الروح والمادة
( تأملات ووقفات )
Soul & Matter
بقلمي / عبدالله خضر عبدالله
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :
هذا الكون الواسع اللامتناهي ؛ هو أغرب وأضخم وأعجب مما يتوقعه الإنسان بعقله المحدود الذي لن يستطيع استيعاب كليات وجزئيات موجوداته ومخلوقاته ! ، ما زالت هنالك أمور فينا وحولنا تحتاج إلى أفكار ثاقبة ، وتأملات عميقة ، وتحليلات مركزة ، وإستنتاجات غير عادية ، ووقفات تأملية ؛ كل هذا لتتوضح وتتبين في فضاء عقولنا الأركان الأساسية عن هذا الوجود الكبير الذي حولنا ؛ بكل مافيه من كليات وجزئيات ، وغوامض وأسرار ، وعجائب وغرائب ، ومسلمات وحقائق وأمور يقف الفكر عندها طوعاً أو كرهاً ! .
مايعرفه الإنسان عن حقيقة نفسه وعما يحيط به شيء قليل جداً بالمقارنة بكمية المعارف والعلوم التي لم يتطرق فكره وفهمه إليها ، فما زال أمامنا الكثير والكثير من العمل والجهد الفكري والتأملي حول مانريد معرفته من حِكــَم الرب تعالى في خلقه ، قال جل من قائل : (( وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ . وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ )) : الذاريات 20- 21 ، فتعالى تبارك الذي خلق ماشاء لحِكمٍ جلية قدرها قبل خلق الخلائق .
البداية :
في حال أردنا الدخول إلى صلب الموضوع ؛ فلنتذكر بإمعان أصل الخلقة الإنسانية ، قبل هبوط أبو البشر آدم عليه السلام وزوجه حواء عليهما السلام إلى عالم الأرض ... الدنيا .
والله تعالى جلت حكمته جعل لكل شيء سبباً ؛ فهاهو آدم عليه السلام تــُجْمـَع ( مادة ) خلقه من أطراف كوكب الأرض ، وتتجمع ( المادة الترابية المختلطة ) هذه في قبضة جلالية ملائكية قال صاحبها – مَلَك الموت – للأرض يرد عليها بنبرات قهرية لما تمانعت عليه : " أنا للهِ أطـْوَع ! " ، فهو مأمور ولابد أن ينفذ مهما كان الجدل ومهما بلغت الممانعة واياً كانت المساومة ! .
كان الجسد الآدمي قبل حلول ( الروح ) فيه صلصالاًَ وتراباً وطيناً ، ولما حلت ( الروح ) الإنسانية – التي هي من أمر الله تعالى وعجيب قدرته – في الجسد المادي ( صلصال الحمأ المسنون ) تغير الجسد الترابي الساكن وتحوّل إلى جسد حي متحرك تنبض في كل عروقه وأطرافه لغة الحياة ، وإنبعثت الحواس فيه فجأة لتحس وتشعر بمعنى هذا الوجود ! .
هنا حصل دمج خلقي رباني بين : الروح وَ المادة
الروح : التي لايدري الإنسان – ومازال – حقيقة ماهيتها وكنهها ؛ وإن كان يشعر بها ويرى طيفاً من نورها وشعاعها الخالد الغامض النوراني .
والمادة : التي يعرفها ويراها ويسمع صوتأ منها ويشم رائحتها ويشعر بطعم ما لها ويلمسها ويتحسها ويزنها ويتصرف بها كيفما ومتى شاء ! .
هذا الدمج العجيب لعنصرين هما على طرفي النقيض ( الروح والمادة ) حصل ومازال يحصل ، فحركت الروح المادة ، وصارت المادة هذه ( الجسد ) خادماً طيعاً لسيدتها ( الروح ) ، وإذا إفتراقا عاد كل إلى موطنه وأصله ، حيث تعود الروح إلى عالم الأرواح ، ويعود الجسد المادي إلى مصدره ويتحلل ويصير تراباً حقيقياً كما كان منذ أزل الوجود ! .
