عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 08-10-2015, 10:09 AM
 





][ الفصل الأول ][


( لقاء )





-2-







كنت ما أزال مشوشة حين استيقظت و فتحت عيني ،



تلفت حولي و لم أتعرف المكان أول الأمر ،

كانت خزانة خشب الأرز الكبيرة على الحائط الجنوبي قرب الباب أول ما وقعت عليه عيناي.

ذلك لأنها كانت في الجهة المقابلة لسريري.

و على يميني كانت النافذة التي تطل على الشارع و حديقة المنزل ،

عليها ستائر زهرية و بيضاء اللون ،

و عند الحائط الأيسر طاولة و كرسي للكتابة ،

أما بجانبي فكانت هناك منضدة صغيرة عليها ساعة و مصباح كهربائي.

أخذت نفسا عميقا ، حتى رائحة لحافي بدت غريبة لي.

ثم شيئا فشيئا بدأ عقلي يصحو ليتذكر ،

أنا الآن في غرفتي في منزل أبي.

نهضت متعبة و رحت أمدد عضلات جسدي المتيبسة.

تذكرت والدي فجأة .. ربما يكون قد عاد الآن.

كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساء.

سرت إلى النافذة لأفتحها ،

كنت ذاهلة من استطاعتي النوم كل هذا الوقت.

رأيت الشارع المظلم إلا من مصباحين اثنين ،

و لكن سيارة أبي لم تكن موجودة هو ليس هنا إذا.

عاد الإكتئاب إلي سريعا حين رأيت منزل مارلين.

فقررت إغلاق النافذة !

نظرت إلى نفسي ،

كنت لا أزال أرتدي السترة و القميص الأبيض و الجينز ذاته منذ ليلة البارحة.

زفرت بإنزعاج .. لقد كانت رحلة طويلة و متعبة.

توجهت إلى حقيبتي التي لاحظتها بعد أن بدأ عقلي يعمل ،

و أخرجت بيجاما النوم و مضيت إلى الحمام الوحيد في المنزل.

كان يقع في نهاية الرواق الصغير ، بعد غرفة والدي.


شرعت بتفريغ حقيبتي بعد أن إنتهيت من حمامي.

لم تكن ملابسي كثيرة لكنها كانت كافية برأيي.


((أجل .. !))



صحت و أنا أبحث بين ما تبقى من الثياب داخل الحقيبة عن أسطوانة فرقة سيزرس.

راغبة في الاستماع اليهم.


شغلت الجهاز و واصلت ترتيب امتعتي في الخزانة .
كنت أعلق آخر ثوب حين تسمرت فجأة !

مع انتهاء المغني الرئيسي للغناء ..



سمعت عزفا ختاميا للأغنية ..

كانت ألحانا صادرة من ناي ..كما خمنت ..

لكنها كانت مختلفة عن أي لحن سمعت من قبل ..

ظللت ساكنة حتى بعد انتهاء آخر نغمة ..

لقد كانت عذبة إلى حد لا يصدق !

أوقفت الجهاز قبل بدء الأغنية التالية و

أسرعت التقط الغلاف البلاستيكي من الأرض لأتمعن في اسماء أعضاء الفرقة..

المغني الرئيسي ..

و الكورس ..

عازف الطبل.. و الغيتار..

كلها اسماء لم تهمني..

كنت أريد معرفة اسم عازف الناي !

ذلك الذي يعزف ألحانا لا يكاد العقل يصدقها..

قرأت أخيرا :

اسم " غري " !

لم يكن اسمه الثاني مدونا كالبقية..

و لكن ما سر هذا العازف ؟



قلبت الأسطوانة لأنظر إلى الجهة الأخرى ،

تمعنت في صورة أعضاء الفرقة ،

لقد كانوا كأي مجموعة من النجوم أو المشاهير .. متألقي المظهر ، لم يكن هناك فارق كبير بيني و بينهم في العمر.

كانوا كما سمعت عنهم وسيمين كأبطال السينما و ويليام رغم كونه سيناسب هذه الصورة لم يكن جزءا منها.

لكن واحدا لفت انتباهي و أثار دهشتي ،

لقد كان أجملهم إلا أن لون شعره كان عجيبا.

لقد كان رمادي اللون أقرب إلى الفضي !

لابد و أنه كان من الجنون بما يكفي ليطلي رأسه كمغنيي الروك أند رول !

طلاه باللون الرمادي.

