المهلة الأخيرة (روايه مترجمه) رواية : فالنتين راسبوتين
كانت العجوز آنَّا ترقد على سرير حديدى ضيق قرب الموقد الروسى . راحت تنتظر الموت الذى آن على ما يبدو أوانه : كانت تقارب الثمانين من عمرها . كم تحاملت على نفسها طويلا وتماسكت ساعية على قدميها ، ولكنها استسلمت ورقدت بعد أن خارت قواها تماما منذ ثلاث سنوات مضت . فى الصيف شعرت وكأن صحتها قد تحسنت قليلا ، فأخذت تزحف إلى فناء البيت لتستدفئ تحت أشعة الشمس ، بل وكانت أحيانا تعبر الشارع على مراحل متقطعة تستريح خلالها فى الطريق إلى بيت العجوز ميرونيخا ؛ مع اقتراب الخريف وقبل نزول الثلج فارقتها آخر بوادر قوَّتها حتى إنها لم تكن تقدر على تنظيف القصرية التى آلت إليها من حفيدتها نينكا . وبعد أن سقطت مرتين أو ثلاث متتالية على سلم المدخل فرضوا عليها عدم النهوض بتاتا ، فلم يتبق لها فى حياتها كلها ما تفعله سوى القعود فى الفراش أو الجلوس على حافته مدلية قدميها نحو الأرض ، ثم تعود ثانية للاستلقاء والرقاد .
أنجبت العجوز خلال حياتها الكثير من الأبناء ، والآن لم يبق منهم بين الأحياء سوى خمسة بعد أن زارهم الموت كما تزور العِرسة قن الدجاج ، ثم نشبت الحرب . ومع ذلك فقد نجا خمسة : ثلاث بنات وابنان . عاشت إحدى البنات فى نفس المنطقة ، والأخرى فى المدينة ، أما الثالثة فقد كانت تعيش بعيــدا جدا ـ فى كييف . انتقل الابن الأكبر من الشمال ، حيث استقر بعد الخدمة العسكرية ، إلى المدينة أيضا . أما العجوز فقد استقرت عند ابنها الأصغر ميخائيل ، الوحيد الذى لم يترك القرية ، وراحت تبذل كل ما بوسعها حتى لا تعكر بشيخوختها حياة أسرته .
فى هذه المرة سار كل شئ فى اتجاه أن العجوز لن تبقى حتى نهاية الشتاء . فمنذ الصيف ، وبمجرد أن بدأت صحتها تتدهور ، صارت تنتابها نوبات إغماء . وكانت حقن الممرضة التى تركض نينكا فى استدعائها هى التى تعيدها من العالم الآخر . وحينما تعود إلى وعيها تظل تئن فى ضعف وبصوت غريب ، والدموع تطفر من عينيها ، ثم تتمتم :
ـ كم مرة قلتُ لكم : لا تلمسونى ، دعونى أرحل بهدوء . أين كنتُ الآن لولا ممرضتكم هذه . ـ ثم تُعَلِّم الصغيرة : ـ لا تركضى بعد الآن إليها ، لا تركضى . إذا أمرتك أمك بالذهاب ، اختبئى فى الحمَّام ، وانتظرى قليلا ، ثم قولى لها : إنها غير موجودة بالبيت . وسأعطيك مُلَبَّسَة ـ فى غاية الحلاوة …
فى بداية سبتمبر هبطت على العجوز مصيبة أخرى : استحوذ عليها نوم متواصل . لم تعد تأكل أو تشرب ، وإنما راحت فى نوم طويل . يلمسونها ـ تفتح عينيها ، تتطلع بنظرة خابية من دون أن ترى شيئا أمامها ، ثم تعاود نومها من جديد . وكانوا يلمسونها كثيرا ـ لكى يعرفوا : حية أم ميتة . تيبس جسدها ، وفى النهاية اصفرت ملامحها ـ صارت جثة هامدة وإن لم يغادرها النفس الأخير .
عندما صار من الواضح تماما أن العجوز سترحل إن لم يكن اليوم فغدا ، ذهب ميخائيل إلى البريد وأرسل تلغرافات إلى أخيه وأخواته ـ للحضور . بعد ذلك هز العجوز موقظا إياها ، وابتدرها قائلا :
ـ انتظرى يا أمى ، سيأتون سريعا . يجب أن يروك وترونهم .
فى صباح اليوم التالى ، كانت فارفارا الابنة الكبرى للعجوز أول الحاضرين . لم يكن حضورها من منطقتها صعبا ، فالمسافة لا تزيد عن خمسين كيلومترا ويمكنها أن تستقل أية سيارة بالطريق . فتحت فارافارا البوابة الخارجية ، لم تلمح أحدا فى الفناء ، وبمجرد أن تنبهت للأمر انفجرت فى الصيـاح والعويل :
ـ أمى ، يا أمى … !
وثب ميخائيل نحو السلم :
ـ تمهلى ! فهى لم تزل حية بعد . إنها نائمة . لا تصرخى ، على الأقل فى الشارع . وإلا ستجمعين علينا أهالى القرية كلهم .
دخلت فارفارا دون أن تنظر نحوه وسقطت على ركبتيها بجوار سرير العجوز ، ومرة أخرى راحت تهز رأسها وتنوح :
ـ أمى ، يا أمى … !
لم تستيقظ العجوز ، ولم تسر فى وجهها نقطة دم واحدة . ربت ميخائيل على خدى أمه اللذين تقعرا . عندئذ فقط تحركت عيناها تحت جفنيها . حاولت فتحهما ولكن دون جدوى .
ـ أمى ـ هزها ميخائيل ـ هذه فارفارا قد حضرت . انظرى .
ـ أمى ـ جاهدت فارفارا ـ هذه أنا ، ابنتك الكبرى . جئتُ لأراك ، وأنت لا تنظرين إلىَّ ! يـا أمى !
اهتزت عينا العجوز ، ارتجفتا مثل كفتى ميزان ، ثم تصلبتا وانطبقتا من جديد . نهضت فرفارا وابتعدت لتبكى خلف المائدة ـ حيث الوضع أكثر راحة هناك . بكت طويلا بينما أخذت تدق رأسها بالمائدة . انهمرت دموعها غزيرة ولم تعد قادرة على إيقافها . بالقرب منها راحت نينكا ذات الخمس سنوات تروح وتجئ وتنحنى حتى ترى لماذا لا تجرى دموع فارفارا على الأرض ؛ أبعدوا نينكا ، ولكنها ـ تلك الماكرة ـ تسللت مرة أخرى واحتلت مكانا خلف المائدة .
فى المساء وصل إيليا ولوسيا من المدينة على ظهر مركب اتضح أنه لحسن حظهما يتناسب مع الظرف الطارئ على الرغم من أنه يبحر مرتين فقط فى الأسبوع . استقبلهما ميخائيل على الرصيف وقادهما إلى البيت الذى ولدوا جميعا فيه وكبروا . ساروا فى صمت : لوسيا وإيليا على الرصيف الخشبى الضيق المتضعضع ، وميخائيل إلى جوارهما على الوحل المتيبس . راح القرويون يلقون بالتحية على لوسيا وإيليا دون إيقافهما ، وبمجرد أن يتجاوزونهما يلتفتون مرة أخرى ويطالعونهما فى اهتمام . وأخذ العجائز والأطفال يتطلعون من النوافذ إلى الزائرين ، وكانت العجائز يرسمن إشارة الصليب علــى صدورهن .
لم تتمالك فارفارا نفسها حين رأت أخيها وأختها :
ـ أمنا ، يا أمنا … !
ـ تمهلى ـ أوقفها ميخائيل ثانية ـ سيكون لديك ما يكفى من الوقت لذلك .
وقف الجميع بالقرب من سرير العجوز ـ ومعهم ناديا زوجة ميخائيل ، وفى المكان نفسه نينكا أيضا . كانت العجوز راقدة بدون حراك ـ تبدو وكأنها فى نهاية حياتها أو فى بداية موتها . تأوهـت فارفارا :
ـ لقد ماتت !
لم يهدئ من روعها أحد ، وإنما اهتز الجميع فى أماكنهم برعب . مدت لوسيا كفها بسرعة نحو فم العجوز المفتوح فلم تشعر بتردد أنفاسها . قالت متذكرة :
ـ مرآة ، إعطونى المرآة .
اندفعت ناديا نحو المائدة ، تناولت بقايا مرآة ، مسحتها على عجل بطرف ثوبها وأعطتها للوسيا التى قرَّبتها بنفاذ صبر من شفتى العجوز المزرقتين . ظلت ممسكة بها للحظة ، وعندما تجمع البخار على سطحها تنفست فى ارتياح قائلة :
ـ ما زالت حية ، أمنا ما تزال حية .
انخرطت فرفارا فى البكاء مرة أخرى وكأنها سمعت العكس ، أما لوسيا فذرفت دمعة وابتعدت . وقعت المرآة فى يد نينكا . أخذت تنفخ على سطحها وهى تنتظر ماذا سيحدث لها بعد ذلك ، ولكنها لم تجد ما كانت تتوقع أن يروق لها . وفى غضون ذلك انتهزت الفرصة ودفعت بالمرآة نحو فم العجوز كما فعلت لوسيا منذ برهة . لمحها ميخائيل ، فضربها على مرأى من الجميع وطردها من الحجرة . طغى صياح نينكا وبكاؤها فاضطرت فارفارا إلى قطع بكائها ، وتنهدت قائلة :
ـ آه ، يا أمنا أنت …
سألت ناديا عن المكان الذى يفضلون فيه تناول الطعام ـ هنا فى الغرفة أم بالمطبخ . قرروا أن يتناولوه بالمطبخ لكى لا يسببوا أى إزعاج للعجوز . أحضر ميخائيل زجاجة فودكا وزجاجة نبيذ . صب الفودكا لنفسه ولإيليا ، ونبيذا للأختين والزوجة . ثم قال :
ـ لن تأتى تاتيانا اليوم ، ولن ننتظرها .
رد إيليا موافقا :
ـ أى نعم . لقد انتهى النهار ولم تعد هناك وسيلة نقل . فإذا كانت قد استلمت التلغراف بالأمس ، فسوف تركب الطائرة اليوم إلى المدينة ثم تستقل وسيلة نقل أخرى . لعلها تجلس الآن هناك بالمنطقة والسيارات لا تسير فى الليل ـ أى نعم .
ـ وربما تجلس منتظرة بالمدينة .
ـ ستصل غدا .
ـ من الضرورى غدا .
ـ لو غدا فسوف يكون بإمكانها أن تلحق .
رفع ميخائيل الكأس الأول باعتباره صاحب البيت :
ـ هيا ، لنشرب نخب اللقاء .
ـ أ ليس بإمكاننا قرع الكؤوس ؟ ـ تساءلت فارفارا فى فزع* .
ـ ممكن ، ممكن ، فنحن لسنا فى حفل تأبين .
ـ لا تتكلم هكذا .
ـ الكلام الآن مثل عدمه ، لا فرق …
قالت لوسيا فجأة فى حزن وقلق :
ـ منذ زمن طويل لم نجلس هكذا ، لا تنقصنا سوى تاتيانا . سوف تأتى ، سنصير مرة أخرى معا وكأننا لم نفترق أبدا . كنا نجلس دائما حول هذه المائدة ، ومن أجل الضيوف فقط كنا نعد المائدة فـى الغرفة . إننى حتى أجلس فى نفس مكانى ، أما فارفارا فليست فى مكانها .. وأنت أيضا يا إليا .
قاطعها ميخائيل فى غضب :
ـ ماذا تقولين .. لم نفترق ! لقد افترقنا ، وافترقنا تماما . فارفارا هى الوحيدة التى تطل علينا .. عندما تكون فى حاجة إلى بطاطس أو أى شئ آخر . أما أنتم فكأنكم غير موجودين فى الدنيا .
ـ فارفارا قريبة من هنا .
لم تتماسك فارفارا :
ـ كأنكم تأتون من موسكو نفسها . الأمر كله مجرد يوم واحد على المركب وتكونون هنا . من المفترض ألا تتحدثوا فى تلك الأمور طالما لا تتقبلون حقيقة أننا إخوة . لقد صرتم من سكان المدن ، فهل ستشغلون بالكم بقرويين مثلنا !
ردت لوسيا فى انفعال :
ـ ليس لك حق ، يا فارفارا ، فى هذا الكلام . ما شأن سكان المدن والقرويين هنا ؟ فكرى قليلا فيما تقولين .
ـ أى نعم . فارفارا ليس لديها حق طبعا ، ليست إنسانا ، فلماذا التحدث معها ؟ ليس لها وجود ، وليست أختا لأختيها وأخويها … وأنتِ إذا سألناك : كم مضى منذ هذه اللحظة على غيابك عن هذا البيت ؟ أما فارفارا فليست إنسانا ، وهى التى كانت وما زالت تزور أمها عدة مرات فى السنة رغم أن أسرتها ليست كأسرتك ، وإنما أكبر . لقد صارت فارفارا الآن متهمة .
ثم أضاف ميخائيل مؤيدا فارفارا :
ـ أنت لم تأت منذ زمن بعيد .. ولكن ما فائدة الكلام الآن ! كنتِ عندنا آخر مرة قبل ولادة نينكا . أما آخر مرة كان إيليا فيها هنا ـ عندما انتقل من الشمال ولم تكن ناديا قد فطمت نينكا بعد . أ تَذْكُر .. كيف ضَحِكْتَ عندما دهنوا ثدى أمها بالخردل ؟
هز إيليا رأسه متذكرا بينما قالت لوسيا فى غضب :
ـ لم أقدر ، ولهذا لم أحضر .
ردت فارفارا غير مصدقة :
ـ لو أردت لحضرت .
ـ ماذا تعنى لو أردت ، إذا كنت أقول لم أقدر ؟ فى حالتى الصحية هذه ، إذا لم أتعالج خلال الإجازة ، فسوف أدور بعد ذلك طوال السنة على المستشفيات .
ـ كل شئ وله عندك الحجة المناسبة ؟
ـ أى شئ وأية حجة ! ما هذا الخلط ؟
ـ لا شئ . لم يعد هناك من يمكنه أن يقول لكم ولو حتى كلمة واحدة . لقد أصبحتم من ذوى الشأن .
تدخل ميخائيل قائلا :
ـ حسنا ، لنشرب كأسا ثانيا ، فلماذا نترك الخمر تفسد ؟
قالت فارفارا محذرة :
ـ من الأفضل أن نكتفى بذلك . أنتم الرجال ليس لديكم هَمُّ سوى السُّكْر . أمنا نائمة تحتضر وهُم هنا يتسلون . فإياكم أن تغنوا أيضا ..
ـ ليس هناك من ينوى الغناء ، أما الشرب فممكن . نحن نعرف متى نشرب ، ومتى لا نشرب ـ لسنا صغارا .
ـ أوه ، الاحتكاك بكم مصيبة ..
جلسوا يتبادلون الحديث حول المائدة الخشبية الطويلة التى صنعها المرحوم والدهم منذ ما يقرب من خمسين عاما مضت ، وقد صاروا لا يشبهون بعضهم البعض منذ أن أصبحوا يعيشون منفصلين . كانت ملامح فارفارا تجعلها تبدو وكأنها أمهم على الرغم من أنها تجاوزت الخمسين فقط فى العام الماضى ولكن مظهرها بدا أسوأ بكثير من هذه السن ، صارت تشبه المرأة العجوز ، وخلافا لبقية أسرتها كانت بدينة وبطيئة . شئ واحد أخذته عن أمها : أنجبت كثيرا هى الأخرى ، الواحد بعد الآخر ، ولكنهم فى زمنها كانوا قد تعلموا حماية الأطفال من الموت ، أما الحرب فلم تكن معروفه لهم فسلموا جميعا وعاشوا أصحاء ما عدا واحد فقط كان قابعا بالسجن . لم تر فارفارا سعادة كبيرة فى أولادها : قاست معهم وتشاجرت قبـل أن يكبروا ، ومازالت تتعذب وتتشاجر معهم بعد أن كبروا . وبسببهم شاخت قبل الأوان .
بعد فارفارا أنجبت العجوز إيليا ، ثم لوسيا فميخائيل ، وأخيرا تاتيانا التى مازالوا ينتظرون مجيئها من كييف . ظلوا يطلقون على إيليا ، لقصر قامته حتى التحاقه بالخدمة العسكرية ، بإيليا القصير . والتصقت به التسمية على الرغم من عدم وجود أى إيليا آخر طويل بالقرية . وبسبب معيشته لأكثر من عشر سنوات فى الشمال سقط شعره ، وأصبح رأسه مثل البيضة أجردا يلمع فى الطقس المشمس وكأنهم قاموا بصقله . هناك فى الشمال تزوج ، ولكن زواجه لم يكن موفقا تماما . بدون عناية : اختار لنفسه امرأة معتدلة الطول وعاشا معا حتى صارت أضخم من إيليا بمرة ونصف المرة الأمر الذى زادها جرأة وفظاظة ـ وحتى قد وصلت إلى القرية أخبار تفيد بأن إيليا يعانى منها الكثير .
لوسيا أيضا تجاوزت الأربعين ، ومع ذلك لا يمكن التكهن بذلك أبدا : تبدو شابة ، وأصغر سنا على غير العادة هنا ، بوجه رائق وناعم كما لو كانت فى صورة ، ولم تكن ترتدى ملابسها كيفما اتفق . تركت لوسيا القرية بعد الحرب مباشرة وخلال تلك السنوات تعلمت طبعا من نساء المدينة كيف تعتنى بنفسها . بل ويمكن أن نقول : أية هموم يمكن أن توجد لديها وهى بدون أطفال ؟ أما الأطفال ، فلم يرزقها الله بهم .
لم يكن ميخائيل شبيها بإيليا . كان شعره كثيفا ومجعدا مثل الغجر ، حتى لحيته كانت مجعدة وملفلفة الشعر فى حلقات . كان وجهه أيضا أسمر ، ولكن تلك السمرة لم تكن طبيعية بقدر ما كانت بسبب الشمس والصقيع ـ يعمل بالتحميل على ضفة النهر صيفا ، وشتاء يقطع الأشجار بالغابة ـ ، كان يحيا فى الهواء الطلق على مدار السنة كلها .
هكذا جلسوا يتحدثون خلف المائدة الخشبية الطويلة بالمطبخ حتى لا يزعجوا أمهم المحتضرة ، التى من أجلها اجتمعوا لأول مرة منذ سنوات طويلة فى بيتهم . كان لدى ميخائيل وإيليا ما يشرباه بعد . أما النساء فقد أبعدن كؤوسهن ، ولكنهن لم ينهضن ـ جلسن فى استرخاء بتأثير اللقاء والأحاديث ، وكل ما حمله لهم ذلك اليوم ، متوجسات مما سيأتى به الغد .
قال ميخائيل :
ـ كان علىَّ أن أرسل تلغرافا على الفور إلى فولوديا أيضا . ولربما كان جالسا هنـا الآن ، بجوارنا . كم أود رؤيته ، وما آلت إليه أحواله .
ـ أين هو ؟ ـ سأل إيليا .
ـ فى الجيش ، سيكمل عامه الثانى قريبا . فى الصيف وعد أن يأتى فى إجازة ، ولكن يبدو أنه تحت العقاب ـ لم يسمحوا له بالانصراف . لقد كتب أن أحدا ما من مجموعته ترك مركز الحراسة ، فعاقبوه هو بصفته الرئيس . وربما أن يكون هو نفسه قد ارتكب شيئا ما ، فمثل تلك الأمور كثيرة الوقوع هناك . ما رأيك ، هل سيسمحون له بإجازة ، أم لا ، ولو حتى من أجل جدته ؟
ـ يجب أن يسمحوا له .
ـ كان يجب علىَّ أن أرسل إليه فورا بالأمس . لقد ارتكبت حماقة . والآن أفكر : ماذا أكتب لكى لا يتصلَّبوا فى رأيهم ؟ فهو على أية حال حفيد وليس ابنا .
قالت فارفارا فى لهجة نصح :
ـ عليك أن تكتب هكذا : جدتك فى حالة سيئة ، ننتظر وصولك بأقصى سرعة .
اهتزت ناديا من السعادة المفقودة التى لو تحققت الآن لرأت ابنها أمام عينيها .
ـ هذا ما قلته له . فهل من المعقول أن يسمع الكلام ؟!
فقالت لوسيا :
ـ انتظروا قليلا .
ـ أى نعم ، من الأفضل الانتظار وإلا من الممكن إفساد كل شئ . وبعد ذلك : كيت وكيت ، وعندئذ فمن الضرورى أن يسمحوا له بحضور الجنازة .
تأوهت فارفارا :
ـ أوه ، أوه ، يا إلهى . لم نفكر أبدا فى كل ذلك ، أم واحدة للجميع ، وهكذا ينتهى الأمر .
ـ وكم تحتاجين ؟ ـ قال إيليا ساخرا .
قالت فارفارا فى استياء غضب :
ـ أنت بالضبط مثل الغريب ! كل شئ لديك بالغمز واللمز . تريد دوما أن تجعل منى حمقاء ، ولكننى لست أحمق منك ، فلا تغمز أو تلمز .
ـ أنا لا أعتقد أنكِ أكثر حمقا ، ماذا جعلك تفكرين هكذا ؟
ـ أى نعم ، لا تعتقد .
سألت لوسيا ناديا فى همس :
ـ لديكم ماكينة خياطة ؟
ـ لدينا ، ولكننى لا أدرى هل تعمل أم لا . لم أُشَغِّلها منذ فترة طويلة . أوضحت لوسيا قائلة :
ـ بحثتُ اليوم فلم أجد لدىَّ ، لسوء الحظ ، ولو فستان أسود واحد . أسرعتُ إلى المحل واشتريتُ قماشا ، ولم يكن هناك طبعا متسع من الوقت لخياطته فقمتُ فقط بتفصيله ، وعلىَّ أن أُخَيِّطه هنا .
ـ لن تلحقى اليوم .
ـ سألحق ، أنا أُخَيِّط بسرعة . سوف أعمل هنا فى المطبخ بعد أن يناموا .
ـ حسنا ، سأحضرها وافعلى كما تشائين .
قبل الذهاب إلى النوم اجتمعوا مرة أخرى بالقرب من الأم ليروا فى أى حال تنام . جربت لوسيا جس النبض ، وقاسته بصعوبة ـ كان ضعيفا للغاية . نفد صبر ميخائل فهز أمه من كتفها . عندئذ سمع فجأة كيف يخرج من مكان ما من داخلها أنين ليس كالأنين ، وشخير ليس كالشخير ، كأنه ليس أبدا صوت أمه . كان صوتا غريبا ، وكأن الموت وهو يؤدى مهمته قد كشر عن أنيابه . أشاروا إلى ميخائل بالصمت ، ولكن ذلك الصوت أفقدهم جميعا السيطرة على أنفسهم ، حتى نينكا التصقت بأمها وجمدت .
ـ ليتها تبقى حية حتى الصباح ـ تمتمت فارفارا ناشجة بهذه الكلمات ، ثم صمتت .
بدأوا الاستعداد للنوم . كان البيت كبيرا ، ولكنه كان يتكون على النظام القروى من قسمين فقط : فى أحدهما كانت العجوز تستلقى ، وفى الآخر ميخائيل وأسرته . فرشت ناديا لنفسها ولزوجها على الأرض وقدمت سريرها إلى لوسيا . وجدوا لفارفارا سريرا نقالا فنصبوه لها فى القسم الذى تنام فيه العجوز ، ومن أجل أن تعتنى أيضا بأمها . أرادوا أن يفرشوا لإليا بالقرب منها ، ولكنه فضل النوم فى الحمام . كان الحمام فى بيت ميخائيل نظيفا ، ليس فيه سخام أو رائحة عفنة ، وكان يقع فى حديقة البيت . أعطوا إيليا معطفا من الفرو وصديرى ليفرشهما تحته وبطانية قطنية ليتغطى بها . ذهب إليا لينام بعد أن طلب منهم إيقاظه إذا حدث شئ .
أطفأوا المصباح الكهربائى عند العجوز ، وأشعلوا لمبة الكيروسين ، وقرروا الإبقاء على الضوء طوال الليل .
أخرجت ناديا ماكينة الخياطة ووضعتها على نفس المائدة التى كانوا يجلسون حولها . فى البداية جربتها لوسيا على خرقة فوجدتها تعمل جيدا . قالت لوسيا لناديا :
ـ ارقدى . نامى طالما هناك فرصة ، فلا أحد يعلم أية ليلة ستكون هذه .
انصرفت ناديا . سألها ميخائيل عن شئ ما هامسا ، فأجابته هى الأخرى بهمس .
بدأت ماكينة الخياطة فى الصرير . ذُعِرَت لوسيا نفسها وأفلتت الذراع ـ بدا صريرها عاليا مثل صوت طلقات الرصاص . هرولت فارفارا مذعورة ، ولكنها هدأت قليلا حينما رأت لوسيا .
ـ الحمد لله ! فكرتُ أن أحد هنا … لقد زلزلنى الرعب . ولكن ما هذا الذى لا يمكن تأجيله ؟
لم ترد لوسيا وتابعت الخياطة .
ـ تجهزين الأسود ، للحداد ؟
ـ لا أفهم : هل من الضرورى الاستفسار عن ذلك أيضا ؟
ـ وماذا قلتُ لكِ ؟
ـ لا شئ .
ـ استمرى ، فلن أنطق بأى شئ . سأجلس بجانبك قليلا ثم أذهب . لن أعطلك .
جذبت فارفارا المقعد الخشبى وجلست عند طرف المائدة . لم تخلع ملابسها وإنما اكتفت بفك جواربها فتهدلت إلى ما تحت ركبتيها .
فى مكان ما من النهر أطلق مركب صفيرا بعيدا مكبوتا ، ثم كرره عدة مرات . رفعت فارفارا رأسها مرهفة السمع ، ثم قطبت جبينها فى توتر :
ـ لماذا يصفر هكذا ؟
ـ لا أدرى ، لعله يعطى إشارة لأحد ما .
ـ لم يجد مكانا آخر لإشارته هذه ، لقد تمزقت أحشائى .
جلست فارفارا قليلا ثم نهضت بدون رغبة .
ـ سأذهب . هل ستبقين هنا طويلا ؟
ـ إلى أن أنتهى من الخياطة .
ـ كان علينا ألا ننام اليوم ، أوه ، لم يكن من الضرورى ـ هزت فارفارا رأسها ـ لو جلسنا نتحدث لكان الأمر أهون . قلبى يحدثنى : كل ذلك غير مُطَمْئِن .
انصرفت فارفارا ، ولكن ما لبثت أن عادت . استندت إلى الجدار لتبث الرعب فى نفس لوسيا التى سألتها بفزع :
ـ ماذا ؟
ـ أما إن هذا يخيل إلىَّ ، أو إنه حقيقة . اذهبى وانظرى . اذهبى .
لم تصدق لوسيا ، ولكنها لم تستطع أن تقول إنها لا تصدق . ذهبت إلى الأم . أمسكت بيدها ، ولكنها سمعت من وراء ظهرها أنفاس فارفارا ثقيلة مختلطة بصفير : إى ـ آ ، إى ـ آ ، إى ـ آ . اضطرت إلى إبعادها ، وعندئذ فقط استطاعت بصعوبة بالغة التقاط نبضها الذى بدا هادئا وضائعا وكأنه آتية من على بعد عدة كيلومترات . خيل إليها أنه أضعف من المرة السابقة ، لم يكن متتاليا وإنما تتخلله فترات توقف .
قالت لوسيا مشفقة على أختها :
ـ نامى أنت . فأنا بعد مازلت أعمل ، وسوف أعتنى بها . سوف أوقظك فيما بعد .
شرعت فارفارا تبكى على طريقة الأطفال ، وقالت :
ـ وهل أستطيع أن أغفو ؟ إليا ماكر ، خرج من البيت وترك الهم لأصحابه . أ من المعقول أن أنام الآن ؟ سأظل أفكر طوال الوقت عن هذا وذاك . من الأفضل أن أجلس إلى جوارك .
ـ اجلسى إذا كنت تريدين .
ـ سأبقى هادئة .
مرة أخرى جلست بجوارها . تنهدت ولمست القماش بيدها . راحت تراقب لوسيا وهى تعمل ، ثم سألتها :
ـ ستأخذين هذا الثوب معك فيما بعد ؟
ـ وماذا فى ذلك ؟
ـ كنتُ أود أن أقول إذا لم تأخذينه معك ، فيمكننى أن آخذه .
ـ وما حاجتك إليه ؟ إنه ليس بمقاسك .
ـ لن آخذه لنفسى . عندى ابنه فى نفس مقاسك ، وسيكون مناسبا لها بالضبط .
ـ وابنتك ، ليس عندها ما تلبسه ؟
ـ يمكن القول لا شئ . لديها بعض الملابس ، ولكنها تهرأت كلها من كثرة الاستخدام . والفتاة ، كما تعرفين ، تحب أن تتباهى .
ـ تتباهى فى الأسود ؟
ـ هى ليست متكبرة . تلبسه ولو حتى فى أيام المطر ، فهى لن تلبس فستانا ملونا .
وعدتها لوسيا :
ـ سأعطيه لك قبل السفر .
فرحت فارفارا :
ـ سأقول لها : من خالتك .
ـ قولى ما تشائين .
حينما لفهما الصمت وأوقفت لوسيا الماكينة ، تناهى شخير أحد ما من قسم البيت المخصص لميخائيل . أرهفت فارفارا السمع :
ـ مَنْ هذا ؟
وعندما علا صوت الشخير بعد ذلك ، قالت غاضبة :
ـ عديم الضمير ، وجد الوقت المناسب . لم يعد هناك حياء أو ضمير . ويقولون ابنها من لحمها ودمها ـ صمتت قليلا ثم طلبت فجأة من لوسيا :
ـ لنذهب إليها مرة أخرى ، فأنا أخشى بمفردى .
كانت العجوز لا تزال على حالها : حية وغير حية . كل شئ فيها مات . قلبها فقط ، الذى تحلل خلال حياتها الطويلة ، هو الذى بقى يتحرك بالكاد . وكان من الواضح أنه يتحامل بصعوبة ، ولعل ذلك سيستمر فقط حتى طلوع الصباح .
بينما كانت لوسيا مستمرة فى الخياطة ، ظلت فارفارا مستيقظة ولم تذهب للنوم . وفى نهاية الأمر كان على لوسيا أن تترك لها سريرها وتنام على السرير النقال ـ وإلا ، فالأمر سيان ، لن تدعها فارفارا تنام .
( 2 )
بدأ ضوء الفجر فى الانتشار وأصبحت الرؤية ممكنة ، ولكن قبل شروق الشمس ارتفع من ناحية النهر ضباب كثيف غرق فيه كل شئ وتبدد . تردد خوار الأبقار خافتا فى أرجاء القرية ، وأطلقت الديكة صياحا قصيرا مكتوما ، وتناءت أصوات الناس مثل سمكة تتخبط فى المياه . التحف كل شئ بضباب أبيض كثيف لا يستطيع الإنسان أن يرى من خلاله سوى نفسه . أشرق نور الصباح الذى يتأخر عادة فى مثل هذه الأيام بينما سرق الضباب الضوء ، ولم يعد الناس يرون طريقهم .
كانت ناديا أول المستيقظين فى بيت العجوز . وكانت حماتها ، حتى فترة غير بعيدة ، هى التى توقظها بعد خوار البقرة . لم تكن ناديا تنهض إلى عملها ، حتى ولو كانت غير نائمة ، إلا بعد أن تسمع نداء العجوز من سريرها . الآن لم تنهض على الفور ، بل انتظرت كالعادة صوت العجوز رغم إنها تعلم جيدا أنها لن تسمعه . وفعلا لم تسمعه ، بل سمعت خوار البقرة الممطوط وكأنها تدعو أحد لحلبها ، فكان على ناديا أن تنهض . بينما كانت طوال الوقت تفكر فى العجوز وهى خائفة من معرفة ما إذا كانت قد ماتت أم لا تزال بعد حية . راحت ترتدى ملابسها فى صمت ثم خرجت من البيت متسللة ، وفى المدخل تناولت دلو الحليب المعلق على المسمار .
على أثرها نهضت فارفارا التى تعودت الاستيقاظ مبكرا . رأت أن ناديا غير موجودة فى حين أن الباقين مازالوا نائمين . تنهدت ما يقرب من الخمس مرات فى صعوبة وبصوت مسموع ، ثم ختمتها بأنين طويل لكى توقظ ميخائيل النائم على الأرض . ولكنه مع ذلك لم يتحرك . عندئذ تنهدت فارفارا ، على نفسها هذه المرة ، دون أن تلحظ ذلك ، واعتراها شئ من الخوف ، وكأن هناك من نَوَّم جميع الأحياء فى البيت عنوة . ذهبت فى تأن وحذر إلى القسم الثانى من البيت حيث كانت ترقد العجوز . حاولت ألا تكشف عن نفسها ، وتوقفت عند الباب . لم تكن للبيت أبواب أخرى سوى الباب الكبير بالمدخل الرئيسى ، وكانت هنالك فتحة فى الجدار الذى يقسم البيت إلى قسمين ، فوقفت فارفارا فيها تحدق بخوف فى الفرفة شبه المعتمة . لم تكن ترى وجه العجوز الذى كان محتجبا خلف ظهر السرير . فقط ، كان هناك شئ ما تحت الغطاء لا تعرف أ هو حى أم ميت . لم تجرؤ فارفارا على التقدم لتتأكد بنفسها ، تراجعت قليلا إلى الوراء وهى تفكر أنه من الضرورى الذهاب أولا إلى الفناء كيلا تضطر ذلك فيما بعد عندما لا يكون الوقت مناسبا .
عادت فارفارا وناديا معا من الشارع . بدأت ناديا بتصفية الحليب بقطعة من الشاش فى المطبخ ، أما فارفارا تراوح فى نفس المكان ، تارة تقترب من هذا الطرف ، وتارة أخرى من الطرف الثانى ، وماكينة الخياطة التى تركتها لوسيا ما تزال على المائدة .
سألت ناديا فارفارا فى همس :
ـ هل خَيَّطَتْ بالأمس ؟
ردت فارفارا أيضا فى همس :
ـ خَيَّطَتْ . لم تتمكن من إنهاء بعض الأشياء البسيطة ـ ولكنها لم تستطع التماسك أكثر من ذلك ، فقالت فى رجاء ـ هيا نوقظها ، لم أعد أحتمل .
ـ حالا ، ولكن سأخرج الحليب أولا .
خطت فارفارا إلى المدخل خلف ناديا وكأنها مشدودة إليها ، ثم تبعتها مرة أخرى وكان هناك برطمان واحد فقط ، لكن فارفارا لم تفطن لحمله ، بل راحت تسير خلف ناديا بدون حمل أى شئ . أخيرا فرغت ناديا من أمر الحليب ومسحت يديها بخرقة ، ثم اتجهت فى المقدمة نحو قسم العجوز .
لوسيا ما تزال نائمة . من الواضح أنها فعلا نائمة ، ولكن لم يكن هناك أحد يمكنه أن يقول ذلك عن العجوز . نظرت ناديا إلى حماتها ثم حولت عينيها عنها بسرعة . أما فارفارا فلم تجرؤ حتى على النظر إليها وأخذت توقظ لوسيا . استيقظت لوسيا على الفور ونهضت على عجل حتى أن السرير قد انزاح جانبا عن مكانه .
سألت لوسيا :
ـ ماذا .. ماذا ؟
استعدت فارفارا للبكاء :
ـ لا أدرى . أنا نفسى لا أدرى . انظرى أنتِ .
صحت لوسيا تماما . مسدت شعرها بيديها ، وارتدت الروب الذى كان ملقى بجانبها على المقعد ، ثم اقتربت من الأم . كانت قد تعلمت تمييز إمارات الحياة ، فرفعت يد العجوز ، ولكن سرعان ما أفلتتها وارتدت إلى الوراء مبتعدة : أنَّت العجوز فجأة بصوت خافت ، ثم جمدت بدون حراك . شرعت فارفارا فى النواح :
ـ أمى ، أمى ، يا أمى ، أمى ! آه ، افتحى عينيك ـ آى ـ آى !
ركض ميخائيل فى ثيابه الداخلية ولم يكن يفهم ما يجرى من تأثير النوم .
ـ استراحت ؟ أوه ، أمى ، يا أمى … يجب إرسال تلغراف إلى فولوديا .
أوقفته ناديا :
ـ ماذا بك ؟! لماذا تقول ذلك ؟
جسَّت لوسيا نبض العجوز وقالت فى ارتياح :
ـ إنها حية .
ـ حية ؟! ـ التفت ميخائيل نحو فارفارا وصاح فى وجهها : ـ لماذا تنوحين هنا وكأنك فـى مأتم ؟ اخرجى وإلا أيقظتِ نينكا أيضا ! عُدْتِ إلى نغمتك من جديد !
قالت لوسيا فى حزم :
ـ هدوء ! اخرجوا جميعا من هنا .
جلست لوسيا تحبك عروات الفستان الجديد وتخَيِّط الأزرار التى جلبتها معها من المدينة إلى أن انتهت ناديا من قلى البطاطس .
انصرفت فارفارا إلى الحمام دامعة العينين ، وهزت إيليا قائلة :
ـ أمنا حية ، حية .
رد إيليا بضيق وتأفف :
ـ إذن لماذا توقظيننى مادامت حية ؟
ـ أردتُ أن أقول لك ذلك ، أن أُفرحك .
ـ من الأفضل أن تتركيننى أشبع نوما ، وبعدها تقولين لى . لماذا توقظيننى فى مثل هذا الوقت المبكر ؟
ـ الوقت ليس مبكرا . إنه الضباب .
بقى الضباب طويلا ، حتى الحادية عشرة ، إلى أن جاءت تلك القوة التى بددته تماما . وعلى الفور انصبت أشعة الشمس قوية ساطعة كما فى الصيف ، وأصبح المكان كله طَرِبَا وصافيا . كان الوقت فى بدية سبتمبر ومع ذلك فلم تكن بوادر الخريف قد لاحت بعد . حتى أوراق البطاطس فى حديقة البيت ما تزال خضراء . وفى الغابة ، كانت تظهر فى بعض الأماكن فقط بقع صفراء متفرقة وكأن أشعة الشمس قد لفحتها فى يوم قائظ .
فى السنوات الأخيرة ، بدا وكأن كل من الصيف والخريف قد تبادلا أماكنهما : تهطل الأمطار فى يونيو ويوليو ، ثم يصحو الطقس حتى عيد الشفاعة الجيد هنا أن الطقس حار ، ولكن السئ فيه أنه فى غير وقته . فعلى النساء الآن أن يخمن متى ستجمع البطاطس : حسب المواعيد القديمة يكون الوقت قد حان ، ولكن طالما الطقس جيد فمن الممكن تركها لتنضج كما ينبغى ـ أى نضج فى الصيف حينما تسبح فى الماء مثل الأسماك . ولكن إذا تُرِكَت قد تسوء حالة الطقس فجأة وآنئذ سيكون من الصعب انتشالها من الطين . أمر محير ، ولا أحد يعرف ما العمل . الوضع ذاته ينطبق على جمع الأعلاف أيضا : أحدهم جمعها حسب المواعيد القديمة ، ولكنها تعفنت تحت الأمطار . والآخر تأخر بسبب كسله ، فربح الأمر . لقد أصبح الطقس مشوشا مثل عجوز خرفة تنسى تسلسل الأشياء ، والناس يقولون أن كل ذلك بسبب البحار التى أقيمت تقريبا على جميع الأنهار .
قلت ناديا كمية من البطاطس الطازجة التى تم جمعها للتو من حديقة المنزل ، ووضعت إلى جوارها فطرا مخللا فى طبق عميق . شهقت لوسيا لدى رؤيته :
ـ فطر مخلل ! فطر حقيقى ! لقد نسيت وجوده تماما ـ لم آكله منذ زمن بعيد . أنا لا أصدق .
أما إيليا الذى أخذ يتمطق فى شهية ، فقال :
ـ فطر . آى نعم ! ليس هذا بالأمر البسيط ، ولكن لو كان معه شئ من الشراب لكان الأمـر أفضل ـ آى نعم !
قال ميخائيل موجها اللوم إلى ناديا :
ـ لماذا لم تقدمى منه بالأمس ، فهو مزَّة رائعة مع الشراب ، وبدونه يضيع هدرا .
احمَرَّ وجه ناديا ، ولكنها مع ذلك كانت مسرورة لأنها استطاعت إرضاء ضيوفها :
ـ أردتُ أن أقدم منه بالأمس ، ولكننى ظننت‘ أنه لم يتملح كما ينبغى ، فلم تمض مدة كافية على تخليله . فى الصباح ذقته فأعجبنى ، وقررتُ تقديم بعضه ، لعل أحد يشتهيه . كلوا ، إذا كان يعجبكم .
ـ هل هناك مزيد منه ؟
ـ لا يوجد إلا قليل . لم يكن لدى وقت كافى لجمعه . الناس هنا يجمعونه بكثرة ، أراهم يحملون منه يوميا ، أما أنا فلا أجد وقتا لذلك ، دائما مشغولة . فى هذا الموسم خرجتُ لجمعه مرتين فقط ، ومن مكان قريب من طرف الغابة .
عندئذ تذكرت لوسيا :
ـ كانت تاتيانا تحب جمع الفطر وتعرف جميع الأماكن . ذات مرة خرجتُ معها ، كانت لا تزال صغيرة ، وسرعان ما امتلأ دلوها . سألتها : " من أين أتيتِ بكل ذلك ؟ " ـ " لا أعرف " . فقلتُ لهـــا : " لعلك خبأته فى مكان ما قبل مجيئنا حتى تثبتى شطارتك " . غضبتْ منى وتركتنى … وعدنا إلى البيت فرادى . كان دلوها طافحا ، بينما يكاد الفطر بصعوبة يغطى قاع دلوى .
قال ميخائيل مفسرا الأمر :
ـ لم تكن تقطف كل ما تراه ، إذا وجدت فطرا صغيرا تتركه ، ثم تأتى إليه فى اليوم التالى حتى يكون قد نما . كانت تتذكر أماكنه . كثيرا ما كانت تأخذنى معها ، ولكننى كنتُ أقطف كل ما أصادفه ، وأحمله إلى البيت . كانت تغضب منى إذا رأتنى أقطف فطرا صغيرا ، وذات مرة تشاجرنا فى الغابة . كنتُ أحب جمع الفطر الأحمر أكثر من أى نوع آخر ، فهو ينمو قريبا من بعضه البعض مثل الأعشاش .
قالت لوسيا ضاحكة :
ـ إيليا أفضلنا فى جمع الفطر . كان يملأ دلوه بالحشائش ويغطيها بقليل من الفطر وكأنه جمع دلوا كاملا .
اعترف إيليا فى ارتياح :
ـ آى نعم ، فعلا .
ـ أ تذكرون عندما كانت ترسلنا أمنا إلى ما وراء النهر العلوى لجمع البصل البرى ؟ كان هناك مستنقع ينمو البصل على أطرافه . كنا نتبلل ونتسخ حتى نجمعه ، وكان منظرنا مضحكا . نضع أكياس البصل فى مكان جاف ، ثم نأخذ فى القفز من عِلِّية إلى أخرى … كنا نتسابق فى الجمع أيضا ، ونسرق من بعضنا البعض ، ونسبح بالمركب إلى الجزيرة لجمع الثوم ، هناك أيضا مقابل النهر العلوى …
أكمل له ميخائيل :
ـ إلى يلوفيك .
ـ نعم ، يلوفيك . هناك كنا نحصد للكولخوز . وكان أهالى القرية جميعا يأتون وقت حصاد الحشائش . أذكُرُ كيف كنتُ أجَذِّف : كان الحر شديدا والعناكب لا تفتأ تلدغ ، والأعشاب الجافة تندس بين الشعر وتحت الملابس …
همهمت فارفارا :
ـ ربما ذباب الخيل ، وليست العناكب . العناكب تنسج خيوطها فى الزوايا ولا تلدغ .
ـ قد يكون ذباب الخيل ، الأمر سيان ، فلها تسمية أخرى . هنا فقط يسمونها هكذا . وذات مرة جمعنا الحشائش من جزيرة أخرى … سأتذكر اسمها الآن ، اسمها يعنى أيضا شجرة …
ـ ليستفينشيك . ما أكثر عنب الثعلب هناك ! كانت الأغصان تميل على الأرض من ثقل ثمارها . تأكل ، وتأكل ، وسرعان ما تشعر بالألم فى لسانك وتضرس أسنانك . كانت ثمارها كبيرة ولذيذة ، وكان الدلو يمتلئ بسرعة . ربما لا تزال كثيرة هناك حتى الآن .
ـ لا ، فماذا تقول ! ـ قالت ناديا ملوِّحة بيدها ـ لا ، حتى الأشجار نفسها لم تعد موجودة . لقد أتت تعاونيات قطع الأشجار بمجرد قيامها على كل شئ ، واليوم عليك أن تبحث طويلا حتى تجد ما تأكله منها .
ـ أوه ، يا للأسف !
ـ ما أكثر الثمار الزرقاء التى كانت تنمو على المرتفع ! لم تعد موجودة أيضا . داستها الماشية ، والناس أيضا لا يرحمون .
ـ لماذا يتصرفون هكذا ؟
ـ من يدرى ! يخطفون وكأنها آخر مرة فى حياتهم . إنهم يقطعونها كيفما اتفق ، بالأغصان والأوراق .
ـ وهل يوجد فطر ؟
ـ يوجد هذه السنة . الناس يجمعون منه كثيرا .
ـ هيا لجمع الفطر على الأقل .
عَقَّبَتْ فارفارا :
ـ كان من الممكن المجئ إلى هنا والذهاب لجمع الفطر دون تلغرافات .
أغضب ذلك لوسيا :
ـ الحديث معك لم يعد ممكنا يا لوسيا . كا ما نقوله غير مناسب ، كل شئ ليس على هواك . لا يجب أن تأخذى كل كلمة من كلماتنا على محمل آخر لكونك فقط أكبرنا سنا . لا تنس ، من فضلك ، أننا نحن أيضا كبار وبما فيه الكفاية ، وفى الغالب ندرك ما نفعل . فما هى الحكاية فى نهاية الأمر ؟
ـ لم يقل أحد أى شئ . لا أدرى لماذا تضايقتِ هكذا ؟
ـ أنا التى تضايقت !
ـ وهل أنا ؟
عندئذ تدخلت ناديا داعية الجميع إلى الطعام :
ـ هيا ، كلوا ، وإلا ستبرد البطاطس . فهى ليست لذيذة عندما تبرد . لقد أثنيتم على الفطر ولم تتذوقوه . كلوا كل ما أمامكم ، فلن نأكل حتى الغداء .
ـ ستصل تاتيانا ، وسنتجمَّع .
ـ ستلحق موعد الغداء ، آى نعم .
ـ إذا كانت الآن فى المنطقة فلربما تصل قبل الغداء .
تشكَّت فارفارا مسبقا وقالت :
ـ أخشى أن تكون قد قضت ليلتها فى فندق أو عند غرباء ومنعها تكبرها من المجئ إلينا .
رد ميخائيل :
ـ لا ، من الضرورى أن تأتى . تاتيانا بسيطة .
تمسكت فارفارا برأيها فى إصرار قائلة :
ـ كانت بسيطة ، ولكن سنرى كيف أصبحت الآن . فقد مر زمن طويل على غيابها عن البيت .
ـ هى أبعد الجميع ويلزمها وقت أطول ، فليس من السهل السفر من هناك .
ـ ومن قال لها أن تبتعد هكذا ؟ إذا كان ولابد لها من رجل عسكرى ، فهم الآن فى كل مكان . كان بإمكانها أن تختار واحد أقرب . هى الآن مثل اليتامى ، لقد تصرفت بدون عقل .
هزت لوسيا رأسها فى عجز وحيرة :
ـ من الأفضل ألا نناقش أختنا فارفارا . هى دائما على حق .
ـ أنتم لا تحبون سماع الحقيقة .