وأثبت العلم الحديث أن جميع مكونات الجسد البشري هي نفسها مكونات تراب القشرة الأرضية بنسب متفاوتة ودقيقة ، (( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى )) : طه 55 ، ولكنه مازال يحبو حبواً ويحاول بخطىً بطيئة جداً لمعرفة كـُنه ( الروح ) ومعنى وكيفية مايجرى في عالم الأرواح والأبعاد الأثيرية الباطنة الأرواحية ! ، يحاول العلم بصعوبة بالغة معرفة كيفية مد يده ووضعها على حقائق خفية ومصيرية في أمور الروحانيات والماورائيات !! .
ماذا يوجد وراء المادة ؟ :
هنالك بلا أدنى شك أبعاداً أخرى غير سجن حواسنا الخمس ، هنالك حواس ومشاعر وأحاسيس وإلهامات وأحلام ورؤى وأمور غير عادية تحصل لكل منا هي خارجة عن نطاق المادة التي ندرسها في المدارس ! ، والأدهى هو أن بعض هذه الأمور الغامضة أصبحت من المسلمات العلمية الطبيعية ولايختلف بشأنها إثنين ، أذكر منها هنا مثالين علميين تطبيقيين إثنين :
1 – ( الجاذبية Gravity ) :
لايوجد طالب أو عالم فيزياء في العالم ينكر وجود الجاذبية وأثرها الهائل في معرفة الأسس الميكانيكية التي تؤثر على حركات الأجسام والأجرام ، في الأرض وفي الفضاء القريب والبعيد ، وبمعرفة بعض قوانينها إستطاع الإنسان الإستفادة منها في توجيه الصواريخ والمركبات الفضائية نحو كواكب أبعد من قوة جاذبية بعضها ، وبقوانينها توقع علماء الفلك على مر العصور بوجود كواكب أخرى لم تُكتشف إلا من تتبع آثار الجاذبيات الكوكبية ، والقائمة تطول !! , ورغم كل هذه الإستفادة الجمة منها إلا أنه حتى الآن لم تعرَّف الجاذبية مادياً ، أي لم يُعرف كنهها المادي الحقيقي ! ، يقول العلم المادي أنها تنبع بشكل أقوى من المادة الأكبر كتلة ، ولكن هل شكلها هذا هو كالماء أو النسيج أو الشبكة أو الهواء أو البالون أو الذرات أو الفوتونات الضوئية أو الإليكترونات ؟؟ أو..أو..أو ... لايوجد جواب مادي حقيقي عن ماهية وشكل الجاذبية الكونية !! ... والأجوبة تنصب كلها عن " آثار " الجاذبية وتأثيراتها وليست عن ماهيتها وكنهها الحقيقي ! .
2 – ( الطيف الكهرومغناطيسي Electromagnetic Spectrum ) :
تتألف ( الموجات أو الأشعة الكهرومغناطيسية ) من 7 نطاقات أو أقسام هي :
1- موجات الراديو Radio ،
2- أشعة الميكروويف Microwave ،
3- الأشعة تحت الحمراء Infrared ،
4- الضوء المرئي ( الذي نراه مباشرة ) ،
5- الأشعة فوق البنفسجية Ultraviolet ،
6- الأشعة السينية (أشعة إكس) X-Rays ،
7- أشعة غاما Gamma Rays .
وهو السلم المُسبَّع الترتيب وما يتفرع منه من مفهوم الذبذبات والإشعاعات والموجات ، ولاترى العين البشرية بشكل مباشر من سُلـَّمِه الطيفي السباعي إلا طيفأً واحداً فقط هو ( الضوء المرئي ) ، أي من مجموع 7 أطياف نرى بشكل طبيعي واحداً فقط ! .