انتفضت حين توضحت الصورة في ذهني فجأة..

هذا هو معنى اسمه (غري = رمادي)

إنه هو نفسه عازف الناي !



واصلت قراءة كل المعلومات على الغلاف ، حتى قائمة الأغاني.

فوجئت حين وجدت أغنية كتب اسمه إلى جانبها بشكل خاص.

فعدت أشغل الجهاز من جديد على الأغنية رقم ثلاثة .. الأغنية التي تحمل اسمه ،

كنت متحمسة .. أردت التأكد إن كانت ألحانه جميلة بقدر ما تصورت قبل لحظة.

جلست على سريري انتظر البداية بفارغ الصبر.

وصلت نغمات متفرقة إلى أذني ..

كانت أعذب بكثير مما تصورت ..

ثم بدأت الألحان تتخذ مسارا معينا..

كانت هادئة .. عذبة .. و حزينة !

من دون كلمات .. أو غناء استمر ذلك اللحن ..

لقد كان لحنا سحريا يفعل بي شيئا عجبا لم أستطع فهمه ..

تعالت خفقات قلبي و شعرت كمن يسبح في الفضاء ..

وجدت كل ذكرياتي تتدافع داخل عقلي ..

كانت مشاعري تتضارب ..

لمست السعادة في كل لحظة سعيدة مرت في ذهني ..

كما لمست الحزن و اليأس مع كل لحظة بؤس من ذكرياتي..

كنت أعيش مع كل نغمة من نغماته ذكرى بعيدة ..

و ذكرى خيالية ضبابية لم تحدث بعد ..

و وسط ذلك التناقض و التضارب في أعماقي..

راحت النغمات تعلو

و تعلو بأحاسيسي على نحو عظيم يصعب تفسيره ..



انتهت موسيقى الناي الساحرة التي خدرت عقلي.

حتما إنها ليست موسيقى طبيعية !



و حتما أنا لم أسمع شيئا كهذا قبلا !

رحت التقط أنفاسي بسرعة بعد انتهاء تلك الألحان ،

كان علي أن اهدأ عقلي الذي كان يرفض تصديق أن هذا اللحن الساحر إلى هذه الدرجة ، غير طبيعي و خارج نطاق المألوف !


كانت النظرية التي حاول جانبي (العقلاني) اقناعي بها هي ،

أني متوهمة و مرهقة بسبب رحلتي الطويلة من أقصى الجنوب و حتى هنا !

هززت رأسي محاولة نسيان كل ذلك ثم إستلقيت على السرير بشكل أفقي و قدماي تلامسان الأرض.


((ليست ألحانا سحرية!))



قلتها بصوت مرتفع !


أخذت غلاف الاسطوانة من جديد و تأملتها مليا،

هل يشعر جميع من يستمع لهذه الموسيقى كما شعرت أنا ؟!

أليس الناي آلة عزف شرقية ؟!

إذا كيف يعقل أن يكون هناك عازف ناي بين أعضاء فرقة موسيقية عصرية في ليمشاك ؟!



هممت بتشغيل الأغنية مجددا لكني عدلت عن ذلك.


لم تمضي سوى ساعات قليلة على وجودي هنا و ها أنا أفقد عقلي !




قررت أن أحول تفكيري إلى شيء آخر ،

كالطعام مثلا !

أنا لم آكل وجبة حقيقية منذ مساء يوم الأمس ،

لقد كنت جائعة إلى حد جعلني شاكرة لمارلين على إعدادها العشاء مسبقا.

أنهضت جسدي محاولة مقاومة ذلك الإغراء الشديد بأخذ جهاز الأقراص المدمجة معي إلى المطبخ حتى استمع لغري و فرقة سيزرس و أنا أتناول طعامي.




كانت رغبتي تصارع عقلانية تفكيري ،

و لكني حسمت ذلك الصراع هاتفة :

((إنها مجرد موسيقى .. ولا ضرر في الاستماع إليها.. إنما ليس الآن !))



بقدر ما بدت جملتي هذه منطقية ،

بقدر ما كنت أشعر بالغرابة و القلق من تأثير هذه الموسيقى علي.



توجهت للمطبخ الذي كان أسفل الدرج إلى جانب باب الخروج.

فتحت الثلاجة فوجدت طبق لازانيا يكفي شخصين.

تلك كانت الوجبة التي حضرتها مارلين.

أخرجتها من البراد و وضعتها في المايكرويف حتى أسخنها.