قالت لوسيا :
ـ أترون ؟ ـ ثم أضافت وهى تنهض من خلف المائدة موجهة الشكر إلى ناديا :
ـ شكرا يا ناديا . كان الإفطار شهيا .
ـ لم تأكلى إلا قليلا ، ليس هناك ما يستحق الشكر .
ـ لا ، هذا كاف لى . معدتى لم تعد معتادة على مثل هذا الطعام . أخشى أن أثقل عليها .
قالت فارفارا فى نبرة تصالح :
ـ الفطر لا يسبب إسهالا ولا يضر بالمعدة . أعرف ذلك عن تجربة . أولادى لم يتأذوا منـــه أبدا . ـ لم تفهم فارفارا لماذا تنهدت لوسيا وانصرفت ، فسألت أخويها : ـ ماذا بها ؟
ـ من يعرف .
ـ لم يعد الكلام ممكنا .
نصحها إيليا ضاحكا :
ـ تكلمى معها بلغة أهل المدينة ، بلغة المثقفين ، وليس كذلك .
ـ لا أعرف لغة أهل المدينة . لم أزر المدينة فى حياتى كلها إلا مرة واحدة . أما هى فأصلها من القرية وبإمكانها أن تتكلم معى بلغة أهل القرية .
ـ لعلها نسيت .
ـ إذا كانت قد نسيت ، فأنا لم أتعلم ـ والآن علينا ألا ننطق ولو حتى كلمة واحدة ؟
بعد تناول الإفطار جلس إيليا وميخائيل على سلم المدخل يدخنان . صار النهار صحوا ، وارتفع الضباب والسماء إلى أعلى فأعلى ، لم يعد نظر الإنسان يتسع لكل ذلك المدى السماوى الملون ، فصار يخشى هذا العمق الجميل ويبحث عن شئ آخر أقرب ، عن شئ يمكن أن يركن إليه ويرتاح . أما الغابة التى كانت تداعبها الشمس فزهت بالخضرة وصارت أكثر اتساعا ورحابة . كانت تحيط بالقرية من ثلاث جهات ، أما الرابعة فقد تركتها للنهر . وفى الفناء كان الدجاج يصيح على مرأى من الرجلين ويضرب بأجنحته فى بساطة ورغبة . وأخذت الكتاكيت تصوصو . وبسبب الدفء والرضى راح الخنزير المخصى يزعق وهو منطرح يتمرغ بجوار السور المائل .
خرجت نينكا . انبهرت عيناها ، بعد النوم ، بضوء الشمس فغطتهما براحتى يديها وضيقتهمـا قليلا . بعد ذلك ، حينما اعتادت عيناها الضوء ، انسلت إلى كومة الأخشاب وجلست عليها . شاكستها دجاجة محاولة المرور من خلفها . أخذت نينكا تهش عليها ، وبدون قصد دارت وانزلقت خلف كومة الأخشاب بمؤخرتها العرية . صاح ميخائيل :
ـ نينكا ، سأقرص لك أنفك مثل القطة . كم مرة يجب أن نقول لك ابتعدى من هنا !
اختبأت نينكا وقالت متعللة فى غضب :
ـ الدجاج يأكل .
ـ سوف أريك كيف يأكل الدجاج !
هدأت القرية بعد الترتيبات الصباحية : ذهب إلى العمل من كان مضرا إلى ذلك ، وانشغلت ربات البيوت الآن بعد الانتهاء من أمور الماشية بالشؤون المنزلية الهادئة غير المسموعة ، ولم يخرج بعد الصبية إلى الشارع ـ ساد الهدوء ، ولم تكن تسمع سوى أصوات متناثرة معتادة : صياح حيوان أو صرير بوابة أو صوت إنسان يصدر بالصدفة من مكان ما ـ لم كل ذلك للاستماع أو الرد ، بل لكى لا يحيط الفراغ والموت بالأحياء . وسيطر الهدوء ، الذى ساد فى الوقت الفاصل بين الصباح وموعد الغداء ، على الضجيج والحركة ، وتوافق الدفء الصافى المنير المنبعث من السماء المكشوفة . وراح ذلك الهدوء يسمو بالقرية دون أى صوت مزيلا عنها برودة الليل .
قال ميخائيل مأخوذا بالهدوء الساحر الرقيق :
ـ يبدو أن أمنا كانت طيبة . تأمَّل أى يوم جاء من أجلها . مثل هذا النهار ـ لا يمنح هكذا لمن هب ودب . رد إيليا :
ـ لقد استقر الطقس . آى نعم .
ـ ولكن علينا أن نرتب أمورنا ونشترى من " البيضاء " إياها طالما مازالت موجودة بالمحل . ، لأنه إذا وزعوا الأجور إذا فسوف تنفد عن آخرها ، وسنضطر للبحث عنها .
ـ أ تقصد الفودكا ؟
ـ طبعا . البيضاء . أما النبيذ الأحمر فلا أحترمه . وجوده أو عدمه سيان بالنسبة لى . هذا الوباء يسبب صداعا فظيعا فى الصباح ، ويترك الإنسان طوال النهار كالمصاب بالطاعون .
شعر ميخائيل بتشنج داخلى لدى الحديث عن الخمر .
ـ فى كل الأحوال علينا شراء نبيذ للنساء .
ـ سنشترى قليلا منه ، وهذا كاف . لِمَ الإكثار ؟ حتى النساء الآن لا يشربن منه كثيرا . إنهن يفضلن مشروبنا .
ـ المساواة مطلوبة فى كل شئ ؟
ـ طبعا .
ابتسما فى خبث حيث فهم كل منهما الآخر ، ولكن لم يكن لديهما متسع من الوقت لفتح حديث مسل عن المساواة ، فسكتا . قال إيليا :
ـ كم زجاجة سنشترى ؟
هز ميخائيل كتفيه :
ـ لا أدرى . ولكن ليس أقل من صندوق . سيجتمع نصف أهالى القرية ولا يجب أن نفضـح أنفسنا ، فأمنا على أية حال لم تكن بخيلة .
ـ لنأخذ صندوقا ، آى نعم .
ـ وهل معك أية نقود ؟
ـ خمسون روبلا .
ـ وأنا سآخذ من ناديا . هذا يكفى .
ـ وهل سنأخذ من أختينا ؟
ـ ليس مع فارفارا شئ يمكن أخذه . أما لوسيا فسنسألها ، فهى على الأغلب تملك كثيرا من النقود ـ لنأخذ منها ، فهى أيضا من لحمها ودمها وليست ابنة بالتبنى ، كيف يمكن تجاهلها ؟ ربمـا تغضب .
ـ لم الانتظار إذن ؟ سأعثر على ناديا الآن ، ونذهب . يجب أن نشترى اليوم ، وإلا فلن يبقى لها أثر إذا وزعوا الأجور غدا . أنا أعرف الوضع عندنا : إذا تمهلت قليلا فاتتك الفرصة وستضطر لشـرب الماء . كنا نستطيع الاستغناء عنها فى ظروف أخرى ، ولكن بما أن حالنا هكذا فلا داع للفضيحة . يجب أن نودع أمنا كما ينبغى فهى لم تسئ إلينا أبدا . ـ نهض ميخائيل قبل إيليا ، وراح يتابع حديثه ـ لنفعل كالآتى : سأذهب إلى زوجتى ، فمن الضرورى أن يكون قد تبقى لدينا بعض النقود ، أما أنت فاذهب إلى أختينا فليس من اللائق أن أطلب أنا منهما لأننى صاحب البيت . وبعدها ـ إلى المحل . من الرائع أننا تنبهنا إلى هذا الأمر يجب أن نشترى الآن ، لن ننتظر أكثر .
خرجا مسرعين . كانا مضطربين لأنهما سيأخذان كمية كبيرة من الشراب ، كمية كبيرة لا يستطيع حملها شخص بمفرده ، ويسيران بها فى الشارع . لم يكن المحل بعيدا . وكان خاليا من الناس كعادته قبل أيام استلام الأجور . لم يطل بهما الوقت هناك . عادا يحملان صندوقا يجلجل بزجاجاته ووضعاه فى عنبر المؤونة .
قال ميخائيل :
ـ عندما تكون مكانها لا يوجد أى سبب للقلق . لتبق ، فلن يصيبها شئ هنا . أما البورتفين فيمكن شراؤه فى أى وقت ، فلا يوجد عيه طلبا كثيرا .
فجأة تردد من داخل البيت صراخ نينكا . فتح ميخائيل الباب وهو ينوى نهرها . زلكنه رأى النساء الثلاث قد أحطن بها ، فأرهف السمع .
ـ هى بنفسها ـ قالت نينكا فى صوت ممطوط .
ـ ماذا نفسها ؟ ماذا ـ هزت لوسيا الفتاة .
ـ لست أنا . هى نفسها …
ـ ماذا فعلت هى ؟ تكلمى ، أ لم تتعلمى الكلام ؟
ـ هى ، فتحت عينيها ورأتنى …
ـ وماذا أيضا ؟
ـ رأتنى ـ قلدتها ناديا ـ ولماذا رأتك ؟ عما كنتِ تبحثين فى حقيبتها ؟ من سمح لكِ ؟ ماذا كنتِ تريدين منها ؟
صرخت نينكا :
ـ هى التى أشارت لى أن أفعل . أنتِ لم ترى فلا تقولى شيئا .
ـ سأريك كيف تتحدثين إلى أمك . ما هذه الموضة ؟ ممن تعلمتِ ذلك ؟
ـ انتظرى يا ناديا ـ أسكتتها لوسيا ، وانحنت ثانية نحو نينكا ـ إلامَ أشارت ؟
ـ إلامَ … إلامَ … إلى ما تحت السرير .
قالت ناديا موضحة :
ـ العجوز تحتفظ لها بكراميللا فى الحقيبة .
تابعت لوسيا أسئلتها :
ـ وكيف أشارت لكِ ؟ كيف حدث ذلك ؟ هه !
ـ نظرتُ إليها ولكنها لم تتطلع إلىَّ ، بعدها فتحتْ عينيها ونظرت إلىَّ ، ثم أشارت .
ـ أ لم تقل لكِ شيئا ؟
ـ لم تقل .
تنهدت فارفارا فى أسى :
ـ أوه … أوه … ماذا سيحدث ؟
هنا تدخل ميخائيل مدافعا عن نينكا :
ـ هى ليست خبيثة ، لم ألحظ عليها ذلك أبدا . ربما اعترت أمنا صحوة الموت وكانت نينكا قربها فى تلك اللحظة .
أثار ذكر الموت حذرهم وجعلهم يهدؤون لدرجة أنهم راحوا يتنفسون فى خوف وكأن الهواء قد أصبح مسموما بعفونة حادة لا يجوز أن يسمح الإنسان لها بالتسرب إلى داخله . بعدها اقتربوا فى هدوء من سرير العجوز محاولين العثور على أى تغيير يكون قد حدث للعجوز : لم يجدوا شيئا سوى أن الضوء ، الذى أصبح أكثر سطوعا مما كان عليه فى الصباح ، جعل وجه العجوز يبدو أقرب إلى الموت . ولكن قلبها كان ما يزال يخفق كما فى السابق حائلا دون ابتعادها عن الأحياء .
خرج ميخائيل إلى الفناء حيث كان إيليا يتسلى طوال الوقا بتفتيت الخبز للدجاج . قال له :
ـ نينكا تقول أن أمنا فتحت عينيها .
دُهِش إيليا قائلا وهو يطرد ديكا بحركة من قدمه :
ـ هكذا إذن … ماذا بها ؟
ـ لا أدرى ؟
ـ ألا تزال حية ؟
ـ حية . لقد تأكدنا ؟
ظل النهار على حاله وكأنما عن قصد من أجل العجوز بالذات ـ كان طريا ولطيفا وقد تلألأ فوق القرية كلها ، وفوق بيت العجوز أيضا . اقترب موعد الغداء ، ومر النهار بهدوء وسلام ولم يعكره شئ ، وكأنه يحرص على عدم إزعاج شخص ما . راحت السماء منذ الصباح تقترب من الأرض ، بدت مترددة وكأنها على انتظار . أيام سبتمبر أيضا لم تكون ساذجة ، فقد خبرت الكثير من أيام الربيع . ويبدو أن هذا النهار كان قد عرف كل شئ وأراد أن يساعد العجوز كى لا تبقى مدة أطول فى مكانها الصعب ، الأخير ـ كل ما كان عليه : أن يحركها خفية إلى الأمام أو إلى الخلف ، أن يدفعها قليلا عن المكان الذى جمدت فيه .
لم يعرف ميخائيل وإيليا بماذا يمكن أن يشغلا نفسيهما بعد أن أحضرا صندوق الفودكا : كل شئ عدا ذلك بدا لهما غير مهم ، بل ومثير للضجر ، فكان وقع كل دقيقة عليهما ثقيلا . تحدثا عن سبب تأخر تاتيانا ، وعن أنها كانت تستطيع الوصول عشر مرات حتى الآن . سأل إيليا ميخائيل متى عليه أن يذهب إلى العمل ، فأجاب ميخائيل بأنه طلب إجازة من أجل هذه الأيام ـ خرجت الكلمات تافهة ، دون أدنى حاجة لها ، ولم يعد من الممكن متابعة الحديث . أدرك الأخوان أن ليس عليهما سوى الانتظار ، ولكن للانتظار أشكال مختلفة . وتدريجيا تطرق إليهما القلق ، هل هما ينتظران كما يجب حقا ، ولا يضيعان الوقت عبثا . إن حالة الأم التى تحتضر لم تغب عنهما ، ولكنها لم تعذبهما بشدة : لقد\ فعلا كل ما عليهما ـ بلغ أحدهما الآخر ، وها هو الآخر قد وصل . وها هما أيضا قد أحضرا الفودكا معا ـ والباقى كله متوقف على الأم نفسها أو على أى أحد آخر ، ولكن ليس عليهما ـ هل عليهما أن يحفرا قبرا لإنسان لم يمت بعد ! دائما كان لديهما عمل ، وفجأة أصبحا بدونه ، فليس من اللائق القيام بأى عمل آخر قبيل وقوع المصيبـة القريبة ، ولكن المصيبة نفسها لا تأتى .
بدأ ميخائيل الحديث ثانية :
ـ قل لى ، كنا نعرف أنها لن تعمر إلى الأبد ، وأن الموعد قد اقترب . كان علينا أن نتعود ذلك الشعور ، ولكننى مع ذلك لستُ مرتاحا .
قال إيليا فى تأكيد :
ـ وكيف يكون غير ذلك . إنها أم .
ـ أم … هذا صحيح . ليس لدينا أب ، وستذهب أمنا الآن وينتهى كل شئ . سنبقى وحيدين . لسنا صغارا ، ولكننا وحيدون . منذ زمن بعيد لم يعد هناك أمل فى أمنا . كنا نعرف أن دورها هو الأول ، ثم يحل دورنا . كانت كأنها تحمينا ولم يكن هناك سبب للخوف ، أما الآن فعلينا أن نعيش ونفكر .
ـ ولم التفكير فى ذلك ؟ ما الفرق إن فكرنا أو لا …
ـ لا داعى للتفكير ، ولكننا نفعل ذلك مرغمين ، كأننا خرجنا إلى مكان مكشوف وأصبحنا عرضة للأنظار . ـ أدار ميخائيل رأسه الأجعد وصمت قليلا ، ثم تابع ـ والحال نفسه ينسحب على أولادنا . حينما تكون جدتهم حية يبقون صغارا ، أما أنت فتبقى شابا . والآن ، عندما تموت العجوز ، يبدأ الأولاد فى الحال بدفعك إلى الأمام . فهم كالوباء يكبرون ولا يمكن إيقافهم .
بمجرد انتهاء ميخائيل من كلامه حتى اندفعت ناديا مهرولة ، ودعت الرجلين بصوت واجف :
ـ يارجال ، تعالا بسرعة . بسرعة .
ـ ماذا جرى ؟
ـ الأم …
وما إن اقتربا حتى غابت العجوز ثانية عن الوعى ، ولكنها قبل ذلك نطقت فجأة بكلمة دون أن يفهما أحد . وحينما اقتربت لوسيا وفارفارا منها كانت ما تزال تنظر إلى الأمام ، ولكن كانت عيناهـا تنغلقان . كان شئ ما يجرى بداخلها رغم أن لم تتحرك بعد ذلك . شئ ما بدأ يدور فى داخلها ـ كان يبدو أن العجوز على وشك التحرك من المكان الذى راوحت فيه حتى أن وجهها قد تغير : أصبح أكثر تعبيرا ، وبدت عليه بوادر الشجاعة . ومن هناك ، من أعماقه ، راح يرتجف بفعل القوة القليلة الباقية ، فبدت وكأنها تغمز بعينين مغلقتين .
وقفوا حول الأم . راحوا ينظرون إليها بخوف دون أن يعرفوا بماذا يمكن أن يفكروا أو على أى شئ يعلقون آمالهم . لم يكن ذلك الخوف يشبه أبدا ما صادفهم خلال حياتهم بالمدينة أو القرية ، لأنه كان أشد وقعا وفظاعة ، ولأنه كان صادرا عن الموت ـ بدا الآن أنه لاحظهم جميعا ، نظر إلى وجوههم ولن ينساها أبدا . وكانت رؤية ما يجرى أمر مرعب : لعل ذلك ما سوف يحدث لهم أيضا فى وقت ما . كانوا يرونه هو نفسه ، ولم تكن لديهم الرغبة فى رؤيته حتى لا يبقى عالقا فى ذاكرتهم إلى الأبد . ورغم ذلك لم يتمكنوا من الابتعاد أو الإعراض عنه . لم يكن الابتعاد ممكنا ، لأنه كان مشغولا بأمهم ، وربما أغضبـه ذلك . لم يكن أحد يريد إثارة انتباهه إلى نفسه ، وهكذا وقفوا بلا حراك .
بدا شئ ما ينبض فى عينى العجوز ويحركهما . لم تفتحهما فى الحال أو بسهولة ، ولكنهما انفتحتا . حاولتا استيعاب الضوء ولكن دون جدوى . فجمدتا . سرى فيهما الهدوء عدة دقائق ، ثم تحركتا من جديد وانفتحتا بقوة أكبر هذه المرة . ومن خلال الوميض الأبيض الشاحب المتبقى فيهما تمكنتا من الرؤية . وكان كل ما رأته أيضا شاحبا وخابيا مثل الخيال . فظهر على وجه العجوز تعبير من الأسـف والألم . حاولت طرده برفة من عينيها ولكنها عجزت . ولعل ذلك كان برغبة منها ، لكن الشئ الذى تراءى للعجوز لم يتركها ، بل حثها على التأكيد ـ يبدو أن الذكريات عادت إليها ، فتذكرت أنها كانت تعيش ، وأرادت أن تعرف أين هى الآن ، وهل هى فى كامل وعيها . وَسَّعَت من فتحة جفنيها بعد أن تمكنت من التحكم فيهما ، ونظرت ـ لا ، لم يتركوها وحيدة ، لقد رأتهم بقربها وعرفتهم ـ لم تقدر على تقبل ذلك بصمت ، فخرجت من صدرها أصوات جافة واهنة تشبه الفحيح .
تأوهت فارفارا وضربت كفا بكف ، ثم رفعت يديها إلى حلقها لتكتم صرخة .
سكنت العجوز وكأنها استنفدت كل ما فيها من حياة متبقية . ارتخى الجفنان ، ولكن تنفسها كان قويا لدرجة أن جسدها كان يهتز . هدأت الأنفاس ، ولكنها لم تنقطع . وصار واضحا كيف كانت تتحرك البطانية فوق جسد العجوز .
راحوا ينتظرون وهم يشعرون جيدا أنهم أبناء وبنات العجوز ، واعتراهم شعور بالأسف عليها ، وبأسف أشد على أنفسهم لأنها ستترك لهم بعد موتها حزنا لن يزول بسرعة . انتاب كل منهم على طريقته إحساس غير مسبوق من الرضى والألم عن نفسه ، لأنه قرب أمه فى ساعاتها الأخيرة كما يليق بالابن أو البنت ، وبذلك استحق غفرانها ـ غفران آخر لا يشبه الغفران البشرى ، ليس له علاقة بالأم ، ولكنه ضرورى للحياة . كان ذلك مزيج من الخوف والألم . وأشد ما أخافهم وهم يرقبون احتضار الأم الطويل ، إدراكهم أن الناس يجب ألا يشاهدوا ما شاهدوه . ودون أن يصدقوا أنفسهم أخذوا يتمنون أن ينتهى كل شئ بسرعة .
ولكن العجوز ما زالت تتنفس .
لم يعد إيليا يحتمل ، فهمس لميخائيل ، وفجأة فتحت العجوز عينيها من جديد وكأنها استجابت للهمس . لم تغمضهما هذه المرة ، وإنما حدقت أمامها . أرادت البكاء ، ولكنها لم تستطع : جفت دموعها . هرولت فارفارا لمساعدتها . ناحت بسهولة وبصوت مرتفع ، ففعلت هذه المساعدة فعلها فى العجوز ، وحالت دون غيابها عن الوعى : فارقتها الكلمات ولكنها تذكرت الكلمات التى كانت أقرب إلى نفسها ، تلك التى كانت دوما على لسانها .
ـ لو ـ سيا ، إيليا ، فار ـ فا ـ را . نطقت اسماءهم بكثير من الجهد .
راحت لوسيا تشد من عزيمتها : ـ نحن هنا يا ماما . اطمئنى ، نحن هنا .
عادت فارفارا إلى النحيب : ـ أمى ـ ى ! …
وثقت العجوز بنفسها وبالأصوات . هدأت واطمأنت وهى تحت تأثير فرحها وألمها الأخيرين . نظرت إليهم ، وبدت كأنها تغوص أعمق فأعمق . وفجأة أوقفتها قوة ما خفية ، فعادت إلى وعيها . ازدادت تجعدات وجهها ، وراحت عيناها تبحثان عن شخص ما . كان بكاء فارفارا يزعجها ، فتنبهوا إلى إيقافها .
ـ تانشورا ـ نطقت العجوز الاسم فى توسل .
تبادلوا النظرات ، وتنبهوا إلى أن الأم كانت تدعو تاتيانا بهذا الاسم .
ردوا فى صوت واحد :
ـ لم تصل بعد .
ـ ستصل قريبا .
ـ إنها على وشك الوصول .
فهمت العجوز ، وأحنت رأسها قليلا . ارتسم تعبير من الراحة والطمأنينة على وجهها ، وانغلقت عيناها ، وسرعان ما غابت عن الوعى مرة أخرى .
انفضوا ـ كان من الضرورى أن يستريحوا قليلا . لم يبق قرب العجوز سوى فارفارا ، التى راحت تبكى بصوت منخفض . لم يكن بكاؤها يزعج أحدا ، ولو إنها كفت عنه ، لشعروا بالقلق .
( 3 )
هل حدثت معجزة ؟ لا أحد يستطيع القول . فما إن رأت العجوز أولادها حتى مالت إلى التحسن . غابت عن الوعى مرتين أو ثلاث وكأنها تنحدر بشكل غير ملحوظ إلى هوة مظلمة من تحتها . وفى كل مرة كانت تعود إلى وعيها بأنين ملئ بالخوف وتفتح عينيها : أ هم هنا ، أم إنهم تراؤوا لها ؟ وفى كل مرة كان أحدهم بقربها فيخف لدعوة الآخرين ـ كانت تتعرف عليهم فتطمئن وتحاول البكاء . وفى آخر مرة استطاعت أن تبكى ، وسمعت بنفسها صوتها الواهن الذى بدا وكأنه يصر على البقاء بداخلها ، ولذا خرج بمثل هذا العذاب …
شيئا فشيئا تحسنت حالة العجوز ، عاد إليها تدريجيا كل ما كان فيها ، وكل ما كان يجب أن يخضع لها . راح كل شئ يظهر وراء بعضه البعض كما لو كانت كل تلك الأمور ضرورية لإعادة الحياة إليها . قبيل المساء تحسنت حالتها لدرجة أنها دعت ناديا وطلبت منها :
ـ لو تطبخين لى عصيدة … من تلك التى تطبخين منها لنينكا . عصيدة جريش ، سائلة .
ـ تقصدين عصيدة سميد ؟
ـ آ ـ آ . سميد . أريد قليلا منها لأبل حلقى . وأن تكون سائلة .
هرع الجميع وانشغلوا بالأمر . ولحسن الحظ كان عند ناديا بعض السميد ، ولكن الموقد كان قد برد تماما حتى تلك الفترة التى أعقبت الغداء ، فقرروا طبخ العصيدة على الموقد الكهربائى . بحثوا عنه طويلا ، ووجدوه أخيرا ، ولكن تبين أن الكهرباء ما زالت مقطوعة . أرسلوا ميخائيل لإشعال الموقد الحجرى فى الفناء . اختلفت لوسيا وفارفارا حول الوعاء الأفضل لطبخ العصيدة . فارفارا كانت على استعداد لإطعام الأم طنجرة وعاء كاملا دفعة واحدة . أما لوسيا فأصرت على عدم إطعامها كثيرا ، لأن ذلك يضر بها ، ومن الأفضل الطبخ مرة ثانية فيما بعد . بقى إيليا قرب ميخائيل يتبادل الحديث معه :
ـ أ رأيت ؟ أمنا ـ هه ؟
رد ميخائيل مؤيدا : ـ نعن ، لا يمكن وضع أمنا بتلك السهولة فى التابوت .
ـ تقول : أريد عصيدة ـ آى نعم . أ رأيت ؟ أنا لا أصدق ، كنتُ أعتقد أنها النهاية . ولكنهـا تقول : أريد أن تطبخوا لى عصيدة أريد عصيدة . هذا يعنى أنها جاعت ، أ رأيت !
ـ العجائز عادة ما يعمرن طويلا . كلما كانت العجوز هرمة ، عمرت أطول . لا حظ ذلك . إنها تفنى تماما ولم يعد يبقى فيها موضع تتعلق به الروح ، ومع ذلك فلا تزال تتحرك . من أين يصدر كل ذلك .
أصر إيليا على رأيه وهو ما زال تحت تأثير الدهشة :
ـ ولكن أمنا ـ آه ، أمنا ! من كان يمكنه أن يخمن ! نحن نحضر الفودكا من أجل تأبينها ، وهى تقول : " انتظروا يا بناتى ويا أبنائى الطيبين ، أنا لم أشبع بعد من العصيدة " ـ أطلق ضحكة ، وكـرر : ـ " لم أشبع من العصيدة ، وبدون العصيدة لا أعرف شيئا " .
رد ميخائيل فى تحفظ :
ـ لقد أصابها الضعف والهزال . هذا طبيعى : منذ أيام لم تذق شيئا . هذا يصيب أى إنسان بالضعف .
أسرعت النساء بالأوعية والزجاجات ، وانهمكن حول الموقد وكأنهن يردن بأيديهن الست طبخ أكلة غريبة لا يعلم بها إلا الله ، وليس مجرد عصيدة سميد عادية فى وعاء صغير . اندست نينكا بين الأرجل ، فراحت ناديا تطردها ولكنها لم تستطع إبعادها بأية طريقة : أدركت نينكا أن شيئا هاما وغير عادى قد حدث ، وخافت أن تتخلف عما سيأتى بعده . أما فارفارا فقد غرقت تماما فى عرقها ، كانت طوال الوقت تركض بين العجوز والموقد ممسكة بطنها بيدها مثل الحبلى وهى تخفف عن أمها :
ـ اصبرى يا أمى ، احتملى ، سنطهو العصيدة حالا .
قدمت لوسيا العصيدة للعجوز دون ترك القدح خشية أن تسكبه الأم على نفسها . شربت العجوز جرعات صغيرة حذرة : كانت ترشف جرعتين ثم تستريح ، ثم ترشف مرة أخرى وتستريح . لم تشرب أكثر من طفل رضيع ، وارتدت إلى الوراء فى إرهاق . أشارت بيدها كى يبعدوا القدح عنها ، وبقيت طويلا تحاول استعادة أنفاسها .
ـ أوه ، لقد اختنقتُ تماما . هذا أشد إرهاقا من العمل . لقد انعقدت أحشائى تماما ، فكيف السبيل إلى حلها ؟
قالت لوسيا :
ـ لا عليك يا ماما ، لا عليك ، هذا أمر عادى . لا يجوز الآن إرهاق المعدة خوفا مــن المضاعفات . لتهضم أولا ما تناولتْ ، وبعدها يمكن تناول المزيد .
كررت العجوز فى سرور ومرارة :
ـ انعقدت أحشائى تماما ـ ثم أضافت : يا آنَّا ستيبانَّا ، نذهب إلى بيت جديد ، نذهب حاملين الجوز ـ كانت تحاول استرداد أنفاسها وتتطلع بعينين تائهتين إلى أعلى مما جعلها تبدو وكأنها تهذى ـ أما أنا فقليلة الحياء ، كنتُ أخدعها وأجعلها دوما فى المؤخرة ، والآن أهزأ بها وأدس فيها العصيدة ، ولكن هل ستتحمل ، كان علىَّ أن أفكر بذلك .
اضطربت أنفاسها وانتابها السعال ، فبادرتها لوسيا قائلة :
ـ لا داعى أن تكثرى من الكلام يا ماما ، فأنت ما تزالين ضعيفة .
ـ وهل علىَّ أن أصمت ؟ ـ ردت العجوز فى لهفة ـ أرى أولادى من حولى بعد طول غياب ، وعلىَّ أن أبقى صامتة ـ كان الجميع هنا من حولها . شملت العجوز أولادها بنظرة تائهة ، ولكنها كانت على أية حال نظرة فخر وكبرياء ، ثم واصلت حديثها بهدوء مدخرة قواها : ـ شعرتُ وكأن أحدا لكزنى فى خاصرتى منبها إياى إلى أن أبنائى قد وصلوا . فعزمتُ على رؤيتهم أولا ، وبعدها فليكن الموت . أنا لستُ فى حاجة لآى شئ آخر .
كانت تتحدث بصعوبة شديدة ، وتضطر إلى الصمت . لكن فرحتها برؤية أولادها لم تكن تسمح لها بالراحة كان وجهها ينتفض وتسيطر الرعشة على أطرافها وصدرها ، وتتقطع الكلمات فى حلقها . وكان الجميع حول الأم ملتزمين الصمت حتى لا يرهقوها بالرد عليهم ، وحرصا منهم على راحتها . حاولت العجوز البكاء أكثر من مرة . نظرتْ إليهم فى عصبية ونفاذ صبر ورأسها الصغير يرتجف وهى تنقل عينيها من وجه إلى آخر . عرفتهم جميعا : إيليا ، فارفارا ، لوسيا . كانت تميزهم بصعوبة ، ربما بسبب الدموع . لم تتمكن من رؤيتهم بوضوح ، ولعل ذلك ما ضاعف ضيقها من نفسها . وفجأة عاد إليها الشك فى أن ما تراه ليس حقيقة ـ ربما حلم أو خيال ، وربما ذكريات أخيرة من الحياة التى عاشتها ـ ولهذا يقف ذلك الحاجز الضبابى أمام عينيها .
هدأت العجوز وكفت عن الحركة فى محاولة لفهم ما يجرى .
كانت الغرفة ممتلئة بضوء خفيف لذلك النهار الصافى الذى قارب على الانتهاء . العجوز راقدة ورأسها نحو النافذة وأشعة الشمس تسقط على ساقيها . بدأ الجدار المقابل يفقد تدريجيا ما ادخره من حرارة الشمس التى أصبحت وكأنها تمسها من الطرف الآخر . الآن فقط رأت العجوز الشمس وفرحت حين عرفتها . شعرت العجوز ، بعد النوبات الطويلة من الظلام وفقدان الوعى ، بالدفء يتسرب إلى جسدها من خلال أنفاس بطيئة متأنية ، وراح يدفع الدماء فى عروقها . لم يكن حلما : فالشمس فى الأحلام لا تدفىء ، والصقيع لا يبعث على البرد . رن فى أذنى العجوز لحن جرس عذب بإيقاع هادئ وممتد ، وسرعان ما تلاشى كما ظهر فجأة . حاولت العجوز أن تعرف مصدره ، وقررت أنها كانت تحتفظ به منذ صباها ، فهى غالبا ما كانت تسمعه آنذاك ، ومن ثم حفظته ذاكرتها طوال الحياة . لم يكن بإمكانه أن يخدعها ، كان لحنا حيا . ودمدمت العجوز :
ـ يا إلهى ، يا إلهى .
استجمعت العجوز قواها ، ورفعت عينيها . كانوا بجوارها فى وضعهم السابق ، إلا إنه خيِّل إلى العجوز أنهم صاروا أكثر قربا . الآن تراهم بوضوح .
فى طرف الغرفة ، قرب الباب وقفت ناديا مثل الغريبة وإلى جوارها إيليا .
لم تستطع العجوز أن تعتاد على إيليا منذ زيارته السابقة لها ، حينما عرج على البيت فى طريق عودته من الشمال . كان وجهه إلى جانب رأسه الأصلع يبدو غير حقيقى ، أقرب إلى وجه مرسوم ، وكأن إيليا باع وجهه أو خسره فى لعبة ورق مع رجل غريب . كان قد تغير تماما ، أصبح أكثر حركة رغم أن عمره يفرض عليه أن يتحول إلى الهدوء والقار ـ يبدو أن المكان الذى عاش فيه ، كان يختلف كثيرا عن قريته مما أثر على إيليا .
نظرت العجوز إليه طويلا إلى درجة الحرج . بحثت فيه عن ابنها الذى ولدته وربته واحتفظت به فى ذاكرتها ، وكانت ما إن تجده حتى تفقده مرة أخرى . كان موجودا ، ولكنه بعيد . كم أصبح بدينا ، وكم رافقه فى دربه من إناس وهو بعيد عنها . لم تكن قادرة على أن تصدق ، أو لا تصدق ، أن هذا الشخص هو إيليا . بدا لها أن إيليا أشبه بسمكة صغيرة ابتلعتها سمكة أكبر منها وأكثر حركة وهما الآن تعيشان فى جسد واحد . إذا ناداه أحد ربما لا يرد فى الحال ، يبدأ فى تحريك رأسه باتجاهات مختلفة حتى يتأكد هل هو المقصود أو غيره ، ومن يناديه ، ومن أين . كانت العجوز واثقة بأن حياة إيليا لم تصبح أفضل فى المكان الذى سافر إليه . كان من الأفضل أن يبقى فى القرية … أما بخصوص لوسيا ، فالتفكير فى أن حياتها تشبه حياة إيليا غير وارد أبدا . لقد تمدنت من رأسها حتى أخمص قدميها حتى إنها تبدو وقد وُلِدَتْ من العجوز عن طريق الخطأ ، ولعله كان من المفروض أن تولد من أمرأة ما أخرى من المدينة ، ولكنها على أية حال غادرت القرية ووجدت الحياة التى تناسبها . إيليا أمره يختلف ، لم يكن يشبه القرويين ، ولا أبناء المدن أيضا . لم يكن غريبا أو قريبا . كان له وجه مرح ، ولكن العجوز كان ترثى لحاله عندما تنظر إليه ، ولكن لماذا ؟ : ذلك ما كانت تجهله ولا تعرف سببه .
كان وجه إيليا ، فى الواقع ، مرحا . فهو لم يتمكن من التغلب على الدهشة لكون أمه ما زالـت حية ، وهذا ما جعله يضحك بارتياح على نفسه ، وعلى ميخائيل ، وعلى أختيه : " أ رأيتم ماذا فعلت بنا ، أ رأيتم ؟! يا لها من أم ، عفارم عليها ! " قبل الغداء كان الجميع متأكدين من أن العجوز تعانى سكرات الموت ، ولكنها عانت لكى تعيش . كان إيليا يضحك من نفسه أكثر من ضحكه من الآخرين . فهو بالأمس عندما استأذن من العمل ، أخبرهم فى الجراج : بأنه مسافر لدفن أمه ، ولم يكن يشك فى ذلك . فماذا سيقول لزملائه الآن ؟ حيلة ليس إلا . كان إيليا على استعداد لتصديق أن الأم قد احتالت ، وتظاهرت بأنها تحتضر لكى تجمعهم حولها . ورغم أنه كان يعرف أن ذلك مجرد هراء اخترعه هو نفسه ، إلا إنه لم يتعجل فى التخلص منه ، بل راح يردده بينه وبين نفسه ويعبث به ويلاعبه لعبه القط والفأر . وكون العجوز قد طلبت بنفسها عصيدة ، وراحت تتعلم أكلها مرة أخرى مثل الطفل الصغير ، جعل إيليا يشعر بالفرح إلى حد الفخر . فأخذ ينظر إلى الأم باهتمام ويتساءل : " ماذا ستخترع أيضا ؟ "
أرادت العجوز أن تريح عينيها ، لكن نظرها وقع على فارفارا الجالسة عند قدميها . اشرأبت فارفارا بسرعة للقاء نظرات الأم . " أمى ـ ى ! هذه أنا . ابنتك الكبرى . جئتُ لرؤيتك ، ولكنك لا تنظرين إلىَّ " ، هكذا كانت فارفارا تندب بالأمس . والآن ها هى الأم تنظر إلى ابنتها الكبرى ، وتتحقق رغبـة فارفارا . رأتها ، تحرك وجه العجوز ، هزت رأسها ببطء وتنفست ، ثم أحنت رأسها ـ كأنها تبارك فارفارا وتتمنى لها شيخوخة هادئة كآخر سعادة يمكن أن تتحقق لها ، ولكنها تنهدت لأنها كانت تعرف أنها لن تحصل على ما تفكر لها فيه . كادت العجوز لا تمسك نفسها عن البكاء وهى تنظر إلى ابنتها . إنها لا تريد شيئا لنفسها . لقد تركت كل شئ وراءها : النجاح والفشل ، أما فارفارا فسوف تعيش ، ويا ليتها تعيش حياة خالية من العذاب والقلق .
لم تهمل العجوز ميخائيل رغم أنها تذكره أكثر من نفسها . تريد أن ترى كيف يبدو إلى جوارهم ، بين الجميع ، وليس وحده . كثيرا ما كانت تتذكر قول العجائز : " الابن الأول للرب ، والثانى للقيصر ، والثالث للنفس " ولقد أعطت الكثير للرب وللقيصر أكثر من المطلوب . وإذا ما أحصت ذلك الآن فلن تكف عن البكاء . والأحياء أيضا ، ما إن كبروا وأصبحوا قادرين على العمل حتى ابتعدوا واحدا تلو الآخر ، وكأن أحد ما انتزعهم ، مثل الجراء الصغيرة ، من أمهم وسلمهم لأيد غريبة . لم يبق سوى ميخائيل . وكان يحق للعجوز تماما أن تقول إنها ولدته من أجلها لكى تعيش حياتها إلى النهاية فى بيت الأسـرة العتيق ، لأنها لم تكن تتصور كيف يمكن لها أن تعيش فى مكان آخر . كانت لا تعتبر ميخائيل أفضل من الآخرين ـ لا ، هذا هو مصيرها : تعيش عنده وتنتظرهم كل صيف ، تنتظر وتنتظر …
إذا لم تُحْتَسَب السنوات الثلاث التى أمضاها فى الجيش ، يتضح أن ميخائيل طوال حياته بجـوار الأم . تزوج وصار رجلا ، ثم أبا ، ومثل كل الرجال صار كهلا ، وأمام أنظارها راح يقترب شيئا فشيئا من الشيخوخة . لقد ألِفَته وتحملته ، وكل ما طرأ عليه من تغير لم يكن ملحوظا لها . بالأمس كان ميخائيل ، واليوم لا يزال كما هو ميخائيل . أما إيليا فأمره يختلف : سافر إلى الشمال والشعر يغطى رأسه ، وعاد من هناك أصلعا ـ هذا واضح حتى للأعمى . وحتى فارفارا التى لم تنقطع عن زيارة البيت كل شهر ، كانت الأم تجد فيها تغيرا : ازدادت سمنة ، وأصبحت تلهث وتتباكى كالعجائز بمناسبة وبدون مناسبة ، وبدأ الشيب يخط رأسها . بدا أن إيليا ولوسيا وفارفارا وتانشورا قد سافروا بعيدا كى تلاحظ الأم فيما بعد كيف تغيروا ، وكانوا بزياراتهم يحملون إليها ذكرى عزيزة من الماضى ، وعن السنوات التى انقضت : منذ آخر لقاء تعود لتحسب كم مرت من السنوات ، وكم ، وكم … ومع كل عودة ، كانت العجوز تتذكر كم من السنوات مرت من عمرها . وهكذا كانت تكبر بالسنين التى يعيشونها هم ، وليس بسنين حياتها . أما هى فكانت تعيش ، ولا تزال ، فى مكان واحد دون أن تلاحظ ذلك حتى يحين أجلها . ولكن هل كان بإمكانها أن تفكر فى ذلك ؟ كانت دائما تنتظرهم حتى تكاد تختنق من طول الانتظار ، خاصة حينما أصبحت طريحة الفراش . أما هم فأصبحوا نادرا ما يأتون فى الفترة الأخيرة . لكل منهم أسرته ، ولكل حياته الخاصة . لم يعودوا صغارا ، والسنوات الآن لم تعد تدللهم ـ بل صارت تقسو عليهم . أدركت العجوز ذلك .
نظرت إلى لوسيا وسرعان ما حولت عينيها عنها . بعد ذلك أخذت تنظر إليها خلسة وبحذر وكأنها تتجسس عليها . كانت تشعر بالخجل من نفسها أمام لوسيا لأنها عجوز ضعيفة لا قامة لها ولا وجه . وكان يخيل إليها أن الابنة من الضرورى أيضا تخجل منها ـ فهى جميلة متعلمة ، بل وحتى تتحدث ليس كما يتحدثون هنا : الكلمات هى نفسها ، ولكن من أجل فهمها لابد من التركيز جيدا . ولديها لكل سؤال جواب : حيث سافرت كثيرا ورأت ما يكفى لعشرة أشخاص . فماذا رأت العجوز فى حياتها ؟ النهار والليل ، العمل والنوم . كانت تدور مثل سنجاب فى ماكينة ، وكل من عاش إلى جوارها كان يدور أيضا على هذا الحال معتقدا أن ذلك ما يجب أن يكون . كان للوسيا حياة أخرى ، غير مفهومة ، مجهولة بالنسبة للعجوز يجرى فيها الكثير بطريقة جديدة ، ولعل الموت أيضا يحدث فيها بطريقة أخرى مختلفة ، فالعجوز لا تعرف . لقد أصبح الوقت متأخرا حتى تغير عاداتها . ستموت كيفما كان ، وستبكى وقتما تريد كبقية العجائز . ولكن العجوز حرصت على أن تتماسك أمام لوسيا كلا لا تقول أو تفعل شيئا زائدا قد يغضب الابنة .
كانت تنظر إليهم وتتأملهم بنهم وعجلة واستحياء ، إلا إنها لم تكن تشبع قط من رؤيتهم .
قالت لوسيا :
ـ اهدئى يا ماما ـ اهدئى واستريحى .
رفعت العجوز يديها إلى وجهها وقالت وهى تخفى دموعها :
ـ لقد جئتم .
فأجابها إيليا بحماس :
ـ جئنا يا أمى ، جئنا . كل شئ على ما يرام …
ارتعشت فارفارا وقاطعته بهمس حاد :
ـ لا تصرخ هكذا بشدة ، ألا ترى ؟
هدأت العجوز وكررت فى نفسها :
ـ أتيتم . بعد طول انتظار ـ قالت هذه الكلمات بصوت صادق يريح النفس ، ويشبه ذلك الصوت الذى يتحدث به اثنان تخطيا سن الشباب ويعرفان بعضهما البعض منذ سنوات طويلة . كفت الأم عـن الكلام ، ولكنها بقيت متيقظة . ودون أن تغلق عينيها أو تغير من صوتها ، واصلت :
ـ صحوتُ ولكننى لا أستطيع أن أفهم شيئا ، أ هذه أنا أم إنسان آخر ، لم أشعر بنفسى إطلاقا ، لا بساقى ولا بيدى . بقيت الروح وحدها ، ولكنها تائهة . اعتقدتُ إننى متُ بدليل الظلام الذى يحيط بى . الحمد لله ، لقد انتهى عذابى ، وما إن فكرتُ هكذا حتى رأيتُ الضوء ، كما فى النهار . انفتحت عيناى وحدهما دون أن أدرى ـ فتحت العجوز عينيها ودون أن تنظر إلى أحد منحتهما فرصة لتعود الشمس . ـ كان الضوء يزداد . تساءلتُ من يشاكسنى بهذا اليوم المشمس اللطيف ؟ رأيتكم ولم أصدق . وهل كنتُ آمل فى ذلك ؟ كلكم هنا ما عدا تانشورا … تساءلتُ أيضا وأنا راقدة : " يبدو أن الإنسان لن يحرم بعد الموت من آخر فرحة ، أن يرى ماذا ترك فى الأرض بعد موته ويطمئن على وجود من قلق على مصيرهم طوال حياته " .
هز إيليا رأسه وقال فى مرح ودهشة :
ـ نعم ، عفارم عليكِ يا أمنا . كنتِ منذ فترة قصيرة غير قادرة على النطق بكلمة واحدة ، وها أنتِ تتحدثين وكأنك تقرئين فى كتاب مفتوح .
علَّقتْ لوسيا منبهة ، ولكن دون ثقتها المعتادة ، وكأنها تخشى شيئا ما :
ـ حقيقة ، لا تكثير من الكلام يا ماما . هذا يضر بك .
ـ لا ، دعيها تتكلم إذا كانت قادرة . إنما أردتُ القول أنها أتقنت الأمر بسرعة ، كما فـى الحواديت ـ آى نعم .
أوضحت العجوز ببساطة :
ـ هذا كله بسببكم ، بسببكم أنتم . كنتُ فى ذلك العالم هناك ، هناك ، أنا أعرف ، وأتيتم أنتم فجئتُ إليكم ـ كان صوتها يمتد كخيط رفيع متقطع يتبدد تارة ، وتارة يعود فى وضوح ـ ساعدنى الرب ، منحنى القوة لكى أكون شبيهة بالإنسان حتى لا تخافوا منى كثيرا ، وحتى تجلسوا بقربى .
ـ تفكرين بشكل رائع يا أمى !
ـ كيف لا تستعيد الأم قوتها بين أبنائها ؟ ولاسيما إذا لم تكن قد رأتهم منذ زمن بعيد … أريد التحدث إليكم قبل الرحيل . أنا أنتزع من يدىَّ وقدمىَّ آخر ما عندهما حتى أعطى للصوت . ولكنه يخرج وحده بدون مساعدتى . أنا أبدأ فقط ، وهو يستمر بعد ذلك إلى أن يتعب . البداية فقط هى التى تكـون صعبة ، مثل تسلق منحدر حيث اللهاث وضيق النفس … تمهلوا … الآن … الآن … انتظروا .
ارتاحت العجوز وهى تنظر طويلا إلى الجدار حيث تقف الشمس : صارت أرق وأوضح بعد وهج النهار . وتدريجيا ظهرت على وجه العجوز ملامح عميقة واضحة لذلك السكون الذى يضفيه المساء على المسنين أكثر من غيرهم . وبدا أنها نسيت نفسها وأولادها ، ولم تعد تشعر بشئ حتى بأنفاسها ، ومع ذلك كانت تتنفس بقوة خارجة عنها . لم تكن ترى شيئا سوى أشعة الشمس على الجدار ، وحتى هذه البقعة كبرت وامتدت لتصل إلى عينيها المفتوحتين ولا تفلتهما من تحت سيطرتها ـ كانت ما تزال حية رغم كل شئ ، تعيش بشكل أوضح وأشد انتباها من السابق ، لم تكن تجهد نفسها من أجل الحياة وإنما كانت فى حمايتها الحذرة .
راحوا ينتظرون وكان من غير الجائز أن ينفضوا عنها . بدا أيضا أن التحدث فيما بينهم أمر غير لائق ـ أخذوا ينتظرون الأم كما أمرتهم ، جاهدين ألا ينظروا إلى بعضهم البعض .