أما الستة الأطياف أو المجالات الأخرى فلا تراها العين البشرية مباشرة ولكننا ككل ننتفع من موجاتها وإشعاعاتها المتنوعة في تكنولوجيات حياتنا اليومية بشتى تفاعلاتها ، إذن هي موجودة وتؤثر فينا وتتأثر بعوامل أخرى وتشكل مانسبته 85% من مجمل إشعاعات الكون ! ، وأعيينا البشرية تعيش فقط في نطاق الـ 15% الباقي ولا ترى النسبة الأكــــــبر !! ، (( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ . وَمَا لا تُبْصِرُونَ )) : الحاقة 38-39
في المثالين المذكورين ستلاحظ وجود شيء مبهم وغامض يحيط بالمادة ولاينكره العلم ، بل يستفيد منه في مجالات وتطبيقات الفيزياء الكونية والطب والملاحة الفضائية والتصوير الحراري والفوق البنفسجي والراداري وغير ذلك ...
ستلاحظ وتعرف مما ذكِر أن عدم رؤية الشيء لايعني عدم وجوده ، فما لاتراه العين لايعني أنه غير موجود ، وما لم يفهمه العقل لايعني كونه معدوماً ولا يعني أنه غير حقيقي ! ، على معنى وجود أمور غير مادية وغير عادية تؤثر بكيفيات مجهولة على أشياء ظاهرة مادية ملموسة !! ، وهنا بيت القصيد .
الإتجاه الأول - التأثير الروحاني في الكيان المادي :
منذ آلاف السنين ونفس الإنسان تتطلع بكل قوتها لهفتها إلى السيطرة – أو التأثير على الأقل – على محيطها المادي بواسطة قدرات روحية باطنة ، حاول الإنسان ذلك بشتى المحاولات المعلومة والمجهولة ، وحصلت بالفعل بعض الأمور فوق الطبيعية ، البعض صدقها والآخر كذبها ، بعضها في إتجاه الخير وأغلبها في خانة الشر ، ولكن من بعد نزول الفرقان العظيم على سيد البشر محمد النبي الكريم وحلول الهدي النوراني المحمدي ؛ أضحت مسألة الجدل عن حقيقة التأثير الباطن على المادة أمراً محسوماً عند المؤمنين أمة الإسلام ، دعني أيها القاريء أذكرك بمثال قريب في حديث نبوي مشهور وافهم منه مايمليه عليك عقلك :
عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال :
مرّ عامر بن ربيعة بسهل بن حنيف رضي الله عنهما وهو يغتسل ، فقال: لـَمْ أرَ كاليوم ولا جِلدَ مُخبّأة !! ،
فما لبث أن لُبِطَ به ، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : أدرك سهلاً صريعاً ،
قال : ( من تتهمون به ؟ ) ، قالوا: عامر بن ربيعة ،
فقال: ( علام يقتل أحدكم أخاه ؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة ) ،
ثم دعا بماء، فأمر عامراً أن يتوضأ، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه" رواه ابن ماجة .
وفي رواية للطبراني وغيره: "فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس".
معاني المفردات الحديث :
( جـِلدَ مُخبّأة ) : المخبّأة هي الجارية التي في خدرها لم تتزوج بعد.
( لـُبـِط َ به ) : أي صُرِع بسببه وسقط على الأرض.
( فليدع له بالبركة ) : فليقل له بارك الله فيك.
( وداخِلَة إزاره ) : طرفه وحاشيته من الداخل.
شرح الحديث ( منقول ) :
بين مهاجري وأنصاري استحكمت عُرى المحبّة وتشابكت أغصان الأخوة حتى غدت جنّة وارفة الظلال، أما المهاجري: فهو عامر بن ربيعة أحد السابقين الأوّلين والقلائل المعدودين الذين هاجروا الهجرتين وشهدوا مع رسول الله -صلى الله عليه و سلم- غزوة بدر، وأما الأنصاري: فهو سهل بن حنيف أحد الأبطال الذين شهدت لهم ساحات القتال بشجاعتهم وثباتهم، لا سيّما يوم أحد حين انكشف الناس عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فبايعه يومئذٍ على الموت وقام ينافح عنه بالنَبل، حتى انكشفت الغمّة وانتهت المعركة.