كنت شاكرة لمارلين فعلا فرغم معرفتي بكيفية إعداد بعض الأطباق ،

إلا أني لا أحب الطهو أبدا.

لو ترك الأمر لي لعشت على رقائق الذرة بقية حياتي !

هكذا كانت أمي تقول.

سمعت حركة ثم صوت بالباب ،

تقدمت حتى أطل من باب المطبخ ،

استطعت رؤية من كان ذلك شخص.

و لكن موجة من الضيق غمرت صدري فلم أتحرك من مكاني أو أنطق.




نظر إلي .. مازال كما هو ، لم تغيره تلك السنوات كما غيرتني.

لم تسرني رؤية تلك العينين الزرقاوين و لا لمحة البرود التي تظهر فيهما دوما.

وجدت أنه يشبهني الآن أكثر من أي وقت مضى ،

العينين .. الملامح .. لون البني الداكن للشعر و الذي يبدو في تضاد مع البشرة البيضاء ..

و تلك الإبتسامة .. !

ابتسم بلطف حين وقعت عيناه علي و قال :

((سمر .. أهلا !))



غمغمت من مكاني بصوت بدا كالهمس :

((مرحبا .. أبي !))



لم أعلم ماذا يفترض بي أن أفعل بعد مرور هذا الزمن كله ،

هل أكتفي بهذه التحية ؟!

أم هل علي مصافحته .. أم ماذا ؟!

متى علي البدء بطرح الأسئلة ... شعرت أن شجاعتي قد خانتني .. كنت قد تخيلت هذ المشهد في ذهني كثيرا , لكن ...

لم يتركني لحيرتي طويلا ،

فقد وضع حقيبة عمله و الملفات التي كانت معه أرضا ليتقدم نحوي.

أمسك بكتفي بيديه الإثنتين و حدق في وجهي لحظة و كأنه يتحقق من شيء ما ، ثم إحتضنني على نحو غريب.

لم أشعر بشيء و أنا بين أحضانه بعد غياب خمس سنوات و لم ينطق أي منا بكلمة.



سأل بصوت طبيعي :
((هل أنت جائعة .. فلنتناول العشاء خارجا !))



لم أتوقع سؤاله هذا فغمغمت بصوت مدهوش :

((ماذا ؟ ... أقصد .. كنت على وشك الأكل !))



((هل أعددت العشاء؟!))

هززت رأسي نفيا عندما كان يلتقط حقيبته و أوراقه من الأرض و قلت بصوت مرتفع مسموع و أنا أعود للمطبخ :

((لقد كان جاهزا حتى قبل وصولي !))



رتبت صحنين على الطاولة و أخرجت الوجبة من المايكرويف ، ما كان ذلك التصرف ؟

لعله ينوي تجاهل الماضي و نسيان كل شيء .
كيف ؟
كيف يتصور بأن كل شيء طبيعي بيننا ؟

جلست إلى الطاولة الصغيرة في إنتظاره.

وصل صوت أبي الذاهل قبل صاحبه :

((قلت كان جاهزا قبل وصولك ؟!))



دخل من الباب و جلس إلى الطاولة.

كان قد نزع سترته الرسمية و رفع كمي قميصه.

أخذ الشوكة و بدأ بالأكل.

لم يعجبني تصرفه على أن عشاءنا روتيني عادي ،

كما لو أن وجودي ليس شيئا جديدا عليه.

قلت و أنا أرفع ملعقتي دون أن آكل :

((إلتقيت السيدة .. أقصد الآنسة مارلين و أخبرتني أنها هي من أعدت هذا الطعام.))



توقف قليلا عن الأكل و قال بجفاف :

((لطف منها !))



تفاجأت من ردة فعله , ألا يتواعدان أو ما شابه ؟

و لكني سرعان ما علمت أن هذا الجفاف مجرد قناع على الأرجح.

تناولت القليل من صحني و أنا أنتقي في ذهني الكلمات الملائمة لسؤالي التالي و الذي سأحصل منه على إجابة شافية تثبت صحة ظني.

تنحنحت ثم قلت محاولة فتح باب النقاش من جديد :
((أخبرتني مارلين أنها تسكن هنا منذ عامين ،
إنها امرأة لطيفة و جميلة جدا !))



لم يكن هناك داعي لطرح هذا الموضوع ... تكلمي مباشرة .. تكلمي .