قالت الأم دون أن تنظر إليهم :
ـ أشعر الآن وكأن أحدا يحملنى بيديه ، كأنما لا شئ تحتى . ولكننى لستُ خائفة ، وكأن هذا ما ينبغى أن يكون .
صمتت الأم وبقيت دون حراك ، ولكن سرعان ما أفاقت من جديد . انغلقت عيناها فى تعب ، وبان على وجهها الجلد المألوف لدى الناس ، ولكنه تحول عندها ، حين رأت أبناءها ، إلى فرح هادئ ودافئ . ومرة أخرى لم تصدق العجوز نفسها ، وسألت لوسيا فى حذر :
ـ متى جئتم ؟
ـ أنا وإيليا بالأمس .
تمهلت العجوز قليلا ، ثم أضافت :
ـ أ لم تحضروا لى شيئا معكم ؟
ـ لقد كنا متعجلين يا ماما ، لم يكن لدينا متسع من الوقت ـ ردت لوسيا فى بطء وبشئ من الخجل ـ لحقنا بصعوبة ، حتى إننا اضطررنا للركض كى لا نتأخر عن المركب .
قالت العجوز :
ـ أنا لا أسأل من أجلى . لستُ بحاجة إلى أى شئ أردتُ شيئا من أجل حبيبتى نينكا ـ مدت العجوز يديها نحو نينكا التى كانت تقف قرب فارفارا ، ولكنها لم تصل إليها . ابتعدت نينكا بخوف عـن يديها ، ولكن العجوز لم تتضايق ـ أحتفظ لها بالحلوى فى الحقيبة ، ثم أعطيها واحدة بواحدة . هذا يسعدنى ويسعدها أيضا . وها هى قد بدأت تتشمم ، فتقترب منى وتقول : " تعالِ يا جدتى لنر مـاذا بالحقيبة " ، فأقول لها : " لا شئ هناك " ، لكنها تعود للسؤال مرة أخرى . ألعب معها وكأننى لا أفهـم شيئا ، مثل الصغيرة تماما . إنها فتاة جيدة وجميلة . أشعر بالراحة عند الحديث معها . هذا أمر معروف بين الكبير والصغير .
وعدتْ لوسيا قائلة :
ـ فى الصباح سأذهب إلى المحل لأشترى لها شيئا .
قالت ناديا فى استجداء :
ـ لا داعى لذلك . وهل هى جائعة ؟ كل ما فى الأمر أنها تعودت التدلل .
قاطعتها العجوز :
ـ اذهبى واحضرى لها شيئا . ولكن لا تعطيها كل شئ مرة واحدة . اعطيها قليلا ، واعطينى الباقى . سأخبئه ، ثم أعطيها إياه فيما بعد وكأنه منى . سأطعمها أيضا ، وربما للمرة الأخيرة .
قالت لوسيا متذكرة :
ـ ماما ، لقد أرسلت لكِ عنبا ، هل أكلتِ منه ؟
ـ تلك الثمار الخضراء ؟
ـ نعم ، هذا هو العنب .
ـ ليذهب إلى الشيطان . فيه بذر ، وأنا لا أملك صبرا على فصلها . لقد أطعمتُ نينكا . أكلتـه ببذره . وقلتُ فى نفسى ، لتأكله فلن يصيبها شئ . كيف لى أن آكل منه ؟ ولماذا أضيِّعه هدرا . أنا لستُ بحاجة إلى أى شئ يا لوسيا . انظرى أية فرحة منحنى إياها الرب : أن أراكم قبل الموت . هل أنا لا أفهم أو أقدر ذلك ؟
عادت ثانية إلى البكاء ـ كان بكاء هادئا قصيرا يخفف عن النفس ـ وسكتت ثم مسحت عينيها الجافتين .
قالت لوسيا :
ـ لا عليك يا ماما ، لا عليك . تعافى الآن وسيكون كل شئ على ما يرام .
لم ترد العجوز . نظرت ثانية إلى الشمس على الجدار ، حيث كانت تقف الذبابات الأخيرة . كان فى وضع العجوز كله نوع من السحر والفتنة والسكون غير البشرى ، يبدو معه أنها تستطيع أن ترى وتحتفظ فى ذاكرتها بما يعجز الآخرون عن فهمه . خيَّم الهدون على البيت ، لم يكن يُسمَع أى صوت من الخارج . ولحسن الحظ لم تصمت هذه المرة طويلا ، وإنما أخرجت صوتا رائقا ، بدا وكأنه يصدر هو بنفسـه ، تلقائيا ، دون مشاركة منها ، وقالت دون أن ترفع عينيها عن الجدار :
ـ لقد سمعت يا فارفارا كيف كنتِ تبكين بالأمس . كان صوتك ، صوتك ، أذكره . ولكننى فكرتُ أنك تبكين على بعد موتى . وفعلا ، قبل أن أفقد وعيى رقدتُ ورحتُ أفكر : " سأموت ، وستحضر فارفارا لتندبنى " . وهكذا كنتُ أعتمد عليكِ . وسمعتُ صوتك ، إلا إننى فكرتُ أنه آتِ إلىَّ من خلال الموت ـ وليس غير ذلك .
شعرت فارفارا بالخدر يسرى فى جسدها . هزت برأسها للأم وفمها لا يزال مفتوحا ـ لم تتمكن من قول أى شئ ، ولم تتمكن أيضا من البكاء . اقترب إيليا من ميخائيل وهمس مندهشا :
ـ أمنا غريبة الأطوار ، ألا ترى ذلك ؟
ـ من يعرف ، لعل الموت يسمعون أيضا ، من يعرف ؟ لا أحد يعرف . يغلقون لهم أعينهم ، أما آذانهم فتبقى مفتوحة .
سأل إيليا بصوت عال :
ـ ماذا تقولين يا أمى ؟ عم تتحدثين ؟
ـ ماذا أقول ؟ ـ عرفت العجوز إيليا من صوته ، ولم تتمكن من الرد ، خجلت ـ هذا من فرط السعادة لأننى أراكم ، لا أدرى ماذا أقول . أثرثر بشئ ما . لا تغضبوا منى ، من العجوز ، لقد فقدتُ عقلى تماما .
ـ ماذا يا أمى ! هل تعتقدين أننا غير مسرورين لأنك حالتك تحسنت ؟ عليك الآن أن تتعافى بسرعة ، وسنذهب لزيارة المعارف والأصدقاء ، آى نعم . ولماذا نبقى فى البيت ! سنذهب كلنا للزيارة . وإذا لم تستطيعى السير ـ سنحملك على أكفنا . عندك من يستطيع حملك .
قدمت لوسيا قدح العصيدة للأم قائلة :
ـ اشربى ثانية . هذا ممكن الآن ، فالمعدة بدأت تعمل وستهضم الطعام .
حاولت العجوز رفع رأسها ، وساعدتها لوسيا . فى هذه المرة ، شربت أكثر . ثم أخذت فتـرة راحة ، وقالت مندهشة من حالها :
ـ انظروا ! العصيدة نزلت إلى حفرة عميقة . صَدَقَ من قال : نحيف وأكول .
ـ الآن سيكون حالك أفضل ، ستشربين أكثر فيما بعد .
ـ أوه ، لن أستطيع .
ـ لا عليك ، سوف تستطيعين .
قالت العجوز متشكية :
ـ لو أستطيع فقط انتظار تانشورا … لماذا تأخرت هكذا ، ماذا حدث لها ؟
ـ ستأتى يا أمى ، لا تقلقى . رحلتها طويلة ، ولكنها لابد وأن تأتى .
ـ لا تسافروا وتتركونى . ابقوا معى قليلا . ستأتى تانشورا ، ولن أؤخركم . أعرف أنكم لا تستطيعون الغياب طويلا .
ـ لا ينوى أحد حتى الآن أن يسافر ويتركك .
ـ ابقوا معى ، لن أزعجكم . أنا أرقد ، وسأبقى راقدة . لا أستطيع السيطرة على نفسى من شدة الفرحة ، ولكننى سأصمت فيمت بعد . يمكنكم أن تفعلوا ما تريدون ، يكفينى أن أراكم مرة واحدة فى اليوم .
ـ قالت لوسيا فى عتاب :
ـ ما هذا الكلام … " أزعجكم " و " سأصمت " ؟ ألا تخجلين من ذلك يا ماما ، ماذا يدور برأسك ؟ أنتِ لست مطالبة بتبرير أى شئ أمامنا ، افهمى ذلك من فضلك .
تأوهت فارفارا :
ـ لا تتكلمى هكذا يا أمى ، لا تقولى ذلك ، وإلا سأبكى .
لم يحتمل إيليا أيضا :
ـ لا يا أمى ، لا …
سكتت العجوز وهى تشعر بالسعادة ، ولكنها لم تستطع أن تحتفظ بذلك فى داخلها :
ـ أفتح عينى ، فأراكم هنا بالقرب منى ، يخيل إلىَّ أننى أستطيع أن أحلِّق مثل الطير ، وأحكى للجميع … يا إلهى …
كان النهار يتناقص أكثر فأكثر ، ولكن الضوء ما زال كافيا والرؤية واضحة فى البيت . الشمس الغاربة راحت تضرب مباشرة فى النافذة التى ترقد العجوز تحتها . وصلت أشعتها الآن إلى السقف . وتوزَّع الضوء المنعكس من أعلى على كل الجهات . كل شئ هنا كان مألوفا لأولاد العجوز ، وبدا وكأنه يكرر الأم : كل شئ كان يتحدث فى وقت واحد معها ، أو يلتزم الصمت ناظرا إليهم بإصرار مفعم بالرقة والكبرياء ، أو يتجاوب فى انتباه وهدوء غير لحوح . كان من الصعب تصديق أن البيت يمكنه أن يعمر بعد العجوز ، وأن يبقى فى موضعه بعد موتها ـ من الواضح أنهما شاخا معا ، وأنهما ما زالا يتمسَّكان ببعضهما البعض ، من أجل بعضهما البعض ، وبفضل بعضهما البعض . كان يجب السير على الأرض بتأن كى لا تتألم العجوز ، فكل ما قالوه لها ما زال موجودا فى الجدران ، وفى الزوايا ـ فى كل مكان .
الهواء هنا هو نفسه الذى تنشقوه فى طفولتهم . كان يغريهم ويشدهم إلى السنوات البعيـدة الفائتة ، ولكن كانت تنقصه القوة ، مثل العجوز .
لقد هبطت النوافذ إلى أسفل وأصبحت مثل الكوى . كان لابد من الانحناء للدخول من الباب . كان من الغريب وغير المألوف رؤية الجدران الخشبية ، غير المشذبة وقد برزت منها العوارض المغطـاة بالكلس . وتحت العارضة السميكة فى السقف كانت تتأرجح كالعادة الحلقة التى كانت تُعَلَّق بها أرجوحة الأطفال التى لم تكن تفرغ أبدا فى الماضى . فما أن يكبر فيها طفل حتى يحل محله آخر .
وعلى جانبى النافذة ، التى تعلو المائدة ، ازدحمت صور فوتوجرافية داخل إطارين . كانوا جميعا هناك : إيليا وميخائيل وهما فى الجيش ـ مع التحيات من الأماكن التى خدما فيها . إيليا خلف مقود السيارة فى الشمال ، فارفارا مع زوجها ـ يطل الاثنان بعيون محملقة ووقفة منتصبة ممسكين بمسند المقعد وكأنهما يخشيان السقوط ، ولوسيا فى مكان ما فى أحد المنتجعات بين الأشجار الضخمة الغريبة المثيرة للدهشة ، وها هى تاتيانا ما تزال قروية ، بوجهها النحيل المذعور ، وكأن التصوير قد أثار فيها فزعـا مميتا .
على رف الأيقونات ، فى الزاوية اليمنى ، وضعوا مصباحا . كان ضروريا للغاية فى تلك الليلة رغم إنه لم يستعمل منذ أشهر طويلة . كانت العجوز تُصَلِّب دون أن ترفع عينيها . وإلى اليمين ، بالقرب من نافذة العجوز عُلِّقَت لافتة كانوا قد أحضروها من تعاونية قطع الأخشاب منذ سنتين ، رُسِم عليها طفل على خلفية الغابة يحمل فأسا ، وفى أسفلها كُتِب : " ازرع أشجارا أكثر ، تعش حياة أطول " . كانت الغابة فى البداية خضراء ، ولكن الذباب سرعان ما حولها إلى صفراء ، وبدا وكأن الطفل أيضا قد كبر على مر السنين . ومع ذلك فقط تعودوا الصورة ولم يقوموا بانتزاعها .
نظرت العجوز إلى أولادها بهدوء أكثر وقد تأكدت أنهم لن يفزعوا فجأة من دون سبب ، ولن ينفضوا عنها . فراحت تتحدث بيسر وسهولة دون عناء ، وعلى الفور وجدت الكلمات المناسبة . شعرت بالتعب من الكلام ، ولكنها سيطرت على نفسها : كانت بحاجة إلى الراحة ، فاستراحت . والآن تتعلم مرة أخرى كيف تدخر نفسها لما سيأتى ، وألا تستنفدها على ما هو موجود .
اقترب المساء الصحو من نهايته وحلت البرودة والعتمة فى البيت ـ وفى كل مكان . أخذت لوسيا تُعدِّل وضع البطانية على الأم . رفعتها قليلا ، وفجأة تباطأت فى حيرة ، ونادت :
ـ ميخائيل ، تعال هنا .
ـ ماذا هناك ؟
سحبت العجوز قدميها بخوف وخجل دون أن تفهم شيئا .
ـ انظر يا ميخائيل ـ أشارت لوسيا ضاغطة صوتها .
ـ أين ؟
ـ هنا ، هنا .
ـ وماذا ؟
ـ كيف " وماذا " ؟ وفوق هذا يسأل أيضا ! هل من المعقول أنك لا ترى على أى فراش تنام ماما عندكم ؟ فراش أسود ، ربما لم يتم تبديله منذ سنة كاملة . هل من المعقول أن ينام إنسان عجوز مريض ، أمك ، على مثل هذا الفراش ؟ ألا تخجل من ذلك ؟
ـ ولماذا أخجل ؟ وماذا ، هل أنا مسؤول فراش هنا ؟
ـ ولكن كان عليك أن تتابع ! أن تطلب منهم غسله ، أ لم يكن ذلك باستطاعتك ؟ … أم أن الأمر بالنسبة لك سيان ، فى أى ظروف تعيش أمنا ؟ أنت هنا صاحب البيت .
لم تر لوسيا ، ولم تلحظ ، كيف احمر وجه ناديا التى لم تعد تدرى أين يمكنها الاختفاء :
ـ لوسيا ! لوسيا ! ـ حاولت العجوز إيقافها ، وفى النهاية توقفت لوسيا ملتفتة إليها . لوَّحت العجوز بيدها فى ضعف : ـ تعبتُ وأنا أناديكِ . لماذا لا تسأليننى أنا ؟ لقد وجدتِ ما تتحدثين فيه ـ الفراش ! يا إلهى ، وما حاجتى إلى فراش أبيض ؟ طوال حياتى كنت أنام بدونه ، وكنتُ مع ذلك بصحتى . والآن يسيرون على موضة جديدة : يفردون الفراش الأبيض من تحتهم . إذن جربى غسيله ـ سوف تظلين بعد ذلك بدون أيدى .
ـ ماما ، أنا الآن أتحدث مع ميخائيل ، وليس معك .
ـ ولماذا مع ميخائيل ، أنا أتكلم معك ، وأنت مصممة على رأيك ؟ لا أستطيع رفع صوتى ، ولن أقدر على الصياح أعلى منكم . لقد أضجرتنى ناديا بهذا الفراش ، تلح دوما على تغييره ، وقد تعبتُ من قولى لها أن تتركه وشأنه . أنا أرقد ولا أحرك ساكنا . أرقد دون حراك ، فدعونى ، وعندما أموت سيغسلوننى على أية حال ، فمن دون ذلك لا يضعون الميت فى التابوت .
ـ لماذا تتحدثين هكذا ؟
ـ وتسأل أيضا ! لماذا تتحدثين … ـ قالت العجوز فى حسرة وصمتت . ولكنها لم تستطع الاستمرار فى صمتها :
ـ لقد أفزعتِنى ، وحتى الآن لا أستطيع أن أهدأ . فكرتُ ، ماذا رأت تحتى ، وهل فعلتُ شيئا ؟ هل أنا مسؤولة عن شئ ما الآن ؟ أنا أسوأ من طفل صغير . لا أعى حالى .
ـ ولكن كان على ابنك أن يعى حاله ، ويتذكرك ـ صممت لوسيا على رأيها فى عناد ـ فهـو ابنك . لا أستطيع أن أتصور كيف يمكنك أنتِ ، أمنا ، أن تنامى على مثل هذا الفراش ، ولا أحد يهتم بذلك . الجميع يعتقدون أن هذا ما ينبغى أن يكون ، قلة حياء !
ابتعدت ناديا عن الجدار حيث كانت تقف طوال الوقت . انسلت خارجة من الغرفة . ومن خلال الصمت المتوتر قال ميخائيل :
ـ وما شأنك بهذا الفراش ؟
هزت العجوز رأسها قائلة :
ـ كان من المفروض ألا تتحدثى أمامها بهذا الأسلوب ، فهى غير مذنبة فى ذلك . حاولت تغيير الفراش أكثر من مرة ، ولكننى لم أكن أرغب فى التحرك . لم تكن لدى رغبة ، كنتُ خائفة .
ـ ولكننى لم أقل شيئا .
ـ ليس لها ، ومع ذلك لها بالذات ، لمن إذن ؟ هى التى تعتنى بى ، وليس ميخائيل .
تنهدت فارفارا قائلة :
ـ إيه ، لا أدرى ماذا أقول .
ـ لا تدرين ، إذن اسكتى ـ انظرى أية مشكلة صنعتِ !
ـ ولكننى لم أقل لكِ شيئا
ـ وأنا أيضا .
سألت العجوز لكى تغير مجرى الحديث غير الودى :
ـ أ لم تأت ميرونيخا لرؤيتى وأنا غائبة عن الوعى ؟
رد ميخائيل :
ـ نعم . نعم على ما أظن .
ـ ستأتى . ضرورى أن تأتى عندما تعرف أننى تحسنتُ ، وستروى لى شيئا ما . لا أدرى كيف كنتُ سأعيش حياتى بدونها . كلامها يسلينى . ستأتى حتما ـ هزت العجوز رأسها ـ وستقول : " أنت يا فتاة لماذا لا يأخذك الموت ؟ " ، إنها تحب المزاح كما كانت دوما . انظرى ، هل بابها مفتوح ، يمكنك رؤيته من النافذة .
نهضت فارفارا واستندت إلى طرف النافذة .
ـ لا ، مغلق .
ـ لعلها ركضت إلى مكان ما ، فهى لا تبقى أبدا فى مكانها . دائما تركض من مكان إلى آخر . لتركض ما دامت قدماها تحملانها . ستشبع نوما فيما بعد . لو كنتُ أستطيع لركضت خلفها الآن . ولكننى لا أقدر .
ـ أمى ـ قاطع إيليا العجوز وهو يغمز لميخائيل ـ هل تعترضين لو شربتُ أنا وميخائيل احتفالا بشفائك ؟
ـ آه ـ آه يا رجال ، أه يا رجال ـ انتفضت فارفارا ـ لا تستطيعون بدون ذلك .
أجابها ميخائيل موافقا وعلى وجهه ابتسامة عريضة :
ـ لا نستطيع ، آى نعم .
قالت العجوز :
ـ اشربا طالما ترغبان . ولكن ليس هنا ، ليس بقربى . فأنا لا أتحمل رائحتها .
ـ طبعا ، يمكن أن نبتعد . سنشرب يا أمى فى صحتك كى لا تمرضى أكثر . آى نعم .
ـ اشربا فى صحة الشيطان ، فهذا يناسبه أكثر .
ـ يا له من اقتراح ، فى صحة الشيطان …
ـ نعم ، تشربان فى صحة الشيطان ولا أحد غيره . ماذا يجدون فيها ، أية متعة ؟ لو تزنوننى ذهبا فلن أذوقها أبدا . ويدفعون ثمنها أيضا ؟ كأنما ستسمعان كلامى إذا قلتُ لا تشربا … اشربا طالما تريدان ، ولكن لا تكثرا لدرجة السكر . أنا لا أذكر تبدو وأنت سكران . أما ميخائيل فيغدو سيئا . وناديا المسكينة تكون سعيدة إذا وجدت مكانا تهرب إليه من ميخائيل حينما يسكر .
فرح ميخائيل وقال بدون ضيق :
ـ أنتِ ، يا أمى تحرضين الجميع ضدى .
ـ أنا لا أقول ذلك عبثا .
ـ لا يا أمى ، سنشرب قليلا ، لفتح الشهية فقط .
تابعت العجوز بعد خروج الرجلين وهى تنظر إلى لوسيا وكأنها توجه كلامها إليها وحدها :
ـ لا أستطيع أن أتشكى من ناديا . إنه ابنى من لحمى ودمى ، وهى كِنَّتى . ولكننى لا أستطيع القول أنها أساءت لى يوما ما . العناية بى تحتاج إلى صبر . لم ترفع صوتها فى وجهى ولو مرة واحدة . لماذا أظلمها إذا لم تكن قد أساءت لى أبدا . إنها تسقينى ، وتحضر لى كيس الماء الساخن . عندما يكون الطقس باردا لا أستطيع الحياة بدون كيس الماء الساخن . فدمى قد برد تماما ولم أعد أدرى هل مازال موجودا بداخلى أم لا .
قالت فارفارا ناصحة إياها على طريقة الإنسان الفاهم :
ـ يجب أن تتغطى بشكل أفضل .
ـ وكيف أتغطى أفضل إذا كانت ناديا تثقلنى بكل ما لديها من أغطية ، لدرجى أننى لا أستطيع الحركة . أشعر بثقل الأغطية ، ومع ذلك ترتجف قدماى ، فأنادى ناديا أو أبعث خلفها نينكا . تحضر ناديا ، وتسخن الماء ، فأشعر بتحسن . لولا ناديا لكنتُ قد ضعتُ تماما . ماذا يمكننى أن أقول غير ذلك . إنه آدمى عندما يكون صاحيا ، ومن النادر جدا أن يرفع صوته ، ولكنه عندما يسكر يصير غير محتمل أبدا . يزعجنى ويزعجها ، ونتمنى لو نهرب منه إلى آخر العالم .
سألت لوسيا متحفزة :
ـ وكيف يزعجك ؟
ـ كيف .. كيف . يطلب منها المزيد من الخمر ، وهو نفسه لا يكاد يستطيع الوقوف على قدميه من شدة السكر . يطلب المزيد ، ولكن من أين ، من أين لها بالنقود ؟ يرسل بها إلى الدكان : " أنت تعملين هناك ، وسيعطونك " . ولكنها هناك تنظف لا أكثر . وليس لها علاقة بالمشروب . لو يفكر قليلا .. ولكنه يتعنت . وعندما أحاول منعه ، ينهرنى فى غضب : " أنت يا أمى ترقدين . فتابعى رقادك ، واسكتى " . فأسكت . صرتُ أخاف منه عندما يكون سكرانا . وعندما يبدأ العراك هناك ، آخذ نينكا لتنام معى .
علَّقت لوسيا فى تماسك :
ـ هكذا إذن ..
ثم قالت فارفارا فى استياء وهى تنظر نحو الباب :
ـ لا خجل لديه ولا حياء . منتهى الوقاحة أن يعامل أمه على هذا النحو !
أو يأتى إلىَّ ويجلس : " لنتحدث يا أمى " ، ولكن عن أى شئ يمكننى أن أتحدث معه وهـو سكران ، وقد اختلطت الأمور فى رأسه . " ألا تريدين أن تتحدثى معى ؟ أنا أطعمك وأسقيك ، وأنت تقرفين من الحديث معى ؟ " ، ولكن لماذا أقرف ؟ تعال وتحدث معى عندما تكون صاحيا ، وليس بهذه الحـال . أوه ، أوه ، كم هو لحوح !
وعدت لوسيا :
ـ سأكلمه ، سوف أتحدث إليه بما لا يسره . ما هذا الوضع ؟! " أطعمك وأسقيك " … لم يكن ينقصنا إلا هذا الكلام .
ـ ولكن لا تتحدثى إليه وهو سكران ، لا داع لذلك ، فهو لن يفهم ، وإنما سيثور غضبا . إنه فى غاية البشاعة عندما يكون سكرانا ، ولا أحد فى هذه الحال يثنى عليه . وبعد ذلك ينام ويصحو وكأن شيئا لم يكن . إنه إنسان آخر تماما لولا الخمرة . إنها تهلكه .
ـ لا ينبغى الشرب ـ قالت فارفارا .
فردت الأم موافقة بإيماءة من رأسها ، وتأوهت :
ـ ومن الذى يقول ينبغى ؟ فالإنسان الذى يشرب الآن ولا يفقد وعيه هو إنسان من ذهب . أما الذى لا يشرب إطلاقا فيجب أن نحمله ونعرضه على الناس فى مقابل النقود : انظروا .. انظروا أيـة معجزة . أما صاحبنا فبمجرد أن يشرب قطرة واحدة يصير مثل البرميل المثقوب ، مهما صببنا فيـه لا يمتلئ .
ردت لوسيا قائلة وهى لا تزال مندهشة :
ـ لم أكن أعرف ، لم أكن أعرف أن ميخائيل قد انحدر إلى هذا الحد .
قالت فارفارا مؤيدة :
ـ انحدر ، انحدر . أمنا لا تكذب .
أسرعت الأم قائلة فى انزعاج :
ـ ولِمَ أكذب ؟ ما حاجتى الآن إلى اختلاق الأكاذيب حول ابنى .
ـ هذا ما أقوله : أمى لا تكذب .
ردت لوسيا بلهجة حادة :
ـ ولكن ، لا أدرى لماذا تتحمل أمنا كل ذلك . إنه يهزأ بها كما يريد ، وهى تدافع عنه . " ينام ويصحو وكأن شيئا لم يكن " ـ قالت لوسيا مقلدة العجوز ـ والآن انتظرى حتى يشبع نوما ، انتظرى ، لعله يطردك من البيت .
ـ لم يطردنى ، لماذا هذه التخاريف .
ـ لم يطردك ، ولكنه سيطردك إذا كنتِ تسكتين له كل مرة . لم يبق غير قليل على ذلك .
ـ لم يطرد أحد فى عائلتنا أمه من البيت .
ـ وكذلك لم يعامل أحد فى عائلتنا أمه كما يعاملك ابنك .
وافقت فارفارا :
ـ لا أحد ، لا أحد . لم أسمع بمثله فى حياتى كلها . إنه وحده فقط الذى يفعل ذلك .
بعد فترة صمت قصيرة بدأت العجوز مرة أخرى :
ـ أنتما غاضبتان ، غاضبتان . لكن لو كنتما تعيشان معى ، إن العيش معى عقوبة ، ألا أعرف ذلك ؟ فتارة أحضروا هذا ، وتارة أخرى أحضروا ذاك ، وحينما ينتابنى السعال لا أستطيع حتى رؤية ضوء النهار : كح . كح . كح ، ولا أقدر حتى على الخروج وحدى لقضاء حاجتى . أ ليست هذه مصيبة ؟ كان يجب أن أموت ، كفانى عذابا وتعذيبا للآخرين . لقد تأخرتُ ، وأخشى أن أتأخر أكثر من ذلك . إنه يصبر عندما يكون صاحيا ، حرام أن أقول غير ذلك . ولكن من المعروف أن السكران لا يستطيع السيطرة على نفسه . فى البداية أغضب ، ثم أمعن التفكير : هل ثمة سبب للغضب ، وممن أغضب ؟ علىَّ أن أتحمل ما دمتُ قد شِخْت . لقد تحمَّل الرب وأمرنا أن نفعل ذلك .
بعد أن ارتاحت العجوز قليلا ، بدأت تتحدث بسهولة ، ويبدو أن ذكر الرب قد هدَّأها . تنهدت بارتياح وطلبت :
ـ لا تقولى له شيئا ، دعيه . أريد أن أموت فى هدوء ، وألا يذكرنى أحد بسوء . سيكون الموت فى هذه الحالة أسهل . ألا ترون ذلك ؟ لا تتخاصموا بسببى ، فسوف يكون الأمر أسوأ لى إذا تشاجرتم ، سأموت ، ولكن عليكم أن تعيشوا ، أن تروا بعضكم ، وأن تتبادلوا الزيارات ، فأنتم لستم غرباء ، إنكم من أم واحدة وأب واحد . أكثروا من تبادل الزيارات ، وعلى الأخ ألا ينسى أخته ، والأخت ـ أخيها . وترددوا إلى هنا ، فهنا أصلنا كله . وأنا سأكون هنا ، لن أذهب إلى مكان آخر . ستجلسون قرب قبرى ، وسأعطيكم إشارة بأننى أحس بكم ، وربما أرسل طائرا يبلغكم بذلك .
دخلت ناديا الغرفة فى حذر ، وخوفا من إثارة الإزعاج وقفت قرب الباب خلف سرير العجوز . رأوا ناديا ، فالتفتوا نحوها ، وعندئذ خطت نحو الطاولة وجلست واضعة يديها اللتين أثقلهما العمل علـى ركبتيها . تبدَّل حالها على الفور : فهى أثناء العمل تشع نشاطا ، ولكنها بمجرد أن تجلس ـ لا حس ولا خبر ، وكأنها نائمة بعينين مفتوحتين تترقبان موعد النهوض والركض من جديد .
سألتها العجوز كى تحمل ناديا على المشاركة فى الحديث :
ـ هل انتهيت من ترتيب كل شئ ؟
ـ انتهيت ، لم يبق هناك سوى أن أبيت البقرة .
ـ شاهدتِ الرجلين ؟
ـ إنهما فى الحمام .
ـ كم أتمنى ألا يسكرا .
ـ لعله يصبر فى وجود الضيوف .
ـ نعم ، هو ليس وحده ، معه ضيفه .
وأخيرا تحدثت ناديا عن سبب مجيئها :
ـ سنتعشى هنا ، أم بالمطبخ ؟ كل شئ جاهز .
ردت العجوز :
ـ اجلسوا هنا ، لماذا أبقى وحدى هنا ، سوف أشبع بعد ذلك من الرقاد وحيدة .
ـ عندئذ سأشعل الضوء .
ـ أشعليه ، ومن يمنعك . أى عشاء فى الظلمة ؟
ـ أ ليس من الضرورى أن أدعو الرجلين ، أم لا ؟
ردت العجوز بدون سخرية :
ـ وهل يشبعان من الشرب ؟ ولكن النبيذ لا يشبع كثيرا . صيحى عليهما فقط ، وبعد ذلك إذا أرادا فليأتيا .
ـ أعتقد أنه من الممكن إطعامهما فيما بعد .
ـ ولكن لماذا تقدمين الطعام مرتين ؟ وأنت هكذا مجهدة طوال النهار .
ـ هيا يا ناديا ، سأساعدك ـ قالت لوسيا ، ومن الواضح أنها كانت ما تزال تحت تأثير الخجل من موضوع الملاءات ، وأرادت أن ترضيها بطريقة ما .
ـ استريحى ، استريحى ، سأجهز كل شئ بنفسى . يجب أن أسخِّن الأكل مرة أخرى ، فلابد أنه قد برد . استريحى .. حالا ، حالا .
بقيت لوسيا .
جاء الرجلان أحمرين وكأنهما خرجا من حمام بخار فصار كل منهما أكثر شبها بالآخر . حتى الغريب يمكنه الآن أن يقول أنهما أخوان : فأين يمكن إخفاء هذين الفكين الناتئين ، والحاجبين الكثيفين الأشعثين على الجبين ؟ بينما احمرت رقبة هذا وذاك ، وصعد الدم إلى رأس إيليا الأصلع فبدا وكأنـه يتوهج .
جلسا إلى المائدة فى ضجيج ، وسأل ميخائيل بصوت عال :
ـ كيف الحال عندك ، هناك ، يا أمى ؟
رد عليه إيليا بعد أن اعتادا الحديث مع بعضهما البعض فى الحمام :
ـ كيف الحال ؟ أمنا رائعة ، خدعت موتها ، ولا شئ أكثر من ذلك .
نظرت الأم إليهما فى صبر وتأنيب ، وقالت متباطئة :
ـ لا يمكن خداع الموت .
ـ خدعته يا أم ، خدعته ، ولا تغالطى . حسنا فعلت ، ماذا ، أ لن يجدك غيرك ؟ من المؤكد أنه سيجد ـ آى نعم ، فالدنيا لا تخلو من الأبرار .
فقال ميخائيل ضاحكا :
ـ هذا صحيح .
وفجأة ردت فارفارا وكأنها قد تصيدته :
ـ أفضل لك أن تصمت يا عديم الضمير .
ـ ما هذا ؟
ـ " من الأفضل أن تكلسى ، وتخلسى خالص ، فالأمل لا يعنيك " ـ ردد إيليا متذكرا لعثمات الطفولة ، ودون أن يفهم شيئا حاول أن يأخذ كلمات فارفارا فى شئ من المزاح .
ـ عديم الحياء ـ قالت فارفارا مرة ثانية فى حدة ، والتفتت نحو لوسيا طلبا للمساعدة ، فكان على لوسيا أن تأخذ مهمة الحديث على عاتقها :
ـ لو كنتُ مكانك ، يا ميخائيل ، لسكتُّ بالفعل ـ قالت ذلك فاصلة الكلمات عن بعضها البعض وهى تنظر فى عينيه مباشرة ـ إن ما تسمح به لنفسك تجاه ماما أمر مرفوض تماما . وتذكر : لن نسمح بإهانة ماما ، ولن نسمح لك أن تهزأ بها .
ـ ماذا بكما ، هل فقدما عقلكما ؟ من يهزأ بها ؟
ـ أنت .
ـ أنا ؟ وماذا أفعل معها ؟ قولى ، قولى طالما بدأتِ .
عندئذ تدخلت العجوز فى توسل :
ـ لوسيا ، لوسيا ، لماذا تقولين ذلك ؟ لقد رجوتك باسم الرب المسيح . لا تتعاركوا ، ارحمونى .
ـ لا ، دعيها تتكلم .
رضخت لوسيا على مضض :
ـ حسنا يا ماما ، لن نفعل الآن . ولكن تذكر يا ميخائيل ، حديثى معك لم ينته بعد .
اتجه ميخائيل فى احتجاج مخاطبا إيليا :
ـ انظر إليهما . تنقضان علىَّ بهذا الشكل ، ويقولون أنهما شقيقتىَّ . أمر غريب .
ردت لوسيا متوعدة :
ـ سنتحدث معك عن ذلك فيما بعد .
ـ لا تخيفيننى ، فلا أحد يخاف منك .
قال إيليا :
أنت ، يا ميخائيل ، تغضب الأم . لا تجوز الإساءة إلى أمنا .
رد ميخائيل دون أن يختلف مع إيليا :
صحيح جدا ما تقول . لا يجوز الإساءة إلى الأم . هذا إثم . أنا لم أسئ أبدا إلى أمى .
ـ لقد وهبتنا الحياة .
واصل ميخائيل وهو يمسح دموعه من شدة السكر :
ـ كل ما تقوله صحيح . أفهم كل شئ . بل وأفهم أكثر منهما ـ وهز رأسه تجاه أختيه ـ هل تعرف لماذا انقضتا علىَّ ؟ لأنهما غاضبتان منى : أرسلتُ تلغرافا وجئتُ بهما من هناك بينما الأم لم تمت ، وكأننى دعوتهما عبثا ، خدعتهما . أنا أعرف .
هبت لوسيا غاضبة :
ـ هل تفهم ولو حتى ما تتفوه به ؟ أم أنك لم تعد تع شيئا ؟ أ لا تخجل من نفسك ؟!
مرة ثانية راح إيليا يُعَدِّل الأمور :
ـ هذا أيضا لا يجوز يا ميخائيل .
فرد ميخائيل موافقا :
ـ لن أفعل طالما لا يجوز . أنت أكبر منى وعلىَّ أن أحترمك .
ـ المسألة ليست فى ذلك .
ـ أفهم : المسألة ليست فى ذلك .
دخلت ناديا وأخذت تصب الحساء . الأمر سيان ، فقد اضطرت لإعداد المائدة مرتين : فى البداية أكل الرجلان ، وبعدهما جلست فارفارا ولوسيا . سكبوا للعجوز بعض المرق فى فنجان ، ورحن يأكلن فى صمت .
خرج الرجلان بعد أن أخذا المصباح من فوق رف الأيقونات . وتنهدت العجوز بثقل على أثر خروجهما :
ـ أ من المعقول أن يكون لديهما المزيد هناك ؟ هل هذا معقول . يا إلهى .. عطفك ورحمتك . ماذا يفعلان ؟! ماذا يفعلان ؟!
( 4 )
ومرة ثانية صافحت عينا العجوز وجه الصباح .
رقدت طويلا تنتظر الفجر بعينين مفتوحتين وقد قررت : أن تحاول الجلوس بمجرد أن تصبح الرؤية ممكنة ـ انتابتها آلام شديدة فى العظام الناتئة بظهرها وجنبيها ، وضوء الفجر قد اختفى فى مكان ما مثلما يحدث بالضبط فى ليلة عيد الميلاد . خافت العجوز أن تتحرك فى العتمة : خشية أن تقع ولا تتمكن من النداء على أحد . وأخيرا بدأ الظلام ينقشع عن النافذة الأقرب إلى جهة الشروق ، وصارت الرؤية ممكنة من خلالها . بعد ذلك بانت النافذة الأخرى فى مكانها . ومن خلال النافذتين اندلقت فى الغرفة غبشة صباحية مبكرة باردة قبل طلوع الشمس .
انتظرت العجوز ريثما يزداد نور الصباح ، ولام تحول عينيها عن لوسيا ـ هل هى نائمة ، ثم رفعت ظهرها قليلا عن الفراش . أخذت نفسا ، ثم اعتمدت على يديها وأنزلت قدميها إلى الأرض . دار رأس العجوز ، فاستندت إلى الفراش حتى لا تهوى إلى الأمام ، لا قدر الله . وحينما تماسكت ، اعترتها الدهشة وهزت رأسها : من كان يصدق ـ لا شئ لدىَّ أجلس عليه ، لا شئ غير العظام ، وها أنا ذا أجلس . شدت العجوز البطانية على قدميها كى لا يظهر نحولهما .
فرحت العجوز لتمكنها من الجلوس ، وشعرت بألم لذيذ يدب فى ظهرها ويديها وقدميها ، وتسرَّب الخدر الذى كاد يتحجر فى جسدها من طول الرقاد . كانت الرؤية من هذا الموضع أكثر راحة لعينيها ، فراحت تنظر إلى الأمام مباشرة بدون الحاجة إلى رفعهما : طوال يوم الأمس كادت عينا العجوز تنقلعان من محجريهما إلى أن أصابهما الإعياء تماما من كثرة الحركة هنا وهناك . سرعان ما أحست بالبرد فى قدميها الحافيتين على الأرض ، فمدت طرف البطانية تحتهما ـ ذلك يعنى أن قدميها لم تموتا تماما ، إذ أن الدماء ما تزال تصل إليهما .
لم تكن الشمس تقع على البيت فى الصباح ، ولكنها بمجرد أن أشرقت عرفت العجوز حتى من دون أن تنظر إلى النوافذ : بدأ الهواء يتحرك ويتلاعب من حولها ، وكأن شيئا ما نفخ فيه من جهة ما . رفعت عينيها ورأت ما يشبه الدرج النازل من السماء والذى لا يجوز المشى عليه إلا بقدمين عاريتين ، ومن أعلى تتساقط أشعة الشمس المتراقصة فى جنون وفرحة قبل وصولها إلى الأرض . شعرت العجوز فى الحال بالدفء وتمتمت :
ـ يا إلهى …
سمعت العجوز خوار البقرة ، ولكنها لم تناد ناديا : يجب أن تتعود النهوض بنفسها ، فهى على أية حال ليست خالدة فى هذه الدنيا . وإذا نادتها فمن السهل أن تستيقظ لوسيا ، وهى التى اعتادت أن تصحو متأخرة فى مدينتها تلك . إذن لتبق نائمة ، فلا حاجة لها فى القيام هكذا مبكرا . جلست ، وتناهى إلى سمعها ، كيف ترتدى ناديا ملابسها ، وبعد ذلك تعالى صرير الباب ، وعم الهدوء ثانية . إلا أن العجوز كانت تعرف أن البيت يشبه الإناء الموضوع على الموقد لتسخين ما فيه من طعام . وها هو يكاد يسخن ، ويتكلم .
وفعلا ، بدأ وقع أقدام أحد ما هناك ـ نينكا . بالطبع لن تخرج الآن إلى الخلاء ، فالقصرية هنا ، تحت سرير العجوز . مطت العجوز جسدها ونادت على نينكا بهمس قوى . فأقبلت هذه بخطواتها الصغيرة وهى ما تزال تحت تأثير النوم ، وبعينين مغمضتين تبولت ، ثم تسلقت إلى فراش العجوز ـ هذا ما كان يحدث فى الماضى … كانت نينكا تحب أن تركض فى الصباح إلى الجدة ، والآن تكاد العجوز تبكى : ها هى فرحة جديدة أخرى من أفراح حياتها لم تتركها بعد . نينكا لا تزال تذكر أين جدتها ، وتمتمت وهى شبه نائمة :
ـ ستموتين ، وسأنام أنا هنا على الدوام .
همست العجوز وهى تدس البطانية تحتها :
ـ نامى ، نامى . ستشعرين بالدفء هنا قرب الموقد . نعم ، فالشتاء على الأبواب . ستكونين هنا بلا مشاغل أو هموم . أه منك يا صغيرتى الطيبة ! لقد كبرت ، وأصبحت تفهمين كل شئ .
ران الصمت على البيت مرة ثانية بعد نينكا ، ولكن الأصوات كانت تتعالى من الشارع رويـدا رويدا . أرهفت العجوز السمع حتى تتعرف على بقرة من تلك التى تخور ، ومَنْ مِنْ الجارات تأخرت اليوم عن النهوض . أصاخت السمع إلى خوار بقرة ميرونيخا ، وربما لو أرهفت السمع أكثر لسمعت ميرونيخا نفسها ، فهى دائما تصرخ بالبقرة عندما تحلبها : ما هذه البقرة التى لا تقف فى مكانها . أ لم تمل ميرونيخا بعد من الركض خلفها مع مقعدها فى الفناء ، ومن الصراخ أيضا ؟ وهل من الصعب أن تستبدلها بأخرى غيرها ؟ أم أنها هى نفسها لم تعد تقدر بدون ذلك ؟
لا ، لم تسمع صوت ميرونيخا ، ولا خوار بقرتها ، وكأن هذه وتلك لم تتمكنا من البقاء حتى نهاية يومهما . لعل ذلك حقيقة ؟ وإلا فأين كانت بالأمس ، وكيف استطاعت ألا تأتى ؟ تعيش وحيدة ، ولا أحد يطل عليها . رفعت العجوز رأسها لرؤية باب بيت ميرونيخا ، ولكن بصرها لم يصل إلا إلى السقف ، وخشيت أن ترفع جسدها عن الفراش . ظلت تحدق نحو الشارع ، ولم تلحظ دخول فارفارا ، فأصابتها رعشة حينما سمعت صوتها .
ـ أ تجلسين ؟ ـ سألت فارفارا غير مصدقة .
تلاشى فزع العجوز وقالت فى فخر :
ـ كما ترين ، أجلس .
ـ وهل مسموح لكِ أن تجلسى ؟
استاءت العجوز حين لم تدرك فارفارا ما ذا يعنى الجلوس بالنسبة لها ، فقالت :
ـ وممن سآخذ الإذن ، مسموح أم ممنوع ؟ جلستُ ، وأجلس .
ـ إذن فاحذرى حتى لا تقعى .
ـ ما هذا الهراء ، ولماذا أقع ؟ لو كنتُ سأقع لوقعتُ بدونك ، ولكننى أجلس .
ـ هل نينكا هى التى رفعتك من الفراش ؟
ـ لم يرفعنى أحد . لا تخرفى . لقد جلستُ قبل مجئ نينكا .
كانت فارفارا لا ترى بوضوح لأنها ما زالت تحت تأثير النوم ، وكان شعرها منكوشا وكأن أحد ما قد اضطجع عليه ، قالت وهى تتثاءب :
ـ رأيتُ شيئا ما فى المنام ، ولكننى نمتُ بعمق فلم أعد أتذكره . شئ ما غير طيب .
ـ من أين تعرفين أنه غير طيب ما دمتِ لا تتذكرينه ؟
ـ صحوت وأحسستُ بانقباض ، فأسرعتُ إلى هنا معتقدة أن يكون شئ ما قد أصابك .
ردت العجوز فى قلق :
ـ حتى الآن لم يصبنى أى شئ . رتبى نفسك واذهبى إلى ميرونيخا . اذهبى ، وانظرى أ لم يصبها أى مكروه ؟ إنها وحيدة كالبومة العمياء ، ولو ماتت فسوف تظل راقدة فى مكانها مفتوحة العينين .
ـ ومن أى شئ تموت ؟
تقول من أى شئ ، من أى شئ يموت الناس ؟ يموتون من الفرح ؟ إنها تركض وتركض ـ ولكنها لن تظل تركض حتى المائة . وبقرتها اليوم لم تخر إطلاقا . جلستُ أتَسَمَّع طويلا ، ولكـن دون جدوى . إنها توقظ القرية كلها كعادتها بمجرد اقترابها من البيت ، ولكنها تبدو اليوم وكأنها ضاعت . لو أقدر لذهبتُ لرؤيتها بنفسى ، ولكن أين لى من ذلك …
ـ سأرتب نفسى وأذهب .
ـ اذهبى ، اذهبى ، فهى ليست غريبة عنى . طوال حياتنا لم نفترق عن بعضنا البعض . أما أن أذهب إليها ، أو تأتى هى إلىَّ . قلبى يوجعنى عليها .
استيقظت لوسيا ، ربما قبل ذلك : قبل دخول فارفارا ، ولكنها لم تتحرك أو تفتح عينيها إلا بعد خروجها .
قالت العجوز فى إحساس من الذنب :
ـ لقد أيقظناك بحديثنا . نامى إذا أردت ، سأبقى صامتة . وسأطلب منهم أن يسيروا بهدوء .
ـ شبعتُ نوما ـ كان وجه لوسيا حتى بعد النوم ناعما ، دون تجاعيد وانتفاخات ـ نمتُ اليوم جيدا .
ـ أ لم تر شيئا فى المنام ؟
ـ لا .
ـ فارفارا قالت أنها رأت شيئا غير طيب ، ولكنها لا تتذكره . لقد طلبتُ منها أن تطل على ميرونيخا ، فهل يكون الحلم عنها ؟ وتانشورا أيضا لم تصل حتى الآن . أخشى حتى التفكير فيها .
ـ ستصل ، لا تقلقى . ينبغى أن تصل اليوم بالتأكيد .
ـ لقد قلتم لى ذلك بالأمس أيضا ، ولكن أين هى ؟ لم تغمض لىَّ عين طوال الليل . وفكرتُ : كيف أغفو ، ربما تصل تانشورا وتدق الباب . بقيتُ أنتظر ، وأرهف السمع . فى المساء كان الناس يتحركون ، وكان هناك من يمكن سماعه . بعد ذلك جاء ميخائيل ، وبدأ يئن ويتأوه حتى غفا ، وكأن أحدا ما هناك كان يضغط على صدره . لم يكن هو الذى يئن ، بل الخمر فى داخله ، يبدو أنهما شربا كثيرا فى المساء . ثم ساد الهدوء والحمد لله ، ومرة أخرى بقيتُ وحدى ، لا أحد هناك يقرقع أو يتحدث . أرقد وأستمع إلـى نفسى . بدا الليل طويلا جدا ، وكأنه سنة كاملة ، حتى أنه لم يبق شئ لم أفكر فيه ! تحدثتُ إلى أمى ، وأخبرتها بأننى آتية إليها قريبا . صليتُ من أجل تانشورا كى يساعدها الرب على الوصول إلىَّ لو رآها فى مكان ما ، ليتها تصل اليوم ، أخشى ألا أستطيع الانتظار أكثر من ذلك . إننى أرى أن الحياة التى أعيشها الآن ليست حياتى ، وأن الرب يمنحنى مهلة إضافية من أجلكم ، ولكن لذلك نهاية أيضا . كيف لا ـ لكل شئ نهاية .