ولقد قامت دلائل المحبّة بين الصحابييّن الجليلين واضحةً لكل من كان يعرفهما ويراهما، ومن بين تلك الدلائل ما كان بينهما من التزاور والتلاقي بين الحين والآخر، خصوصاً إذا استبطأ أحدهما رؤية أخيه أو افتقده.
ويوماً عزم عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن يزور أخاه سهلاً كعادته، فدخل عليه فإذا به يغتسل، وعندها توقّف عامر رضي الله عنه مشدوهاً، وهاله ما رآه من جمال أخيه الأنصاري الذي فاقت محاسنه كلّ تصوّر، فلم يُر قط بياضٌ كبياض جلده، ولا زهرة كزهرة لونه، فانفلت لسان عامر المعجب قائلاً: " لم أر كاليوم ولا جِلدَ مُخبّأة!".
وما أن خرجت تلك الكلمات من فم عامر رضي الله عنه حتى انطلقت سهماً صائباً في أخيه، فتهاوى جسده وتخاذلت قدماه، وخرّ صريعاً من لحظته.
تفاجأ عامر رضي الله عنه بما حدث، فلم يكن يتصوّر أن تُحدث كلماته في أخيه كلّ هذا الأثر، وندم على تسرّعه وتلقائيّته، وفي الوقت ذاته: ألجمته المصيبة التي حلّت فلم يدرِ ما يصنع.
وسرعان ما حُمل سهل رضي الله عنه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- والناس ينظرون إليه فزعين، وكلماتهم تستنجد برسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليُرشدهم في إنقاذه قائلين: " أدرك سهلاً صريعاً".
نظر النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى سهل رضي الله عنه وهو في حالةٍ يُرثى لها من الإعياء والإجهاد، وأدرك من النظرة الأولى أنه مصابٌ بالعين، فاستفسر عن الفاعل، فأُخبر أنه عامر رضي الله عنه، فغضب لذلك ووجه كلامه لعامّة من كان حوله: ( علام يقتل أحدكم أخاه؟) ، وحتى لا تتكرّر المأساة بيّن لهم ما يجب فعله على من رأى ما يُعجبه: (إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة ) .
وبعد التحصين جاء دور العلاج، فدعا بماء وأمر عامراً أن يتوضأ منه ، فيغسل الوجه واليدين، ثم الركبتين وطرف الإزار، ثم أمر أن يُجمع ذلك الماء فيُصبّ على سهل رضي الله عنه، وسرعان ما انجلت الغُمّة وانكشف البلاء، وزالت العين، لتكون تلك الحادثة شاهدة على أثر العين، ودرساً مهماً في كيفية التعامل معها. ( إنتهى شرح الحديث )
قلت :
في هذا الحديث النبوي الصحيح وفي شرحه المفصل عبر كثيرة وعجيبة تدل صراحة على وجود تأثير روحي باطني – ولو كان غير مقصود – على فيسيولوجية الجسد المادي الإنساني ، وفي المثال هنا ظهر معنى ( الإصابة بالعين ) وسببه ومصدره وكيفية حدوثه وضرره والشفاء منه .
ولنا أن نتساءل :
هل مصدر الضرر هنا وقع من ( قزحية العين المتعجبة ) أو من ( صوت الكلام المنبهر ) ، أو منهما معاً ؟؟ ..
هل يصدر ضرر ما من الإنسان باطناً بدون قصده وبخلاف نيته ؟؟ .. فهؤلاء صحابة كرام ! .
هل تقف القوة النفسية الباطنة للإنسان وراء حدوث مثل هذه المواقف ؟؟ ..
هل مشاعر الإنسان تطلق سهاماً صائبة عمياء أثناء التعجب والإنبهار ؟؟ ..