توقع تعليق ما من أبي يؤكد نظريتي كان أمرا مبالغا فيه.
لذا كنت سأكتفي بقراءة التعبير الذي سيظهر على وجهه من جراء ذكر الموضوع.

لم يرفع عينيه عن صحنه أو يبدو مهتما ،
هز رأسه و وافقني قائلا :
((إنها جارة طيبة.))




صحيح ..و كأني لا أرى شغفها و طريقة حديثها تلك ..

منفر و لكني لا أكترث بعلاقاته !

أنا ابنته التي أمضت ست سنوات دون أن يكون بينها و بينه تواصل من أي نوع.

فما الذي يهمني في امر بمارلين؟؟

خفضت رأسي قليلا .. أخذت نفسا عميقا ثم سألته :
((لما طلبتني ... لما الآن ؟!))



هز رأسه قليلا :
((اسمعي يا سمر ... لن تتفهمي الأمر ,
أعلم بأنك غاضبة مني , أو على الأرجح تكرهينني و لكن ...))

قطع كلامه لحظة نظر الي خلالها ثم واصل :
((لن أشرح لك الكثير عن ما جرى في الماضي ..
فأنت لست بحاجة لمعرفة ما حصل و انتهى ..
لنبدأ صفحة جديدة .. أريد فعلا تعويضك عن كل ذلك الزمن.))


تصورت شيئا كهذا دائما ..
و تمنيته حدوثه كثيرا في صغري ..
لكن أشياء كثيرة اختلفت مذ كنت طفلة تتمنى رؤية أبيها الى جوارها .

لكني توقعت شيء من التفسير إلى جانب هذه الكلمات !!

((ألن ... ألن تخبرني لماذا أهملتني طيلة سنوات ؟
ألن تشرح لي لما لم تحضر جنازة أمي ؟؟
أو تأتي لرؤيتي بعد أن فقدت الشخص الوحيد الذي يعني لي شيئا في هذه الحياة ؟؟

كيف نبدأ بداية جديدة .. و لماذا ؟؟
ما الذي اختلف الآن ؟؟ أتظن هذه الكلمات كافية لأسامحك على تخليك عني و نبذك لأعوام ؟
أو لعلك تظنني فعلت ذلك مذ قبلت طلبك في المجيء الى هنا .
أنا قدمت الى هنا لأسباب خاصة بي و ليس لرؤيتك ..
عليك أن تعلم هذا جيدا ..
ليس بمقدورك قول شيء كهذا بعد هذا الزمن كله و انت تتوقع مني ان انسى كلما فعلت !!))

اندفعت قائلة بإنفعال كتمته لزمن طويل .. باذلة أقصى جهد للحفاظ على وجه صارم ..
و كي لا تسيل دموعي أمامه .. لن أضعف في أول لقاء لنا ,
بقي صامتا لفترة ينظر الي .. ثم نهض واقفا .
قال بملامح جامدة :
((حسنا .. أظن ذلك عادلا , و لن أطلب منك المستحيل .))


اتسعت عيناي دهشة و صدمة ,
هل يتخلى عن محاولته لإصلاح العلاقة بيننا بهذه البساطة ؟؟
هل هذا كل شيء ... انتهى اللقاء بعد ست سنوات ببضع كلمات ؟؟


نهض أبي و صعد إلى غرفته دون أن يضيف أي كلمة.

زفرت و رميت الملعقة في الصحن بغضب.
حتى أنه لم يسأل كيف كانت رحلتي ؟

عقدت ساعدي و تمتمت ساخرة :
((طابت ليلتك أنت أيضا أبي !))



كنت قد حضيت بكفايتي من النوم لذا لم أكن ناعسة.
جلست أمام شاشة التلفاز لكن ذهني كان في مكان آخر.

كنت قلقة أفكر كيف ستنقضي مدة ثلاثة أشهر مع هذا الرجل ؟

أويت إلى الفراش متأخرة تلك الليلة ،

و أنا استمع مرارا و تكرارا لعزف غري و غناء فرقته.

ذرفت الكثير من الدموع لأني وجدت نفسي هذه المرة قادرة على فهم تلك الألحان..

كان مزيدا من الجنون .. لكني فهمتها ..

كانت الألحان تحكي عن صعوبة فقدان شخص عزيز ،
و عن مشاعر الشوق التي تنتابك ،

أحببت تلك الألحان !

ذلك كان تفسيري للأمر.

رد مع اقتباس