كانت لوسيا تصغى إلى العجوز وهى راقدة ، ولكن بمجرد أن تحدثت الأم عن المهلة الإضافية حتى همت بالنهوض . بدت العجوز مسرورة لكونها تستطيع الكلام ، فقد شبعت سكوتا طوال الليل .
ـ لم أكن آمل فى طلوع الفجر ، فقد كان الليل طويلا . فكرتُ فى أن الليالى الآن صارت تتوالى دون نهار ، وأنا لا أعرف أى شئ ، لا ، والناس نيام لا يستيقظون . تعبتُ تماما ، لم أكن أرغب فى النوم ، لقد شبعتُ نوما ، ومع ذلك فقد كانت عيناى تغمضان . لقد تعودتا ذلك ، فأى سلطان عليهما ؟ أحاول منعهما ، وأخاف : لو غفوت لن أنهض أبدا ؟ النوم أخو الموت . ثم أسمع : صياح الديكة ينبئ بحلول الصباح . إذن فقد حلت النهاية . عم ضوء الصباح وانتشر ، فنهضتُ وجلست . لم يكن أمامى أى حـل آخر ، لقد انبرت عظامى من طول الرقاد .
قالت لوسيا بنفاذ صبر وهى تطوى السرير المتنقل :
ـ اليوم جلستِ ، وغدا ستنهضين ، ستقومين وتمشين . عندها لن تقولى أنك تعيشين حياة ليست حياتك .
كررت العجوز :
ـ هى ليست حياتى .
لم تجادلها لوسيا ، بل وضعت السرير جانبا ، ووقفت أمام النافذة وهى تمسد جسدها . بدأ النهار صحوا ، والهواء مشبعا بالشمس ، والسماء صافية فوق القرية . لم يكن يتوارى منها أى شئ ، بل كانت مرئية كلها حتى آخرها ، وقد تلألأت مياه النهر ، وبدت الغابة التى ترتفع إلى أعلى النهر أقرب مما هى عليه ، ولكن خضرتها اللامعة بشكل غير مألوف فى مثل هذا الوقت من أوقات السنة كانت تخفف من حدة بريق الشمس . ساد المكان ألق هادئ ، ساكن ، وفى القرية كانت الظلال تبدو وحيدة بلونها الأسود لدرجة أن الكلاب كانت تبتعد عنها خشية أن تتعثر بها .
لم يكن مفهوما ، أو معروفا ، لماذا هبط الضباب بالأمس ، فى حين أتى اليوم هادئا ، ولم يعكر صفوه شئ . تذكرت لوسيا حديث الأمس عن الفطر ، وقررت أن اليوم هو أنسب وقت للذهاب إلى الغابة . ولكن عسى أن تبقى الأم بحالة جيدة .
حوَّلت فارفارا اهتمام لوسيا عن النافذة حتى قبل أن تدخل ، فقد صرخت وهى ما تزال فــى المدخل ، وكأنها تحمل خبرا سارا لا يعرف إلا الرب ما هو .
ـ تذكرتُ يا أمى ، تذكرتُ .
ـ ماذا تذكرتِ ؟
ـ تذكرتُ الحلم . حلم سئ فعلا . لقد قلتُ لك على الفور أنه غير طيب . وهو كذلك فعلا . كنتُ أعرف ذلك .
ـ ماذا ، ماذا ؟ ـ استنفرتها العجوز فى عجلة .
ـ كنا نساء نجلس فى دائرة . النساء غريبات ، لا أعرف ولا واحدة منهن . جلسنا نصنــــع " بلمينى "* ولكن احزرى بماذا كنا نحشوه ؟
ـ من أين لىَّ أن أعرف ـ لِمَ تسأليننى ؟
ـ بالوحل .
ـ بماذا ؟
ـ بالوحل . كان تحت أقدامنا وحل ، وكنا نحشو به بدلا عن اللحم . كنا فرحات . " بلمينى " محشو بالوحل . ونضحك من فرط السرور . كنتُ أقول : " لماذا تضعن الوحل السئ … أى " بلمينى " سيكون عندنا ؟ لن يكون دسما . لدىَّ هنا وحل دسم ، خذن منه " . وراحت النساء يأخذن الوحل مـن عندى . إننى بمجرد أن أتذكر ذلك يرتعد جسدى كله .
ـ وهل حدث شئ بعد ذلك ؟
ـ لا ، لا أذكر أى شئ آخر . ولكننى أرى البلمينى وكأنه أمامى الآن : مرصوصا على الصينية بلون أبيض ناصع ، واحدة وراء الأخرى فى إتقان . حلم سئ ، قلتُ لكِ منذ البداية أنه حلم سئ ـ وهزت فارفارا رأسها فى فزع وسألت :
ـ ماذا سيحدث ؟ يا لها من مصيبة ! لو كنتُ أعرف لِمَا نمتُ كى لا أراه . والآن ، ما العمل ؟
نصحتها لوسيا قائلة :
ـ كان عليك أن تحتفظى بأحلامك لنفسك .
ـ كيف أقول أننى لم أره ما دمتُ فعلا قد رأيته .
ـ ليتك أكلتِ وحدك ما صنعته من بلمينى . ألا تفهمين أن ماما ليست فى حاجة إلى مثل تلك الأحاديث ؟ فهى بدون ذلك تعتقد أنها تعيش حياة ليست حياتها ، وها أنتِ تأتين إليها بأحلامك . يا لها من تصرفات تدفع إلى الجنون .
خرجت لوسيا غاضبة ، ولم تغلق الباب خلفها حتى النهاية ، فراح ينفتح وهو يصر بشكل مزعج .
طلبت العجوز :
ـ أغلقى الباب ـ ولكن فارفارا لم تفهم ، وراحت تدمدم متشكية :
ـ كل ما أقوله لا يعجبها . لا يعجبها شئ أبدا . أوه ! فارفارا دوما مذنبة ، فارفارا وحدها ، ولا أحد غيرها . والآن ممنوع رؤية الأحلام . كيف لى أن أهرب منها إذا كنت نائمة . إننى أنام والأحلام تندس فى عينى . أنا لا أستدعيها ، فهل ينبغى علىَّ الآن ألا أنام أبدا ؟
ـ لا تصغى كثيرا إلى كل ما يقال ؟
ـ كيف لا أصغى ، إذا كانت تقوله فى حضورى ؟ أنا لست صماء . هى تقول ، وأنا أسمع .
ـ أوه ، يا فارفارا ، فارفارا ! لمن طلعتِ ساذجة هكذا . ـ رثت العجوز لحالها ، ثن تذكرت ، فقاطعت نفسها :
ـ طلبتُ منك الذهاب إلى مسرونيخا ، أ لم تذهبى إليها ؟
ـ لا ، لم أذهب بعد .
ـ ولِمَ لا تذهبين ؟
ـ سأذهب الآن .
ـ اذهبى يا فارفارا ، اذهبى . لا أستطيع أن أتوقف عن التفكير فيها منذ الصباح . هل حدث لها شئ ؟ ما عليك سوى عبور الطريق ، لن تسيرى طويلا . وإذا كانت لا تزال حية ، قولى لها أن تأتى إلىَّ ، لم أرها منذ فترة طويلة ـ بمجرد أن خطت فارفارا نحو الباب ، صاحت العجوز من ورائها :
ـ أغلقى الباب علىَّ ، الهواء يزمجر فى الخارج ، أخشى أن تبرد قدمىَّ .
تعبت العجوز من الجلوس ، ولكن نينكا تنام فى وسط الفراش ، فاضطرت العجوز أن تتحمل . كان يحز فى نفسها أن تقلق نينكا . غالبت الألم فى ظهرها ، وانحنت ممسكة بطنها بيديها ، فشعرت بتحسن حين صار ظهرها فى الأعلى . استراحت قليلا ، ولكنها رأت أنه من الخطر أن تبقى هكذا منحية على ثلاث طبقات ، فمن الممكن أن تقع . ارتدت إلى الخلف مرة أخرى وقوَّمت ظهرها . اهتزت فى مكانها وأخذت نفسا عميقا .
دقت فارفارا النافذة وصاحت من الخارج :
ـ أمى ، اسمعى يا أمى ، ميرونيخا ليست بالبيت . ناديا تقول أنها ذهبت إلى الطرف الآخر من القرية منذ الفجر .
حسنا ، حسنا ـ فهمت العجوز ، وقالت لنفسها بعد فترة صمت قصيرة : ـ بدأت تركض مرة أخرى ، أوه ، لمن طلعت هكذا تحب الركض ؟
سألتها فارفارا :
ـ تجلسين ؟
ـ أجلس ، أجلس .
بدأ ميخائيل يتحرك فى الغرفة الثانية ، ثم جر نفسه إلى المدخل وهو يتعثر متأوها ، وراح يقرقع بإبريق الماء . لم يغلق الباب خلفه ، طبعا ، وكأن لا أحد بالبيت غيره . تأوهت العجوز ، ولكنها لم تكن ترغب فى لوم ميخائيل . انحنت فى حذر وراحت تلف ساقيها بالبطانية ، ومع ذلك فقد تسرب إليها إحساس بالبرد . لعله لا يكون بالنسبة للآخرين بردا ، ولكنه بالنسبة للعجوز الآن برد حقيقى .
انكمشت ولم تتفوه بشئ .
ـ لعل رؤية الوحل فى الحلم ليست بالأمر السئ إلى هذا الحد ـ قالت العجوز لنفسها بدون ثقة وهى تتلفت حولها .
كان النهار قد طلع بكامله على الناس ، وراح يسير على نحو أكثر سرعة وانطلاقا .
( 5 )
شرب ميخائيل إبريق ماء كاملا واستعاد أنفاسه . وبينما كان الماء يسيل فى حلقه ، شعر بتأثيره المبرد المنعش ، ولكنه الآن بدأ يشعر مرة أخرى بالغثيان . اهتز ميخائيل ، فتحرك الماء بداخله : لم يعد ماء ، بل شبه قئ . فكر أن يشرب المزيد ، ولكنه لم يفعل ـ لا جدوى على أية حال ، فلن يسبب إلا المزيد من الثقل والركض إلى الفناء بعد ذلك . أمسك بطنه بيديه وهرع إلى المدخل . سيطر عليه إحساس بالقرف من كل شئ ، من الشمس ، ومن بوادر الدفء ـ فعلى أية حال يكون الأمر أسهل فى الطقس الممطر أو مع هبوب الريح ، هناك دائما ما يجذب الانتباه ويشغل البال ، ولكن فى مثل ذلك الطقس الجاف لا سبيل إلى التحسن بسرعة . كان حافيا ، وليس عليه إلا قميصه الداخلى ، ومع ذلك لم يستطع أن يفرق بين داخل البيت وخارجه . بدا له كل شئ على نحو متشابه من الضيق والقرف .
جلس ميخائيل على الدرج لكى لا يبقى ساكنا فى مكانه ، ثم نهض سريعا : دارت برأسه ذكريات قاتمة ضعيفة عن ليلة الأمس ، وتذكر الفودكا التى كانت تنتظر فى عنبر المؤونة . اعترته الدهشة لأنه لم يفكر فيها على الفور قبل ذلك ـ وعلى الأرجح لم يفعل بسبب العادة : فلم يكن لديه فى أى وقت مضى مثل تلك الكمية من المشروب دفعة واحدة ، وعموما فمنذ زمن طويل لم يكن يتبقى لديه قطرة واحدة حتى الصباح . تابع وقوفه ، وتمهَّل ، عندئذ أدرك تماما أنه هو وإيليا أحضرا فعلا صندوقا كاملا من الفودكا ، وأنهما لم يكونا يستطيعان ، حتى لو أرادا ، أن يشرباه كله فى سكرة واحدة ، ومع ذلك لم يصدق نفسه : قل هذا الكلام لشخص آخر … دخل عنبر المؤونة وكان بابه هنا فى مدخل البيت . ومن الزاوية رفع فى حذر النفايات والأشياء المتكومة ، وغضن جبينه فى رضاء ـ فى عنبر المؤونة شبه المظلم لمعت من الأسفل زجاجات الفودكا المختومة . لم يكن هناك سوى ثلاث عيون فقط فارغة ، أما البقية فكانت على حالها كما فى المخزن . غريب جدا ، بقيت طوال الليل هنا على حالها ، ولم يصبها شئ . تناول ميخائيل زجاجة ودسها فى جيب بنطاله .
جلس يستريح فى نفس المكان الذى كان قد نهض منه . لم يفارقه الإحساس بالغثيان ـ لا ، كانت حالته لا تزال بعيدة عن الراحة ، ومع ذلك فقد دب النشاط فى جسده بشكل ملحوظ بسبب الوعد المنتظر الذى يعرفه . هو يشعر بذلك ، وعلى نحو قوى لا شك فيه ! ومن الممكن الآن الجلوس قليلا ومداعبة الرغبة فى الشرب . ومع ذلك فتلك الرغبة تسبب عذابا فظيعا ولا يمكن العيش دون تحقيقها ، ولكن فى ذات الوقت يعرف الإنسان أنه قريبا سيضع نهاية لها . وبالتالى فليس هناك خوف من النظر إلى ذلك الوحش القابع فى داخلك إذا كنت تعرف جيدا أنك على وشك التخلص منه . تلك هى طبيعة الإنسان . وهو نفسه الشعور بالإنهاك المضنى ، ليس فى أى وقت ، وإنما بالذات قبل النوم ، حينما يكون من الممكن عدم التفكير فى ذلك . إنه خداع أيضا ، ولعله ليس خداعا بالمعنى السائد والمعروف ، ولكنه على أية حـال خداع .
كان بإمكانه أن يواصل الجلوس ، ويظل يداعب فى نفسه الرغبة فى الشرب ، ولكنه سمع صوت ناديا من الخارج ، وقرر أنه ليست هناك ضرورة للقائها ـ سيكون لديها متسع من الوقت فيما بعد ، ناهيك عن أنه كان يعرف ماذا يمكن أن تقوله الآن . أراد الدخول إلى البيت كى ينتعل شيئا ما ، ولكنه تخيَّل كم سيكون الوضع حرج وهو ينتعل بينما الزجاجة فى جيبه . من السهل جدا أن يصطدم هناك بناديا أو بإحدى أختيه . لم يجل ، وإنما توجه حافيا إلى حيث كان يقصد فى بادئ الأمر ـ إلى إيليا فى الحمام .
كان إيليا نائما وكأن شيئا لم يكن . لا هموم ولا عذابات ، وكأنه كان يطحن طوال الليل . جلس ميخائيل أمامه على اللوح الخشبى المنخفض الذى جلبه بالأمس من الفناء ، ودس الزجاجة خلف قـن الدجاج . هنا ، فى الحمام ، كان يوجد قن لتربية الدجاج شتاء ، وعند الحاجة يستخدمونه كمنضدة . بالأمس شربا عليه ، ولم يحدث أى شئ ، ولم يشكو أى منهما . وحتى الآن لا تزال هناك زجاجتـان فارغتان ، أما الثالثة فقد طارت بأعجوبة ما إلى قن الدجاج ، وانبطحت هناك على جنبها على الرغم من أن الباب كان مغلقا . وليس هناك أيضا أى شئ طيب يمكن قوله عن تلك الزجاجة ـ من يراها سيخطر على باله أى شئ . فليست الدجاجات على أية حال هى التى شربتها . أراد ميخائيل إخراج الزجاجة ، ولكن كان عليه أن ينهض ويخطو فوق إيليا ، فتركها وشأنها : ما دامت فارغة فتبق هناك ، ستنهض وحدها فيمـا بعد .
ـ إيليا ! ـ نادى ميخائيل . كانت هذه أول كلمة يتفوه بها اليوم ، فخرجت غير صافية تصاحبها بحة . وكان كل شئ يغلى ويمور بداخله حتى أنه لم يكن قادرا على قول كلمة أخرى . سعل وأصلح من صوته :ـ اسمع يا إيليا !
استمع إيليا وهو ما يزال نائما ، وتغير تردد أنفاسه .
ـ انهض ، كفاك نوما .
تمتم إيليا دون أن يفتح عينيه ، ودون أن يتحرك أيضا :
ـ لا يزال الوقت مبكرا .
كان يكفى أن يصمت ميخائيل أو يتردد فى الكلام حتى يستغرق إيليا فى النوم مرة أخرى ، فهو لم يستيقظ تماما ، ولم يكن يود أن يستيقظ . كام متمسكا بنومه مثل طفل صغير لا يغفو بسهولة فى المساء ، ومن الصعب إيقاظه فى الصباح .
ـ أى صباح ! لقد حل النهار .
ـ لماذا لا تنامون ؟ بالأمس أيقظتنى فارفارا ، واليوم أنت . لا يعرف إلا الشيطان متى نمنا بالأمس .
ـ كيف حالك ؟ ـ سأله ميخائيل دون أن يستمع إليه .
ـ لا أعرف بعد . يبدو أننى ما زلت حيا ـ وفى النهاية فتح إيليا عينيه .
ـ أما أنا ، فأشعر وكأننى خرجتُ من مفرمة لحم . لا أعرف يدى من قدمى . زحفتُ إلى هنا بصعوبة بالغة ، بل وكان علىَّ أن أستريح أيضا فى الطريق .
ـ شربنا كثيرا بالأمس ـ آى نعم .
ـ قبل أن أستيقظ تماما فى الصباح ـ آى نعم ، كنتُ أشعر أنها النهاية . لم أكن أستطيع الرقاد ، وإذا نهضتُ فمن الممكن أن أسقط . أنت تنام ولا تشعر بشئ ، أما أنا فلا !
ـ ينبغى أن أنام فى الصباح ـ آى نعم ، أن أشبع نوما ، ثم أنهض بعد ذلك وكأن شيئا لم يكن . هذا أكيد . ولكن بشرط ألا يزعجنى أحد .
ـ هكذا إذن ! ـ قال ميخائيل فى حسد ـ هل طبيعة جسدك تختلف ؟ نحن شقيقان ومن المفترض ألا يحدث ذلك
ـ الأمر سيان بالنسبة لها : شقيقان أم غير شقيقين .
ـ لقد حالفنا الحظ لأننا لم شربنا فودكا ، ولو شربنا غيرها لكان الأمر أسوأ بكثير ، ولِمَا استعطتُ النهوض النهوض اليوم مهما أعطونى من جرعات للإفاقة . أنا أعرف نفسى .
ـ النبيذ أيضا يزعجنى .
ـ وباء نشتريه ، مرض .
ـ ماذا ؟
ـ مرض نشتريه ـ أشار ميخائيل إلى رأسه ـ وها نحن قد دفعنا ثمنه .
ـ هذا صحيح .
ـ منذ خمس سنوات لم تكن عندى أية أمراض . شربتُ أم لم أشرب ، الأمر سيان ـ كنتُ أنهض صباحا وأنطلق . ولكن الآن عندما أخلد للنوم وأنا بعد ما أزال فى وعيى يصيبنى الخوف : كيف سأنهض غدا ؟ نشربه ، ذلك الوباء ، كؤوسا كاملة ، ولكنه يخرج قطرة قطرة . وهو لا يخرج قبل أن يعتصر الجسد وما فيه عشر مرات ـ إلى أن نصير غير آدميين . تبصق وتفكر : " ربما لم يبق منها إلا القليل " . هكذا تتعذب طوال حياتك .
تذكر إيليا قائلا :
ـ هناك نكتة على هذا الموضوع : أرسلت الأم ابنتها للبحث عن أبيها ـ آى نعم " اذهبى إلى المشرب ـ قالت الأم ـ وعلى الأرجح ستجدينه هناك ، هذا الـ .. كذا وكذا " ، وفعلا ، كان هناك ، فأين سيكون ؟ اقتربت منه الابنة : " لنعود إلى البيت يا أبى ، أمى تريدك " . استمع إليها ثم ناولها كأسا مليئة بالفودكا : " اشربى ! " رفضت الفتاة وقالت أنها لا تشرب ، ولا تريد أن تشرب . " اشربى ، قلتُ لـك اشربى ! " رشفت الابنة قليلا ، وراحت تسعل ولوِّح بيديها : " أوه ، كم هى مرة ! " لحظتئذ قــــال الأب : " وماذا ظننتما أنت وأمك أيتهما الملعونتان ، هل تتصوران أننى أشرب الشهد هنا ؟ " .
ضحك ميخائيل :
ـ يتصورون أننا نشرب الشهد هنا ، يظنون أن ذلك يفرحنا .
ـ أ لم تسمع هذه النكتة من قبل ؟
ـ لا ، لم أسمعها . نكتة صحيحة فعلا . من الحياة . ـ سكت ميخائيل وهو يهز رأسه موافقا على كل ما قيل ، وقرر أنه لم تعد هناك حاجة للتأجيل ـ إذن يا إيليا ـ قال ذلك وأخرج الزجاجة مـن وراء القن ـ علينا أن نعدل مزاجنا .
ـ إذن لقد أحضرتها ـ ارتجف صوت إيليا بحيث لم يعد مفهوما : هل كان فزعا أم سعيدا .
ـ أحضرتها فى طريقى حتى لا أعود إلى هناك مرة ثانية .
ـ ربما من الأفضل ألا نشرب ؟ لننتظر قليلا ؟
ـ أنت كما تريد ، أما أنا فسأشرب . لن أستطيع الاحتمال حتى المساء . الرغبة فى الشرب تلح علىَّ ، ولا أقوى على التنفس ، وإذا لم أشرب فستضطرون إلى دفنى بدلا عن أمنا .
ـ كيف أمنا هناك ؟
ـ لا أعرف ، يا إيليا ، لا أستطيع القول ، فأنا لم أدخل عليها . الأرجح أنها على حالها ، وإلا أسرعت النساء إلينا لإخبارنا .
ـ هذا مؤكد ، كن سيخبرننا .
فتح ميخائيل الزجاجة قائلا :
ـ ماذا ، هل أصب لك ؟
ـ حسنا ، صب ، ولنشرب معا .
ـ وهذا أيضا صحيح .
ـ ألا يوجد بعض المزة ؟
لا شئ . إذا أردت فاذهب أنت ، أما أنا فلن أفعل . ليذهبن إلى … ! .. يتصورن أننا نشرب الشهد هنا .
ـ ولكن ليس من اللائق أن أعبث هناك وأفتش ..
ـ وماذا فى ذلك ، هل أنت غريب ؟ ستأخذ ما تريد وتعود .
ـ حسنا ، لنشرب دون مزة ، وسوف تسير الأمور .
ـ هذا ممكن طبعا . سنموت ، شربنا أم لم نشرب ، والأفضل أن نشرب ونموت ـ قال ميخائيل ذلك وكأنه يقرأ صلاة ، وشرب . انتظر باهتمام إلى أن تجد الفودكا مكانها فى جوفه ، وبعدها أنزل الكأس ووضعه على القن . ـ يتصورن أننا نشرب الشهد هنا ـ كرر بصوت متقطع تلك الكلمات التى كانت تدفئ من روحه أكثر فأكثر .
كان إيليا يجلس على الفراش وهو يراقب ميخائيل مقطب الجبين ، ثم سأله فى اهتمام :
ـ نَزَلَتْ ، يا لها من وباء ، وأين لها أن تذهب ؟ اشرب ولا تبطئ ، وإلا ستقف فى حلقك ولن تستطيع دفعها . فى البداية ينبغى إفزاعها دائما .
وأخيرا شرب إيليا . تجرَّع وهز كفه أمام فمه مثلما يهزونها أثناء الوداع ، وكانت هذه عادته . ميخائيل أيضا تسلى بها بالأمس ، ولوَّح لها مع أخيه مرتين أو ثلاث مودعا ، كى لا يأسف فيما بعد ، ولكنه لم يجد متعة فى ذلك ، وغلبت عليه عادته : أن يشرب أولا ، ثم ينسى أى وداع ، ولعل هذه الحركة تعنى شيئا آخر بالنسبة لإيليا . لم يسأله ميخائيل ، فكيف يمكن أن يسأل عن ذلك ؟
كان الحمام ، إذا تأملناه ، أكثر شبها بالمطبخ ، ليس فقط بسبب القن ، وإنما أيضا لأنه كان غير حقيقى . فالحمام الحقيقى الذى كان فى الباحة احترق منذ ثلاث سنوات . بعدها قام ميخائيل بتحويل العنبر البعيد إلى حمام . ولم يكن بالحمام لوح خشبى كبير من أجل تعريض الجسم للبخار . وكان هناك موقد حديدى لتسخين الماء بدلا عن الموقد الحجرى ـ لم يكن حماما إلا بالاسم . ومع ذلك كانوا يدبرون أمرهم فيه ، وكان ميخائيل يذهب إلى جاره إيفان ليعرض جسمه للبخار . لم يكن يزمع بناء حمام جديد ، فمن الهزل أن يقوم بذلك بمفرده . ثم أن البطاطس تنمو على مدى ثلاث سنوات متتالية فى مكان الحمام المحترق ، كبيرة ، تغرى النظر . وبينما كانت ناديا تجمعها للأكل ، كانت لا تزال حبات صغيرة يافعة فى القرية كلها . وفعلا صدق من قال : رب ضارة نافعة .
جلس ميخائيل قرب النافذة ، ولمح فارفارا تركض نحوهما ، إلى الحمام مباشرة ، كالدبابة . خبَّأ الزجاجة وهو يسب ويلعن . بمجرد أن اجتازت فارفارا العتبة ضَيَّقَت عينيها حيث بدا لها الحمام مظلما تماما بعد دخولها من الخارج .
نظرت إلى ميخائيل متأملة :
ـ أ هذا أنت ؟
ـ لا ، لستُ أنا ، بل يسوع المسيح .
ـ كفاك مزاحا ، كيف لىَّ أن أعرف : أنت هنا أم لا . فكرتُ أن إيليا وحده ، فجئتُ أقول له أن أمنا تجلس .
ـ تجلس ؟
ـ تجلس ، تجلس . رأيتها ولم أصدق عينى . تجلس ، وتنظر ، بل وأنزلت ساقيها .
ـ وهل ترفع رأسها أيضا ؟
أجابته فارفارا فى تأنيب :
ـ لا تهزأ يا إيليا ! لا داعى لذلك . لا يجوز التحدث هكذا عن أمنا . إنها أمنا وليست أى شخص آخر .
ـ ولماذا تعتقدين أننى أهزأ ؟
ـ اذهبا وشاهدا بنفسيكما . تجلس . من كان يتصور ذلك ؟ ـ كانت فارفارا تريد أن يرى أخواها أمها الآن ، وأن يفرحا لرؤيتها جالسة ، فكررت :
ـ اذهبا وانظرا ، كيف تجلس أمنا ، كى لا تقولا بعد ذلك أن فارفارا كذبت أو اختلقت .
رد ميخائيل قائلا :
ـ ولِمَ ننظر ، دعيها تجلس ، يجب ألا نزعجها كثيرا . ولكن احذرن كى لا تقع .
ـ لا ، لا ، إنها تجلس جيدا .
وعدها إيليا :
ـ حسنا ، سنأتى فيما بعد .
حملقت فارفارا بتفحص ، ولمَّا لم تجد ما تقوله ، استدارت خارجة ، فاستوقفها ميخائيل :
ـ هل ناديا هناك ، فى البيت ؟
ـ فى البيت . الجميع فى البيت . ولوسيا وأمنا فى البيت .
ـ تقولين ، وأمنا أيضا فى البيت ؟
رفعت فارفارا صوتها قائلة :
ـ اذهبا عنى ! ، لا نأخذ من ورائكما سوى ذلك . سأذهب .
ـ اذهبى ، اذهبى ، احرسى أمنا هناك ، وإلا ستهرب وسنضطر إلى البحث عنها بعد ذلك .
خطت فارفارا على الأرض بحذر وهى تخرج من الحمام ـ كان مدخله عاليا ، ولم يفكر أحد بأن يضع قطعة خشب أمامه كدرج ـ ثم وقفت تفكر إلى أين تذهب . بعد الحديث مع أخويها خَفَّت فرحتها قليلا ، وكانت تلك الفرحة تثيرها . … لو ذهبا لرؤية أمهما لاختلف الأمر وكان من الممكن أن تذهب معهما كى ترى بعينيها مدى دهشتهما بأمهما التى كانت حتى الأمس ترقد شبه ميتة ، وفقط فى صباح اليوم استطاعت الجلوس وكأنها بعافيتها تماما . بيد أن الأخوين ظلا فى الحمام ، ماذا يعجبهما فيه ، وهل هو أغلى عليهما من أمهما . لم تدر فارفارا ماذا تفعل الآن . تذكرتْ حلمها عن " البلمينى " وساورها القلق من جديد . حلم سئ ، أوه ، سئ . من يمكنها أن تسأله عنه ، من يستطيع تفسيره ؟ الحديث غير ممكن مع لوسيا ـ فهى مستاءة من فارفارا ، وناديا مشغولة على الدوام ، لا وقت لديها . تحركت فارفارا من المكان الذى كانت تقف فيه ، ووقفت فى مكان آخر . دبت بقدميها وهى تتلفت حولها بذهول . ثم قررت أن تخرج إلى ما وراء السياج ، حيث الناس . بمجرد أن تجاوزت فارفارا العتبة حتى أسرع ميخائيل بوضع الزجاجة ثانية على سطح القن ، بل وقام حتى بنقرها كى يشعر بحلاوة اللحظة . لقد ازداد مرحا منذ دخل إلى هنا : تـورد وجهه ، ولمعت عيناه .
ـ ماذا ، يا إيليا ، يبدو أن الأمر يسير نحو التحسن . إنه الوقت المناسب للشرب ، وإلا تأخرنا ، ولن نلحق بعد ذلك .
رفض إيليا :
ـ لم أعد أستطيع دون مزة . ولو قطعة خبز نشمها ـ آى نعم . وإلا ستصير المسألة قاتلة . سنسكر بعد كأس أو اثنتين دون أية متعة .
ـ ما رأيك باقتلاع بصلة من الباحة ؟
ـ بصلة لن تنقذنا . هذا مؤكد . لا يوجد هنا حتى الملح .
قال ميخائيل موافقا ، ثم صمت بعد ذلك فى حزن :
ـ مع المزة المسألة تصبح مضمونة طبعا . لننتظر ـ ما العمل ! لا رغبة لدىَّ أبدا فى الذهاب إلى هناك الآن ستبدأ من جديد . لننتظر ، سأذهب بمجرد أن تخرج ناديا لحاجة ما .
ـ إذا كنت تريد فاشرب أنت .
ـ سأنتظر أيضا ، لِمَ العجلة . لا أحب الشرب بمفردى . وإلا أصبحت ، هذه الوباء ، أكثر شراسة . الأفضل عدم البقاء معها على انفراد ، لقد خبرتها جيدا .
ـ يقولون أنه من الأفضل عدم الاقتراب منها بتاتا .
ـ يقولون ، يا إيليا ، يقولون . لقد سمعتُ هذا أيضا . الناس يقولون كثيرا وما عليك إلا أن تجد الوقت للاستماع . وبالطبع فمن لا يشرب لا يحتاج إليها ، يعيش بدونها ، ولكن من يشرب تبقى شهيته مفتوحة ـ لا أدرى … ـ هز ميخائيل رأسه طويلا ـ لا أدرى ، يا إيليا ، ، لا أدرى . إنها تجذب على أية حال ـ هذا رأيىَّ . تلك الملعونة لديها قوة ضخمة يصعب التخلص منها . فهى قادرة على قصم الظهر . لقد فقدتُ الأمل . كم مرة حاولتُ فى شبابى ، وبعد ذلك توقفتُ ـ لِمَ أخدع نفسى ، وأخدع الناس . لا فائدة . إننى حتى الآن أفكر هكذا : مهما كان الأمر ، سيئا أم جيدا ، فهو عندى سيان ، لأننى لن أستطيع الهروب منه . وبالطبع ، فحتى الشرب يجب أن يتعلمه الإنسان كأى عمل آخر . أما نحن فنشربها حتى نرتـوى تماما ، وكأننا نشرب الماء .
ينبغى أن يعرف الإنسان كيف يشرب ـ هذا صحيح .
ـ هل تشرب كثيرا ؟
ـ أنا أسوق سيارة ، وممنوع أن أشرب كثيرا . فى المدينة يتصرفون بصرامة مع تلك الأمور ـ آى نعم . وامرأتى لا تقرب المشروب إطلاقا . ولكن إذا كنتُ دون امرأتى ، ودون السيارة ، فإننى حتما أشرب حتى النهاية .
نظر ميخائيل إلى الزجاجة متفقدا ما إذا كانت لا تزال فى موضعها ، وسأل :
ـ ما رأيك ، هلا شربتَ قليلا ؟ وبعد ذلك فسوف تأكل أكثر .
ـ لا ، لا أستطيع . أما أنت فاشرب ، لا تنتظرنى .
ـ سأتناول قليلا ، فقد بدأت نعدتى تصرخ ـ وفعلا صب قليلا فى كأسه ، وسكبه فى جوفه دون توقف ، وكأنه يستعجل لتغيير مذاق شئ كريه الطعم . وتنفس بصوت مسموع قائلا : انظر ، لقد أصبحت الأمور أفضل . وكما يقولون : اشرب قبل الأكل ، ومع الأكل ، وبعده . ذلك يعنى ، اشرب دائما ولا ترتبك .
ـ لا بأس إذا بقليل من الطعام ـ آى نعم .
ـ ولكن لماذا نشرب ؟ ـ لم يتعثَّر ميخائيل ، بل هز رأسه وانتظر أن يقول إيليا شيئا . ولكن إيليا اعتصم بالصمت ـ يقولون إننا نشرب بسبب الهموم ، وبسبب هذا وذاك . لا ، هذه الأمور تأتى فى المرتبة العاشرة . ويقولون بسبب العادة ، فالعادة طبيعة ثانية . هذا صحيح . لقد تعوَّدنا عليها مثلما تعودنا على الخبز الذى لا يمكن الجلوس بدونه إلى المائدة ، ولكن ذلك ليس كل شئ ، فينبغى أيضا أن نملك لهـذه العادة . أنا أعتقد : أننا نشرب لأن هذه ضرورة قد أصبحت موجودة الآن ـ أن نشرب . فى الماضى ، ماذا كان فى المقام الأول ؟ كان الخبز والماء والملح . والآن أُضِيفَتْ هذه الملعونة . ـ وأشار ميخائيل بإيماءة من رأسه إلى الزجاجة . ـ الحياة الآن لم تعد كما كانت . لقد تغير كل شئ ، وصارت هذه التغيرات تتطلب من الإنسان أشياء إضافية . نحن نتعب كثيرا ، لا أستطيع الزعم أن ذلك بسبب العمل ، الشيطان وحده يعرف من أى شئ . قضيتُ أسبوعا وأنا متعب أجر ساقى جرا . ولكن بمجرد أن شربتُ حتى شعرتُ وكأننى خرجتُ لتوى من الحمام ، وألقيتُ عن نفسى حملا ثقيلا . أعرف أننى مذنب ، مذنب عشرين ألف مرة : تشاجرتُ من الزوجة فى البيت ، أهدرتُ آخر ما معى من نقود ، زوَّغتُ من العمل ، تسكعت فى القرية وشحذتُ ـ أمر مخجل يجعلنى لا أستطيع رفع عينى . ولكن من ناحية أخرى صار الأمر أسهل . إنه من ناحية أسوأ ، ومن ناحية أخرى أفضل . بعد ذلك تعود للعمل ثانية لتكفِّر عن ذنوبك ، تعمل يوما أو اثنين أو خمسة ، تقوم بعمل ثلاثة أشخاص ، وتندهش : من أين تواتيك هذه القوة . على هذا النحو تهدأ الأمور ، ويزول الخجل تدريجيا ، ويصير من الممكن مواصلة الحياة . ولكن ، عليك ألا تشرب . من ناحية يصير الأمر أسهل ، ومن الناحية الأخرى يزداد صعوبة ، كل شئ يدفعك إلى الشرب ـ أشاح ميخائيل بيده ـ وهكذا أعود إلى الشرب ثانية . لا أستطيع التحمل أكثر ، كل شئ يعود إلى مجراه . ذلك يعنى أننى تعبتُ ، والجسم فى حاجة إلى الراحة . لستُ أنا الذى يشرب ، وإنما هو . إنه يحتاج إليها مع الخبز على حـد سواء ، لأنه لا يقدر بدونها . ما رأيك ؟
ـ الحاجة ـ هذا صحيح تماما ـ وافق إيليا ـى نشرب حسب قدراتنا وحاجاتنا . نشرب ما استطعنا .
تابع ميخائيل كلامه :
ـ وكيف لا نشرب ؟ نستطيع ألا نشرب يوما ، يومين ، بل وحتى أسبوعا كاملا ـ هذا أمـر ممكن . ولكن ماذا لو لم نشرب أبدا حتى آخر العمر ؟ فكِّر فى هذا الأمر ، لا شئ جديد سيكون أمامنا . كم من الحبال التى تقيدنا بالعمل وبالبيت ، ولا فرصة هناك للراحة . وكم كان يجب أن تفعل وتفعل ، ولكنك لم تفعل . كل شئ كان يجب ، وكل شئ كان ينبغى ، ومع الوقت تزداد الواجبات أكثر فأكثر ـ ليذهب كل شئ إلى الجحيم . فما إن تشرب حتى تشعر وكأنك تحررت ، وأصبحت غير مضطر لعمل أى شئ مقرف ، فقد فعلتَ كل ما يلزم ، وما لم تفعله لا لزوم له ، وحسن أنك لم تفعله . تشعر بالراحة ، فمن يرفض هذا الشعور ؟ من هو ذلك الأحمق الذى يرفض ذلك ؟ المشروب فى البداية بمثابة عيد دائم ، شرط أن يعرف الإنسان حدوده .
ـ لو عرفنا حدود الشرب ، لما فعل بنا نصف ما فعله .
ـ بالطبع لما حدث كل ذلك . ولكن من ناحية أخرى ، قل لى الآن كفى ، توقَّف ـ فهل أتوقَّف ؟ على الرغم إنه من الممكن أن يكون الأمر قد وصل إلى حد الاكتفاء والتوقف : ولعل الحال آنئذ يصير أفضل وينقلب الوضع إلى الأحسن . ومع ذلك فالأمر سيان ، أريد أكثر وأكثر ، تلك هى طبيعتى . ومادامت لم تأخذ نصيبها حتى النهاية فمن الأفضل عدم حرمانها . إنها لا تحب الاقتصاد أو التوفير ، وإنما كل ما تريده : كاملا ، حتى الامتلاء ، والتشبع . ذلك يرتبط أيضا بالعمل والشرب على حد سواء . وأنت تعرف .
ـ كم يخرج لديك فى الشهر ؟
ـ ماذا فى الشهر ؟ هل تقصد الخمر ؟
ضحك إيليا :
ـ لا ، أعرف أنك تشرب دون حساب . أنا أسأل ، كم أجرك ـ آى نعم . كم تقبض فى الشهر ؟
ـ أجرى … يختلف من شهر إلى آخر يا إيليا ، فالأجور اليوم ، إذا أردت أن تعرف ، لم تعد كما كانت . مازال الميكانيكيون يقبضون جيدا عندنا ، أما نحن الذين نمشى على أقدامنا فأجورنا قليلة . أقبض حاليا نصف ما كنت أقبضه تقريبا فى السابق ، فى بداية سنواتى الأولى . كنا نشحن صندلين أو ثلاثة ، ونستريح دون عمل . ولكننا كنا نعمل بجد . أوه ، كنا نعمل بالفعل ، وليس كما يحدث الآن . كنا ندحرج الجذوع بأيدينا . أما اليوم فالرافعات هى التى تعمل ، وما علينا سوى أن نربط ونفك ، وأن ننتبه كى لا تقع الحمولة على أحد . فى كل مكان هكذا : الآلات ، وبدلا من الناس لا توجد سوى المكائن .
ـ بالآلات أسهل .
ـ طبعا أسهل ، من يجادل . أسهل بكثير . لم نعد نرهق ـ استغرق ميخائيل فى التفكير قليلا ، ثم قال فى حمية : ورغم ذلك كان العمل فى الماضى أكثر متعة . لنأخذ ، مثلا ، تلك الصنادل . لقد أحببت تحميلها ، ليس من أجل النقود ، رغم أن النقود لم تكن قليلة ، إنما لأننى أحببتُ العمل ذاته . لم نكن نغادر الشاطئ يومين كاملين ، نظل هناك حتى ننتهى من التحميل كان الأولاد يحضرون لنا الطعام فى قدور ، فنأكل ثم نعود إلى العمل . كانت هناك متعة ما . نعمل ونعمل ، ونواصل العمل ، من أين كان يأتى كل ذلك ! كنا نحس به ، وكأنه كائن حى ، وليس هكذا ، لمجرد تمضية اليوم .
ـ كنتَ وقتها أصغر ، وأقوى .
ـ أصغر ـ نعم أصغر … ولكن القضية ليست فى ذلك . تذكَّر كيف كنا نعيش فى الكولخوز . لا أقصد كم كنا نقبض ، أحيانا لم نكن نتحصل على شئ ، ولكننا كنا نعيش فى مودة وتلاحم ، نتحمل كل شئ معا ـ الحلو والمر . كان كولخوزا فعلا . واليوم كل يفكر فى نفسه فقط . فماذا تريد : لقد رحل المعارف والأصحاب ، وجاء الغرباء . الآن لم أعد أعرف الكثيرين من أخل قريتى . أنا نفسى صرتُ غريبا ، وكأننى رحلتُ إلى مكان لا أعرفه .
صرَّ باب البيت ، فرفع ميخائيل رأسه . خرجتْ نينكا ـ وليس ناديا . نظرتْ حولها ـ لم تر أحدا . دارت حول كومة الحطب واندست خلفها . انتظر ميخائيل حتى تقضى نينكا حاجتها ، ومد رأسه عبر الباب :
ـ نينكا ، تعالى هنا .
ـ لماذا ؟ ـ سألت الفتاة خائفة ، ولم تكن تتوقع أن يكون هناك من يراقبها من الحمام .
ـ تعالى ، تعالى هنا يا عزيزتى . هنا ستعرفين كل شئ .
ـ لن أفعل ذلك مرة أخرى .
ـ تعالى قبل أن أضربك .
دلفتْ نينكا إلى الحمام بكتفها وهى تتلفت حولها فى خوف ، وراحت تلهث .
ـ كم مرة يجب أن أقول لك حتى تعرفى المكان ؟ هل ستنكسر قدماك لو ركضتِ إلى المكان المناسب ؟
ـ لن أفعل ذلك بعد الآن .
ـ " لن أفعل " . لم تحفظى غير ذلك . مللتُ الكلام معك ، وسوف أضربك الآن حتى تتذكرى على الدوام . سيرى العم إيليا ، هل سيعجبك ذلك أم لا . أعرف أن هناك مكان ما يشتاق للضرب منذ زمن ، ويجب ضربه مادام الأمر كذلك .
توالى لهاث الفتاة :
ـ لماذا سكتِ ؟
ـ إذن سأقول لأمى أنك تسكر هنا ـ قالت نينكا مهددة إياه بلهجة سريعة وهى تنظر نحو الباب لتستعد للهرب .
صاح ميخائيل غاضبا :
ـ سأعلمك كيف تقولين ! سأعلمك على نحو لن تعرفى معه حتى أمك ! هل علموك الكلام حتى تبلغين عن أبيك ؟ ستقول لأمها . يا لها من قملة ـ قال ذلك وهو يتوجه شاكيا إلى إيليا ـ مثل عقلة الإصبع وتهدد . انظر إليها .
ـ إذن لا تضربنى .
ـ اخرسى ، لا أحد يضربك ، رغم أنك تستحقين الضرب ، من أجل الذكرى ، بسبب تلـك الملاعيب .
أشفق إيليا على نينكا :
ـ حسنا ، دع الفتاة ، لن تفعل ذلك بعد الآن .
ـ ستفعلين ؟
ـ لا ، لن أفعل ـ قالت نينكا ذلك فى شبه وعد وبخفة ، ثم رفعت رأسها ، وعلى الفور راحت عيناها تجرى فى كل الاتجاهات كى ترى كل ما لم تستطع رؤيته من قبل .
ـ يا لك من ماكرة . " لن أفعل " ، وكأن الأمر انتهى . تصيحين مثل الديك الذى لا يهمه طلوع الفجر من عدمه . أ ليس كذلك ؟ انتظرى . لا تتعجلى ، ليس هناك حريق ، ستلحقين ما تريدينه . كنتُ أود أن أضربك ، ولكن العم إيليا لا يريد ذلك . ولذا فعليك أن تحضرى لنا شيئا نأكله . فهمت ؟
ـ فهمت .
لم تفهمى شيئا .
ـ سأقول لأمى ، وسوف تعطينى .
ـ وكأننا ننفخ فى قربة مخرومة . مرة أخرى ستقول لأمها . ألا تستطيعين بدون أمك ؟ انسها . انسها تماما . احضرى لنا شيئا بحيث لا ترى أمك أو تسمع . هل فهمتِ الآن ؟
ـ الآن فهمت .
ـ ابحثى هناك على المنضدة أو فى عنبر المؤونة ، واحضرى ما تجدينه خفية ، ومقابل ذلك سأعطيك زجاجة فيما بعد ـ وضع ميخائيل زجاجة الأمس جانبا .
ـ نعم ـ قالت نينكا فى حدة ـ تعطينى ثم تأخذها أنت نفسك مرة ثانية .
ـ لن آخذها ، لن آخذها ، اركضى .
ـ ولكن سبق وأخذتها .
ـ آنذاك فعلا أخذتها ، ولكننى لن أفعل الآن . فالآن لدىَّ زجاجاتى ، والعم إيليا شاهد على أننى لن آخذها .
ضرب إيليا بيده على صدره قائلا :
ـ أنا شاهد .
ظلت نينكا واقفة فى مكانها .
ـ ها ، ما رأيك ؟ هيا اركضى بسرعة .
ألقت نينكا نظرة سريعة إلى الزجاجة الثالثة الفارغة ، وقالت :
ـ أريد زجاجتين .
قرَّب ميخائيل الزجاجة الثانية من الأولى :
ـ سأعطيك اثنتين ، ولكن اذهبى بسرعة بحق المسيح .
لم تحضر نينكا تحت فستانها سوى رغيف من الخبز ، لأن أمها أبعدتها عن المنضدة التى أخذت تدور حولها . كان الأمر أسهل بالنسبة إلى الرغيف ، فقد تركته ناديا فى المدخل قبل الإفطار . الخبز ـ أفضل طبعا من لا شئ . ولكن الخبز وحده كان على أية حال قليلا على الشرب فى الصباح . تذكَّر ميخائيل فى الوقت المناسب أن فوق رأسه مباشرة ، على سطح الحمام ، ترقد دجاجتان أو ثلاث على البيض . تسلَّقت نينكا ، وتناولت فى طرف ثوبها خمس بيضات بينها البيض الذى كانت ترقد عليه الدجاجات ربما منذ الربيع والذى تفتق ذهن ميخائيل ذات مرة أن يشربه بعد الفودكا ، وهو الذى من عادته أن يبتلع دفعة واحدة دون أن يميِّز ما يبتلعه . وعلى الرغم من أن ذلك لم يكن على معدة خاوية إلا أن عينيه جحظتا وانقلبت معدته ، وكان مضطرا على أية حال لأن يشرب مرة أخرى بعض الفودكا ليطهر حلقه . وظل يبصق ويسب ، وصار لا يشرب البيض بعد ذلك مكتفيا بالخبز فقط .