أجوبة هذه الأسئلة في السؤال نفسه ! .
وغير ما ذكر فإن هنالك تجارب علمية من نوع خاص سُجلت وتؤكد وجود قدرات غريبة نادرة لأشخاص في تحريك المادة بمجرد النظر إليها أو التركيز العقلي القوي فيها ! ، وغير ذلك من قدرات خفية لدى الإنسان تكون في محل دليل قطعي عن تأثير الروحانيات في الماديات بكيفيات غير طبيعية .
والتأثير الروحاني في الكيان المادي يدل على عدة أمور مبهمة وخفية لم يصل علمنا وإدراكنا للإحاطة بها من جميع نواحيها ، ولكن نستنتج منها الآتي :
1 – أنه توجد في المادة أو بعض المواد ( قابلية ) غامضة غير معروفة للتأثيرات الروحية التي تقع عليها وذلك في وضع ما وكيفية ما .
2 – أن هنالك ( وسائط أثيرية ) شبه مادية تكون في تركيب المادة أو حولها وهي تمثل الوسيط المحوري بين الجانبين : الروحاني والمادي .
3 – تتكون المادة من جزيئات ، والجزيئات من ذرات ، والذرة هي البنية التحتية للكيان المادي ، والعلم الحديث يؤكد أن أكثر حجم الذرة هو ( الفراغ ) ! ، وهذا الفراغ الكبير في الذرات نفسها وبينها يسمح بديهياً للأثير الروحاني التغلغل والنفاذ فيها كما تنفذ الموجات داخل الجدران وكما ينفذ الضوء في عمق البحر وكما يدخل الهواء الغرف من النوافذ ومن غير النوافذ ، فلا ذرات الماء تصد كل فوتونات الضوء ، ولا ذرات الهواء تكون ممنوعة 100% من الولوج إلى فراغات اللأبنية ! ... إذن التأثير الروحاني في الكيان المادي ممكن وبديهي جداً !! .
4 – أن المواد والأغراض والأدوات المادية المتعلقة بشخص ( أو التي يتعامل معها بكثرة ) تكون بشكل أو بآخر متأثرة من ( التأثير الإشعاعي الروحي ) له ، كالأمثلة الآتية :
( أ ) - تغير معدن الفضة في لمعانه في قوة البريق أو خفوته تأثراً من الحالة النفسية أو الروحية لحامله أو لابسه .
( ب ) - وجود متجرين متلاصقين متماثلين يحويان نفس الأشياء والسلع ؛ إلا أن أكثر الزبائن يفضلون إحداهما على الآخر بدون سبب واضح بالرغم من أن صاحبيهما يتعاملان مع الزبائن بكل معاملة لائقة ممكنة ؛ إلا أن أحدهما أكثر قبولاً ولفتاًَ للأنظار ! .
( ج ) – وجود إثنتان من النساء كل واحدة منهما أستاذة في فن الطبخ وإعداد المأكولات ؛ ومطلوب منهما إعداد طعام واحد في وقت واحد بنفس الكمية والأسلوب والمقادير وفي درجة حرارة نار واحدة ؛ ولكن بعد الإنتهاء لكليهما تجد أن إحدى الوجبتين ألذ أو أطعم من الأخرى !! ... وستقول بدون شعور أن واحدة منهما لها لمسة سحرية ونكهة خاصة في طبخها !! .. هنا قل لي هل تستطيع التحديد بالضبط أية لمسة سحرية هذه ومن أين أتت النكهة الخاصة التي تحس بها في طعامها ؟؟ ..
ومما ذكر نرى أنه تتعذر المعرفة الحقيقية لماهية التأثير الروحي في الشيء المادي معرفة علمية دقيقة مفصلة ؛ وذلك لوجود عدة عوامل مجهولة في المادة نفسها فضلاً عن الروح المؤثرة عليها بشكل غير طبيعي !! .
