم سناً ، بدأ عمله اليوم تحديداً ، اتجه نحو الصوت آملاً أن يجد للمشكلة حلاً ، كان الصوتٌ قادماً من الغرفة المحظورة ، فتح الباب بحذرٍ ليُصدر صريراً قوياً ، دخل الغرفة بتأنٍ وعلامات القلق واضحة عليه ، تتبع صوت القطرات التي يريد حل مشكلتها والخروج قبل أن يراه أحد ، نظر في أرجاء الغرفة دون أن يجد صنبوراً واحداً للمياه ، تُرى من أين يأتي صوت القطرات ؟، قالها وهو يتمشى في الغرفة ليقاطع تفكيره قطرةٌ سقطت على رأسه ، انقتحت عيناه على مصرعيهما عندما رآه ، معلقٌ بالسقف وأحشاؤه بارزةٌ من جسده ، تعرف إليه في الحال، لقد كان الخادم الذي أرسله [أكويا] لصاحب القصر ، تسلل الذعر إلى قلبه ليسقط أرضاً ، تجمد في مكانه دون أن يتلفظ ببنت شفة ، ثوانٍ حتى استفاق من صدمته ليركض والخوف ينتشر مع خطواته ، صراخٌ ملأ أركان القصر ، قاطع صراخه العالي أجواء [تشيوا]، صوت تكسر كأس النبيذ التي بيده رافق ذلك الصراخ ، غضبٌ جامحٌ يصدر من عينيه ، خطواتٌ قويةٌ أتى بها من غرفته كانت تقترب من [أكويا] ، دنى من أذن [اكويا] ليهمس له
- سأغادر اليوم لقلعة [اوساكي] ، تأكد من تنظيف الفوضى واتبعني فيجب أن نُحضر استقبالاً ملائماً لضيوفنا القادمين
عاد الهدوء إلى ملامح وجهه الأبيض ، سار بخطواتٍ هادئةٍ نحو باب القصر ، خرج لتغلق أبواب القصر خلفه دون مُغلِق ، هدوءٌ قاتل سيطر على باحات القصر وغرفه ليزيله أصواتُ صرخاتٍ واستغاثات ، ثلاثُ ساعات كانت كفيلة بتنظيف الفوضى كما فضل [تشيوا] تسميتها ، جدرانٌ رُسمت عليها رموزٌ بالدماء وأرضٌ تناثرت عليها أعضاءٌ مختلفة ، صورة القصر عندما أقفله [أكويا] ليلحق بسيده لتجهيز وليمةٍ جديدة
**************
^
^
^
ي البارتين مع بعض والحبكة