مقابل البيض حصلت نينكا على الزجاجة الثالثة التى كانت ملقاة فى القن . واضطر الرجلان أن يعداها بالرابعة ، التى لم تفرغ بعد ، مقابل قليل من الملح . وهكذا راحت الفتاة تحرسها دون أن تخرج من الحمام . لم تكن تريد الظهور فى البيت لسبب آخر : كانت تسمع حتى من هنا فى الحمام صوت ناديا وهى تبحث عن الخبز الذى اختفى ، وكأن بقرة قد سحبته بلسانها . صمتت نينكا وظلت هادئة تتطلع إلى الرجلين بعينين بريئتين ، وشعرت معهما بأنها فى أمان تام . الآن ربطها المصير بهما بقوة ، وعندئذ استطاع ميخائيل أن يكون مطمئنا : نينكا لن تفضح أمره . وسرعان ما فرغت الزجاجة ، فأخذتها لتخبِّئها هناك أيضا ، خلف كومة الحطب . وبعدها راحت تتسكع فى الحديقة . وكالعادة أخذت تقترب من البيت تدريجيا ، ويبدو أنها كانت تريد أن تأكل .
بعد الفودكا حمى حديث الرجلين . مرة واحدة فقط ترددا وضعفا ، وذلك حين أراد إيليا ، وكأنه يبرر أمام أحد ما ، سبب شربه فى هذا الوقت غير المناسب ، وأخذ يقول :
ـ ما العمل ؟ إننى لا أرى مبررا لوجودنا هناك قرب أمنا ـ آى نعم . أنت نفسك ترى ، لقـد جَلَسَتْ ، ولعلها ستمشى أيضا .
هز ميخائيل رأسه :
ـ تستطيع أن تفعل ذلك .
ـ أ ليس كذلك ؟ من كان يتصور . كانت ترقد جاهزة تماما ، وكأنه لم يبق منها شئ ، ولكن شيئا ما أثَّر فيها . يا لك من رائعة يا أمى !
ـ أمنا أيضا لديها حيلها .
ـ فعلا ، لقد احتالت على موتها .
ـ أقول لك بصراحة ، يا إيليا : عبثا فعلتْ هى ذلك . الأفضل لو تموت الآن . أفضل لنا ولهـا أيضا . أقول هذا لك وحدك ـ لماذا نخفى عن بعضنا البعض ؟ ستموت فى كل الأحوال . ولكن الآن أنسب وقت لذلك : حضر الجميع ، واستعدوا . وما دمنا هنا ، فيجب أن تكمل الأمر حتى النهاية ، وألا تضللنا . لقد صدقتها أنا نفسى ، وأنتم بدوركم صدقتمونى ، وأتيتم .
قاطعه إيليا معترضا :
ـ لماذا تقول ذلك يا ميخائيل ؟ دعها تموت متى تشاء ، فهذا لا يتوقف علينا .
ـ أقول من الأفضل ، وأقصد ، أن الوقت مناسب طبعا ، لن أطلب منها أن تزهق روحها . ولكن المسألة ، أنكم ستسافرون ، وستعيش هى قليلا ، إلا أنها ستموت على أية حال . تذكر كلماتى تلك ، فحالتها لم تصل عبثا إلى هذه الدرجة من السوء ، ذلك لا يحدث عبثا . سيكون علىَّ أن أبعث إليكم مرة ثانية ، وعندها لن تكون لديكم الرغبة ، ومنكم مَنْ سيحضر ، ومنكم من سيتجاوز الأمر . وسوف يكون الأمر أسوأ بعشر مرات . الأمر سيان ، فأمام الموت لا يستطيع الإنسان أن يفعل شيئا .
ـ وكيف لا نحضر ؟
ـ كل شئ ممكن . تاتيانا لم تحضر حتى الآن .
ـ تاتيانا . كأنها عرفت ، فلم تسرع بالحضور . وإذا لم تصل اليوم ستفقد أمنا عقلها . لقد صَدَّعَتْ رؤوسنا بأسئلتها عن تانشورا . تارة تراها فى المنام ، وتارة أخرى لا أدرى كيف . أنت لا تعيش هنا معها ، ولا تعرف أى شئ .
ـ ستأتى . كيف يمكن أن تتسلم مثل هذا التلغراف ولا تأتى . لا أدرى كيف يسمى ذلك .
ـ حسنا ، إذا جاءت سنشرب . سنستقبلها كما ينبغى ، فهى أختنا .
ـ سنشرب ـ آى نعم . فأين المفر ؟
أجاب ميخائيل :
ـ وإذا لم تصل ، فسوف نشرب على أية حال . سنشرب يا لإيليا ، فنحن فى وضع ليس لـه مخرج !
ـ وما العمل الآن ؟ ـ أيَّد إيليا بمرح وهو مستغرق فى التفكير ـ لن ندلقها على الأرض .
ـ ومن سيسمح لنا أن ندلقها على الأرض ؟ هذا أمر حكومى ، وذلك كل ما فى الموضوع .
ـ الآن ، علينا أن نشرب سواء كنا نريد أم لا نريد .
ـ كلامك غريب يا إيليا ، تقول " لا نريد " . لا ينبغى طرح المسألة هكذا . سنشرب ، فلِمَ لا نريد ؟ طالما يجب أن نشرب ، فسنشرب ـ قال ميخائيل بإصرار ـ هل نستطيع أن نتعهد بذلك ؟ نحن لا نجتمع كل يوم .
ـ نستطيع ، ولِمَ لا ؟
هذا أمر آخر .
مرة أخرى تحوَّل الحديث إلى حوار قريب إلى نفسيهما مفعم بالإغراء ، وكأنه متفق عليه . فشجَّع الرجلين وأشعل فيهما الرغبة فى الشرب من جديد ، خاصة وأن الفودكا موجودة بالقرب منهما ، إذن فليشربا قدر ما يستطيعان ، فهى مدفوعة الثمن مقدما . ذهب ميخائيل مرة ثانية إلى عنبر المؤونة ليقوم بغزوة جديدة ، متعللا بنفس حجة أن عليه أن ينتعل شيئا . سار وكعباه العاريان يلمعان خلفه . آنئذ لف إيليا الفراش الذى كان يتنقل عليه وهو جالس طوال الصباح ، ثم توجه إلى المرحاض .
فى هذه المرة أيضا لم يصل ميخائيل إلى حذائه . دخل عنبر المؤونة ، وسرعان ما أظلمت عيناه : كان نصف الصندوق تقريبا غير موجود . فكيف يعن له أن يفطن إلى الحذاء الآن ؟ حمل ميخائيل الصندوق الذى صار أخفف مما كان ، وعاد راجعا : ما دام هناك ما يمكن إنقاذه ، فيجب أن يفعل . بعد دقيقة واحدة ربما لا يبقى شئ يمكن إنقاذه .
وفى الحمام أخذ حريته تماما فى الشتائم ولفترة طويلة ـ الشتائم البذيئة . يبدو أن أحد من البيت قد خبَّأ الزجاجات ، ولكن ذلك لا يسهِّل أمر إرجاعها . كما أن الوقت غير مناسب أيضا لإرجاعها بالقوة : بكلمة ، أعيدوها ، وانتهى الأمر . بالأمس أحضروا الفودكا لسبب آخر ، واشترك الجميع فى دفع ثمنها . وبالطبع ، فللرجال فيها حقوق أكثر من النساء ، لأنهم رجال . ولكن تلك الحقوق تمنح فقط للمتيقظين ، أما بالنسبة للسكارى ، كما هو معروف ، فهى موضع شك على الدوام . إذن كان لابد من التظاهر وكأن شيئا لم يحدث ، وأن كل شئ فى مكانه ، ومواصلة المراقبة وانتظار اللحظة المناسبة .
بمجرد أن فتحا زجاجة جديدة حتى ظهرت نينكا باكية ، وأعلنت وهى لا تزال على العتبة :
ـ ماما غير جيدة .
قال ميخائيل الذى لم يهدأ غضبه بعد :
ـ الشنق قليل على أمك .
ـ هيا نشنقها ، يا بابا ، ونرى .
ـ أنا لن أتردد ، ولكن ذلك سيشرِّفها كثيرا .
سأل إيليا نينكا :
ـ ولكن ماذا فعلتْ لكِ ؟
ـ تقول أننى سرقتُ الخبز . إنها لم تر شيئا ، ومع ذلك تقول أنها رأت بنفسها .
رد ميخائيل محذِّرا :
ـ تريد أن تخوِّفك ، لا تستجيبى .
ـ هكذا فعلتُ . قلتُ لها .. اسألى حتى بابا ، وحتى العم إيليا .
ـ كان يجب ألا تقولى ذلك ، أو تشيرى إلينا . ينبغى أن تفهمى أنه لا هيبة لنا الآن إطلاقا . لا فائدة . هذا ما لن تفهميه .
كررت نينكا :
ـ إنها غير جيدة .
ـ وماذا أقول أنا . عندى أسباب لذلك أكثر مما لديك !
ـ يقلن أنكما سكرتما تماما ، والآن سوف يستمر ذلك طويلا ـ ثم أضافت فى شبه تبليـغ ـ وعنك ، يا بابا ، يقلن أنك سكير وعربيد لا أكثر ، وأنك المذنب فى كل شئ .
هز ميخائيل رأسه بمرارة :
ـ اسمع ماذا يقلن أمام الفتاة . لا يفهمن شيئا على الإطلاق : ما ينبغى وما لا ينبغى … ـ ثم طلب من نينكا ـ لا تسمعى ما يقلن . من تصدقين : نحن أم هن ؟
ـ أنتما .
هذا جيد . ابقى معنا ولن تندمى . لا تستمعى إليهن .
عاد الرجلان إلى الزجاجة . تشجَّعَتْ نينكا بكلمات أبيها ، وراحت تدور فى مكانها . تناولت منه كأس فودكا ، شمَّتَه ونفخت بقرف ، وبعد ذلك شمت الكأس الفارغة ، ونفخت أيضا بقرف . تدخلت فى حديث الرجلين كواحد منهما ، وراحت تراقب بتيقظ ، كيف يتناقص ما فى الزجاجة ، وتحث الرجلين على أن يصبا المزيد . أشفق ميخائيل عليها ولم يطردها ، وتبيَّن أنه كان على حق .
سألت نينكا :
ـ بابا ، هل يشترون الزجاجات الممتلئة فى الدكان ؟ ـ اضطرت نينكا لتوجيه السؤال ثلاث أو أربع مرات ، لأن ميخائيل كان مستغرقا فى الحديث مع إيليا ، ومنشغلا تماما عن نينكا .
ـ أى زجاجات ممتلئة ؟ ـ أخيرا انقطع ميخائيل عن حديثه وسألها .
ـ تلك التى لم تُسْكَب . سكبتها ولكنها لا تنسكب .
ـ وماذا أردتِ أن تسكبى ؟ ـ واصل ميخائيل الحديث معها ومع إيليا فى آن واحد .
ـ الخمر .
ـ أى خمر ؟
ـ كان يجب ألا تقول أننى سرقتُ الخبز ، مادامت لم ترنى .
انحنى ميخائيل نحو نينكا وأمسكها بيديه ، ولكن فى حذر ورقة حتى لا يفزعها .
ـ أى خمر سكبتى ؟
ـ أى خمر ، أى خمر ؟ ذلك الخمر الذى فى الزجاجات . ولكن الزجاجات لا تنفتح أبدا .
ـ من أين جئت بها ؟ ـ سألها ميخائيل متبادلا النظرات مع إيليا ، ولم تكن نينكا تنوى إخفـاء شئ . كان لديها اليوم ميل شديد نحو أبيها ، فراحت تحكى :
ـ أنتَ أعطيتنى بنفسك . ولكننى أخذتُ من عند أمى بنفسى . دعها لا تقل عنى شيئا ، ومادامت لم تر فلا يجب أن تتحدث .
ـ هكذا إذن . وأين الزجاجات الآن ؟ تلك التى أخذتِها من عندها .
ـ فى الطحين .
ـ أين ؟
فى الطحين . كانت مخفاة فى عنبر المؤونة . هى التى أخفتها . ظنت أننى لن أعثر عليها . ولكننى وجدتها قبلها . هناك صندوق ، كانت فى الصندوق . يوجد الكثير منها هناك .
دمدم ميخائيل :
ـ مفهوم . كل شئ أصبح مفهوما الآن . تقولين لا تنسكب ؟ إذن كان يمكن أن تسكبيها ـ قال ذلك متأوها ـ ولكن أين ؟ على الأرض ؟ ـ سأل وهو يضَيِّق عينيه من الألم متخيِّلا كيف تسيل الفودكا على الأرض تمتصها الأرضية الخشبية ، وكأنها ماء لسقى المواشى .
ـ لا ، أردتُ أن أفرغها فى الطحين كى لا ترى أمى الموضع المبلل .
لم يعد ميخائيل قادرا أكثر من ذلك على مواصلة لعبة الغميضة هذه . فطلب من نينكا مهددا وهو يحرك إصبعه :
ـ اسمعى ، لا تقولى لأحد شيئا عن تلك الزجاجات . فهمت ؟
ـ فهمت .
ـ لا أريد أن يعرف مخلوق ـ وأكد ميخائيل : فهمت ؟
ـ فهمت .
ـ حذارى ، إذا قلتِ ، فسوف يحدث لكِ ما لا تحمد عقباه .
حاول إيليا التخفيف من حدة ميخائيل :
ـ على كل حال ، فهم لا يشترون هناك الزجاجات الممتلئة .
ـ والمسكوبة أيضا لا يشترونها ، يشترون المشروبة فقط ، أ فهمتِ ؟
ـ فهمت .
كيف تفهمين كل شئ بهذه السرعة ؟ تُحْسَدين على ذلك . يا لك من فتاة ذكية . والآن اذهبى ، اذهبى ـ أبعدها أبوها ـ اذهبى والعبى . لا داعى للجلوس هنا مع الرجال . وتذكرى ما قلته لك . حذارى أن يعرف أحد . يا لها من جامعة زجاجات . العبى بالعرائس وليس بالزجاجات .
أغلق الباب خلف نينكا ، وتنفس الصعداء :
ـ كان يمكن لهذه الملعونة أن تذهب لبيعها ، فهى صغيرة . زجاجات ممتلئة ! كانوا سيشترونها هناك وبكل سعادة باثنى عشر كوبيكا . زجاجة ممتلئة باثنى عشر كوبيكا . ماذا يهمهم هناك ، هات ، وهات فقط . يا لها من وباء ، لقد وجدت هذه الملعونة الزجاجات .
فى هذا الوقت خرجت نينكا إلى وسط الفناء وهى تتلفت حولها . ومن هناك ، بعد أن أصبحت على مسافة مأمونة ، راحت تهدد متوعدة باتجاه الحمام :
ـ أبى سكران .
واتجهت إلى أمها .
( 6 )
ظلت لوسيا طوال الصباح مع العجوز كى تطمئن على حالها ، وحينما أنهت حديثها معها بدأت تستعد للذهاب إلى الغابة . فبعد أن نهضت نينكا ، استلقت العجوز مكانها وغفت قليلا ، ولكنها كانت حاضرة وقريبة ، تفتح عينيها عند أية حركة . كان واضحا أنها اليوم أفضل قليلا ، وكان من الممكن الابتعاد عنها دون خوف .
لم تكن لوسيا ترغب بشدة فى الذهاب إلى الجبل ، ولكنها لم تجد ما يشغلها سوى ذلك . لم تكن تقدر على الجلوس طوال اليوم فى البيت . فى البداية ، ودون تفكير ، دعت ناديا للذهاب معها . وافقـت ناديا ، ولكن لوسيا جعلتها تغير رأيها بعد ذلك ، لأنه كان عليها أولا ، أن تتحدث معها وهذا ما لم تكن لوسيا تميل إليه . إضافة إلى ذلك ، بدا لها أن ترك الأم مع فارفارا وحدها أمر خطر ، فهى لا حول ولا قوة لها إطلاقا ، ولا تستطيع أن تقوم بشئ . ولم يكن هناك داع أبدا للاعتماد على الرجلين ، فقد كانا هما نفسهما فى حاجة إلى من يأخذ باله منهما ، كى لا يفعلا شيئا أو يزعجا العجوز . والعجوز لا تطيق السكارى ، وقد تسوء حالتها .
استعدت لوسيا طويلا . كانت تود أن تلبس ما يناسب الغابة وتبدو أنيقة أيضا ، ودون أى مصادفات فى الملابس يمكنها أن تنم عن عدم الذوق . ذلك ليس من أجل الناس ـ فربما لا تصادف أحدا فى الغابة ، ولكن من أجل نفسها ـ حيث تعودت ارتداء الملابس الأنيقة . لأنها تنعكس على حالتهـا النفسية ، وحتى على عملها . كانت لوسيا تؤمن بأن الفشل له عيونه أيضا ، وقبل أن يلحق بإنسان ما فإنه ينظر إليه ـ أى إنسان متماسك هو ، وماذا يساوى ، وكيف يبدو حتى مظهره الخارجى . وقلَّما يقرر الفشل مهاجمة الإنسان القوى الموفق .
وجدت لدى ناديا بلوزة داكنة مناسبة ، ولكنها لم تستطع أن تقرر على الفور ماذا ترتدى معها . أحضرت لها ناديا بنطلونها وحذاءها ، ولكن لوسيا وضعتهما جانبا ـ ذلك لا يناسبها . كم يناسبها الآن البنطلون الذى اشترته خصيصا من أجل السفر خارج المدينة والحذاء السياحى ، ولكن من كان يعرف بأنها ستأتى إلى هنا لجمع الفطر . حينما استعدت للمجئ إلى هنا كانت تفكر فى أمر آخر . والآن ، حينما لم تجد الملابس المناسبة ، صارت مستعدة لعدم الخروج . ولكنها سمعت صوت فارفارا التى عادت من الخارج ، وراحت تتخيل كيف ستظل طوال النهار تدور حولها وتضنى روحها بأنينها وتشكياتها ، فطلبت من ناديا أن تخلع حذاءها الرياضى الذى تلبسه ، فلتذهب فى هذا ، المهم أن تذهب ، لم تكن لديها رغبة فى البقاء بالبيت ، أو رؤية أحد ، أو الحديث مع أحد ـ ولا حتى الإشفاق على أحد أو التعاطف معه . لم تكن تشعر بقرب من نوع خاص بينها وبين أهلها الذين يجب أن تعاملهم بشكل مختلف عن الآخرين ، وكانت تدرك ذلك بعقلها فقط ـ ذلك ما جعلها تغضب على نفسها لأنها لا تستطيع التفاهم أو إيجاد لغة مشتركة معهم على المستوى الداخلى أو تشعر بفرحة اللقاء ، وتغضب عليهم ، وحتى على أمها التى جاءت إلى هنا عبثا بسببها ـ وبالضبط لأنها سافرت عبثا . وكم عليها أن تبقى هنا ، لا أحد يعرف ، يوما ، اثنين ، ثلاثة ؟ وربما أكثر ؟
لكى لا تصادف لوسيا أحدا من أهالى القرية ، تجنبت الطريق ، ودخلت الحارة من خلال الفناء ، ثم صعدت الجبل الأول المجاور للقرية . لقد قررت منذ البداية ألا تتعجل ، المهم بالنسبة لها أن تتجول فى الغابة ، وتستنشق الهواء الطلق ـ وهو ما تقطع من أجله العديد من الكيلومترات أيام العطلة . أما هنا ، فالغابة قريبة ، ولن تسامح نفسها إذا لم تستغل الفرصة المتاحة وتقضى بعض الوقت فى الغابة دون هموم لا داعى لها : ليست هناك ضرورة لاستدعاء سيارة ، أو تأخذ طعامها معها ، ولا داع للضجيج ووجع الرأس ـ يكفى أن تنهض وتسير . والفطر ـ ماذا بخصوص الفطر ! مجرد حجة ، فليس من المستحب فى القرية الذهاب إلى الغابة بدون هدف . إذا صادفت فطرا ـ ستجمعه ، وإذا لم تصادف فليس هناك حاجـة إليه .
راحت تصعد الجبل . توقفت قليلا لتستريح . خُيَّل إليها أن الجبل ، خلال الفترة التى تغيَّبتْ فيها عن المكان ، قد صار أقل ارتفاعا ، وانحدارا . فكرت أن ذلك ربما يخيل إليها فعلا لأنها نمت وكبرت ، وتغيَّرت تصوراتها عن الأحجام : فالذى كان يبدو لها فى الماضى كبيرا وله أهمية ، اتخذ الآن مقاييسه العادية . لا ، لقد أصبح الجبل أقل ارتفاعا بالفعل . وتذكرت لوسيا ، كيف كانوا صغارا يهبطون منه بسهولة حتى مدخل البيت . نظرت إلى العمودين المائلين المتبقيين من البوابة ، وراحت تخمن : لا ، لا يمكن الهبوط الآن حتى البوابة . لكن ماذا حدث للبوابة ، لماذا لم تعد موجودة ؟ نعم ، لم يعودوا يفلحون ويزرعون ، وذلك يعنى أنه لا لزوم لإبعاد شئ أو منعه عن الماشية . الجهات الأربع كلها مفتوحة عن آخرها ، ولم يعد هناك سور أو بوابة خلف النهرين العلوى والسفلى .
عندئذ فهمت لوسيا ، لماذا أصبح الجبل أصغر : لقد قطَّعوه . لم يكن هكذا كبيرا جدا ، بل كان شديد الانحدار ، صعبا . وكان يعيق مرور السيارات . ولعلهم جلبوا آنذاك بلدوزرا . وها هو الأخدود .. يمكن رؤيته بصعوبة من الجانب الأيسر ، هو نفسه الأخدود الذى كان عمقه بطول شخصين ، وكان أشبه بواد ضيِّق تتجمع فيه بصخب وقت الربيع مياه حمراء بتأثير الوحل ، ثم تنحدر نحو أفنية البيوت . وكان صدى صخب المياه يتردد بين حافتى الأخدود . كانت الأمهات يحذِّرن الأولاد ، قبل سماحهن لهم بالخروج من البيت ، بألا يقتربوا من الأخدود ، وبعد ذلك يحذرنهم من ألا يفقأون عيون بعضهم البعض . كان الأخدود بالنسبة للأولاد يخفى بداخله فعلا خطرا مقلقا مجهولا غير ظاهر للعيان . كانوا قد أتوا على جميع الأماكن الممنوعة فى المناطق المحيطة فتسلقوها طولا وعرضا ، ولكنهم حرصوا على عدم الاقتراب من الأخدود رغم أن التوغل فيه لم يكن هكذا صعبا . ففى زمن ما روَّج أحد ما إشاعة تفيد بأن قاعه ليس قاعا إطلاقا ، وإنما مجرد وهم ، وأن تحته فراغ لا قرار له ، قد يؤدى إلى الجحيم . كانوا يتذكرون تلك الإشاعات دائما . ربما لم يكونوا يصدقونها تماما ، ومع ذلك فقد كانوا يتذكرونها .
الآن ردموا الأخدود ، ودكوه جيدا ، ودفنوا كل مارتبط به من مخاوف . وتلاشى أحد الأماكن الغامضة التى كانت تثير لديهم رهبة مخيفة ـ صارت هذه الأماكن أقل وأقل على الأرض .
بعد ذلك ، إلى اليسار خلف الأخدود حيث يَسْوَدُ القرَّاص ، كان هناك فى زمن الكولخوز حفرة للعلف . وبينما كان النهر يفوح بأنفاسه فى الأمسيات الربيعية ، كانت تتصاعد من تلك الحفرة المكشوفة رائحة الحشائش العفنة .
كانوا يجمعون الحشائش عادة أيام الآحاد . كان عملا صاخبا ممتعا : يقصون وينقلون القرَّاص والأعشاب ويلقون بها فى الحفرة ثم ينزلون إليها حصانا يمتطيه أحد الأولاد ، وما يلبث الحصان أن يرتفع براكبه تدريجيا وهو يهرس الأعشاب بقوائمه ، وحول الحفرة يظل الأولاد يعبثون ويعطلون العمل . كان الكبار يطردونهم ، ولا أحد يعرف كيف كانوا يظهرون من جديد حول الحفرة . كم كان فى تلك الأيام من دهشات ومتع ودموع ! وضربات من الرجال المنهمكين فى العمل . وكانت تظهر فقاقيع مؤلمة بسبب القرَّاص الذى يلاحقون به بعضهم البعض ويدسون فى أدغاله المتفرجين الواقفين فاغرين أفواههم لا بهم ولا عليهم . وتذكرت لوسيا : كيف كانوا يفركون الفقاقيع بالتراب ، وبعد ذلك باللعاب ، فتظهر على أثرها من خلال الطين بقع بيضاء . تذكرت أيضا شيئا جعلها تبتسم : كان أترابها يعتقدون أن لعاب كوليا كوماروف هو أفضل دواء شاف للفقاقيع ، بل وحتى كان يأخذ فى مقابله مكافأة ، فكان نصف مراهقى القرية مدينا له . لم يكونوا يفضلون لعاب كوليا لأنه يساعد أكثر من لعابهم ، وإنما لأن اللمسة من شفتى إنسان آخر كان لها تأثيرها الساحر على نحو غريب ، وكأنها لمسة طبيب ، ولم يكن هناك أحد يستطيع أن يفعل ذلك سوى كوليا .
" ولكن أين كوليا كوماروف الآن ، ماذا حل به ؟ " ـ فكرت لوسيا وقررت أن عليها أن تسأل عنه فى البيت . فى زمن ما كان يهتم بها ، ومن يدرى ، لعله كان من الممكن أن ترتبط حياتها به لو لـم تسافر . وفى الحال جاءتها ذكرى جديدة . ولكى تكون قريبة من ذلك المكان الذى ارتبطت به تلك الذكرى ، تقدمت لوسيا إلى الأمام . كان هناك على الجبا ، إلى يمين الطريق ، حقل صغير لا يتعدى هكتارا واحدا ، ولكنهم لم يعودوا يزرعونه حسبما تتذكر ـ كان يتطلب جهدا كبيرا دون عائدا يذكر ، ولذا أخذوا يجمعون فيه أكوام القش فى الربيع . وكانت تلك الأكوام تعانى الأمرين من الأولاد حتى مجئ الشتاء . كانوا يقضون أياما كاملة بداخلها ، يشقون الممرات ويحفرون المخابئ والخنادق . وفى الأمسيات كان الأولاد الأكبر سنا يأخذون فتياتهم إلى تلك الأماكن الجاهزة . ولكن العتمة لم تكن تساعد كثيرا . كان الأولاد الصغار يتسلقون أشجار البتولا المطلة على الأكوام ويحرصون على ألا تفوتهم معرفة من جاء ، ومع من . إضافة إلى ذلك ، كان من عادة الجريئين منهم بمجرد أن يعرفوا مكان الفتى والفتاة ، حتى يقفزوا عليهما من الأعلى ـ كانت تلك تسلية قروية ظريفة ! ولكن فى هذه الحالة كان لابد أن يكون للولد عقل متهور وساقان سريعتان كى لا يقع فى يد الولد الغاضب وينال عقابه .
لم تثر هذه الذكريات الحنين فى نفس لوسيا ، بل أثارت الفضول : كم صار كل ذلك بعيدا وغريبا ، وكأنه لم يحدث معها قط ، وإنما مع شخص آخر قبلها . لم تكن تستدعها ، وإنما كانت تتوارد تلقائيا دون طلب متجاوبة مع ما تراه العينان .
قبل الجبل الثانى ، كان طريق السيارات ينحرف إلى اليسار تفاديا للجبل ـ لم يكن من السهل تقطيعه أو إزالته . سارت لوسيا مباشرة فى الطريق القديم الذى لم يتبق منه سوى درب عميق نمت عليه من الجانبين حشائش طويلة مهملة . مررت لوسيا يدها على السنابل ، فكان الحَبُّ يداعب راحتها ويقع على الأرض مخشخشا . أصبحت الأشجار على الجبل أقل ، وصارت الرؤية الآن ممكنة حتى الحقل . ومع كل خطوة كانت تظهر قرم الأشجار المقطوعة كبيرة وصغيرة والعيدان المُسَوَّدَة المتفسخة ملقاة على مقربة من الطريق . وظهرت ، كما فى كل عمل سئ ، الحشائش كثيفة متشابكة ، وكانت العيدان الجافة تبرز من بينها منحنية كالهياكل العظمية ـ فى الماضى كانوا يجمعونها من الأماكن القريبة لاستخدامها كوقود ، أما اليوم فلم يعد أحد بحاجة إليها . لقد شاهدت لوسيا بالأمس الأشجار المقطوعة المتبقية بعد الشحن على ضفة النهر . وجذوع الأشجار ملقاة بالقرب من كل بيت . اليوم تقطعها المناشير الآلية ـ واحد ، اثنان ، وكل شئ جاهز . لم يعد الأمر كما كان فى السابق ، عندما كانوا يتجمعون للعمل أيام الآحاد . فى تلك الأيام كانوا يتعاونون على العمل الذى تعجز عنه أسرته واحدة بمفردها . وكانوا يأخذون معهم الأولاد لمساعدتهم فى الأعمال الخفيفة . لم تنس لوسيا كيف كانت تحب تكديس الحطب ، كانت تحس بنوع بدائى ساذج من الفرح وهى ترص بانتظام أخشاب الصنوبر الصفراء التى تسر العين بقشرتها الرقيقة الناعمة التى تنمو دائما عند قمة الشجرة . وكان موسم جمع الحطب واحدا ـ الربيع ، كى يتمكنوا من تجفيفه فى الصيف . أما الآن ، فخذ ما تشاء ، وانشر ما يحلو لك من الأخشاب الجافة المتناثرة فى كل مكان .
" لا ، كان هناك شئ ما فى أيام الآحاد تلك ـ تأسَّفت لوسيا بحزن مفاجئ ـ كان الناس يشاركون فيها باستمتاع شديد . ومن لا يُدعَى للمشاركة ، يدرك أن أصحاب البيت لا يعتبرونه قريبا منهم ، وأنه ليس موضع ثقتهم وصداقتهم " .
كانوا يعملون معا بهمة وحماس ، وتتعالى أصواتهم الرنانة وتختلط بأصوات المناشير والبُلَط ، وبِدَوِىِّ الأشجار المتساقطة التى تترك فى النفس وقعا مقلقا ، وبالمزاح والمداعبة المتبادلة ، والانتظار المغرى للوليمة التى تنصرف ربة البيت من العمل مبكرا لإعدادها . كان ذلك هو أول عمل فى الغابة بعد انتهاء الشتاء . لم يكن صعبا ، وكانوا يحبونه . كان الجميع ، كبارا وصغارا ، ينشطون بتأثير الشمس ، والغابة ، والروائح المسكرة المنبعثة من الأرض بعد أن دبت فيها الحياة ، وتنتعش نفوس الشبـاب والكهول ، وتهدأ فقط حينما يحل بهم الإرهاق الشديد . وبدا أنه مع التغير الذى طرأ على الأرض ، تغيرت المشاعر والأحاسيس بطريقة لا يمكن تفسيرها ، وارتبطت بحالة أبعد وأكثر دقة بالنسبة للإنسان ، حالة يستطيع معها أن يسمع ويرى أكثر ، ويميز ، وتنتابه فى إلحاح غرائز فطرية قديمة غير مفهومة تدفعه إلى إمعان النظر وتعوُّد الروائح والبحث عن شئ ما تحت قدميه ، وفى الهواء ، شئ منسى ضائع ، ولكنه لم يتلاش تماما .
كانوا يشربون عصير البتولا بدلا من الماء ، وكان الجسم يتقبله كدواء شاف وينتظر بتأن ويقظة رد فعله السريع . كان الأولاد يجمعون العصير ، والزنابق المبكرة أيضا ، تلك التى كانت بصلاتها الخضراء تذوب فى الفم مثل السكر . وبوجوه ممتعضة ومكشرة ، وفقط من أجل ألا يتمايزوا عن بعضهم البعض أو يتفوق أحدهم على الآخر ، ودون أية حاجة داخلية لإرواء العطش ، كانوا يمصون أغصان الصنوبر . ولم يكونوا يستغنون عن أوراق الصمغ التى كان لابد منها فى مثل ذلك اليوم ، كالبيض فى عيد الفصح ، والتى كان يمضغها الرجال ، وبمجرد أن تلمس لثاهم ، كانوا يبصقونها ويسبون ويلعنون ، ثم يبدأون التدخين .
بمجرد أن خف الانحدار الشديد حتى بدأت على الفور الحقول . خرجت لوسيا إلى مكان مكشوف ، وتلفتت حولها : ما هذا ، هل ضلت الطريق ؟ كيف يمكن أن تضل الطريق على مسافة ثلاث خطوات من القرية ؟ لا ، طبعا لا : ها هى قرية كاسالوفكا ـ الحقول إلى اليسار تؤدى إلى النهر السفلى . نعم ، اسمها كاسالوفكا . وها هو إلى الأمام ، حيث يظهر من أحد الجوانب السياج المتبقى من ساحة الجرن ، المرج القريب فى الغابة ، وخلفه قرية فيشكا . وإلى اليمين ، الطريق المؤدى إلى المرج البعيد . تذكرت لوسيا هذه الأسماء بسهولة ، وكأنها تستخدمها يوميا رغم أنها قبل لحظة واحدة لم تكن تستطيع أن تتذكر حتى أسماء الجزر المقابلة للقرية . اندهشت لوسيا من نفسها : ماذا حل بها ؟ وخيل إليها أن صوتا ـ جاء من العشب أو الريح ـ حمل تلك الكلمات التى تعيش هنا ، إلى أسماعها ، كى تكررها بنفسها .
تقدمت لوسيا ببطء عبر الطريق ، فكانت تعرف أو لا تعرف الأماكن التى تراها . وكان بإمكانها ، لو نظرت من الأعلى أن ترى أمامها كاسالوفكا والمرج القريب ، ومن خلفه فيشكا . وعلى الأرض تجمَّع كل ذلك فى مكان واحد واسع وغريب ومقفر ، لا ترغب العينان فى تصديقه . هنا التقى مرة أخرى الطريق الضيق المؤدى إلى المرتفع مع طريق السيارات الذى زحف فى كل الاتجاهات دون أن يرحم الأرض . كانت الحشائش تملأ الحقول ، ومن الجهة السفلى نمت فيها أشجار الحور الكثيفة سريعة النمو ، وعلى مسافة منها ، بالقرب من المنتصف ، نمت أشجار الصنوبر الفتية ، وفى أماكن متفرقة برزت نباتات القصب . ولم يعد بالإمكان تمييز الحقول عن بعضها البعض ، فقد تشابكت بحيث لا يمكن فصلها ، وتلاشت منذ زمن بعيد رائحة القمح التى كانت تفوح فى مثل تلك الأيام ، وبدلا عنها فاحت رائحة الخليط المتفسخ الذى تنتجه الغابة ، وتصاعدت من الأرض المهملة أنفاس عفونة جافة .
لم تقاوم لوسيا ، وانعطفت إلى اليسار ، وسارت عبر الحقل . كانت الأرض غير محروثة ، ولكنها لم تتحول بعد إلى أرض بدائية بكر ، كانت أكواما رمادية بدت وكأنها ما تزال تنتظر معجزة ما لتعود إلى سابق عهدها وتنبت القمح ، فهى حتى آخر قوة فيها حفظت نفسها لموعد البذار . وبالقرب من الصنوبرات الصغيرات ، حيث تظهر أيضا أشجار الشوح ، كان النمل يسرح ، وهذا يعنى أنه قد عرف بأنه ليس هناك من يزعجه .
كم من الأعوام مرت منذ غادر الكولخوز المكان ؟ سبعة ، ثمانية ، تسعة ؟ شئ من ذلك على وجه التقريب ، لم تكن لوسيا تعرف بالضبط . يمكن القول أن الكولخوز لم يرحل ، بل تلاشى فى مكانه ، نقلوا الآلات التى لم تكن كثيرة ، ونقلوا أيضا شيئا من الأدوات الأخرى ، ولكن الحقول لا يمكن نقلها ، فبقيت فى مكانها ، وبقى الناس أيضا . لم يكن من السهولة الابتعاد عن المكان الذى كانوا يعيشون فيه ، والذى باركته قبور الأقارب ، والانتقال إلى مكان غير معروف . انتقلت فقط ثلاث من الأسر الوافدة ، وعادت واحدة منها مرة ثانية .
كان الكولخوز يسمى " ذكرى تشابايف " . اندهشت لوسيا ثانية لأن هذه التسمية ، التى لم يعد أحد فى حاجة إليها الآن ، قد حضرت فى ذاكرتها بمثل تلك السهولة دون أن تستدعيها ، وبنداء خافت تلاشت فى الحقول . ولو لم تكن لوسيا هنا ، وسط الأماكن المرتبطة بتلك التسميات ، لِمَا استطاعت أن تتذكرهـا أبدا . إلا أنهم بعد رحيلها غيروا اسم الكولخوز ، ويبدو أن ذلك قد حدث أكثر من مرة ، ولكن لوسيا لم تكن تعرف تسمية أخرى .
لم يكن كولخوز " ذكرى تشابايف " الذى كان مليئا بالمشاكل ، محظوظا من ناحيتين . أولا ، لأنه بالقرب منه أقيمت بالقرية تعاونية قطع الأشجار ـ الغنية ، المليئة بالأموال ، وأجورها كما فى الحواديت ، تمنح كل خمسة عشر يوما بانتظام ، فكان الشباب يفرون من الكولخوز بحق وبدون حق . ومن أجل ذلك لم تكن هناك ضرورة للانتقال إلى مكان آخر وتغيير نمط الحياة ، فكل شئ هنا فى نفس المكان . ولم يكن الكولخوز قادرا على الاحتفاظ طويلا بميكانيكى جيد ، حينما يرى هذا الميكانيكى أن أجره سيكون فى تعاونية قطع الأشجار أكثر بثلاث مرات على الأقل . ومع ذلك ، ومن ناحية الاحتفاظ بالعاملين ، كان الكولخوز يحتفظ بهم ، ولكن عن طريق الصراخ والقوانين ، ولكن النتائج لم تكن جيدة .
وبينما كان الكولخوز يقاوم هذه الكارثة ، حلت به كارثة أخرى ـ بدأت عملية توحيـد الكولخوزات ، وضموا " ذكرى تشابايف " إلى آخر بائس مثله ، يبعد عنه ما يقرب من خمسين كيلومترات عبر التايجا . آنئذ لم يعد الأمر مقتصرا على الشباب وحدهم ، بل كاد سكان القرية جميعا ينتقلون إلى تعاونية قطع الأشجار . ووصل الأمر إلى درجة أنه لم يعد هناك من يقدم العلف للماشية . فنقل ذاك الكولخوز إلى نفسه البقر والأغنام ، بينما استمرت زراعة الحقول بعد ذلك ما يقرب من العامين ، وكان يرسل عمالا من عنده للعمل هنا على الرغم من أنهم كانوا هناك قلة قليلة . واستمر يعمل هكذا لفترة إلى أن تم نقل بقية الخيرات إليه ، ثم أهمل الحقول … وها هى تلك الحقول ، وما تبقَّى منها .
أمعنت لوسيا النظر مرة أخرى حولها ، واعتراها فجأة شعور بالذنب ، وكأنه كان باستطاعتها أن تقدم شيئا ما ولكنها لم تفعل . " ما هذا الهراء ـ حاولت التخلص من ذلك الشعور ـ لا ذنب لى إطلاقا . لقد رحلتُ قبل هذه التغيرات بزمن طويل . أنا هنا شخص آخر لا علاقة له بكل ذلك " . وفكرت أن هذا الشعور يجب أن يكون أقوى لدى القرويين الذين تركوا أراضيهم من أجل الغابة وعليهم أن يتعذبوا منه إذا كانوا قادرين على العذاب ، أما هى فقد جاءت إلى هنا بالصدفة ، وربما لن تأتى ثانية . ورغم ذلك تلاشت تلك الثقة التى انطلقت بها إلى الغابة ، وتعكر مزاج النزهة المَرِح . لكن كيف ، وما السبب ، فهذا ما لم تتمكن من فهمه . لقد ندمت لأنها لم تبق فى البيت ، ولكنها لم تكن تستطيع العودة حتى لو أرادت ذلك ، كانت تقودها قوة خفية رغم إرادتها ، وقد خضعت لها ، وها هى تنقل خطواتها باستسلام . وعند أخدود قديم بين حقلين ، قررت الجلوس على جذع أبيض لاح لها من بعيد ، وأصبح أصقل بفعل الشمس والمطر . أرادت أن تستريح وتهدأ ، ولسبب ما لا تعرفه تخطت الجذع ، وتابعت سيرها . التفتت إلى الوراء وفكرت أن تعود ، ولكنها كانت تعرف أنها لن تفعل ، وأنها ليست حرة الآن فى أن تفعل ما تريد .
فاجأتها الأفكار ، وفكرت أن عليها أن تشعر بالمرارة ، بمرارة أشد مما تشعر ، لأنها ترى هذه الأرض المهملة لأول مرة بعد أن عرفتها فى حال أخرى . ولكنها لم تشعر لا بالمرارة ، ولا بالألم ـ كان هناك شعور بالضياع يتحول تدريجيا إلى قلق مرعب بدا وكأنه ينتقل إليها من الأرض ، تلك الأرض التى تذكرتها وتنتظر حكمها الأخير ، وقرارها ـ فهى بالذات ، لوسيا ، كانت هنا مرات عديدة ، وعملت هنا أيضا . " عملت أيضا " ـ كررت مبررة ، وعندئذ فقط أدركت فى دهشة ماذا تعنى هذه الكلمات .
لقد أجبرتها على التوقف وإمعان النظر فيما حولها مرة ثانية . راحت تدير عينيها ببطء على كل شئ أمامها ، ثم إلى أعلى ، ثم على السماء ، وهى تعرف أو لا تعرف عما تبحث ، وحولت بصرها إلى الأسفل .. نحو الحرش الصغير وقد أخفى خلفه حقلا صغيرا يمتد حتى النهر السفلى . ذلك ما اختارته الذاكرة من كل ما عداه . استعجلت لوسيا ، خالجها إحساس بالرهبة من أن يكون الحقل قد غطته الأعشاب تماما ، ولن تتعثر عليه ، استعجلت وكأن هذه الدقائق قد تقرر شيئا . إنها تذكر أن هناك طريقا إلى هذا الحقل فى مكان ما فى الأسفل ، ولكن بدا لها أن النزول إليه بعيد ، فمشت عبر الغابة مختصرة الطريق . أرادت فى البداية أن تختلس نظرة سريعة من بعيد إلى الحقل ، وأن تتأكد ، هل هو الحقل المقصود فعلا ، ألم تخطأ ، وماذا حل به . ولكن السير فى الطريق يعنى الكشف عن نفسِك مسبقا . لم يعد يغادرها الإحساس المزعج بأن أحدا يراقبها منذ البداية ، ويتعقب كل خطوة من خطواتها ، فحاولت الاختباء والابتعاد عن المكان المكشوف .
وأخيرا انكشف كل شئ أمامها . رأت لوسيا الحقل ـ هو نفسه ، وأخذت تنظر إليه من خلف الأشجار . الحد العريض القديم لا يزال فى موضعه ، إلا أنه صار أشبه بممر طويل لم تسمح تربته الصلبة الملتفة بالحشائش بنمو بذور الأشجار ، بيد أن غابة حور كانت تمتد هناك خلفه مباشرة . وفى الأرض الخالية من أشجار الحور أسفل المرتفع ، بدا كالأعجوبة ، حقل صغير مزروع ـ أعجبت أحد مـا الأرض هنا ، فزرع بطاطس . لقد اصفرت أوراقها تحت الشمس أكثر مما هى عليه فى القرية ، ولكنها لم تسقط . كانت حقلية واطئة أشبه بعيدان مثبتة بالأرض دون شئ تحتها ، وظهر كل ذلك بسبب عدم اعتياد رؤية البطاطس هنا .
تعود الذكريات ، التى قادت لوسيا للحضور إلى هنا ، إلى سنوات المجاعة بعد الحرب . ربما إلى عام ستة وأربعين ، أو سبعة وأربعين . فى الربيع قبل البذار ، أرسلوا لوسيا كى تحرث هذا الحقل ، ولكن المطر كان قد هطل قبلها مباشرة ، والأرض كانت لا تزال طرية ، وكان الطين يعلق بالمحراث فينزلق كما لو كان يتحرك على سطح جلدى . كان من الأفضل ، بالطبع ، الانتظار حتى تجف الأرض ، ولكنهم لم يستطيعوا الانتظار ، أو لعلهم لم يكونوا راغبين فى ذلك . فى تلك الفترة كان الحقل قد نال فترة مـن الراحة ، ونمت فيه الحشائش بكثافة وكانت حشائش العام المنصرم تعلق باستمرار بأسنان المحراث ، وتجعلها تنزلق فوق التربة ، مما يضطرها إلى قلبها وتنظيفها . كان الحصان الذى جاء من نصيب لوسيا عجوزا ضعيفا . وكانت الخيول جميعا فى ذلك الربيع تجر قوائمها بصعوبة ، إلا أن هذا الحصان كان أشبه بظله لا أكثر .
ومرة أخرى سمعت لوسيا الكلمة اللازمة تتردد بداخلها " إجرينكا " . كان اسم الحصان ، إجرينكا . مع تلك الكلمة التى لا تزال تتردد فى مسامعها ، أصبحت الذكريات أتم وأكثر وضوحا . رأت لوسيا بجلاء أمام عينيها الحصان الأشقر ذا العرف الفضى وعلى جبينه النجمة الفضية ـ كان نحيلا لدرجة بدا معها أن حوافره قد نشفت تماما ، ورأت نفسها خلفه ، فتاة نحيلة فى ملابس بالية ، تهز اللجام وتقفز على قدم واحدة وهى تحاول بقدمها الثانية أن تغرز أسنان المحراث فى الأرض . وكانت تترك خلفها أثرا متعرجا غير مألوف .
كانت عظام ظهر إجرينكا تتحرك مع حركة قوائمه : إلى الأمام ـ إلى الخلف ، إلى الأمام ـ إلى الخلف . كان يسحب المحراث أثناء النزول ، ولكن بعد أن استدار وبدأ السير فى الاتجاه المعاكس توقف ما يقرب من عشر مرات قبل الوصول إلى الحد العلوى . وراح ينقل قوائمه بصعوبة ويشَخِّر . لم ترغمه لوسيا على التعجل ، وعندما يدركه الإرهاق تماما تبدأ هى فى تنظيف المحراث ، وبعد ذلك تلمسه باللجام فى جنبه . كان إجرينكا يستجمع قواه قبل أن يتقدم ، لأنه لم يكن قادرا على الحركة من مكانه فورا ، وغالبا ما كان يميل جانبا : فى الصعود كان يسير مغمض العينين ـ ربما لكى لا يرى كم بقى حتى نهاية المرتفع . لقد تعبت الفتاة معه فى ذلك اليوم ، تعبت من الحشائش والطين ، وخارت قواها مثل إجرينكا تماما ، وشعرت لوسيا الآن فجأة بما كانت عليه حالها فى ذاك الوقت ، وانقبضت . أحست بتعب وعجز شديدين ، فجلست على العشب قبل أن تصل إلى الحقل .
وأخيرا تعثَّر إجرينكا ووقع . فزعت لوسيا . وراحت تشد الرسن دون جدوى ، أمسكته من اللجام وأخذت تشد رأس الحصان إلى أعلى ـ كان يهز رأسه ويضعه على الأرض . راحت لوسيا تصرخ فى إجرينكا . لم تصرخ من الغضب بقدر ما صرخت من الفزع . وبسبب فزعها أخذت تضربه على جنبـه الغائر . بدأت الرعشة تسرى فى جسد الحصان ، ولكنه لم يقم حتى بمحاولة للنهوض . نظرت لوسيا حولها وابتعدت عنه ، ثم هرعت إليه وحاولت رفعه من أسفل ، وراحت تخربشه بأظافرها فى الجنب الذى وقع عليه ، وتشد جلده الرخو عبثا . وعندئذ انطلقت لوسيا إلى القرية .