الإتجاه الثاني - التأثير المادي في الكيان الروحاني :
ذكِر في السابق تأثيرُ أمورٍ تعتبر روحية على شيء مادي وملاحظات على ذلك ، ومن جهة أخرى يمكن لهذا التأثير أن يكون في الإتجاه المضاد ، أي أنه في حالات خاصة ومحدودة يمكن لشيء ( مادي ) أن يؤثر بطريقة أو بأخرى على كيان روحاني ، لاحظ معي العناصر الأربعة الآتية وتفكر فيها بتأنٍ وبتمعن :
1 – ( الألوان والمزاج البشري ) :
في الحديث عن الألوان نعتبر أنها مدخل إلى أحد حواس الإنسان المادية الرئيسية الخمس ، وهي حاسة النظر ، ونعرف أن اللون ماهو إلا نطاق ضيق وصغير من الأشعة الكهرومغناطيسية ( طيف الضوء المرئي بألوانه السبعة الرئيسية ) السابقة الذكر ، ونعرف بالتالي أن البصر الإنساني محصور مادياً في نطاقه فلا يرى إلا 15% من مجمل الأطياف الأخرى كما شاء له الخالق جل وعلا ، ولكن هنالك نوع ما من التناغم والتفاهم بين الألوان والشعور الإنساني .
وعندما نتحدث عن مسمى ( الشعور الإنساني ) ندخل إلى أحد نوافذ الروح الإنسانية ، لأن ( الشعور النفسي ) للإنسان هو ( وسيط ) بين كيانه المادي التشريحي المعلوم وبين كيانه الروحي الغامض المجهول ، إذن المشاعر الإنسانية بمختلف أنواعها المترابطة والمتناقضة هي لمحة عن الروح البشرية التي تدرك وتشعر وتعرف وتقرر وتميز وتسيطر على أنواع المشاعر النفسية هذه بآليات باطنة مجهول أغلبها .
إن للألوان بأنواعها المتعددة بديهياً تأثير خاص على المزاج البشري ، فقط أكثر مايعرفه الشخص الذي يحب لوناً معيناً أو ألواناً معينة أنه ( يشعر ) في قرارة نفسه بميل قوي وإنجذاب خفي للون ما ! ، حيث يُحس بوجود ملائمة قوية عفوية بين مزاج طبيعته وذلك اللون ، واللون مادياً وأياً كان في الحقيقة ماهو إلا إنطباع ضوئي تستقبله قرنية وقزحية العين لتدركه الخلايا الدماغية في مركزها في الرأس ، أما كيف تقرر هذه الخلايا الدماغية أهمية هذا اللون للنفس البشرية وتتفاعل النفس معه فهنا اللغز والسؤال المحير ! ، وإذا سألت الشخص عن سبب حبه أو إنجذابه لهذا اللون خاصة فإنه في أغلب الأحوال لايعرف كيف حصل هذا أو لماذا ولكنه يحصل ! ، وستكون محظوظاً جداً إن أعطاك إجابة واضحة شافية عن السبب الحقيقي ؛ ذلك أنه هو نفسه يجهل كيفية وسبب ذلك ، والمزاج أو النفسية البشرية هو جزء لايتجزأ من كيانها الروحي ! .
2 – ( الصورة والإحساس الشعوري الروحي ) :
الصورة هي مثل اللون كما ذكر ، إلا أنها خليط من الألوان والخطوط والهيئات المنسقة وغير المنسقة ، وحتى إذا لم تحوِ الصورة التي رآها الدماغ مجموعة ألوان ؛ فإن في شكل هيئتها تأثير ما على الإحساس الروحي الجمالي وغير الجمالي ، فكم وقع الإنسان فريسة الحب الأعمى من النظرة الأولى ! ، والحب هو أحد الأحاسيس العليا المرتبطة بشكل وثيق بالمستوى الروحي البشري ، فالصورة يمكن أن تغري وأن تغوي وأن تجذب وأن تنفـّر أو تغير من الفكرة سلباً أو إيجاباً ، والله تعالى جميل يحب الجمال ! . وكم يدخل الإنسان في هيام روحي عميق يحلق به في أجواء خيالية شاعرية بمجرد رؤيته لشكل معين أو صورة ما ، سواء كانت معبرة أم لا ! ، هنالك سر ما في هيئة الشيء أو صورته تؤثر بالتأكيد على مدارك النفس لتؤثر على قرار الروح تجاهها ! .