كانت أمها والحمد لله فى البيت . ركضتا مسرعتين إلى إجرينكا الذى كان لا يزال مطروحا على الأرض . كان راقدا على بطنه وقد أحنى قائمتيه الخلفيتين من تحته والأرض منبوشة من حوله ـ يبدو أنه بإحساسه بالكارثة حاول النهوض بدون لوسيا ، ولكنه لم يستطع . والآن هدأ واستسلم وقد داعبته سكينه ما انتقلت إليه عبر الأرض . جثت الأم أمامه على ركبتيها ، وراحت تمسِّد رقبته النحيلة السقيمة . وأخذت تردد :
ـ إجرينكا ، ماذا فعلت ، يا إجرينكا ؟ إيه ، أيها الأحمق . ها هى الحشائش على وشك الطلوع ، وأنت تريد أن تنفق . بقى أن تتحمل أسبوعا واحدا لا أكثر ، وستعيش . ستجد ما تأكله فى كل مكان . انتظر ، يا إجرينكا ، لا تستسلم ما دمت قد تحملت الشتاء . الرب نفسه يأمر أن تتحمل ، لم يبق إلا القليل . لقد تحمَّلنا الحرب معا وليس الشتاء وحده . الحرب كلها أيها الشجاع ، كنت تسحب الجذوع فى تعاونية قطع الأشجار ، فهل يمكن مقارنة هذا العمل بذاك ؟ كنت تجر وتتحمل . هنا أيضا تستطيع أن تتحمل كالعادة . لقد أصبح التحمل من طبعى منذ زمن بعيد .
استدار الحصان نحوها بوجهه الحاد مثل المنقار ، ومد خطمه إلى يديها .
قالت الأم فى فزع :
ـ لا شئ لدىَّ ، لا شئ ، يا إجرينكا . لم أجلب لك شيئا ، يا لى من حمقاء . إنه يفهم كل شئ رغم إنه حصان . نعم ، إجرينكا يفهم كل شئ ـ كانت تربت على وجهه ، وتمسح على عرفه الأشعث ـ لقد فهم أمور كثيرة لا يفهمها الإنسان . فى السنة ما قبل الماضية حينما كسر جذع شجرة ساق إجرينكا ، وأرادوا ذبحه ، مَنْ الذى ركض على ثلاث قوائم إلى التايجا ؟ إجرينكا طبعا . ولم يخرج من الغابة إلى أن التأمت عظامه ، وظل بعد ذلك يعرج لفترة طويلة . لم أسلمك لأحد ، كنتُ أنقل عليك الماء إلى مصنع الألبان وأنت تعرج ، ولكى لا أثقل على ساقك لم أكن أملأ القربة إلى آخرها .
رفع الحصان رأسه وصهل برقة وإحساس بالذنب . ربتت الأم على رقبته ، فصهل استجابة للملاطفة ، وحرك قائمتيه الخلفيتين مرة ثانية .
ـ انتظر ، يا إجرينكا ـ أخذت العجوز تنزع عنه السيرين فى عجلة ـ انتظر ، الآن ، الآن ستنهض ، كفاك رقادا ، لقد ضجرنا ـ كان إجرينكا يدير رأسه فى اتجاهها ويرتجف فى نفاذ صبر وخوف بسبب ضعفه . وعندما أمسكته الأم من اللجام ، ألقى بقائمتيه الأماميتين بقوة إلى الأمام ، ولكنه ألقى بهما بعيدا بشكل غير ملائم ، مما اضطره إلى سحبهما . لملم قواه ، وتشنج رافعا قائمتيه الخلفيتين ، ولكنه لم يستطع ، فعاد إلى الجلوس . بعدها حوَّل رأسه عن الأم وصهل من جديد . كان صوته مفعم باليأس : لا أستطيع ، أنتم ترون بأنفسكم ، لا أستطيع . راحت الأم تخفف عنه :
ـ انتظر يا إجرينكا . انتظر ، استرح قليلا ، لا تتعجل . آه منك ، تريد النهوض دفعة واحدة . جلست وهذا جيد ، والآن ستستريح وتنهض . لا عليك ، لا عليك ، آه يا إجرينكا ، إجرينكا .
نظرت الأم فى لوم إلى ما فعلته لوسيا :
ـ كان عليكى أن تحرثى بالطول ، وليس بالعرض . حتى الحصان القوى لا يتحمل مثل هذا الصعود ، فكيف هو …
ـ آى نعم ، مرتفع صعب .
ـ عليك أن تعملى بتمهل ، فليس هناك أحد يطاردك . الأرض هى نفسها ، بالعرض أو بالطول . لن تزداد أو تنقص .
ناولت لوسيا المقود ، واقتربت من جانب الحصان ، ثم ربتت على ظهره وأمسكته من الأسفل . فقام إجرينكا بنقل قائمتيه الأماميتين ، وكأنه يبتعد عن المكان الذى أوقعه ، ومد قائمتيه الخلفيتين ، وبآخر قوة يائسة استطاع أن يقيمهما وينهض تماما . راح يترنح على قوائمه الأربع ، ولكن الأم ساعدته محتضنة إياه من ظهره وهى تتمتم فى فرح :
ـ أ رأيت ، أ رأيت ، لقد قلتُ لك . وأنت أردت أن تهلك نفسك ـ أ ليس هذا حراما ؟ من سيسمع بهذا سيضحك منك ، ويقول أنك تزوِّغ من العمل . فأى مزواغ أنت ، يا إجرينكا ؟ يا إلهى ، أى مزواغ ؟ لو وقعت ناموسة على ظهرك ، ستقع ، وهذا كل شئ يا مزواغ . فهل تستطيع أن تعمل الآن ؟ هيا أيها المزواغ ، هيا .
أمسكته من المقود وشدته خلفها . تمايل الحصان وتحرك من موضعه ، ولكنه توقف فى الحال ، ثم تابع سيره وكأنه يخشى الوقوع مرة أخرى .
نهضت لوسيا نافضة ثيابها وراحت تنظر مرة أخرى إلى مزرعة البطاطس الموجودة وسط الحقل ، وكأنها تريد التأكد من أن كل ذلك لم يحدث الآن فى هذه اللحظة ، وإنما منذ زمن بعيد ، منذ أكثر من عشرين عاما . وبمجرد أن تحررت من صورة إجرينكا الماثلة أمامها حتى أخذت تصعد إلى أعلى ببطء ، ومن نفس المكان الذى نزلت منه ، ولكن الذكريات لم تفارقها . بدا لها أن هناك شيئا لم تتمكن من فهمه فى تلك الذكريات التى لم تتوارد عليها كى تظهر فقط كم كان ذلك قاسيا ومريرا ، وإنما حضرتها بمعنى ما مبهم لم تدركه . شعرت لوسيا بالأسف وعدم الرضا لأنها خضعت لإحساس غريب أثار خوفها وعذابها ، وقررت أن تسير بسرعة كى تتحرر من هذا الشعور .
" لقد عملت أيضا " ـ مرة أخرى ترددت تلك الكلمات التى دفعتها منذ نصف ساعة للبحث عن هذا الحقل . نعم ، عملت مثل الجميع ، حصدت وجرَّفت وحرثت وعزقت وجنت ـ لم يكن العمل قليلا فى الكولخوز ، وخصوصا فى تلك الأعوام عندما كان الناس فيها قلة . " وحرثت أيضا " ـ تذكرت ذلك وكأن أحدا ما أضافه إلى ذكرياتها . لقد حرثت الأرض فعلا ـ كيف نسيت ذلك ؟ فى الحقيقة لم تحرث سوى يومين . كانت تستطيع الإمساك بالمحراث والسير خلفه ، ولكن لم تكن تكفيها القوة لنقله من خط إلى آخر . لقد نشأت ضعيفة ، وبدأت العمل متأخرة عن أقرانها ـ فى الأعوام الأخيرة فقط من الحرب . قبل ذلك كانت الأم تشفق عليها وتبقيها فى البيت مع تانكا ، مع تانشورا التى تعيش الآن فى كييف .
" لو تصل تاتيانا اليوم " ـ سعدت لوسيا بالتفكير فى شئ آخر . فالأم لن تدع أحدا يهدأ دونها : تانشورا .. تانشورا . إلى جانب ذلك سوف يصبح معروفا كيف سيكون حال الأم ، فهى الآن لا تنتظر سوى تانشورا .
انتهت الغابة وخرجت لوسيا إلى الحقول التى تميل نحو الارتفاع . وهنا ، فى المكان المكشوف ، امتد باتساع نهار دافئ وصاف ، كان الهواء فيه يبدو عن بعد وكأنه يداعب أشعة الشمس ويبعث برنين خافت من الصعب سماعه ، وبدا هذا الرنين العلوى المبهم وحيدا منفردا لا شئ هناك غيره . وفى الأسفل ، على وقع خطوات لوسيا ، هدأ كل شئ واختفى . لم تكن الأرض تتجاوب تحت قدميها ، كانت متحجرة ، صماء . وبدت الغابة فى المرتفع تتحرك وتتنفس بخار البتولا الأبيض الذى لا يكاد يلحظ ، والذى يتصاعد من مخلفات الخريف الناضجة ، من الدفء والشبع . كانت السماء خلف الغابة تنحدر بهدوء واستقامة نحو الأسفل ، إلى ما وراء الأرض . كانت عالية خفيفة ، ولكن زرقتها تميل إلى البياض ، وبدت السماء أقل تعبيرا وبان فى غموضها وهن وضعف .
فى الحقل انحرفت لوسيا إلى اليسار باتجاه النهر . كانت تخطو بحذر مثل المتسللة رغم أنها كانت مرئية جيدا من جميع الجهات . لابد من وجود طريق هناك فى مكان ما . وقررت لوسيا أن تلف لتصـل إليه ، حيث السير فى الطريق أكثر أمانا .كانت تعرف جيدا أن لا شئ يثير الخوف هنا ، ولكنها مع ذلك لم تستطع التخلص من إحساس غريب بأن أحدا ما يراقبها . لم يكن مجرد إحساس ينذر بما يمكن أن يحدث فيما بعد ، وإنما كان إحساسا مرتبطا بالماضى على نحو غريب ، بذكريات ضائعة أصبحت لوسيا تتحمل مسؤوليتها الآن . وخيل إليها أن مجيئها إلى الغابة كان مجرد تلبية لنداء أخرق ، وأن هناك شئ ما أغواها بالمجئ إلى هنا . ولكنها لم تستطع العودة الآن ـ لأنها لو فعلت لأمكن أن يحدث ذلك الشئ الذى أغواها بالخروج من البيت ، سيحدث على الفور وفى نفس المكان . ولكنها بفزعها هذا أجَّلَت حدوثه وسحبته خلفها أبعد وأبعد .
على أية حال وجدت الطريق ، ولكنها مع ذلك لم تهدأ . قاومت رغبتها فى الانطلاق عبر الطريق إلى الأسفل ، والركض ، الركض بكل قوتها إلى القرية ، وسارت إلى أعلى فى بطء وكأنها تجرب الطريق : هل أمين ومتين . لا ، لن تستطيع الركض ، لم تعد قادرة على ذلك . كان الطريق مهملا ، متحجرا ، وبدا الهواء فوقه جافا تماما ، وسرعان ما شعرت لوسيا باختناق أنفاسها . فكرت أنه من الأفضل أن تسير عبر الحقل ، ولكنها لم تخرج عن الطريق ، لم تستطع أن تبتعد عنه خطوة واحدة ، وكأنها تحت تأثير قوة خفية لا يمكن عدم الرضوخ لها . أدركت لوسيا أخيرا أنه كان عليها ألا تسير من هذا الطريق ، فهو بالنسبة لها الآن ـ أشبه بممر ضيق طويل بأسواره العالية الشفافة ، تلك الأسوار التى لا يمكن تخطيها أو الإفـلات منها ، وأن هذا الممر سيوصلها إلى شئ ما غير متوقع ، وربما إلى شئ مرعب . كانت الحجارة الحادة تدمى قدميها من خلال الحذاء الرياضى ، ولكنها لم تهتم بالألم . كانت مشغولة تماما بألا يفاجئها خطر آخر أشد وطأة .
سارت وسارت ثم توقفت : فى وسط الطريق ظهر أمامها ، كالقنفذ ، عش للنمل . ظلت لفترة طويلة تنظر مندهشة إلى تلك الكومة الحية المتحركة : لماذا ذلك النمل هنا ، فى منتصف الطريق وليس فى طرفه ؟ كيف ستمر ؟ ماذا تفعل ؟ ربما تستطيع الآن العودة إلى البيت ؟ التفتت ، ولكنها لم تر شيئا خلفهــا ـ كان كل شئ مغمورا بالشمس ، وكان نورها يبهر بصر لوسيا . مدت يديها فى حذر كى لا تصطدم بالسور وخطت بجانب عش النمل نحو الطريق ، وداخلها السرور لعدم حدوث شئ ، وإلى درجة جعلتها تبتسم .
" ماذا حدث لى ؟! " ـ لامت نفسها ـ كيف ضعفتُ هكذا ؟ هل يمكن أن يحدث لى شئ هنا ، حيث أعرف كل بقعة على مسافة كيلومترات كثيرة حولى ؟ يا لها من سخافة ! خرجتُ للتنزه ، لاستنشاق الهواء العليل ، وفجأة أستسلم لرعب طفولى سخيف . الأعصاب هى السبب ، يجب معالجتها . سأصل الآن إلى الأرض البور ، وسأجمع الفطر وأعود إلى البيت . كا شئ هنا قريب من نفسى ، فهل يمكن أن أخاف شيئا هنا ؟ أية حمقاء أنا ؟
تابعت طريقها بمرح وهى أكثر ثقة بنفسها . لم يبق حتى الغابة ألا القليل .
وفجأة ، رغم ثقتها هذه ، اخترق الهواء صراخ طويل ، عال وبعيد جدا ، ولكنه ما يـزال مسموعا .
ـ مينكا ـ آ ـ آ !!
ارتجفت لوسيا وجمدت . كان هذا صراخها . لقد عرفته . استدارت برأسها إلى اليسار فى بطء شديد وكأنها تنوء تحت حمل ثقيل : كانت شجرة بُطْم الشمال لاتزال فى مكانها المعتاد وسط الحقل . فى يوم ما أشفق عليها أحدهم وابتعد عنها بمحراثه ، فانتهزت الفرصة ونمت بكثافة ، وشغلت مكانا من الأرض المحروثة وراحت تعطى محصولا . انصاعت لوسيا لرغبتها العفوية البدائية وخطت نحوها ، ودون أن تدرى خرجت عن الطريق الذى انفتح أمامها . لم تندهش لوسيا ، لقد فهمت أنها ليست هى التى تختار وجهة سيرها ، بل توجهها قوة ما خارجة عنها ، تعيش هنا فى تلك الأماكن وترغمها على الاعتراف .
كانت شجرة البُطم منهوبة تماما . الأغصان المقطوعة الجافة ملقاة على الأرض ، والأغصان الحية ذات الخضرة النادرة بخيوط العنكبوت المتدلية تبدو مشوهة : نزعت منها أفضل الأغصان وأقواها ، ولم يبق سوى عيدان صغيرة نحيلة تنمو على الجوانب ويمكن الوصول إليها باليد . أما فى الوسط فقد نزع كل شئ ، ولم يبق إلا الجذوع العالية العارية التى تصل إلى صدر الإنسان ، وقد انحنت عنها الأغصان السليمة القليلة . كانت هناك ما تزال بعض الثمار العالقة . قطفت لوسيا بعضها ، فكانت طرية حلـوة منعشة ، مثلما كانت آنذاك ، لها طعم النعناع ، وعبر تلك السنوات الطويلة انهال النداء من جديد على لوسيا وجعلها تنقبض . تلفتت حولها فى فزع ـ لم تر أحدا ، ورغم ذلك اختبأت ، تحسبا لأى ظرف ، خلف الشجرة خشية أن يراها أحد من جهة النهر السفلى .
حدث ذلك أيضا بعد الحرب مباشرة ـ لم تكن الحياة قد استقرت بعد تلك السنوات الأربع اللعينة ، وكان الشر ما يزال يبرطع بقوة : مجاعة ، سلب ، نهب ، محاكمات ، دموع . وللصيف الثانى علـى التوالى ، كان المعتقلون يهربون على طول النهر من معسكرات الاعتقال فى الشمال ، ويشيعون الرعب فى القرى الصغيرة : هنا ذبحوا بقرة ، وهناك اغتصبوا امرأة ثم قتلوها ، هنا نهبوا مخزنا ، وهناك خدروا أسرة بكاملها ونهبوا ما فى البيت حتى آخر قشة . كان الرجال يقومون بالحراسة ليلا فى بعض الأحيان ، ولكن الهاربين كان يرتكبون جرائمهم فى الأماكن التى لا ينتظرهم فيها أحد . قبضوا ، فى الحقيقة ، على شخصين فى مكان ما من أسفل النهر . وتذكرت لوسيا أنها رأت كيف أحالوهما إلى مركز الناحية . كانا يجلسان فى عربة واحدة ظهرا لظهر ، مقيدى اليدين ، طويلى اللحية ، غاضبين ، ينظران إلى الأهالى بتحد وإنهاك .
كان المعتقلون يهربون فى بداية الصيف ، وعند نهايته تقل أخبارهم ، فتهدأ حياة القرية من جديد وتنطلق النساء بلا خوف إلى الغابة ، ويعبرن النهر للعمل فى الكولخوز ، أو لأى سبب آخر . وكأنما كان للهاربين موسم محدد بمجرد أن ينقضى حتى ينتهى الخوف منهم .
فى شهر أغسطس ، بالقرب من منتصفه ، أرسلت الأم ميخائيل ولوسيا إلى تلك الشجرة . ويبدو أنها لاحظتها قبل ذلك بأزهارها الكثيفة ، ثم تفقدتها ودهشت : فى تلك السنة كان محصول ثمار البُطـم سيئا ، إلا أن هذه الشجرة كانت مثقلة بثمارها . سنابل القمح الطويلة كانت تحجب رؤية الشجرة عن الطريق ، والأغصان منحنية حتى الأرض بثمارها ـ لذا لم يلحظها أحد ، وبقيت كما هى ونضجت ثمارها تماما .
كان فى قطفها متعة حقيقية ، ورغم أن ميخائيل لم يكن يحب قطف الثمار ، وتكرار نفس الحركات آلاف المرات ، إلا أنه اندفع هنا إلى العمل بحماسة شديدة . كانت الثمار كبيرة : عناقيد طويلة خالية من الأوراق ـ وكلا ما هناك هو أن تضع يدك تحتها . كان ميخائيل يجر الدلو خلفه . أما لوسيا فعقدت طرف ثوبها ، ولم تكن تفرغه إلا حينما تشعر بثقل الثمار على بطنها ، فتتزايد الثمار دفعة واحدة فى الدلو بمقدار حفنة ، وربما أكثر . كان من الممتع إفراغها من خلال اليدين وكأنها تيار ماء بارد عذب ، ورغم أنها طرية متأخرة ، إلى أنها لم تكن ذابلة ، فكانت كل ثمرة تستقر بجانب أختها . وخلال ما يقرب من الساعتين ملأ ميخائيل ولوسيا دلوهما حتى النهاية ، ومع ذلك لم يقطفا سوى نصف ما كان على الشجرة من ثمار .
ذهبا إلى البيت وقررا العودة . لم يكونا يريدان ترك الثمار لليوم التالى . الآن بعد أن عرفا الطريق إلى الشجرة ، خيل إليهما أنه من السهل أن يعثر عليها أى شخص آخر . بعد الغداء صار الطقس حارا . استسلم ميخائيل للكسل وصعد المرتفع بصعوبة متأخرا كثيرا عن لوسيا التى لم ترغب فى انتظاره وصعدت وحدها إلى تخم صغير غير مرئى بين سنابل القمح حيث كانت شجرة البُطم . لم يبق للوصول إلى الشجرة سوى عشرين خطوة ، أو أكثر بقليل . وفجأة تحركت الشجرة وقفز منها إلى الأرض ، كالشبح ، رجل غريب مخيف يرتدى قبعة شتوية ذات أذنين مرفوعتين إلى أعلى . كانت رؤية القبعة وحدها كفيلة بإثارة الرعب فى مثل ذلك اليوم الصيفى الخانق . كان ذلك غير متوقع بحيث جمدت لوسيا فى مكانها ، وبدلا من أن تهرب ، وقفت بلا حراك . ضحك الرجل بعصبية ونفاذ صبر ، وسرور ، وأشار إليها بإصبعــه أن تقترب . كان أمامها متسع من الوقت لرؤيته جيدا : قصير القامة ، عريض المنكبين ، بوجه أسود غير حليق ، مما يجعل من الصعب تحديد عمره ، وكانت عيناه بلونهما غير المحدد أيضا تطلقا شررا أبيض جنونيا .
هنا ، هنا بالضبط وقف بحذائه الطويل مبعدا ساقيه فى وقفة مريحة ، واثقا بأنها لن تستطيع الإفلات منه ، إلى درجة أنه سمح لنفسه أن يلعب معها لعبة القط والفأر ، ويتسلى معها كى يكون فوزه فيما بعد كاملا ـ قبل الظفر بها . وراح يؤجج الجوع فى نفسه . ومن جديد عاشت لوسيا كل ذلك اللقاء . اعترتها رجفة ، نظرت حولها ، وابتعدت عن الشجرة نحو الحقل ، ولكنها تذكرت أنها لن تستطيع بأى حال من الأحوال مغادرة المكان ، ولن يدعها هو أن تذهب .
تراجعت لوسيا حينما ضحك الرجل وبدأ يلوِّح لها بإصبعه . عبس ، وأنزل يديه : ما هـذه الألاعيب ؟ تراجعت أكثر فأكثر . لم يعد قادرا على التحمل ، وراح يقترب نحوها فى حذر وكأنه يحرص ألا يخيفها ، وعلى وجهه المتشنج من الانفعال ظهرت ابتسامة قصيرة قاسية . وأخيرا انطلقت لوسيا هاربة .
قفزت إلى الطريق وأخذت تهبط راكضة إلى القرية . ولكن الرجل الذى كان قد تأخر عنها فى الحقل ، حيث غاص حذاؤه فى الأرض الطرية وتعثر بسنابل القمح ، استطاع اللحاق بها الآن ـ كانت تسمع أنفاسه وشخيره خلفها . كادت تفقد عقلها من الفزع . ركضت مسرعة وهى تلوِّح بالدلو فى الهواء . كان الرجل على وشك الإمساك بها ، ولكنها استطاعت الابتعاد فى آخر لحظة وتركت الدلو ـ فتدحرج خلفها بصخب فوق الطريق .
ـ مينكا ـ آ ـ آ !
صرخت لوسيا ، وعلى الفور رأت أخاها أمامها . كان يسير متمهلا ، متهاديا ، وعندما سمع الصراخ توقف تماما ، ولكنه فى اللحظة التالية انطلق للقاء لوسيا . رأى الرجل ميخائيل فأبطأ فى الحال ، لم يكن يتوقع أن يلقى أحدا آخر هنا وارتبك . تجاوزت لوسيا ميخائيل ، ولم تتوقف إلا بعد أن ابتعدت مسافة آمنة . أجبرها الخوف على أخيها لأن تتوقف ، وراحت تصرخ مرة أخرى . واستطاع الرجل أن يميز أمامه صبيا صغيرا ، وبدأ يتقدم نحوه متسللا بخطوات تحمل معانى السخرية .
ـ مينكا ـ آ ! اهرب ! اهرب ! مينكا ـ آ !
تناول ميخائيل حجرا من الأرض واستجمع قواه . قرفص الرجل بسرعة وكأنه يستعد للوثب ، فتراجع ميخائيل مرتدا إلى الخلف . أطلق الرجل ضحكة شريرة متقطعة . حاول إفزاع ميخائيل ثانية ، ولكن الولد لم يتحرك من مكانه . كان يضغط الحجر بقبضته وينتظر . لحظتها اندفع الرجل نحوه فعلا ـ اندفع وسرعان ما انعطف جانبا متعمدا السير على قدم واحدة ، وبدا بمظهر القوى الذى لا يريد أن يشغل نفسه بأشياء تافهة ، وركض عبر الحقل باتجاه النهر السفلى . أراد الاختفاء قبل فوات الأوان ، فقد كانت لوسيا تصرخ بأعلى صوتها .
وكما علا الصراخ فجأة ، انقطع فجأة أيضا ، وأشاعت الشمس على المكان كله ، وعلى مسافة بعيدة ، هدوء صاف مرح . فطنت لوسيا إلى أنها تستطيع الآن متابعة سيرها ، حيث كانت الذكريات قد انتهت . تحركت من مكانها بثقل وكأنها مجبرة على ذلك ، وتوجهت إلى هناك ـ نحو الأرض الفضاء لتجمع الفطر . كانت تفكر فى الفطر كمخرج ضعيف ، ولكنه ممكن : إذا قطفت ولو واحدة حتى وإن كانت صغيرة جدا ، سيبقى أمل فى أن يمر كل شئ بسلام . ولكن ما الذى يجب أن يمر بسلام ؟ ولِمَ هى خائفــــة ؟ لا تعرف . لا تعرف شيئا . كانت خائفة حتى من التفكير فى ما إذا كان عليها أن تخاف شيئا هنا . ، وخيل إليها أن أحدا ما قد يسمع أفكارها ، ويفسرها بشكل غير صحيح . تعبت وتعثرت خطواتها ، ولكنها تعبت ليس من السير ، فهى لم تسر سوى مسافة قصيرة ، ثلاثة أو أربعة كيلومترات ، وإنما تعبت من شئ آخر أكثر أهمية وخطورة ـ ربما من الذكريات ، من تلك الذكريات شديدة الوضوح ، التى بدت وكأنها اتفقت على مرافقتها اليوم فى كل خطوة ، وإرغامها على أن تعيشها من جديد ـ من أجل هدف خفى خاص بها . خيل إليها أن الحياة عادت إلى الوراء ، لأنها هى ، لوسيا ، قد نسيت شيئا ما هنا ، نسيت شيئا مهما جدا وضروريا لها لا يمكنها العيش بدونه ، ومع تكرار الذكريات البعيدة لم يختف الماضى أبدا ، بل ابتعد جانبا كى يرى ماذا حل بها بعد هذا التكرار ، وماذا زاد عليها ، وماذا نقص منها ، وهل تجاوبت مع ذكرياتها ، أو تلاشت تلك الذكريات إلى الأبد ـ ها هى قد حاصرتها وما زالت تلاحقها : من اليمين كان إجرينكا يترنح من الجوع ، وبآخر ما تبقى لديه من قوة يجر خلفه المحراث عبر طين الربيع ، ومن اليسار ذلك الرجل الغريب الرهيب فى قبعته الشتوية يقفز من فوق شجرة البُطم ، وهناك المزيد والمزيد .
توقفت لوسيا . غير صحيح . لا يوجد أحد هنا ، لا يوجد أى إنسان يمكنها أن تخشاه . هـى وحدها . كان ذلك الخوف سخيفا تماما ، مثل تلك القبعة الشتوية على رأس ذلك الشخص فى ذلك اليوم الصيفى الحار ، إنه قلق بلا معنى : كل ما فى الأمر أن الأعصاب ، بعد استلام التلغراف عن حالة الأم ، قد استعدت للمصيبة ، للهزة . والآن تطالب بالتعويض عن إرهاقها دون سبب .
تلفتت حولها مرة ، ومرات . لا يوجد أحد . شمس وهدوء وسكينة . كانت الشمس ساطعة جدا ، والهدوء والسكينة يعمان بدرجة تثير الشك فى تلك الحالة من الأمان التام . إنها وحدها ، ولكنها وحدها وسط الصمت الغريب المتحفز ، حيث الضياء والانتباه مسلطان جميعا عليها وحدها . لا مخبأ لها هنا . إنها مكشوفة حتى أعماقها . لا ، يجب الهرب من هنا " الهرب ، الهرب " ـ كررت لوسيا . لماذا خرجتْ من القرية ؟ من قادها إلى هنا ؟ وماذا نسيت هنا ؟
" نسيت ؟! " توقفت أفكارها فجأة عند هذه الكلمة ، وقربتها إلى لوسيا أكثر ـ نسيت … هذا هو أخيرا الشئ الذى لم تعرفه ، إنه ذلك الذنب الصامت القديم الذى ظل يعذبها منذ بداية اليوم ، والذى يجب أن تكون لديها إجابة عليه . هناك فى المدينة ، فى حياتها الجديدة ، نسيت لوسيا فعلا كل شئ ـ نسيت أيام الأحد فى الربيع ، حينما كانوا يعملون فى تخزين الحطب ، نسيت الحقول التى عملت بها ، وإجرينكا المطروح على الأرض ، وحادث شجرة البُطم ، والكثير ، الكثير من أحداث الماضى ـ نسيت تماما . نسيت أنها فى زمن ما حرثت وعزقت … نعم حرثت وعزقت ـ هل يمكن تصور ذلك ؟ والغريب أنها دون أن تدرك معنى هذا كله ، أبعدته عن ذاكرتها رغم أنها أمور تدعو إلى الفخر . ومن المستبعد أن تكون واحدة من صديقاتها قد سارت خلف المحراث . منذ زمن بعيد ، لم تعد لوسيا بذكرياتها إلى القرية ، فتحجرت تلك الذكريات وتكدست فى كومة جامدة منبوذة ، مبعدة إلى زاوية نائية مهملة مثل كومة من الثياب القديمة المهترئة .
وها هى اليوم قد استيقظت فجأة .
( 7 )
وأخيرا جاءت ميرونيخا إلى العجوز بعد طول انتظار .
كانت العجوز ترقد على الفراش خفيفة بدون وزن ، لدرجة أن شبكة السرير تحتها لم تنثن . كانت عيناها مفتوحتين وكأنهما فى نوبة حراسة . أما جسدها الممدد على الفراش والراكد فى سكون أصم فبقى بلا أية حركة وكأنه غريب عنها . لم تكن هناك حاجة إلى إزعاجه : فالعجوز راقدة منذ زمن بعيد وحيدة وكأنها تاهت عن الآخرين وعجزت عن أن تعثر على نفسها . قرب موعد الغداء سقطت أشعة الشمس على البيت ، وما إن رأت العجوز الشمس حتى شعرت بالدفء ، بسبب الضوء المرح المتواصل ، وإلا لتعبت تماما من وحدتها ـ وكادت تبكى .
تطلعت ميرونيخا بقلق من وراء الحاجز ، ولكن لم يعجبها السكون المخيم على البيت لعلمها بوصول الضيوف ، رأت أن العجوز بمفردها ، فدخلت عليها وهى تضرب كفا بكف .
ـ ألا تزالين حية أيتها العجوز ؟
سرت العجوز لرؤية ميرونيخا ، وتلألأت الدموع فى عينيها ، وتململت فى فراشها محاولة النهوض ، ولكنها تذكرت أن نهوضها يتطلب وقتا طويلا فمدت لميرونيخا يدها المتعبة .
ـ حية ، كما ترين . إنه اليوم الثانى منذ أن تحسنت حالتى . أ لم يقولوا لك ؟
أمسكت ميرونيخا بيد العجوز قليلا ثم تركتها ، وكانت يدها قوية حتى أنها وجدت الشجاعة لتقترب من اليد الأخرى ، اليد اليسرى ، وأن تداعبها .
جلست ميرونيخا على سرير العجوز ، وقالت وهى تميل عليها :
ـ لماذا لا يأخذك الموت ؟ لقد جئتُ للعزاء معتقدة أنك مثل الأخيار ، لم يعد لك وجود ، ولكنك ما تزالين هنا . ما تزالين عفريتة كما كنت . لقد تعبتُ من رؤيتك .
شاركت العجوز فى اللعبة برغبة ، وقالت :
ـ أ لا تعرفين ، يا فتاة ، بأننى أنتظرك . سأشعر بالملل من الرقاد وحدى ، أنا أنتظرك حتى يصير من الأسهل أن يجمعنا قبر واحد .
ـ سأركلك أيتها العجوز بقدمى ، فهما حادتان ، وقد شحذتهما بالأرض طوال حياتى .
ـ ستركليننى حقا ، هذا ليس غريبا عنك .
ـ لا ، لا تنتظريننى ، هيا موتى . أنا لا أزال أسعى ، وليس لك أن تأملى فى أن تكونى جارتى . من الأفضل أن آخذ لنفسى رجلا بدلا منك ، وربما استطعنا أن ننجب أطفالا .
ـ توقفتِ عن الولادة قبلى بكثير ، يا فتاة ، وجف رحمك ، ولم يعد بمقدورك ذلك .
ـ لدى رحم آخر ، أفضل من القديم ، حصلت عليه فى الصيف بمبادلة الثمار مع امرأة شابة من المدينة بعد أن اتفقتُ معها . وعليك أيتها العجوز ألا تقارنى نفسك معى .
ـ كفاك اختراعا ، لقد مللتُ تلفيقك .
ـ أنا التى مللتُ منك . أنت أسوأ من اللفت المُر . لو تموتين سريعا وأرتاح منك .
ـ ستبكين علىَّ إذا مت يا فتاة .
ـ إذا بكيتُ ، فهل سيعنى ذلك أننى حزينة عليك ؟
ـ إنها الحقيقة ـ وافقت العجوز وهى تحاول إيقاف ميرونيخا كى لا يصلا إلى الكفر ، فمع ميرونيخا يسهل ارتكاب الذنوب ، وهى نفسها لا تعى ما تقول . فى صباها ، كان من الأفضل تجنب الكلام معها ، فهى تهزم أى إنسان ، والآن أيضا يمكنها أن تقول الكثير مما لا يطيب سماعه ، ومع ذلـك لا تخجل .
لم تهدأ ميرونيخا إلا فى السنوات الأخيرة . أصبحت تجلس ساكنة ، وقبل ذلك كانت دائمـة الحركة ، ويمكنها أن تسبب الكثير من المتاعب دون أن تلاحظ . ورغم أنها تشتكى من ساقيها الآن ، إلا أنها ما زالت تستطيع أن تسرع إلى حد أن الشباب قد يعجز فيه عن اللحاق بها . عملتْ طوال حياتها بجد ونشاط ، ومع ذلك بقيت محتفظة بقوتها ، لم تدع العمل يستهلكها ، ولا سبيل إلى مقارنتها بالعجوز : ميرونيخا أكثر بدانة وحيوية ، والأهم من ذلك ـ أنها ما تزال على قدميها ، تذهب حيثما تشاء ، ويداها السوداوان القصيرتان متحفزتان على الدوام ، ووجهها أسود عريض ، وصوتها أبح ، ولكن لو تكلم أحد غيرها كما تفعل هى لفقد صوته منذ زمن بعيد . أما هى فكانت تبدو وكأنها حرقته قليلا . إنها أصغر من العجوز بأربعة أعوام ، ولكنها تبدو أصغر منها بكثير .
ابتهجت العجوز مع قدوم ميرونيخا : لمعت عيناها وظهرت فيهما دوائر بنية فاتحة ، وبان الاهتمام على وجهها ـ ماذا جلبت ميرونيخا ، وعن أى شئ ستتحدث ؟ فى الفترة التى لم تلتقيا فيها ، سارت الحياة دون توقف إلى الأمام ، كم هى واسعة تلك الحياة ، تكفى المدن والقرى ، تكفى البشر جميعا ، وكل شئ يسير كما ينبغى دون نقصان . الراديو الصغير ، حتى السنة الماضية ، كان على الكوميدينو قرب فراش العجوز ، وكانت هى تدير مفتاحه الأسود الذى يشبه الزر : يغنون فى مكان ، وفى مكان آخـر يبكون ، وفى مكان ثالث يتكلمون بغير لغتنا ، وفى رابع بغير لغتهم وبغير لغتنا ، لغة توجع اللسان ، ومع ذلك يتكلمون ويتكلمون . كانت العجوز تحب سماع الأغانى القديمة ، وترسل نينكا لتدعو ميرونيخا إلى الاستماع معها ، بيد أنهم كانوا نادرا ما يغنونها ، وكانوا يعزفون الموسيقى الحديثة أكثر . كانت تطرب لسماع الأغانى القديمة وتشعر وكأنها تحلِّق بأجنحة فوق الأرض ، وتدور فى دوائر متماوجة دون أن تبتعد أو تنأى ، تقلق وتبكى فى السر ، تبكى نفسها وجميع الأحياء الذين ما زالوا يعانون . آنئذ لم تكن تحزن بسبب الموت ، كانت تتخيل أن تلك الأغانى تنشد عند أحد ما فى عزاء بعد أن دفنوا التابوت فى التراب ، وهى تردد تلك الأغانى مودعة تلك الروح المجهولة التى تحررت ، والتى قد يستقبلونها فى العالم الآخر بمثل تلك الأغانى القديمة .
فى العام الماضى تعطَّل الراديو ولم يبق لدى العجوز سوى فرحة واحدة ـ الحديث مع ميرونيخا . وبالتالى توجهت العجوز إليها فى لوم قائلة :
ـ لماذا لم تأت كل تلك الفترة الطويلة ؟ لقد أرسلتُ إليك فارفارا فى الصباح كى تعرف أين أنت ، ولكنها لم تجدك . متى تقعدين فى البيت ؟ لو تفقدين قدميك يكون أفضل .
هزت ميرونيخا السرير وهى تميل نحو وجه العجوز :
ـ لقد فقدتُ قدمىَّ فعلا ، أيتها العجوز . أجلس الآن إلى جوارك وقدماى تتمزقان من الألم . لقد أجهدتهما كثيرا ، لم أسترح أياما ، أبحث عن بقرتى . لقد ضاعت بقرتى ، ولم تعد إلى البيت .
ـ أوه ، أوه ! منذ الصباح أحاول سماع صوتها ، ولكن دون جدوى . أين هى الآن ؟
ـ لو كنت أعرف مكانها ، لقلتُ لكِ ، يا عجوز ، ولكننى لا أعرف . لقد بحثتُ عنها فى المروج كلها طولا وعرضا دون جدوى ، عليها اللعنة تلك المخزية . ليست المرة الأولى التى تتوه فيها . ولكن قلبى غير مطمئن . أ لم تسمعى أن الدب قد افترس عجل جولوبيف ؟
ـ لم أسمع شيئا ـ قالت العجوز فى دهشة ، وتحركت فى مكانها وهى ترفع صوتها ـ ولماذا تسأليننى ، لم أسمع طبعا ، وكيف لى أن أسمع ، من سيخبرنى ؟ تقولين الدب افترس عجل جولوبيف ؟
هذه هى ميرونيخا : من غيرها يمكنه أن يأتى بخبر يجعل القلب يسقط هكذا ؟ لم تنتظرها العجوز عبثا ـ كانت تعرف أن ميرونيخا لن تأتى خالية الوفاض . نظرت العجوز إلى ميرونيخا وكأنها هى التى ساقت الدب إلى عجل جولوبيف ، وأنها على وشك أن تخبرها كيف فعلت ذلك .
أكدت ميرونيخا :
ـ افتُرِس ، افتُرِس . كان جولوبيف يريد إبقاءه للسنة القادمة ، فقد شاخت بقرته وجف حليبها . وهكذا أبقاه . أول أمس كان جينكا مراقب فرقة العمال عائدا من الغابة : حيث رأى الحشائش حمراء ، فأدرك أن فى الأمر سوء . تطلع حوله فرأى العجل ملقى بين الشجيرات وقد غُطِّى بالأغصان الجافة . كان الدب قد امتص دماءه وتركه ليفسد ، فهو يفضل اللحم عندما تفوح رائحته . وما إن رأى جينكا ذلك حتى أسلم ساقيه للريح ، ووصل البيت طائرا ـ ومرة أخرى مدت ميرونيخا نفسها نحو العجوز وهى تردد بصوت مختلف : ـ يقولون أن امرأة جينكا أمضت اليوم كله وهى تغسل البنطلون الذى كان يرتديه زوجها عندما كان فى الغابة ، وأنها عادت لغسله اليوم من جديد . وأن نساء المنحدر امتنعن عن أخذ الماء من ذلك المكان وصعدن إلى أعلى النهر .
قالت العجوز فى لوم :
ـ لا تسخرى ، لعلك اخترعتى كل ذلك الآن ، وإلا لما بدا أنك تسخرين . لو كنتِ أنتِ فى محله .
ـ لو كنتُ فى محله ، لما تحركتُ من مكانى وجلستُ أنتظر الدب حتى يعود . وما إن يقترب من العجل حتى أهجم عليه وأدوسه بقدمى : ماذا بك يا ابن كذا وكيت ، خربت بيت جولوبيف ؟ وسيعرف لحظتها أن الموت قد حان . كنتُ سأخيفه بحيث لا تقدر دبته أن تغسله أبدا .
ـ لم أعد أحتمل حواديتك منذ زمن بعيد . لماذا لا تحكى ما حدث فعلا مثل بقية الناس ؟ أين افتُرِس العجل ، وفى أى مكان ؟
ـ أنتِ ، يا عجوز ، لا تدعيننى أكمل كلامى ، يمكننى أن أتحدث عن كل شئ بالتفصيل . عند المتعطف الصاعد من النهر السفلى على الجبل ، ألا تذكرينه ؟
ـ وكيف لا أذكر ؟ لم أفقد عقلى بعد .
ـ هاجمه هناك ، على أبواب القرية . لم يبق إلا أن تصل الدببة إلى القرية . بقيت التايجا بدون طعام هذا العام ، ولم يعد يأوى إلى مسكنه . وهكذا سيبقى يحوِّم حول القرية .
ردت العجوز موافقة :
ـ سيفعل ، سيفعل . لا مجال لأى قول آخر ، سيفعل .
ـ لا أعرف أين أبحث عن مخزيتى . هل تفكر أننى مستعدة للبحث عنها شهرا بكامله ؟ لقد بحثتُ كثيرا ، هل هى حية أم لا … يقول الرجال أن هناك بقرتين ترعيان خلف المرتفع . ولكن قدمىَّ لا تقويان على الركض إلى هناك . لو كان لدىَّ قدمان غيرهما لحمل هذا الجسد ، لذهبتُ إلى هناك وبحثت. ولكننى على هاتين العصاتين النحيلتين قد أصل إلى المرتفع ، ولكن الأرض سوف تشدنى مرة أخرى .
ـ لا تذهبى ، يا فتاة ، ستبقين هناك ، فماذا أفعل أنا هنا بدونك ؟
ـ كأنما لا يوجد من أتحدث عنه غيرك ـ لم ترضخ ميرونيخا ـ أحدثها عن البقرة ، وهى لا تتزحزح عما فى رأسها .
ـ على أية حال ، فقد جف حليب بقرتك .
ـ لا ، يا عجوز ، ليس الحزن على الحليب . كل ما أبتغيه أن أرى بقرتى ، وأطمئن أن الدب لم يلتهمها ، وبعدها لتسرح حيثما تشاء .
ـ أوه ، يا فتاة ، يا فتاة ، ما حاجتك إلى هذه البقرة . لو كنتُ مكانك لِمَا أبقيتُ عليها وأنفقتُ عليها ما تبقى من قواى . أى جدوى ، فأنت لا ترين منها سوى الهموم ؟ تكلفك أجرة حصاد العلف من أجلها ، وأجرة نقله ، وإذا لم يكف التبن فى الشتاء تضطرين إلى شرائه . وهل هذا كله قليل ؟ تسعين وتعملين من الصباح إلى المساء وكأنك تعيلين سبعة أشخاص . حينما تحتاجين إلى الحليب ، تعالِ إلى ناديا وستعطيك برطمانا كاملا كل يوم ، بل وأكثر . بيعى هذه البقرة واستريحى مثل الأميرة ، سيعطونك نقودا بدلا منها . لو كان الأمر بيدى لوهبتها مجانا كى أتخلص من همها .
قاطعتها ميرونيخا قائلة :
ـ أو .. و .. و .. انظروا إليها . تريد أن تبيع البقرة بلا ثمن . أنت مضحكة حقا يا عجوز . كيف أستغنى عن بقرتى التى لازمتنى طوال حياتى ؟ هذا هو الموت على قيد الحياة بالنسبة لى . لا أريد منها حليبا ، كل ما أريد هو أن أسمع صوتها وهى فى المربط . وهل حل بى الكسل إلى درجة لم أعد أستطيع معها الاعتناء بالبقرة ؟
ـ لتهلكى أنتِ معها . فلن أحزن على ذلك .
ذلك الحديث لم يكن الأول فى هذا الموضوع بين العجوزين ، كما أن العجوز فى قرارة نفسها متفقة مع ميرونيخا : مَنْ تعوَّد العذاب مع البقرة لن يستطيع الحياة بدون هذا العذاب . وأية امرأة هى دون بقرة ؟ لقد ظلت العجوز نفسها تعتنى بالمواشى حتى آخر قواها . لم تكن قادرة على الحركة كما ينبغى ، ولكنها لم تترك دلو الحليب حتى منعوها من ذلك . وهى الآن تجادل ميرونيخا فقط بسبب الزعل الذى يصل إلى حد الغيرة : ميرونيخا ما تزال قادرة على العناية بالبقرة ، أما هى فلا . لو تخلَّصَت ميرونيخا من بقرتها ستكون عند ذلك ، شاءت أم أبت ، فى مثل حالها ، وذلك سيجعل العجوز أفضل حالا . لقد سلَّمَت بعجزها ، ولكنها فى هذا العجز أيضا بحاجة إلى صديقة ، وليس أية صديقة ، وإنما ميرونيخا بالذات ، التى صادقتها طوال حياتها .
لم تقل العجوز شيئا لميرونيخا ، بل استجمعت قواها كى تجلس ، وجلست بشكل أسهل مما فعلت فى الصباح . فى هذه المرة كانت أكثر ثقة بنفسها . لم تتحرك ميرونيخا ، ولم تحرك ساكنا لمساعدتها ، فقد كانت تعرف أن العجوز ستنهرها لو فعلت . والآن تجلسان متجاورتين ، وقد بدت العجوز أضعف ممـا كانت : كانت عظمتا ظهرها تبرزان كالجناحين ، وبدا أنها على وشك الرفرفة والطيران . نظرت إليها ميرونيخا شزرا ، ولم تستطع السكوت ، فقالت :
ـ لقد وهنتِ تماما يا عجوز .
ـ وهنت ـ هزت العجوز رأسها موافقة دون أن تنظر لى نفسها ، فقد كانت تعرف أنها كذلك بالفعل .
ـ لقد حضر أبناؤك إليك ، فماذا يقولون ؟
ـ وماذا يمكنهم أن يقولوا … لقد حضروا لرؤيتى .
ـ يعنى أنهم ، يا عجوز ، حضروا لدفنك .
ـ وماذا فى ذلك ، كيف لا يدفنون أمهم ـ وافقت العجوز فى هدوء دون أن تحوِّل عينيها عن النافذة وكأنها تتحدث مع أحد ما هناك .
ـ لا تخافى . هل تفكرين أنهم سينتظرون حتى يأخذك الرب ؟
ـ ليس عليهم أن ينتظرونى ـ قالت العجوز فى حزم وهدوء ، ثم التفتت إلى ميرونيخا . كانت تمسك طرف السرير بيديها خشية أن تقع ـ لن أؤخرهم ، فهم أيضا يريدون العودة إلى بيوتهم ، فأنا لستُ وحيدتهم . وهل أجهل ذلك ؟ سأرى تانشورا حين تأتى ، ثم أبدأ بالاستعداد . سيكون موتى سهلا . أحس بذلك ، سأودعهم وأغلق عينىَّ بنفسى وأموت . ستقترب فارفارا منى ، ستنظر إلىَّ وستجد أن آخر نفس قد خرج منى ، وأصبحتُ خفيفة ، وعندئذ ستبلغهم بذلك . لم يبق علىَّ إلا رؤية تانشورا . ولكن لماذا تأخرت هكذا ، ربما حدث معها شئ ما . قالوا ستصل بالأمس ، ولكنها لم تصل . لم أعد أستطيع الصبر ، لا أدرى كيف أفكر .
ـ لا تقلقى ، يا عجوز . لا يزال أمامك وقت ، وستصل ابنتك تانشورا ، فلِمَ القلق دون جدوى ؟! ربما الطائرات هناك لا تطير ، الجميع يسافرون اليوم بالطائرات . فى منطقتنا يطيرون ، وأنا أسمـع هديرها ، ربما كان الطقس هناك ، حيث تعيش ، سيئا ، وربما لم تجد مكانا . نحن هنا ما علينا سوى أن نعبر الحارة لنصل إلى بعضنا البعض ، وليس علينا انتظار أحد ، أما هناك فالطريق بعيد كما تعرفين .
ـ لا ، لن يضطروا إلى انتظارى ـ كررت العجوز وهى تهز رأسها ـ لا ، لن يضطروا إلى ذلك . لا ينبغى أن أبقى هنا أكثر . هذا غير جيد ، كأننى أعيش حياة ليست حياتى . لقد جاء الأولاد ، وعـرف الرب ، فمنحنى القليل من نصيب غيرى كى أراهم ، وكى أتحدث معك للمرة الأخيرة . والآن يجــب أن أعود . ما على إلا أن أتحمل يوما آخر أو يومين ، وبعد ذلك يجب أن أستعد . لقد حان الوقت ليودعنى الأولاد كما ينبغى ، ويذرفوا الدموع على أمهم كى لا يكون حضورهم إلى هنا عبثا . مهما كان ، فالأم تستحق الحزن . إننى أذكر أمى ، أذكر كم بكيتُ عليها بحسرة . لم أكن شابة ، ومع ذلك بكيتُ . وكيف لا ؟ لن يدوم أحد منا ، كلنا زائلون . وأنت يا ميرونيخا ، ساعديهم على دفنى . تقولين إننى مؤذية ، ولكن أية مؤذية أنا ؟ لم أكن أبدا مؤذية فى حياتى .
ـ لقد أصبح من الصعب الكلام معك .
ـ لا ، تكلمى . لستُ غاضبة . هل تعتقدين أننى غضبتُ منك ؟ لقد قلنا لبعضنا البعض الكثير دون غضب . لم يبق إلا أن أغضب منك ، يا فتاة . ماذا كنتُ سأفعل بدونك ؟ إننى أنتظرك منذ الأمس . تعالِ غدا أيضا . سنجلس معا . لقد عشنا طويلا ، ولكننا لم نقل كل شئ لبعضنا البعض ، وهناك سأشعر بالملل بدونك .
ـ ربما أموت قبلك ، يا عجوز ، من يدرى .
ـ سخف ! تموت قبلى . تكلمى ، ولكن لا تخرفى . أ لم تسمعى ماذا قلتُ لكِ الآن ؟ لم أكـذب عليك ، لقد قلتُ الحقيقة . ويجب ألا تشوشى علىَّ .
ـ أنا لا أشوش عليك .
ـ اقعدى ولا تجادليننى .
نهضت ميرونيخا قليلا ومدت نفسها ، عبر العجوز ، نحو النافذة :
ـ سأخرج لأرى هل عادت تلك المخزية . سأطل وأعود حالا كى أبقى معك . اجلسى وحدك حتى أعود .
ـ حسنا ، اركضى ما دمت تريدين ذلك ، لن أمنعك .
ـ لا تقلقى ، سأعود سريعا .
ـ اذهبى ، يا فتاة ، ولا تكثرى الكلام .
مرة أخرى بقيت العجوز وحدها ، فخيمت عليها من داخلها مسحة حزن رقيقة جعلتها تبكى ، ولكنها ما لبثت أن هدأت على الفور دون أن تذرف دموعها وكأنها أدت صلاة تطهير قصيرة . كانت أشعة الشمس تتلاعب على الأرض قرب العجوز ، فقربت قدميها منها . وما إن بدأت الشمس تدفَّئ عظامها النحيلة حتى شعرت بالتحسن . ومرة أخرى راودتها الرغبة فى البكاء وكأنها بدأت تذوب وتتلاشى من قدميها . تشجعت وأرخت يديها الممسكتين بالسرير وخلصتهما من الثقل . وفكرت فى أنها إذا وقعت ، فسوف تقع حيث أشعة الشمس ، وستركن إليها ثم تأتى ميرونيخا وترفعها . ولكنها لم تقع ، وفى الحال نسيت أنها كانت على وشك الوقوع ، وراحت تنظر عبر النافذة إلى الخارج حيث النهار يواصل حياته وقد مال نحو الظهر . وبدأت السماء العالية تفقد صفاءها . لقد سحرتها الشمس ، ولكن ليس تلك الكرة النارية التى تسبح فى السماء ، وإنما تلك الأشعة التى تبعث بها إلى الأرض لتشيع فيها الدفء . وها هى العجوز لليوم الثانى على التوالى تجاهد فى أن تجد فيها ذلك الشئ الآخر غير الدفء والضوء ، ولكنها لم تستطع أن تتذكر ما هو . لم تقلق : ما يجب أن يتكشَّف لها ، فسيتكشَّف على أية حال ، ويبدو أنه لم يحن الوقت لذلك . كانت العجوز تعرف أنها عندما تموت ستجد ما تبحث عنه ، وستعرف أسرارا أخرى كثيرة لم تكن لتستطيع معرفتها وهى على قيد الحياة ، أسرار ستكشف لها فى النهاية السر السرمدى ـ ماذا حدث لها ، وماذا سيحدث . كانت تخشى أن تخمن ذلك أو تتكهن به . إلا أن تفكيرها ازداد فى السنوات الأخيرة حول الشمس والأرض والعشب ، حول الطيور والأشجار ، حول المطر والثلج ـ فى كل ما يعيش مع الإنسان ، وكل ما يمنحه الفرح ، ويجهزه للنهاية ، واعدا إياه بالعون والسلوى . ولأن كل ذلك سيبقى بعدها ، شعرت العجوز بالاطمئنان : ليس بالضرورة أن تبقى هنا لتسمع صوت تلك الأشياء المتكرر والداعى ـ المتكرر كى لا تفقد الجمال والإيمان ، والداعى إلى الحياة والموت على حد سواء .
عادت ميرونيخا مسرعة وتهالكت على الفراش إلى جانب العجوز . حولت العجوز الغارقة فى أفكارها عينيها عن النافذة وعادت إلى نفسها وتعرَّفت على ميرونيخا . لوحت ميرونيخا بيدها ، فتذكَّرت العجوز أنها تقصد البقرة التى لم تعد حتى الآن . ولكن ، أين بقرة ميرونيخا ، أين اختفت ؟ راحت العجوز تفكر فى ذلك كى تجهز نفسها لمواصلة الحدث الذى ابتعدت عنه ، والذى ستعود ميرونيخا إلى الخـوض فيه ـ عليها أن ترد عليها بشئ ، فلن تجلس كالصنم .
قالت ميرونيخا :
ـ ماذا ، يا عجوز ، الحمَّام عندكم يكاد يتحرك من مكانه ؟
ـ الحمَّام ؟ ـ تصورت العجوز الحمام فى موضعه المعتاد ، ولكنها لم تفهم على الفور لماذا يتحرك الحمام من موضعه .
وأضافت ميرونيخا فى خبث :
ـ يتقلب من جانب إلى آخر . هل هناك أحد ، هل وصلت إليكم بعثة تعيش هناك ؟
ـ أية بعثة ، يا فتاة ، ماذا تخترعين . لعل أولادى هناك .
ـ كلهم ؟
ـ ولماذا كلهم ؟ لوسيا ذهبت منذ الصباح إلى الغابة ، أما فارفارا فذهبت إلى مكان ما فى القرية . والرجلان هناك ، إيليا وميخائيل .
قالت ميرونيخا مُحَدِدَة الموضوع :
ـ ولماذا يستحمان فى النهار ؟
ـ يستحمان ؟ أنت ، يا فتاة ، مثل الطفلة الصغيرة ، والله ! ـ غضبت العجوز ـ وما حاجتهما للاستحمام ـ إنهما هناك منذ الأمس ، ولكنهما لا يستحمان ، وإنما يشربان ! يرطبان حلقيهما ، لقد جفا ولم يعودا قادرين على ابتلاع الخبز .
ـ هل يشربان نبيذا ؟
ـ لا ، سخَّنَتْ لهما ناديا ماء فى الطشت ، وهما يشربانه كؤوسا . يقرعان الأنخاب ويشربان بكل سعادة . لا يشبعان من مذاقه اللذيذ . أ لا تعرفين أن الرب أعطى النقود ، والشيطان صنع ثقبا . وها هى نقود الرب تتسرب عبر ثقب الشيطان .
ـ ولكنهما ليسا وحدهما هناك . سمعتُ صوت ستوبكا خارتشيفنيكوف هناك أيضا .
ـ ستوبكا خارتشيفنيكوف ؟
ـ بدا لى وكأنه صوته .
ـ ولِمَ الدهشة ، يا عجوز ؟! ستوبكا لا يقصِّر ! فهو ليس قديسا ، وغالبا ما يسكر .
ـ قليلون ، قليلون . كلما أطل على الشارع أرى الجميع يمشون سكارى . ماذا يجرى فى الدنيا ، يا فتاة ؟ ما الذى يدفعهم إلى الشرب ؟ وماذا يجدون فيه ؟ إنهم يقتلون أنفسهم لا أكثر . والنساء ، النساء يسيرون وراءهم ، ويشربون . فهل كان ذلك يحدث فى الماضى ؟
ـ لا داعى للكلام ، لِمَ الحديث عن الماضى ؟
ـ أ لا تذكرين ، كان دانيل الطحَّان يشرب ، وكانوا لا يعتبرونه إنسانا . مجرد سكِّير . كانوا يطلقون عليه : دانيل السكِّير ، لا أكثر . أما اليوم فالمغفَّل فقط فى القرية هو الذى لا يشرب . ولا يعتبرونه إنسانا لأنه لا يشرب ، بل ويسخرون منه .
ـ نعم ، يا عجوز ، نعم . لو يعاقبونهم مرة وأخرى ، ربما سيفقدون رغبتهم بسرعة . ولكن لا أحد يهتم ، ولا أحد يعاقبهم . يفعلون ما يحلو لهم . ليس لديهم نقود ، ولا أحد يدرى من أين يأتون بها ، ومع ذلك يسكرون ويعربدون وكأنهم تجار كبار أو أصحاب أملاك . يظلون يلفون ويدورون فى القرية ، يأخذون كأسا من هنا وآخر من هناك حتى لا يكاد يستطيع الواحد منهم الوقوف على قدميه ، وفى النهاية لا يشبعون ، ومهما شربوا فالمشروب لا يكفى .
ـ لا ، يا فتاة ، عندما كنتُ أسمع الراديو ـ وأشارت العجوز إلى المنضدة بجانب السرير ، حيث الراديو ـ هناك أيضا يتحدثون عن السُّكْر ، ويقولون أنه سكر لا أكثر ، ولا يمدحونه .
ـ وما الفائدة إذا كانوا لا يمدحونه : ماذا يهمهم فيما يقولونه فى الراديو ، وهل يسمعون ؟ لا حاجة إلى الحديث إليهم . يجب أن يُطْلَب منهم ، أن يُفْرَض عليهم ، لعل الأمر يكون مجديا بهذه الطريقة . يجب مطالبة الأقرباء والغرباء ، لا ينبغى التساهل معهم كى لا يهزؤوا بالناس .
ـ هذا صحيح ، يا فتاة ، صحيح . وإذا لم نفعل ذلك فلن يحدث أى شئ ، وسيظل الأمر كما هو عليه .
ـ هذا ما أقصده .
ـ فى الماضى كانوا يخافون ارتكاب الذنوب . أما اليوم فقد نسوا ، يا عجوز ، ما هى الذنوب .
ـ نسوا الخوف من الذنوب وخلعوا برقع الحياء أيضا .
ـ خلعوا برقع الحياء ، هذه حقيقة ـ تنهدت العجوز فى حزن وأسف ، وسكتت قليلا ـ ها هو صاحبنا : يسكر إلى درجة لا أطيق فيها رؤيته . ينهض فى الصباح ، ويسعى هنا وهناك ، يجمع السكارى أمثاله ويعودون للشرب من جديد . يضحكون ويقصون على بعضهم البعض ما فعلوا من أعمال فى الليلة السابقة وكأن شيئا لم يكن . إنهم يضحكون ! لو كنتُ فى محلهم لاحترقتُ من الخجل .
ـ يفضلون الموت من السكر ، وليس من الخجل ، أيتها العجوز .
ـ بمناسبة ذكر الخجل ، سأحكى لكِ يا فتاة ماذا حدث معى ـ انتظرت العجوز حتى تتجمع ذكرياتها وتعيدها إلى ذلك الزمن البعيد الذى تردد منه صدى خافت ، لحياة سابقة ، تعرفه . قالــت العجوز : ـ حدث ذلك فى سنوات المجاعة . كانت فارفارا لا تزال عزباء ، وكانت تساعدنى ، وكذلك إيليا الذى كان قد اشتد عوده ، فكان يقطف شيئا من هنا وشيئا من هناك ، وعلى هذا النحو بقى حيا . أما لوسيا فشبت ، والعياذ بالله ، ضعيفة : نحيلة الأطراف كالعيدان ، شاحبة الوجه . كان مجرد النظر إليها يثير الشفقة وكأنها شمعة تذوى . كانت بحاجة إلى غذاء ، ولكن من أين ؟ فى ذلك الوقت كان ميخائيل يمشى ، أما تانشورا فكانت تزحف ، أو ربما كانت قد بدأت تمشى أيضا ـ لم أعد أذكر الآن . كلهم يطلبون الطعام ، يبكون ، وهل يكفى القليل لإشباعهم ؟ كان قلبى يتمزَّق ، ماذا أقول لكِ ، أنتِ تعرفين هذا بدونى ، لقد ربيتِ اثنين ـ أوقفت العجوز نفسها عن الكلام قاطعة حديثها ، وسألت كى لا تنسى فيما بعد : ـ أ لا ينوى والداك المجئ إليك ؟
ـ لا يكتبان .
ـ لعلهما سيأتيان بدون إبلاغك .
ـ لا أعرف ، يا عجوز ، سيأتيان عندما أموت .
ـ هكذا إذن . قلتُ لكِ : لقد تعذَّبتُ معهم .. أوه .. أوه .. ! كان الرجل يعمل وقتها فى الكولخوز ، ينقل حمولات إلى المستودعات ، ونادرا ما يكون فى البيت . أما فيتيا ، الذى قُتِل فى الحرب ، فكان يدرس فى مركز المنطقة ، ولم يكن هناك منه أى عون ، كنتُ وحيدة معهم . فما إن أترك أحدهم حتى يبكـى الآخر . والبقرة أيضا ، لم تحبل فى ذلك العام ، ولم تعط ، لسوء الحظ حليبا . كنا نستكثر ذبحها ، فكيف نعيش بعد ذلك بدونها ؟ ورأيتُ أنه إذا تحملنا هذه السنة ، فسوف يكون هناك حليب فيما بعد . كانت زوركا فى الكولخوز . تذكرين زوركا ـ كانت بقرة جيدة . لم يكن لها قرون . لا أزال حزينة عليها . فعندما بدأوا جمع الأبقار ، قدَّمها الرجل إلى الكولخوز ، إلى الزريبة المشتركة . كم بكيتُ وقتها ! بقيتْ زوركا تذكر فناء بيتها ، وكانت تسعى إليه دائما . وكنتُ أنا قبل المجاعة أذهبُ إليها وأقدِّم لها بقايا الأكل أو الخبز والملح . هل يعتنون بها هناك كما ينبغى ـ بالطبع ، لا . فكم من الأبقار هناك . وبقيتْ فى فترة المجاعة تتـردد علينا . كانوا يحلبون الأبقار مساء ثم يتركونها تسرح ، وكان البعوض كثيرا ، والقطيع يهوِّش ويزعق ويركض . تقترب زوركا من بيتنا وتبدأ بالخوار ، فأشعر بالشفقة عليها . أفتح البوابة وأدخلها . أهش البعوض عنها بالدخان وأغسل ضروعها . لم تكن تحب أن تكون ضروعها قذرة . وذات مرة ، غسلتُ ضروعها بالماء الدافئ ، وفكرتُ ، ربما بقى فيها بعض الحليب . جربتُ ، وكان موجودا . وبدأتُ أحلب زوركا . فهم هناك لم يكونوا يحلبونها حتى النهاية . كانت تعطينى قليلا من الحليب بعد الحليب المسائى ، وكنتُ بدورى سعيدة بهذا القليل ، أوزَّعه قطرة قطرة على الأولاد ، والحمد لله . الحمد لله أفضل من إن شاء الله .
وذات مرة ، يا فتاة ، كنتُ أجلس تحت بقرتنا زوركا ، التى لم تعد بقرتنا ، بل بقرة الكولخوز . كنتُ أحلبها ، فسمعتُ وكأن الباب قد صفق . كنتُ فى المربط وقد أغلقتُ الباب خلفى . التفتُ ، فرأيتُ لوسيا تقف وتنظر إلىَّ بعينين واسعتين . اخترقتْ نظراتها روحى . كانت قد صارت كبيرة وتدرك أن زوركا لم تعد بقرتنا . بقيتُ جالسة دون حراك وخشيتُ أن أنهض . وفكرتُ ، يا رب ، لماذا لم تعاقبنى عندما مددتُ يدى للمرة الأولى ؟ كم كنتُ خجلة من نفسى ـ لدرجة أننى كنتُ مرتبكة . وبقيتُ بعد ذلك لفترة طويلة لا أستطيع مواجهة لوسيا . وحتى اليوم لا أزال أفكر : هل تتذكر أم لا ؟ يخيل إلىَّ أنها لا زالت تتذكر ذلك ، وتلومنى عليه . وربما لذلك السبب لم تبق لتعيش معى ، فأى أم أنا .
ـ لا تتوهمى ، يا عجوز ، كيف لها أن تتذكر ؟ كانت طفلة صغيرة .
ـ طفلة صغيرة ، ولكن الذاكرة هى الذاكرة . رأتْ ، فتذكرتْ .
ـ حتى ولو تذكرت ، فماذا فى الأمر ؟ هل كان من الأفضل لها أن تموت من الجوع بينما أنت تغسلين ضروع زوركا ؟ كم مات من الأولاد وقتها ؟ أما أنتِ فاستطعتِ إنقاذ أولادك .
ـ لا ، لم يكن أفضل لو ماتوا ، ولكن ذلك كان غير حسن أيضا . أمر مخجل لا سبيل إلى نسيانه . لم أسرق طوال حياتى ، ولكن ما حدث كان أسوأ من السرقة .
ـ بدون خجل ، يا عجوز ، لا يمكن أن يعيش الإنسان . كفاك كلاما عن ذلك ـ وجدتِ ما تتحدثين عنه .
صمتت العجوز فى رضوخ وهى تهدئ من نفسها . تهالكت على الفراش من جراء التعب ، ووضعت رأسها على الوسادة ، ثم رفعت ساقيها إلى السرير . اقتربت ميرونيخا أكثر وعاودت النظر عبر النافذة .
ـ أ لم تظهر ؟ ـ سألت العجوز .
ـ لم تظهر . سأكسر عظام تلك المخزية عندما تعود . ماذا تظن ، هل صبرى لا ينفد ؟
ـ لا تخيفيها ، يا فتاة ، قبل أن تعود ، فمن المحتمل أنها لا تعود بسبب خوفها منك .
ـ سأخيفها ، تلك المخزية . لا تخاف الدب فى الغابة ، وتخاف منى أنا . سأريها إذا لم يأكلها الدب هذه المرة . لقد أتلفت أعصابى كلها ، ولم أعد أشبه الناس بسببها .
توقفت العجوز عند كلمات ميرونيخا الأخيرة .
ـ كيف لا تشبهين الناس ؟ هذا هذا يمكن قوله علىَّ أنا ، فقد أرهقنى الرقاد .
ـ لا تخرفى يا عجوز !
ـ لقد قعدتِ إلى جوارى ، وها هو من الواضح أنك أتيتِ من الخارج ، كنتِ مع الناس . أما أنا فلم أخرج إلى الشارع منذ زمن طويل . طوال الوقت هنا . فى المكان نفسه ـ ودون أن تنظر إلـى ميرونيخا ، قالت عنها وعن نفسها : ـ لقد عشنا أطول من اللازم يا فتاة .
ـ لماذا هرمنا هكذا ؟
ـ ولماذا كان علينا أن نعيش كل تلك السنوات ؟ لو متنا منذ زمن بعيد لكان أفضل ، ولكنتِ استرحتِ من بقرتكِ . وأنا لم أكن لأرقد هنا ، أو أخشى أن تتركيننى وحدى ، وأتمنى لو تجلس ميرونيخا أكثر لأننى أشعر بالكآبة وحدى . الرب نفسه وهبنى إياك يا ميرونيخا . الرب ، نعم الرب . كيف كنتُ سأعيش بدونك ؟
أغمضت العجوز عينيها ، وهزت رأسها موافقة نفسها وميرونيخا . لم تفتح عينيها وبقيت وحدها ناسية كل شئ فى الدنيا ، وربما استغرقت فى النوم ، أو فى شبه غفوة مريحة . بقيت ميرونيخا إلى جوارها تحرسها ، وفكرت فى أنه قد يكون من الأفضل لو تموت معها فى وقت واحد كى لا تتخلف إحداهما عن الأخرى . بقيت طويلا قرب العجوز ـ لم تتركها إلى أن عادت فارفارا .
( 8 )
ـ احك يا ستيبان ، احك كيف خدعتَ حماتك ـ طلب ميخائيل من ستيبان خارتشيفنيكوف ، الرجل الطويل ذو الشعر الأحمر ، الذى انضم إلى ميخائيل وإيليا فى الحَمَّام ، وانخرط معهما فى عملهما المر _ الحلو ـ احك ذلك لإيليا ، فهو لم يسمع بهذه القصة ـ أحنى ميخائيل رأسه وجعَّد وجهه ضاحكا ـ هيـا ، يا ستيبان ، ابدأ !
فتحا زجاجة جديدة من أجل ستيبان ، وأصبح أمر المزة الآن أسهل . لم يعد ميخائيل يخشى لا الشيطان ولا زوجته . دخل البيت مرتين وأحضر حتى إناء الشربة ، وراحوا يرشفون منه مباشرة دون ملاعق . وأحضر أيضا الزجاجات التى أخفتها نينكا فى الطحين وكومها كلها ، مثل الحطب ، فى الموقد حيث لا يأتى فى ذهن أحد أن يبحث عنها . أما الصندوق فقد حوَّله إلى كرسى للجلوس . كان لا يزال حافيا حيث نسى أن يتنعل شيئا فى غمرة انشغاله بأمور أكثر أهمية . كان يدس قدميه تحت المفرش حيث نام إيليا فى الليل . أما الآن فإيليا يناوب حول قن الدجاج ويقود العرض .
قال ميخائيل فى إلحاح :
ـ هيا ، يا ستيبان ، احك .
بدأ ستيبان يبرر قدومه رغم أنه كان قد بدأ يشاركهما الشرب :
ـ سمعتُ أن إيليا وصل وفكرتُ أن أراه . فنحن من مواليد سنة واحدة ، وكنا نركض معا فى القرية نعبث ونلهو ـ أبعد ستيبان ما بين ذراعيه على طول الحمام كله كى يعبِّر كيف أنه لم يكن يستطيع ألا يرى إيليا . كان صوته جافا وغير معبِّر مما اضطره للاستعانة بيديه ـ وهكذا أتيت. كدتُ أغلط ، قصدتُ البيت مباشرة دون أن أطل على الحمام . كم أنا غير مهذب . وفى اللحظة الأخيرة أدركتُ : ماذا يجـرى هناك ، وما هذا الاجتماع ؟
رد عليه إيليا باستحسان :
ـ حسنا فعلت بمجيئك . أنت تعرف ، أمنا طريحة الفراش ولا ينبغى الابتعاد عنها ، ولهذا رتبنا أمورنا هنا كى نكون بالقرب منها إذا حدث شئ .
قال ميخائيل مؤيدا :
ـ حسنا جدا فعلت ، يا ستيبان . شربنا ، وسنشرب أكثر ، لا تقلق ، لدينا ما نشربه ـ ها هى ، موقد كامل ، وكلها بيضاء ثقيلة .
قال ستيبان لائما :
ـ كفاك ما شربت ، وإلا ستسكر تماما .
ـ لا ، يا ستيبان ، لماذا تقول ذلك ؟ لقد جئتَ أنت ، وأنا أستقبلك ضيفا . أنت رفيق أخى إيليا ، وتعتبر رفيق لى أيضا ، نعيش فى قرية واحدة ، لم نتشاجر أبدا لم يحدث شئ من هذا القبيل ، بل على العكس كنا حتى نشرب معا . وها أنت تقول لى ما لا يجب قوله وكأننى سكران تماما . لا ، يا ستيبان ، سوف أشرب المزيد ، أنا أعرف الحدود . وإذا اقتضى الأمر يمكننى أن أشرب أكثر من المعتاد ـ ولِمَ لا ؟ لقد اجتمعنا ويسعدنى أيضا الجلوس معكما والتحدث إليكما . أما أنت فتريدنى أن أذهب للنوم كأننى لا أستطيع الجلوس معكما .
ـ اجلس ، اجلس ، فأنت هنا صاحب البيت ـ كيف لى أن آمرك ؟
مرة ثانية تذكر ميخائيل :
ـ الأفضل ، يا ستيبان ، أن تحكى لنا عن تلك الحكاية مع حماتك ـ كيف خدعت حماتك الخالة ليزافيتا .
ـ أية حكاية هذه ! القرية كلها تعرفها .
ـ دع القرية تعرفها ، أما أخى إيليا فلا يعرفها . إنه من المدينة . احك له القصة .
ـ يمكننى أن أحكى له ، فلن أفقد لسانى ـ وافق ستيبان كأنما دون رغبة منه ، وفجأة غمز لإيليا بمرح ـ ما دام الأمر كذلك ، فاسمع يا إيليا :
ـ أنا أسمع ، أسمع ـ آى نعم .
ـ فى الواقع ، لا شئ هناك يستحق الحكى . لا أدرى ماذا وجدوا فى هذه الحكاية . إنها حكاية عادية يحدث مثلها الكثير فى البيوت . كان ذلك فى الصيف ، شربتُ مع جينكا سوسلوف ، ولكن ليس فى الحمام ، بل عنده فى الحديقة ، وكانت حرمته قد أرسلته لطمر البطاطس . جلسنا فى الأخدود ورحنا نطمر على طريقتنا وكنتُ قد جلبتُ الزجاجة معى لأنى كنتُ مدينا له منذ الشتاء مقابل التبن . فكرتُ ، لماذا أعطيه نقودا ربما لن يأخذها ، من الأفضل أن أجلب زجاجتين كل منهما نصف لتر . ذهبتُ إليه ، فقالوا لى : جينكا فى الحديقة . وليكن فى الحديقة ـ ليس هناك فرق . وذهبتُ إلى هناك . نظر جينكا إلى الزجاجتين وعلى الفور غرز القطَّاعة فى الأرض إذا أنه فهم لماذا أحضرتهما . وبالطبع ، هل نطمر البطاطس أم نشرب ؟ ـ بسط ستيبان يديه وكأنه يجيب ، ثم نفضهما فى قرف موضحا أن مثل ذلك السؤال لم يكن ليطرح نفسه عليهما ـ وسرعان ما اندمج ستيبان فى الحديث وأخذ يحكى الحكاية بسرور واضح ـ جلسنا . أحضر لنا ابن الجيران كأسا . وقطف جينكا بعض الخيارات الصغيرة من حقل الخيار ووضعها فى جيبه ، ثم عاد وقطف المزيد ـ كل شئ موجود . جلسنا والكأس ينتقل من أحدنا لى الآخر مثل الكرة . شخصان غير مهذبين . غير مهذبين ، ولكن كنا مبسوطين . كنتُ على استعداد تام للشرب ، وقد جئتُ لأشرب . أما هو ، فخرج من البيت لطمر البطاطس . كان لديه هدف آخر . وليكن ، فالبطاطس تستطيع الانتظار . أتينا على الزجاجتين ، فقال جينكا : " سأعمل قليلا كى لا تشك حرمتى غدا فى الأمر ، وبعد ذلك سنذهب إلــى القرية " . فقلتُ حسنا سأرى كيف ستعمل . ولكنه عاد للقول : " لماذا تجلس ، أ ليس من الأفضل لو تضع الأشواك فى الأخدود ، فننتهى بشكل أسرع " . نهضتُ ، فرأيتُ أنه لم يعد يفرِّق بين البطاطس والأشواك ، يقطع كل شئ من جذوره . فقلتُ له : " على هذا العمل ستقتلع حرمتك شعرك من رأسك " . وافقنـــى قائلا : " لنذهب إلى القرية ونكمل الشرب . سأكمل العمل مساء ، عندما تخف الحرارة " . ذهبنا وكان لا يزال لدىَّ بعض النقود ـ أبطأ ستيبان قليلا وكأنه يتلعثم ، ثم تابع حديثه فى حرص وتأن ـ ولم أعد أذكر ما جرى لنا بعد ذلك .
وافقه ميخائيل فى سخرية وسرور :
ـ هذا يحدث ، يحدث فى مثل تلك الأحوال . تابِع ، ماذا حدث بعد ذلك ، وأنت يا إيليا ، اسمع .
ـ ماذا بعد ذلك ! معروف ماذا . صحوت وكأننى تعرضتُ لقصف نووى . وقبل أن أفتح عينىَّ قلتُ فى نفسى : أى يوم هذا ، هل هو نفس اليوم الذى طمرنا فيه البطاطس أنا وجينكا ، أم أنه يوم آخر . وأين أنا ـ فى البيت أن لا ؟ حسنا ، فتحتُ عينىَّ بحذر ـ كانت حرمتى راقدة بجوارى . عرفتها فى الحال وفى الفراش الآخر ـ الأولاد . إنهم أولادى أيضا . وهناك حماتى تحملق فىَّ من زاويتها . نظرتُ حولى ، وفكرتُ : علىًَّ أن أنهض . وبمجرد أن تحركتُ حتى قفزت حماتى من فراشها كالقطة . لم أهتم بها ، وتابعتُ نهوضى . وبعد ذلك فقط فهمتُ لماذا أرادت أن تسبقنى . تلك الشريرة لا تقوم بأية خطوة إلا لكى تؤذينى . منذ اليوم الأول لزواجى ، نشبت حرب عصابات بينى وبينها . لو كان الأمر بيدها لقطعت رأسى بالفأس لأتفه الأسباب ، بل ودون أن ترسم علامة الصليب . قليلة الأدب .
نهضتُ وذهبتُ إلى جينكا كى أطمئن على حالته بعد يوم الأمس . اعترضتنى حرمة جينكا على البوابة قائلة : جينكا غير موجود . كنتُ أعرف أنه بالبيت ، وأنها تكذب وتنتظر منى أن أعود أدراجى . إذن اشبعى به ، ليس لى شأن بذلك ! سوف يكون الأمر بالنسبة له أسوأ ، فهو لن يصلح مزاجه بك ـ عليك أن تفهمى ذلك .
علَّق ميخائيل فى دهشة :
ـ صحيح ما قلته لها يا ستيبان . صحيح تماما ، عفارم عليك .
ـ ذهبتُ إلى بيتكا سوروكين ، فادَّعى أنه لا يشرب ولم يشرب أبدا . وقال : " لا أريد ، وليس لدىَّ نقود " ، وكأننى لن أعطيه . ومثل كل مرة اضطررتُ للعودة إلى البيت . كنتُ أعلم أن هناك زجاجة سَمَاجون تمتلك الحق لأن تتواجد فى مكان ما فى القبو ، تحت الأرض . ولابد أن الحرمة الآن فى عملها ، وحماتى بمفردها بالبيت . دخلتُ ـ وهذا بالفعل ما كان : حماتى قد وضعت مقعدا فوق مدخل القبو ، وعلى المقعد وضعت مغزلها ، وجلست بالقرب منه تغزل الخيوط . لقد سبقتنى وأدركت إلى أين أسعى ، فهى تعيش فقط من أجل أن تؤذينى ، وليس لها وظيفة أخرى . فكرتُ ، حسنا ، سأنتظر ، لابد أنك ستتحركين من موضعك . لو أستطيع فقط أن أنزل ، وبعد ذلك لن تستطيع أية رافعة أن تزحزحنى من هناك . وتظاهرتُ بعدم المبالاة . كنا نخدع بعضنا البعض . أخرج إلى الشارع وأنتظر ، ولكن إلى متى الانتظار ؟ رأسى يكاد ينشطر إلى نصفين . وأفكر ، إلى متى ستطيلين تعذيبى ؟ أدخل وأستطلع ـ لا تزال جالسة فى موضعها وكأنها مربوطة فيه . أقول لها فى رقة : " ما هذا يا حماتى ، تغزلين دون توقف ، لعلك تعبتِ ، استريحى ، اذهبى وتنزهى قليلا " . ولكنها ترد علىَّ بفظاظة وقلة أدب : ـ " أنا مستريحة هنا " . وأقول فى نفسى : كم أود لو أضربك حتى تستريحين أكثر . ولكن ماذا ستفعل معها ؟ واضح أنها ستموت فى موضعها ولن تتزحزح منه . ولو حملتَها هى ومغزلها ووضعتَها فى مكان آخر ، فسوف تصرخ وكأنك تريد ذبحها . وقد لا تتماسك وتضغط على مكان ما بالخطأ ، وعليك بعد ذلك أن تتحمل المسؤولية . حسنا ، تابعى جلوسك . اجلسى ولا تتحركى . يا لك من حقيرة ـ هدد ستيبان بإصبعه الملتوية ـ وعندما لم يبق أمامى أى مخرج ، فكرتُ : لا لن استسلم هكذا بسهولة . لم يبق إلا أن تفرض علىَّ سياستها . تناولتُ جاروفا من الزريبة وانطلقتُ إلى إيفان . كان منزلنا ومنزله على طراز واحد ، وفى مبنى واحد ، أنـت تذكر ، أنا فى نصف وهو فى النصف الآخر . والقبو كذلك واحد مقسوم بجدار قديم . كنتُ قد دعمته قليلا فى العام الماضى بلوحين من الخشب كى لا يتداعى . ذهبتُ إلى إيفان بحجة أننى أريد النظر مـن ذاك الجانب ، ونزلتُ إلى قبوه ـ جرَّفتُ هناك مرتين ، وصارت الفتحة جاهزة للدخول . وقفزتُ إلى قبونا ، وهذا ما كان . نفضتُ ثيابى ، ونظرتُ حولى ـ ها هى زجاجة الدواء . وهناك مزة أيضا ، فماذا أحتاج غير ذلك ؟ كنتُ أسمع لهاث حماتى من أعلى . قلتُ فى نفسى : اجلسى ، اجلسى ، أخيرا استفدتُ منك ، فلن تسمحى لأحد بالنزول إلى هنا . أنا لستُ متعجلا ـ أغمض ستيبان عينيه فى مرح وترقب ـ كادت حماتى تفقد عقلها حينما رفعتُ صوتى بالغناء : " فى السهول والجبال … " . انطلقتْ تسابق الريح ، ولم أسمع سوى صوت مغزلها وهو يسقط .
ضحك إيليا ونظر فى فضول إلى ستيبان ، وسأله ـ ليس لأنه لم يصدِّقه ، بل ليبعث السرور فى نفسه وفى ستيبان ويطيل فى المخيلة صورة وصول ستيبان إلى القبو .
ـ وهناك شربتَ ؟
ـ هناك ، هناك ـ أكد ميخائيل بسرور بدلا من ستيبان ، وكان سعيدا لأن الحكاية أعجبت إيليا ـ كانت تحرس من أعلى ، أما هو فكان فى الأسفل مثل الدودة تنتقل من قبو إلى خر . ووصل إلى غايته . ولذا فأنا أحترم ستيبان جدا .
ـ والأغنية ـ لماذا ؟
ـ هكذا ـ اتسعت الابتسامة الخبيثة على وجه ستيبان ـ هكذا للتلذذ . لقد عاشت حياتها كلها ولم تسمع كيف يغنون الأغانى من تحت الأرض . قليلة الأدب .
هزَّ إيليا رأسه فى رضى وحسد :
ـ تفعلون العجائب هنا ـ وكرر ضاحكا : ـ فعلا أشياء مدهشة .
ـ علينا أن نعيش بطريقة ما ، وهكذا نعيش كى نغيِّر لون حياتنا .
سأله إيليا مستوضحا :
ـ وماذا قالت لك حماتك بعد أن خرجتَ من القبو ؟
ـ وماذا ستقول لىَّ بعد ذلك ؟ لتقل بعدها ما تشاء .
ـ وزوجتك ، أ لم تقل شيئا ؟
ـ أنا ، يا إيليا ، لا أبالى بزوجتى . لا أعطيها أية مساحة . إنها مُرَوَّضَة ، تعرف حتى فى الحلم أنها حرمة ، وأنا رجل . والرجل رجل ، ويجب أن تكون كلمته هى العليا دائما ـ لم يهدأ ستيبان من أثر حكايته ، وظل يتحدث طويلا ـ بالطبع لن أكذب ، لن أقول أنه ليس لديها اعتراضات علىًَّ . هناك بالطبع اعتراضات ، ومن حقك أن تخمنها ، فهى بخصوص السُّكْر . فى الصباح تواجهنى أحيانا بكل اعتراضاتها وبشكل مباشر ، فى عينىَّ ، وإذا كانت عيناى مغلقتين ، ففى أذنى وبصوت عال وكأنها تقول " ارفــع يديك ! " ولكننى بالطبع لدىَّ اعتراضاتى الرجالية على ذلك . أقولها لها بصوت مفهوم كى لا أجادلها بدون فائدة ، ثم يعود كل شئ إلى طبيعته .
اعترض ميخائيل وهو ينطق الكلمات بصعوبة :
ـ لا ، يا ستيبان ، إضافة لكونها حرمة فهى امرأة أيضا ، ولا يجوز ضربها . حرمتك وحرمتى هناك ، بالإضافة إلى كونهما حرمتك وحرمتى فهما أيضا امرأتان ـ مواطنتان ، ويمكن أن تتقدما بشكوى إلى المحكمة .
قال ستيبان فى سخرية :
ـ وهل تحدثتُ أنا عن الضرب ؟ أنت يا ميخائيل لم تعد تسمع كما ينبغى . ولماذا الضرب ؟ الضرب هو آخر مراحل العقاب ، مثل الإعدام رميا بالرصاص . إذا كانت حرمتى تفهمنى ، فأنا أفهمهـا أيضا ، وعلى أية حال فأنا مواطن أيضا ، ولستُ إنسانا بدائيا . أنا وحرمتى نعتبر من سكان دولتنا .
ـ صحيح جدا ما تقول . أنا موافق جدا معك عندما تتحدث هكذا .
ـ أعرف يا ميخائيل ، أن حرمتى وحرمتك هما فى نطاق الدولة ـ امرأتان ، مالك تحدثنى عن ذلك ؟ أنا أيضا أملك حدا أدنى من التعليم ، أشترك فى الجرائد ، وأقرأ .
ـ أعرف أنك تقرأ ، يا ستيبان ، تقرأ .
ـ أنا مشترك فى ثلاث جرائد ـ وجه ستيبان حديثه لإيليا . وهز إيليا رأسه فى ملل ـ واحدة صغيرة فى منطقتنا ، واثنتان كبيرتان ـ إحداهما من الناحية ، والثانية " برافدا " المركزية . أطالعها كلها . هناك من يشتركون من أجل الورق ، ومن أجل احتياجاتهم المنزلية . أما أنا فحتى الآن ما زلتُ أقرأ الجريدة من البداية إلى النهاية ، بل وحتى لا يجرؤ أى شخص أن يلمسها . " برافدا " المركزية تصدر بدون عُطَل ، تُطْبَع يوميا ، ومع ذلك أقرأها كى أكون على دراية بالأوضاع الدولية والداخلية ، بل وأعرف حتى أين حدث انقلاب من أجل السلطة ، أو إضراب للعمال .
تدخل ميخائيل فى الحوار بآخر ما لديه من قوة :
ـ صحيح جدا ما تقول . تحدث انقلابات وإضرابات . أنا أيضا أعرف ذلك . أما فى بلادنا ، فالحرمة بالإضافة إلى كونها حرمة ، فهى امرأة ، حتى لا يجوز أن تدعوها حرمة . فهذا يعتبر شتيمة ، قلة احـ ـ تـ ـ رام ـ كان ميخائيل يجزئ الكلمات الصعبة عليه إلى أجزاء ، وتفاديا للخطأ كان ينطقها بفترات صمت وبعد أن يتأكد مما قاله وما بقى عليه قوله ـ وأنت يا ستيبان لا تخلط بين تلك البلدان وبين بلادنا . نحن نعيش فى بلادنا .
ـ وأنا تصورتُ أنه ربما ليس فى بلادنا .
ـ لا ، لا ، يا ستيبان ، لا تخلط الأمور .
غمز ستيبان إيليا وأشار بعينه نحو ميخائيل : لقد سكر تماما ولم يعد يعرف ما يقوله ، ولا يدعنا نتحدث . كان ميخائيل ينحنى أكثر فأكثر وقد أسند رأسه إلى ركبتيه . لم يعد ستيبان يرد عليه ـ لعله فى حاجة إلى دقيقة واحدة لا يسمع فيها صوتا كى يهدأ تماما وعندها يمكن إلقاؤه فى الفراش مثل الجـوال بالضبط ، ثم مواصلة الحديث . انحنى ستيبان قليلا وقاس بنظره مستوى الفودكا فى الزجاجة وكأنه أراد التأكد من أنها لا تتناقص أمام عينيه . كل شئ ممكن ـ الزجاجة مفتوحة وأية حشرة يمكنها أن تصل إليها وتشرب وكأنها صاحبة بيت . كان يشعر بنوع من عذاب الضمير أمام الزجاجات المفتوحة وغير الفارغة ، كان ذلك بالنسبة له مثل النظر إلى حيوان لم يذبح إلى درجة الموت : إذا قررت القتل ، فاضرب فورا ولا تماطل . حاول ستيبان أن يلتقط نظرة إيليا كى يُلَمِّح له بالكف عن السخرية بالزجاجة المسكينة ، ولكن إيليا كان ينظر جانبا .
تعب إيليا بدوره من الفودكا ومن الكلام ، ولكن ليس بدرجة ميخائيل . كان لا يزال متماسكا . تلك اللحظة السعيدة التى كان ينبغى التوقف عندها عن الشرب كانت قد مرت منذ فترة بعيدة ولا داعى للندم الآن على ذلك . وما العمل الآن ؟ ما العمل حقا ؟ قبل أن يأتى ستيبان ، دخل إيليا على أمه ـ كانت نائمة ، فلم تلحظه . وربما تظاهرت بذلك ، ربما كانت تراقبه خفية . وسَعِد لكونه لم يضطر إلى الحديث معها لأنه يعرف ماذا ستقول : لم يكن سكرانا إلى درجة أن يقول أى شئ دون تمييز . وبدا أن الفودكا لم تكن قد فعلت فعلها بعد ، ولكنها أضافت فقط حملا جديدا إلى الثقل الذى سيظهر ـ غدا أو بعد غد . وعندما جاء ستيبان سَعِد إيليا وانتعش ، ولكنه الآن بعد أن قيل كل ما يقال فى مثل تلك اللقاءات من أسئلة وأجوبة ، وقبل أن يصل الأمر إلى الذكريات ، تراخى ثانية ، وراح يرغم نفسه بصعوبة على متابعة ما يجرى حوله وكأنه يجلس وسط هؤلاء الناس وبينهم ستيبان منذ فترة طويلة لكى يمل أحدهما الآخر . أية متعة الآن لو يغمض عينيه وينام . ولكن ميخائيل حفَّزه ، وهو لا يريد أن يبدو أمام ستيبان مثل أخيه ، ولذا حاول جاهدا أن يتماسك .
بعد الغداء دخلت الشمس إلى الحمام من جانبه ، عبر الكوة الصغيرة ، وأشاعت فيه الحرارة سريعا ، وصار الجو خانقا . لم تواتيهم رغبة فى فتح الباب حتى لا يخل أحد ـ دجاجة أو كلب أو إنسان . وهكذا اضطروا أن يتحملوا . عرق ستيبان ، وغطت صلعة إيليا أيضا حبات صغيرة من العرق ، وكان ميخائيل وحده هو الذى لا فرق لديه ـ حر أم صقيع .
حينما تذكر ستيبان حديثه مع ميخائيل ، قال فى تململ وانزعاج :
ـ طالما وصل الأمر إلى هذا الحد ، فقد أصبح فيه الكثير من المرأة ، ولم يبق شئ من الحرمة . معها لا يجوز فقط الذهاب إلى السينما ، وإنما يجب العيش أيضا معها . الحرمة بالنسبة لى تصلح للعيش أكثر من المرأة ، فهى قادرة على القيام بكل شئ ، ولن تنتظر حتى يعود الرجل من ورديته ويجلب لها دلو ماء . تستطيع أن تفعل كل شئ بنفسها . إنها صبورة ، ولن تظل تتأفف من كل شئ . فى الحياة العائلية تحدث أمور كثيرة ، فلماذا يجب أن تعرف القرية كلها عن ذلك ، أو المدينة كلها إذا كانت تعيش فـى المدينة ؟ " أنا امرأة ، أنا امرأة " ـ تابع مقلدا ـ لستِ رجلا ، الجميع يرون ذلك ، وماذا فى هذا الأمر أيضا ؟ هل يجب حملك على كفوف الراحة من أجل ذلك والربت على جبينك ؟ أولا ، عليك أن تمتلكى ذلك الشئ الذى يجب أن يحملونك بسببه على كفوف الراحة ، وبعد ذلك اطلبى . أنتِ إنسان مثلنا ، ولكن من جنس آخر ، جسدانا يختلفان تماما وهذا الأمر يعرفه حتى البرغوث ، ولا حاجة لتقديم الطلبات الزائدة على هذا الأساس . طبعا ، لا أحد ينكر أننا لا نستطيع العيش من دونهن ، هكذا الحياة . ولكن هل يستطعن هن العيش بدوننا ؟ على أية حال فهن لا يستطعن ذلك أكثر منا ، ما رأيك يا إيليا ؟ أقول لا يستطعن العيش بدوننا ، وحاجتهن إلينا أكثر من حاجتنا إليهن . تلك هى طبيعتهن . وثانيا ، لدى الرجل ، بالإضافة إلى الحرمة ، أشغال أخرى فى أوقات الفراغ ، أما هى فليس لديها شئ آخر .
ـ هذا صحيح ـ أكد إيليا فى اقتضاب . إن فكرة حاجة المرأة إلى الرجل أكثر من حاجة الرجل إلى المرأة أعجبته ، ونشطته ، وظهر على وجه إيليا تعبير خبيث ، مثلما يحدث عادة بعد ذلك العمل الموفق الذى لا يعرف أحد عنه شيئا .
نظر ستيبان إلى الزجاجة موضحا ، عن قصد أو دون قصد ، أن أحد الأعمال الرئيسية للرجل فى أوقات الفراغ ، تبعا لما ذكر ، هو السكر .
واصل ستيبان :
ـ فى العام الماضى سافرتُ إلى المدينة ، وهناك شبعتُ فرجة على أولئك النساء . وهن فى الواقع كن موجودات فى كل مكان . بعد ذلك رحتُ أبحث عن عمد بينهن عن حرمة واحدة حية ، من لحم وليس من نوابض . وكنتُ عندما أعثر عليها أشعر بالسرور لأنهن ما زلن موجودات ، إذ ربما سنضطر قريبا إلى البحث عنهن مثل أفيال ما قبل التاريخ . الحرمة من هؤلاء تسير كما يجب ، ويبدو أنه كان عندهـا أم وجدة ، وأنها إنسان حى ، أما أولئك النساء ، وخاصة الأصغر سنا ، فأشبه بالدمى التى تتحرك علـى نوابض . كلهن متشابهات ، ومن الصعب أن تفرق بين واحدة وأخرى . لم يولدن ، وإنما صنعن فى المعامل .