3 – ( الرائحة وتأثيرها على النفس البشرية ) :
الرائحة صفة من صفات المادة ، فكل مادة تتكون من جزيئات ، والجزيئات تتكون من ذرات ، ففي أية حالة كانت فيها المادة فإنه توجد بعض الجزيئات الغازية التي تنطلق من كتلة المادة هذه ، لتتحرر من الكتلة وتحملها ذرات وجزيئات الهواء الدقيقة المحيطة بها ، وفي أثناء التنفس تعلق وتلتصق هذه الجزيئات الغازية في باطن خلايا الأنف لتستقبلها الخلايا الشمية الدماغية لتفهمها على أساس أنها رائحة وتصنفها .
للرائحة – عطرية أو غير عطرية – تأثيراً واضحاً على أحاسيس النفس البشرية ، وذلك عندما تنطبع مدركاتها في الوعي واللاوعي الإنساني ، فأية رائحة لها رد فعل داخلي نفسي معلوم ومجهول ، فهنالك روائح تشعر النفس باللذة والراحة الإنتعاش والطمأنينة والثقة والتفاؤل ، وأخرى تشمئز منها النفوس وتثير القرف وتنفر منها ، وأخرى تقوي ذكريات مبهمة موجودة في العقل الباطن ، وأخرى تسبب صداعاً ، وأخرى تزيل التوتر وتذهب الضيق والإكتئاب ، والبعض منها يثير الغرائز ويهيج الأحاسيس ، والقائمة طويلة عريضة بديهية .
كان نبي الهدى صلى الله عليه وسلم يحب الطيب ويكرمه ، ويقدر الروائح الزكية ، وله أحاديث مروية عنه في هذا الشأن ، ومن هنا نفهم وجود علاقة ما غير مدركة بين الروح والمادة ، على أساس أن المادة تحوي في كيانها شيئاً جاذباً أو مهماً لهذه الروح ! .
4 – ( الصوت وتأثيره على الشعور الإنساني ) :
الصوت في حقيقته عبارة عن إهتزازات ذبذبية معينة في نطاق محدد وهي موجية الشكل والتركيب ، تنتقل في الهواء لتستقبله الأذن بواسطة الطبلة والعظيمات الثلاث فيها وصولاً إلى قوقعة الأذن التي تعالج الصوت وتحوله إلى سلسلة ذبذبات تنتقل إلى مركزها في الدماغ بواسطة العصب السمعي .
ويعرف الإنسان بغريزته منذ القدم أهمية ومعنى الصوت ( إن كان الصوت موسيقياً أو لا ) ، فله تأثير خاص على المزاج وفي لفت إنتباه الحواس الأخرى ، ويتعدى تأثيره ذاك إلى أن يصل إلى عمق الخيال الشعوري والتصوري للنفس الشعورية الإنسانية التي تلاصق المستوى الروحي ، والأصوات الموسيقية والأنغام الصوتية والمؤثرات السمعية تأثير ما مؤكد على الطبيعة الروحية البشرية وفي مزاج النفس أياً كان وضعها .
( خاتمة )
إذن هنالك علاقة ما مفهومة وغير مفهومة بين الروح والمادة ، وهي علاقة متبادلة وليست من طرف واحد ( في هذا البعد الدنيوي على الأقل ) ، أما لماذا أو كيف نعرف كل ماذكِر ولا نركز أفكارنا عليه لفهمه فهماً واضحاً محدداً لنصل إلى مستوى راقٍ من المعرفة ؟ ؛ فهذا هو السؤال بعينه !! .
ولله في خلقه شؤون