قال إيليا :
ـ حسب المواصفات الحكومية .
ـ ماذا تقول ؟
ـ أقول حسب المواصفات الحكومية .
ـ نعم ، بالضبط ، ولكن بعضهن أجمل ، والبعض الآخر أقل جمالا ، ولا يوجد أى فرق آخر . يسرن ، يتبخترن ، انظروا إلىَّ ما أجملنى ! انظروا إلى ساقى ـ هذه يمنى ، وتلك يسرى ـ وكأنها الوحيدة التى لها ساقان ، أما الأخريات فلديهم عكاكيز . انظروا ، أية لدىَّ ، يمين ـ شمال ، يميـن ـ شمال ، يالها من جميلة ـ وكأنما لا يعرف أحد ما حاجة الإنسان إلى المؤخرة . يجب إخفاءها ، ولكنها ستكون فى غاية السعادة لو كشفتها تماما . انظروا ، كم لدىَّ من شعر على رأسى ، انظروا إلى عينى : أنا لا أراكم أمامى ، أما أنتم فانظروا إلىَّ وابدوا إعجابكم . هذا هو هدف الحياة عندها ، أن تعرض نفسها . لا أدرى كيف تتنفس حينما لا يراها أحد . وإذا ما حدث شئ بسيط : " أوه ، أعصابى ، جهازى العصبى " . يداها ـ أعصاب ، قدماها ـ أعصاب ، وذلك المكان الذى تبدأ من عنده الساقان ـ أعصاب أيضا . لا يمكن أن تقول لها كلمة واحدة . لقد أمضيتُ أربع ليال عند أحد أقربائى . زوجته أيضا على هذه الحال . إذا لم يرضها قليلا ، تذهب فورا إلى المستشفى . أثناء وجودى عندهم كانت تذهب كل صباح . سألتها : ماذا يؤلمك ؟ أجابت : " على أرضية الجهاز العصبى " ـ " ماذا يؤلمك بالتحديد على هذه الأرضية ؟ وفى أى مكان ؟ " ـ " فتور عام ، لن تفهم ذلك " . وكيف لى أن أفهم … ليس لديها أى فتور ، بل كسل وبلادة ، لا تريد أن تفعل شيئا ، تمارس عليه تقلباتها المزاجية . هذا هو شأن النساء . ليس الأمر فى كونهن نساء أو لا ، بل فى أنهن لا يستطعن القيام بأى شئ ، لسن قادرات على العمل ، وربما ينسين قريبا الولادة أيضا . لا أدرى ـ هز ستيبان رأسه فى انفعال ـ وإذا نشبت حرب ؟ ماذا سيكون حال أولئك النسوة ؟ هل سيذرفن الدموع ، ويمتن ؟ فى تلك الحرب ساعدتنا النساء بالمناصفة على الانتصار . أما الآن فلم يعد لأمثالهن وجود ، ما رأيك يا إيليا ؟
ـ وماذا يمكننى أن أقول ؟ هذا صحيح .
ـ لقد قال ـ وأشار ستيبان نحو ميخائيل الذى كان قد انثنى على نفسه ثلاث طبقات تقريبا ـ ممنوع أن نسميهن حريما ، وأن تلك التسمية إهانة لهن ؟ ولماذا إهانة ؟ وما هو السئ فى هذه الكلمة ؟ لماذا لا أعتبرها إهانة عندما يسموننى موشينا* ؟ بالعكس ، لو دعانى أحد بكلمة رجل لاعتبرتها إهانة ، كأننى لا أستطيع أن أكون موجيك ، أو أهلا للعمل والقيام بوجباتى . أنا موجيك ، وسأبقى موجيك ، ماذا أريد أيضا ؟ وهذا حال الحرمة . انظر ، لقد أغضبتها ! ها هى أمك ، الخالة آنَّا ، عاشت حياتها كلهـا حرمة ، ولم تغضب من أحد . لتجرب الأخريات أن يكن مثل هذه الحرمة . لا يستطيع أحد أن يقول كلمة سيئة عنها ، لا حق له فى ذلك . لسانه لا يطاوعه ـ وفجأة تلعثم ستيبان وسكت ، ثم قال وكأن إلهاما هبط عليه ـ لنشرب ، يا إيليا ، فى صحة أمكما ـ وببطء وفرحة ، الفرحة نفسها التى يشعر بها الصياد حينما يراقب الطير الساقط وهو يعلم أن طلقته أصابت هدفها ، قال ستيبان فى سرور ـ لنشرب ، يا إيليا . ليس حراما أن نشرب فى صحة الخالة آنَّا .
وفجأة سمعا صوت ميخائيل :
ـ هذا صحيح جدا ـ رفع ميخائيل رأسه عن ركبتيه ووجه نظرة دقيقة إلى الزجاجة منتظرا إجبارها على القيام بما يجب أن تقوم به ـ يجب أن نشرب فى صحة الأم ـ قال ميخائيل مؤكدا ـ صب ، يا إيليا !
نظر إليه ستيبان قائلا :
ـ أعتقد أنك نائم .
ـ قد أكون نائما ، ولكن فى صحة الأم ، أستطيع أن أشرب حتى فى نومى . هكذا ، يا ستيبان . لقد اشتريناها كى نشرب فى صحة أمنا ، ولا أحد غيرها ، وإيليا شاهد على ذلك ـ اهتز ميخائيل وضحك بصوت مبحوح ـ ولكننا نسينا . لقد فعلت حسنا يا ستيبان إذ ذكرتنا . هذا صحيح جدا . لقد نسينا ، نسينا وهذا كل ما فى الأمر . وها علينا عتب ؟ نشرب هكذا وكأنما لا أحد لدينا نشرب نخبه . لقد أخطأنا طبعا ، لم نفكر أننا سنشرب نخبها وهى حية . هذا ما حدث . وهذا رأى إيليا أيضا .
رد إيليا مقاطعا :
ـ كفاك كلاما عن ذلك !
تلعثم ميخائيل وصوَّب نظرة غير طيبة إلى إيليا ، وقال فى بطء :
ـ إذا كان يكفى ، فليكن . لا يعجبك إذن .
فقال ستيبان :
ـ أمكما طيبة .
رد ميخائيل دون سرور أو رضى ، ولم يكن مفهوما هل كان يتذمر أم يتفاخر :
ـ لم تمت ، هكذا الأمر . لا تزال حية . إذا كنتما لا تصدقانى ، فاذهبا وانظرا بنفسيكما ـ مد ميخائيل نفسه لأخذ الكأس ، فخشى ستيبان أن يقع وأعطاه كأسه بسرعة ، ثم أخذ لنفسه كأسا من فوق قن الدجاج ـ نخب الأم ، نشرب حتى القعر ! ـ قال ميخائيل ، وكالعادة شرب أولا ، ودحرج الكأس على الأرض نحو إيليا . رفع إيليا كأسه وقرعه صامتا بكأس ستيبان .
بعد ذلك قال ستيبان لميخائيل :
ـ لك حق أن تنسى ، فقد كنت صغيرا ـ لم يسمعه ميخائيل الذى تداعى ثانية على صندوقه ، فالتفت ستيبان نحو إيليا ـ هل تذكر يا إيليا كيف انتقمت أمكما له ؟ وكيف لا تذكر ، إنك تذكر بالطبع ، كيف قام دينيس أجابوفسكى ، عليه اللعنة ، بإمساك مينكا فى كولخوز الحمص ، وأطلق عليه من ظهره خرطوش ملح . هل تذكر دينيس ، ذلك المتوحش . كان يحرس الحمص ـ هه ، بطل ! حين وقع مينكا بين يديه . لقد تهرأ ظهره كله ، وكان مجرد النظر إليه يثير الفزع . ولكن أمكما لم تدع الأمر يمر هكذا . انتقمت منه بنفس الطريقة ، ملأت خرطوشين بالملح وذهبت إلى دينيس وأطلقت عليه مباشرة من الماسورتين معا على مؤخرته ، وبقى فترة طويلة بعدها لا يستطيع القعود أو الرقود . كان يزحف على أربع . ألا تذكر ؟
ابتسم إيليا :
ـ أذكر ـ آى نعم . أرادوا وقتها تقديمها للمحاكمة ، ولكنهم طبخوا المسألة فيما بعد .
ـ أنا نفسى كنتُ سأحاكمهم لو فعلوا ! دينيس لا يستحق أن يدافعوا عنه ! لو كان إنسانا فهذا أمر آخر !
ـ ما لكما تدمدمان ؟ ـ سمعهما ميخائيل وقال ـ أغنية ، هيا أغنية !
رد ستيبان فى دهشة :
ـ أنت ملئ بالطاقة يا ميشا . أية أغنية تريد ؟ ربما عن الدببة التى تحك ظهورها بالأرض ، أم تريد غيرها ؟ أغنية جيدة . تناسبنا تماما .
قال ميخائيل :
ـ لا … غيرها ، أغنيتى المحببة ، أغنية شعبية روسية ـ رفع رأسه قليلا ، وأبقاه عاليا وبدأ يغنى :
لو قدموا لنا لشربنا …
ثم أرخى رأسه ووضعه على ركبتيه ، وأنهى أغنيته باكيا :
لم يقدموا لنا ـ ولم نشرب .
قال ستيبان فى سخرية :
ـ انظر ، إلى أى شئ يلمِّح .
كرر ميخائيل كلمات الأغنية مرة أخرى ، فلم يكن يعرف كلمات أخرى . ثم تململ فى مكانه وسقط عن الصندوق إلى أسفل ، إلى الفَرْشَة ، بهدوء وخفة وكأن أحدا دفعه . نظر إيليا وستيبان إليه فى تأمل ، واقترح ستيبان :
ـ ما رأيك ، لو نغنى فعلا ؟
ـ هيا ، لتكن الموسيقى مع المرح ـ أكسب الكأس الأخير إيليا حزما ، وظهر فى عينيه وهج شيطانى .
حذره ستيبان :
ـ ولكن لن نغنى الأغانى الدارجة التى يذيعها الراديو ، لا أحبها . لا أدرى كيف هى … لعلها مسلية عندما تسمعها . لا ، ليست مسلية بقدر ما هى مضحكة . وكأن أحدا يلعب معك كطفل . هل تذكر لغو الأطفال " سنغنى ، ومن يسمع غناءنا فهو أحمق " . الأمر هنا لا يختلف أيضا . نبدو مجرد حمقى ليس إلا ، بعد سماع أغنياتهم . أغنياتنا أفضل ، تلك التى تحبس الأنفاس بدون خداع .
ـ هل نغنى أغنيتك المفضلة ؟
ـ أية أغنية مفضلة ؟
ـ تلك التى غنيتها لحماتك من تحت الأرض .
ضحك ستيبان :
ـ وماذا فى ذلك ، لنبدأ بها .
وفى صوت واحد ، راحا يغنيان تلك الأغنية القتالية الشهيرة : " فى السهول وفى الجبال " ، وميخائيل يلاحقهما مدمدما .
( 9 )
لم يعد أحد ينتظر تاتيانا سوى العجوز . لو أرادت أن تحضر لحضرت ، فهى لا تعيش فى أمريكا . خلال ثلاثة أيام يمكنها الوصول حتى من أمريكا . وربما تصل بعد فترة رسالة يُزْعَم فيها كذا وكيت ، وأنها لم تستطع ، لم تكن فى البيت ، أو أى شئ آخر من هذا القبيل . ولكن كيف ستسأل عن أمها وهـى لا تعرف ، حية هى أم لا ؟ سوف تضطر ، فى أى حال من الأحوال ، لأن تكتب وتسأل بطريقة ما . ففى مثل تلك الظروف لا يمكن التجاهل أو الاكتفاء بإهداء التحيات لجميع الأقرباء والمعارف بدون ذكر الأم . ولكن هذا شأنها ، ولتبحث لنفسها عن مخرج كما تريد طالما لم تر داعيا لسفرها . وإلا فماذا يمكن أن يكون قد شغلها ؟ طبعا لا أحد يدرى ، ومن الصعب الحكم على ذلك . لكن من الواضح شئ واحد : أنها ليست هنا ، ولا حس ولا خبر عنها .
العجوز وحدها هى التى لم تكف عن الانتظار . كانت تجفل لدى سماعها أية حركة عند الباب . لم تكن تذكر أن ابنتها قد تفعل شيئا من هذا القبيل . ومع ذلك خيل إليها أن تانشورا قد تصل وتدخل البيت خفية ، ولن تكشف عن نفسها إلا بعد أن تنظر إلى الأم خلسة ولذا ظلت طوال الوقت تحدق بالباب كى تضبط ابنتها حينما تبدأ باختلاس النظر . كانت عينا العجوز تريان جيدا ، ومن غير الإنصاف التشكى منهما فى مثل هذا العمر ، ولكنهما كانتا تتعبان من النظر إلى موضع واحد وكأنهما اضطرتا إلى حمل حاجـز ثقيل . لم تمنحهما العجوز فرصة ، بل راحت تجبرهما على النظر ـ لماذا تدخرهما الآن ، ولأية حاجة ؟ يكفى أن تنظرا إلى تانشورا ، ولا حاجة أخرى إليهما . وعندما تدمع عيناها من الإرهاق والألم ، كانت العجوز تغمضهما تاركة شقا ضيقا للنظر : مرة بهذه العين ، ومرة أخرى بتلك . وهكذا لم تكن تنقطع عن النظر ، وفى ذات الوقت تمنح عينيها فرصة للراحة .
وبقدر ما كانت تقضى وقتا طويلا فى هذا الانتظار القاسى الفارغ ، كلما بقى وقت أقل للانتظار . وأدركت العجوز أن تانشورا يمكن أن تصل اليوم فقط ، وأن اليوم هو المهلة الأخيرة التى مُنِحَت لها ، وغدا سيصير الأمر متأخرا ، وسيختلف الطريق . لم تكن العجوز تعرف ماذا سيحدث غدا ، ولم تحرص على معرفة ذلك : ما دام هناك أمل ، فيجب أن تأمل ، وتثق بأن تانشورا ستصل فى الوقت المناسب ، ولن تُفَوِّت على الأم فرصة رؤيتها للمرة الأخيرة . وإذا لم تظهر فى هذه اللحظة ، فسوف تظهر فى اللحظة التالية ، فما زال هناك متسع من الوقت ، ولا حاجة لأن تعذب نفسها ـ سوف تأتى ، ولا مفر . بعد الغداء بوقت طويل ، شعرت العجوز للحظة بقلبها يخفق بشدة ، وأدركت أنه أحس بأن تاتيانا أصبحت قريبة جدا ، وأنها على وشك الوصول . انتفضت العجوز ، مثل صبية صغيرة ، وتعجَّلَت . كانت ترغب فى استقبال ابنتها وهى جالسة ، وكى لا تبدو أمامها من النظرة الأولى ضعيفة تماما ، وغير قادرة على شئ . ولكنها فى تعجلها سهت عن مراعاة نفسها وكادت تسقط ، ولكنها تماسكت بأعجوبة على فراشها ولم تسقط ليتهشم جسدها . لم يكن لديها وقت كى تلوم حتى نفسها على عدم التزام الحذر ، وبمجرد أن تماسكت فى جلستها حتى التفتت نحو الباب واستعدت . وفعلا تناءى إلى سمعها وقع أقدام ، وتحركت الستارة ـ دخلت فارفارا . وبوعيها الملهوف ، تصورت العجوز أن فارفارا جاءت لتبشرها بقدوم تانشورا ، ولكن كما لو عن قصد أرادت أن تغيظ العجوز ، فأخذت تحدثها عما يقولونه فى القرية عن حلمها . ماذا يمكن أن تفعل معها ، فارفارا هى فارفارا . لم تسمعها العجوز ، وإنما كانت مستغرقة تماما فى النظر نحو الباب … فها هو الهواء يحمل وقع أقدام أخرى ، وصوتا آخر … الآن ـ الآن ، ولكن لا شئ هناك ، لأنه لم يكن هناك أى شئ من الأساس .
بقيت طويلا فى جلستها ، تفقد وعيها أحيانا ويخيل إليها أن إنسانا آخر حل محلها ولا فرق لديه أن جاءت تانشورا أم لا ، ولذا فهو لا يسمع شيئا ـ بعد ذلك أرغمت نفسها على الإنصات بانتباه أشد . كانت نينكا تروح وتجئ وهى تدمدم بشئ ما ، وعلى شفتيها ما تزال آثار السكاكر موجودة . أما فارفارا ، فكانت تنقل خطواتها بثقل على أرضية الغرفة الخشبية التى راحت تصر تحت قدميها . غضبت العجوز لأنهما تشغلان سمعها وتمنعاه عن البحث بين ما هو موجود عن الشئ الذى هو بحاجة إليه . ثم عادت لوسيا من الجبل وراحت تستفسر من الأم ، هل تشعر بوجع ما . هزت العجوز رأسها بالنفى وأرادت أن تذهب لوسيا عنها . وسرعان ما ذهبت لوسيا فعلا إلى الغرفة الأخرى وتمددت هناك على فراش ميخائيل ـ يبدو أنها لم تتعود السير طويلا ، فأتعبت قدميها ، وقررت أن تدعهما تستريحان .
أخيرا شعرت العجوز بالتعب ولم تعد تستطيع الجلوس . وبسبب التحفز المتواصل للسمع بدأت تشعر بدوى فى رأسها ، وتذكرت أن الأفراح والأحزان تحب أن تظهر مصادفة مثل سقوط الثلج علـى الرأس ، ولامت نفسها لأنها انتظرت برغبة زائدة ، وبذلك أعاقت مجئ تانشورا . وفعلا : قل للأحمق أن يصلى ، فسيحطم رأسه من السجود . ماذا لو أن تانشورا قبل أن تظهر أمامها ، اختلست النظر إليها ورأتها ممددة ؟ لن يؤثر هذا فى العجوز . ومع ذلك ستأتى وسترى العجوز أيضا أبنتها أمامها ، وستباركها بدموعها الأخيرة . لا داعى للعجلة ، فالأمر سيان ، وهى لن تستطيع مغادرة مكانها ولن تركض للقائها فاتحة ذراعيها الخفيفتين كجناحين . ماذا عساها أن تقول لنفسها … رقدتِ ـ إذن ظلى كما أنتِ إذا كنتِ لا تستطيعين عمل شئ آخر .
أطاعت نفسها ورقدت . والآن يجب ألا تفكر فى شئ ، وأن تخفف من لهفة الانتظار كما تفعل مع الألم ، وأن ترخى جسدها تماما كى تحفظ نفسها هادئة من أجل الفرح القريب القادم . تقلَّبت العجوز فى فراشها لتكون فى وضع مريح ، وحتى لا تشعر تماما بوزنها ، وحاولت أن تستسلم للسكون ـ السكون الحنون الساحر الذى يجذبها من الفِرَاش بلا صوت ، ويسحرها بصوت خرير بعيد ، بعيد .
كانت الشمس لا تزال مرئية فى الأفق ، وكان نورها الضارب إلى الصفرة دافئا وغير باهر ، فراحت العجوز تتدفَّأ به . وما إن أحست بالدفء حتى هدأت تدريجيا وهى تعى ، ولا تعى نفسها ، مدركة وغير مدركة ماذا تحتاج مع انسحاب هذا النهار الهادئ الصافى . لقد غفت اليوم أكثر من مرة ، ولكن بيقظة وحذر ، وهى الآن تعرف جيدا أنها غفت ، ومستعدة لأن تصحو فى أية لحظة ، فبعد أن استراح جسدها وغفا بقى قلبها مناوبا ولم تدع ضرباته المنتبهة العجوز تنام عميقا ، ولذا لم تصدق عندما ظهرت أمامها تانشورا : نبهتها ذاكرتها أن عينيها مغلقتين ، ولا يمكنها أن ترى تانشورا فى الحقيقة . ولكن ذلك لم يكن حلما ، لأنها لم تكن نائمة تماما ، وإنما كانت شبه نائمة ـ لا ، تلك الرؤيا الضعيفة المعذبة ، وهى تتلاشى ، رسمت أمامها الانتظار غير المجدى الذى تحرر منه رأسها المجهد ، وبقيت العجوز هادئة . هنا فى غفوتها الشفافة تلك ، مثل الغروب ، فكرت ثانية فى تانشورا ، وأقنعت نفسها ـ تلك الأفكار الواضحة بوقعها المفرح تتوالد من تلقاء نفسها وكأنها حضرتها من مكان ما جانبى فلم تسبب لها ألما ، بل ساعدتها على السلوى . كانت تبحث فيها عن كل شئ ـ عن ماذا يمكن أن يكون قد أخَّر تانشورا ؟ ـ ووجدته . ربما لم تسافر تانشورا وحدها ـ بل مع زوجها ، ولكن كان عليها ألا تأخذه معها ، فهو عسكرى ، والرب فى العادة لا يحب العسكر ـ لاحظهما فى مكان ما ، وأوقفهما ، دون أن يهتم بأن هذا العسكرى هو زوج تانشورا ، وأنه ليس غريبا ، وأنهما يسرعان إليها ، إلى العجوز . وربما فطن هو نفسه بعد ذلـك وتركهما ، ولكن التأخير حدث ولا مفر . تانشورا هنا ليست مذنبة ، ولكن ذلك كله بسبب زوجها . ولكنهما الآن قريبان ، وها هما على وشك الوصول إلى هنا .
تحسنت حالتها ، وأصبحت روحها أكثر حرية وانعتاقا ، وارتفعت العجوز فى خفتها هذه محلِّقة أعلى فأعلى ، إلى حيث يصعب وصول الأصوات الغريبة .
لم تر تانشورا منذ زمن طويل ، ولكن منذ متى ، لا تعرف . لم يكن حساب الزمن لديهـا بالسنوات ، بل بعاطفة الأمومة ـ لم تكن ثلاث سنوات ، أو خمس ، أو حتى عشر : منذ زمن طويل ، أطول من الجميع لم تأت تانشورا إلى البيت . جاءت لوسيا بعدها ، ومر إيليا بعد عودته من الشمال . أما فارفارا فكانت تأتى كل شهر ، ولكن غياب تانشورا كان يطول ويطول . وذات مرة كتبتْ أنهم سينقلون زوجها للخدمة فى مكان جديد ، وأن طريق سفرهما قريب من البيت ، وسيمران بالضرورة فى طريقهما علـى البيت . فى ذلك الوقت كانت العجوز لا تزال تسعى على قدميها ، وحرصت على أن تهيئ لابنتها استقبالا جيدا ، وألا تُسَوِّد وجهها أمام صهرها الذى لم تره من قبل . وأثناء انتظارها كانت تمسح الأرض يوميا كى لا تكون عرضة لأية مفاجأة . وأعدت أنواعا مختلفة من الأطعمة ، بل وأرغمت ناديا على أن تحضر من الدكان زجاجتين من النبيذ ، أخفتهما طويلا عن ميخائيل تحت وسادتها . ولكنها اضطرت بعد ذلك إلى إعطائهما له ، لأن تانشورا لم تأت . نقلوا زوجها فعلا ، ولكن ليس إلى المكان الذى قرروا نقله إليه فى البداية ، بل إلى كييف نفسها ، حيث يعيشان اليوم . ومرة أخرى أرادوا نقله من كييف إلى خارج البلاد ، وكتبت تانشورا ثانية بأنهم سيمنحونه إجازة قبل النقل ، وأنهما سيحضران للوداع قبل السفر ، ولكنهم لم ينقلوا صهر العجوز هذه المرة أيضا ، ولم يعطونه أيضا إجازة . حزنت العجوز لأنها لم تر تانشورا هذه المرة أيضا ، ولكنها فرحت لأن ابنتها لم تسافر لتعيش أبعد ، بين إناس غرباء تماما يتحدثون بلغة أخرى ، ليس مثلنا ، ولن تشعر بالراحة بينهم . وهكذا استمر الحال إلى اليوم .
كانت تانشورا تكتب قليلا ، ومع ذلك كانت تكتب أكثر من الآخرين ، وكانت رسائلها تصل إلى العجوز مباشرة . كانت الوحيدة التى ترسل رسائلها باسم الأم ، وكانت العجوز تتجمد من الكبرياء والترقب وهى تمسك بيدها المظروف الجميل ذا الحواف الحمراء والزرقاء : الآن ستعرف ، ماذا أرادت تانشورا أن تقول لها ، ولكنها لم تكن تتعجل ، بل تنظر طويلا إلى الرسالة فى الضوء ، وتتأمل الرسم والختم على المظروف ، وبعد ذلك فقط تفتح الرسالة فى حذر وهى تحرص ألا تمزق المظروف ، ثم تخرج الورقة المكتوبة . هى نفسها لم تكن تعرف القراءة ، ورغم عدم قدرتها على القراءة كانت تحمل الرسالة معها من الصباح إلى المساء مأخوذة بها ، وهى تحاول أن تتسلل وتتوغل بروحها فيها . وبعد ذلك كان يحين موعد القراءة ، وكانت العجوز تجبر ناديا أن تقرأ لها ، وكذلك ميخائيل ، وكل من كان يدخل إليها . كانت تخشى أن يقرأ إناس مختلفون رسالة واحدة بأشكال مختلفة . وعندما كانت تتطابق القراءة كلمة كلمة ، كانت العجوز تهدأ وتخفى الرسالة تحت وسادتها كى تطيل فرحتها وترى تانشورا فى الحلم .
أما الرسائل التى كانت تصل من لوسيا وإيليا ، فلم تكن تملك عليها سلطانا . كانوا يقرأونها لها مرة واحدة فقط ، وأحيانا لا يقرأونها ، وإنما ينقلون إليها ما فيها فى عدة كلمات ، ولم يكن أمام العجوز إلا أن تقنع بهذا القدر . وكانت تخمن أنهم لم يكونوا يقولون لها عن كل الرسائل ، ليس لأنهم لا يريدون ، وإنما لأنهم كانوا ينسون ، ولا يدرون ماذا يقولون ، فليس فيها ما يستوجب نقله إلى العجوز ، ولا يوجد ذلك السبب الذى كتبت من أجله الرسالة . كانت لوسيا كالعادة تأمر : حافظوا على ماما . أما إيليا فكان يسأل على عجل وكأنه يمزح : كيف تتنفس الأم هناك ؟ ـ أو : كيف حال الأم ؟ وغالبا ما كان ينتهى الاهتمام بالأم عند هذا الحد ، وبالفعل كان التعبير عنه ليس سهلا . حدث وأن وصلت من لوسيا رسائل تفصيلية مطولة ، خاصة فى الفترات التى كانت تغيب فيها رسائلها طويلا ـ كانت تخص فيها الأم بنصيب كبير ، فتأتى فيها عبارات من قبيل : " قولوا لماما أن الدواء يفيد فى كل الأعمار " ـ ذلك حينما كانت الأم ترفض تناول الحبوب وتقول أن الأدوية لن تنقذ من الشيخوخة ـ أو " احرصوا أن ترتدى ماما جيدا فى الشتاء " ـ وكأن الأم لا تعرف أنه لا يمكن العيش فى البرد بملابس صيفية . أما إيليا ، فالحمد لله ، لم يكن يعطى نصائح . لم يكن هذا هو الذى تحتاجه العجوز منهم ، ولكنها كانت تريد أن تعرف كيف هم أنفسهم يعيشون ، كيف يلبسون فى الصقيع كى لا يبردوا ، وماذا يأكلون ، فهم لا يربون أبقارا ولا دجاجا أو خنازير . وفى النهاية كانت العجوز ترغم نفسها على التصديق بأن الناس فى المدينة لا يجوعون أيضا ، ولكنها لم تستطع أن تفهم كيف يستطيعون الاستغناء عن الاقتصاد المنزلى ، وكيف يستطيعون العيش من بدونه عموما . كانت لوسيا وإيليا يكتبان عن نفسيهما قليلا جدا إلى درجة أن العجوز كانت ترهق ناديا التى تقرأ لها الرسائل ، ترهقها بأسئلتها الدقيقة اللحوحة ، وكأن ناديا تخفى عنها شيئا ، أو تغفل شيئا عـن قصد . أما ناديا فكانت ترتبك ولا تعرف ماذا تجيب : من أين لها أن تأتى بأكثر مما هو موجود فـى الرسالة ؟ فهى لن تخترع شيئا على لسان إيليا الذى كان يكتب مرة واحدة فى السنة رسالة قصيرة لا يتجاوز حجمها كف اليد . كانت قراءة رسالة إيليا أو لوسيا عذابا ، وهذا العذاب كان من نصيب ناديا . لم يكن ميخائيل يجيب عن أسئلة العجوز إلا بقوله : هكذا … لا شئ ـ ثم يذهب وتبقى ناديا .
من المشكوك فيه أيضا أن رسالة تانشورا كانت ترضى العجوز تماما . ولكنها كانت تتساهل معها كثيرا ، فهى لديها علاقة خاصة بهذه الرسائل . كانت تلك الرسائل موجهة خصيصا إلى العجوز ـ أعدت تانشورا نفسها لكتابتها خصيصا ، وفعلا أنجزتها ، وحملوها خصيصا ، وخصيصا نقلوها إلى العجوز ، ولكى لا تضيع كانوا يضعون على المغلف الذى كتبت عليه تانشورا بيدها اسم العجوز ختما هاما . وما تريد تانشورا أن تقوله لها ، لم تكن تقوله عن طريق أحد ما ، وإنما مباشرة وكأنها ترى أمها أمامها . لم تكن تكتب " قولوا لماما " ، وإنما " مامتى " ، وكان هذا النداء الحنون " مامتى ! " يجعل العجوز تجمد من الفرح والوجل . كانت تشعر وكأن إبرا حادة باردة تنتشر فى جسدها كله . والعجوز لا تذكر أن تانشورا كانت تناديها هكذا فى البيت ، لا ، ولكن ليست المسألة فى أنها لا تذكر ، وإنما فى أن تانشورا لم تناديها هكذا لأن هذا النداء لا يمكن أن تنساه حتى الأم التى لا ذاكرة لديها . يعنى أن الابنة بدأت تناديها هكذا من هناك ، فى الغربة ، وكانت العجوز تتمتم بشفتيها نداء ابنتها " مامتى ! " وتسمع فيه أنينا يتيما ، وألما يجعلها تشعر بالرهبة والفزع ، وتبكى دون أن تدرى ، وتوهم نفسها بأنها لا تعرف متى بدأت الدموع ، وتقول أنها طفرت لسبب آخر ، فالبكاء بإرادتها كان يعنى أنها تستسلم لخوفها ، وهذا ما كان أسوأ لأنه سيصعِّب عليها العثور على أمل . وكانت العجوز تعتقد أن الأمل يأتى من عند الرب ، لأن الأمل وجل وخجول وطيب ، أما الرعب الذى يأتى من الشيطان ، فهو لحوح وفظ ـ فلِمَ الاستسلام له ؟ أو أنها ربما لم تكن تعرف من أين يأتى الرعب هذا ؟
وفجأة صفا مزاج العجوز وأشرق فى هدوء ويسر ونطقت بأطراف شفتيها الرفيعتين نفس تلك الكلمات ، ولم تسمع فيها سوى ذلك الحنان نفسه الذى كان يتردد على لسان تانشورا الوديع . بعد ذلك تكررت الكلمات من دونها ، من دون العجوز ومن دون شفتيها ـ بصوت تانشورا وحده الذى راح يتردد قريبا وواضحا كما فى الحقيقة ، ولكن أهدأ فأهدأ . وأخيرا تلاشت الكلمات تماما . وحتى فى ذلك الحين كانت العجوز ما تزال مشرقة فرحة من وقعها السار وقوتها . لامت نفسها وعاركتها طويلا وبتلذذ وكأنها خاطئة كبيرة ، لأنها قبل ذلك سمعت فيها شيئا غريبا لم يكن فيها ، ولامت نفسها أمام ابنتها بسبب ذلك .
هى لا تجهل أن تانشورا فى الواقع نمت أكثر حنانا من أختيها . لم تكن العجوز تتشكى أبدا من لوسيا ، ولا من فارفارا . لم يكن لديها سبب للشكوى ، ولكنها تميِّز تانشورا عنهما ، فهى على أية حال آخر العنقود ، والتى لم تأت العجوز بعدها بأحد ـ ولذا فقد لاحظتها الأم أكثر من أولادها الكبار ، ثم أنها وهى التى اعتادت ألا تعيش بدون صغار ، لم تكن تريد أن تدعها تبتعد عنها . كان الأمر على الدوام هكذا : بمجرد أن يقف صغير على قدميه ، حتى يظهر غيره ، فتتجه نحوه الأم وتنحى الذى قبله جانبا ـ ازحف ، أو اذهب حيثما تشاء ، ولكن لا تؤذى نفسك إلى حد الموت . ولا تصرخ ، فهناك الآن من يصرخ غيرك . لم يُبعِد أحد تانشورا ، وبقيت قرب الأم دائما وكأنها مقيدة إليها . كانت تركض إلى جانبها وتردد : مامنكا ، مامنكا . " مامنكا " هذه ـ من أين جاءت بها ؟ لم تكن هذه الكلمة موجودة فى القرية ـ فهل أخذتها من أحد الغرباء أم تعلمتها فى الحلم ؟ ولكنها كبرت وأخذت تناديها مثل الآخرين " أمى " ، ولكنها غالبا ما كانت تتذكر وتمزح مع الأم منادية إياها " مامنكا … مامنكا " . كانت العجوز تسر لهذا المزاح على الرغم من أنها لم تكن ترغب فيه . والآن نداء جديد " مامتى ! " وماذا يمكن أن يثير الشعور بعد " مامنكا " ، ولماذا تهلك العجوز نفسها ؟ يمكنها أن تفكر دون أن تجهد نفسها .
ولكن نمو تانشورا كطفل أخير لم يكن ، طبعا ، كل شئ . فمن الأخير يمكن أن نحصل على أشياء كثيرة مختلفة ، فالاهتمام بها أكبر ، والقلب لها أوسع ولكنها فى مقابل ذلك تفاجئك بقسوة أكبر . وغالبا ما يحدث ذلك . لا ، تانشورا نفسها كانت أقرب إلى الأم بطبيعتها . ولكن إذا تحدثنا عن الطباع ، فإن لوسيا أخذت عن الأم طباعها ـ هى أيضا عنيدة ولديها كبرياؤها ، ونادرا ما كانت تتساهل ، ولكن عنادها وكبرياءها فى البيت كانا يكفيان لثلاثة فقط . فمنذ أن كانت فتاة صغيرة ـ كانت إذا غضبت تبقى ثلاثة أيام لا تنظر إلى أحد ، ولا يغريها شئ أبدا . أما كيف أصبحت لوسيا الآن ، فالعجوز لا تعرف ـ ربما تكون قد عانت بين الناس ، وفقدت حدتها أمام حدة الآخرين ، وتعلمت كيف تتصرف ، فمن الصعب العيش بين الناس بطبع حاد ـ إنها متعلمة وعليها أن تدرك ذلك ، ولكن لا يبدو عليها أن حياتها سيئة . لم ترغب العجوز فى سؤالها ، ولو سألتها ـ ستقول " حسنا " ـ وعلى العجوز أن تفهم الرد كما تريد . كلهم يردون هكذا كى يتخلصوا من الثرثرة الكثيرة ، عدا فارفارا وحدها ، فهى تتشكى مهما كان الوضع ، حتى ولو كانت حياتها سمنا على عسل ، ودون هموم وقلق . إنهما أختان شقيقتان ، ولكن الفرق بينهما كبير . كانت فارفارا قد صارت صبية ، ولكنها كانت تتباكى من لوسيا ، ومن الأولاد ، وحتى من الذباب . نشأت رخوة ، ونمت أيضا رخوة ، لا حول لها ولا قوة ، ومع ذلك فهى جاهزة تماما للبحث فى أى شئ عن الهموم .
لم تكن تانشورا تشبه أيا من أختيها . كانت كأنها تحتل مكانا وسطا بينهما بطبعها الخاص ـ اللين والطروب ـ الإنسانى . كانت تغضب وتهدأ فى الحال ، تتضايق وسرعان ما تنسى الإساءة . وحين تضطر للبكاء ، كانت تبكى … وما يقولونه : ترسل دمعة وتستعيد أخرى ، ينطبق عليها وليس على أى أحد آخر . كانت تذهب دوما إلى حيث الناس ، لم تخش المسنين أو الصغار ، تحب الضحك والحديث ، ليس هكذا لمجرد التسلية ، بل كان ذلك فى أوانه وموضعه ، ومن أجل المتعة الجماعية . ونادرا ما كن يخرجن للنزهة من دونها . إذا تأخرت فى البيت جاءت الفتيات فى طلبها ، ليس لأنها زعيمة عليهن ، لا ، بل لأن النزهة بدونها كانت مملة وتخلو من المرح . وفى الحقيقة ، لم يكن هناك من يرد على الفتيان عندما يبدأون بمعاكسة الفتيات ، بشكل يجد الجميع بعده ما يمكن أن يقول وكل واحد أفضل من الآخر أو الضحك بلطف على أثر شاب وفتاة يحاولان الابتعاد عن المرج قرب مجلس القرية دون أن يلاحظهما أحد . فيضحكن وكأنهن يضحكن لأنفسهن فقط متجهين حيثما يختفى الشاب والفتاة فى العتمة . كان ذلك الضحك الحذر الهادئ مثل الإشارة التى سرعان ما يلتقطها الجميع ، فيهز القرية كلها بضجيجه . لم يكن أحد من دونها ليردد الأغنية التى تولد بين الأعشاب ، وتتشابك خلف جذوع الأشجار ، وتتعالى بأصوات قوية تحمل البهجة أو الحزن للقرية من طرفها إلى طرفها الآخر .
كانت تطلب من أمها : " هاتِ رأسك إلىَّ هنا يا ماما " ، فهى تعرف أن الأم تحب أن يحك لها أحد رأسها بطرف المشط . ولم يكن أحد حتى من العجائز ليستطيع أن يمشطها كما تفعل تانشورا ، فهى تمس تلك الأماكن التى تتطلب ذلك دون أن تضر بشعرة واحدة . وتانشورا هى الوحيدة فقط من بين بناتها التى تستطيع أن تريح أمها فى ذلك . كانت تتقن تحريك المشط بسرعة وهى تردد : " أنتِ رائعة يا ماما ! " ـ وتقول العجوز فى دهشة : " لماذا ؟ " ـ " لأنك أمى التى ولدتنى ، وأنا الآن أعيش ، ومن دونك لم يكن ليلدنى أحد ، ولم أكن لأرى النور " . كانت تانشورا تضحك وتلملم شعر أمها وتمسده . " اذهبى عنى ! " ـ تردد العجوز وهى تتصنع الغضب ـ " تثرثرين ولا تدركين ما تقولين " ـ " لا ، أعرف أنكِ رائعة فعلا ، أنتِ أفضل الجميع . قولى لى ، هل نحن جيدون أم لا ؟ " ـ " أنا لا أقول أنكم سيئون " ـ " معنى ذلك أننا جيدون ، وهذا بفضلك أنتِ ، فلا أحد يستطيع أن يلد ويربى مثلنا . لا أحد ـ عليكِ أن تعرفى ذلك . لقد حالفنا الحظ بك . من لديه أم مثل أمنا ؟ هذه هى المسألة " . كانت العجوز تتجمد وترتبك من هذه الكلمات ، لم تكن تعرف أنه يمكن النطق بها بصوت مرتفع ، كان من المستبعد أن يقول مثلها أحد فى القرية حيث لم يتعودوا الرقة . من المعروف طبعا أن أحدا غيرها لم يكن ليستطيع أن ينجب أولادها ، ولكن هل يمكن الحديث عن ذلك ؟ ولماذا ؟ كانت الأم تخاف أكثر وتخفى رأسها فى طرف ثوب تانشورا . " ستعيشيـن طويلا ، طويلا ، أكثر من الجميع ، لأنك أفضل الجميع ، ولن نعطيك لأحد ، ولن ندعك تشيخين " . فتقاطعها الأم : ـ " لا تخرفى ! " ـ " أنا لا أخرف ، لا أستطيع أن أتصور أننا يمكن أن نبقى بدونك فى وقت ما " . كانت عينا العجوز تترقرقان بالدموع من هذه الكلمات الرقيقة الصريحة ، وكانت تنهض مسرعة . " كفى اليوم . لقد استغرقنا الكلام بينما العمل فى انتظارنا " .
كانت تلك الأحاديث تخيفها ، إلا أنها قلما كانت تدور ، عدة مرات لا أكثر . وكان ذلك يثير وجلا هادئا لذيذا ، مثل وجل العروس قبل ليلة الزفاف الأولى . وظلت الأم بعد ذلك تعانى هذا الإحساس طويلا . كانت تتذكر ، وكأنها مصادفة وبدون قصد ، بعض تلك الكلمات التى تجمعت فى الذاكرة لتدفِّئ بها روحها حينما تريد . وفى الحقيقة ـ أية أم يمكنها ألا تتأثر بذلك ؟! وهل كان يمكن ألا تصدق تانشورا إذا كان تعاملها دوما بلطف ودفء ، وتصارحها كصديقة بأشياء لا تعرفها كل أم عن ابنتها ، وحتى عندمـا تزوجت ، طلبت فى رسالتها أن تباركها أمها ، ولم ترفض الأم ذلك ، لم تجرؤ برغم حزنها ومرارتها لأنها لم تكن تعرف من الذى سيأخذ ابنتها .
وهكذا لم تظهر تانشورا منذ أن غادرت القرية .
كانت العجوز مستعدة فى الفترة الأخيرة أن تلوم نفسها ، وليس ابنتها ، على ذلك . ولكن مـا ذنبها ، هذا ما لم تكن تعرفه . لم تكن تستطيع السفر إلى تانشورا التى تعيش بعيدا جدا إلى درجة أن العجوز لا تستطيع الوصول إليها حتى فى خيالها ، فكيف لها أن تفعل ذلك فى الواقع . ولكنها كانت تدرك شيئا آخر : لا يجوز للأم ألا ترى ابنتها كل تلك الفترة الطويلة ـ كان ذلك عبئ عليها ، ومخجل لها أمام الناس ، وأمام ابنتها . فأية أم هى إذا كانت تستطيع تحمل هذه الفرقة ؟ وماذا فعلت من جانبها كى ترى تانشورا ؟ لم تفعل شيئا سوى الانتظار ، ولم تحرك ساكنا ، وماذا عليها أن تفعل حتى تكون هناك نتيجة ؟ يا إلهى ، لو يدلها أحد . لم تكن العجوز قلقة على لوسيا ـ فهى ليست من هذا النوع . أما فارفارا فعلى العكس ، يستطيع أى شخص أن يسئ إليها . ولكن فارفارا كانت قريبة ، أمام عينيها تقريبا . وإيليا رجل يستطيع الدفاع عن نفسه . ولكن تانشورا وحدها التى كانت مثل قطعة ألقيت عن عمد ، وكانت تعذب قلب العجوز أكثر من الجميع ، ولا تدعه يهدأ ليل نهار . لو تنظر إليها من خلال شق مرة واحدة فقط ، كى تعرف ماذا حل بها ، وكيف تعيش هناك فى البلد البعيد ، بين الغرباء من دون أمها . بمجرد النظر إلى وجهها ، ومن دون كلمات ، من الممكن معرفة الكثير عنها ، وعندها يمكن للعجوز أن تقرر ، هل تصلى من أجل ابنتها ، أم تفرح لفرحها . وعليها أيضا أن تراها قبل الموت ولو للحظة خاطفة ، كى تخلص نفسها من ذنب عدم رؤيتها طويلا . وأن تتطهر أمام الرب ، وتمثل بهدوء وسعادة ووضوح أمام محكمته : هـذه أنا ، عبدة الرب أنَّا ، بلا آثام ولا ذنوب .
ولكن اليوم هو المهلة الأخيرة . وإذا لم تصل تانشورا قبل حلول الظلام ، فهذا يعنى أنه لم يعد هناك أمل .
غفت العجوز فى راحة بعد أن أقنعت نفسها بأن تانشورا ستصل حتما ، وما عليها إلا أن تصبر ، وإلا ستعوق مجيئها أكثر فأكثر ـ فى البداية غفت بشكل خفيف وهى تلتقط من حولها كل صوت ، مع وعيها طوال الوقت بأنها تغفو . وبعد ذلك ، وكما يحدث عادة ، استغرقت بدون إرادة فى نوم عميق تاركة على الفراش مكان الإنسان ، كيسا فارغا . ولكن أين كانت ، وماذا فعلت ، لا أحد يدرى .
أعادتها الأصوات التى سمعتها وهى لا تزال بعيدة فى مكان لم تكن تفهم فيه ماذا يقولون . كان السمع أول ما عاد إلى العجوز ، ولكنه كان خفيفا ، والتقط فقط أصواتا غير مفهومة ، أشبه ببقبقة وكأن أحدا ألقى بحجر فى الماء . لم تعد العجوز الآن كما كانت فى الماضى . كانت تستيقظ فى الحال وكأنها حاضرة ، ولكنها الآن تحتاج إلى الوقت والقوة كى تستجمع كل ما يملكه الإنسان ـ السمع والبصـر والذاكرة ، وكأنها تفككت أثناء النوم إلى أجزاء ، ونسى كل جزء وظيفته .
فتحت عينيها ، ولم تميِّز فى الحال شيئا : كانت الغرفة مغبشة ، ولكن تلك الغبشة تحولت الآن إلى ظلام دامس . النوافذ تلمع من جهة الشارع فقط ، ولم يكن هناك سوى القليل من الضوء يتسرب من خلال الزجاج . ووصل إليها صوت لوسيا الواضح الحاد وهى تقول :
ـ كيف لا تخجلان ؟! أمنا بين الحياة والموت ، وهما كأنهما فقدا عقليهما !
لم تفزع العجوز فى الحال . استطاعت أن تميِّز ميخائيل وقد استند برأسه إلى المائدة ، وفى الطرف الآخر جلس إيليا . تحرك من مكانه وهو ينوى الرد على لوسيا . هنا شعرت العجوز ، أكثر مما رأت وفهمت ، أن الرجلين لم ينتهيا بعد من السكر ، وأنهما يتمرغان فيه مثل الذباب فى السم الذى خلط مع القشدة كطعم . وعند قدمى العجوز تأوهت فارفارا بعمق . ولكن العجوز لم تر لوسيا ، كان صوتها يصدر من الجانب الأيمن حيث الكمودينو تحت الأيقونة .
أحست العجوز بالفزع . صرخت من فراشها وهى تحاول النهوض . لم تصرخ مستفسرة ، وإنما منادية ومطالبة بأن يردوا عليها : ـ تانشورا !
وقبل أن تنحتى فارفارا على العجوز قالت :
ـ لقد استيقظت أمنا .
ـ تانشورا ! ـ نادت العجوز مرة ثانية وهى ترهف السمع ، وتحصر فيه كل ما تبقى فيها من قوة ، حتى أنفاسها أيضا .
ـ لم تصل حتى الآن ، يا ماما ـ فرقع مفتاح الكهرباء ، وسبحت الغرفة فى الضوء . كانت لوسيا تقف قرب المفتاح ـ لم تصل تانشورا حتى الآن ـ كررت لوسيا إذ أدركت أن العجوز لم تفهم .
غطوا وجوههم بأكفهم وضيَّقوا عيونهم تفاديا للضوء . وخيل للعجوز أنهم يختبئون لأنهم لا يريدون أن يقولوا لها الحقيقة . لم تصدقهم ، وكررت وهى تهز رأسها وتلفهم بنظرة طويلة متوسلة لم يستطع أن يتحملها أحد سوى لوسيا ، وضاقت أنفاسها كأنها تسلقت جبلا عاليا من دون أن تبقى قوة لخطوة أخرى . لم تكن تانشورا موجودة هنا ، وكان على العجوز أن تدرك ذلك منذ البداية . فبمجرد أن استيقظت : كان بإمكانهم أن يتحدثوا عن شئ آخر فى وجود تانشورا . لقد نامت طويلا . ظلت تهز رأسها وهى لا تصدق نفسها ولا تصدقهم أيضا ، عاجزة عن النطق بكلمة واحدة ـ كان رأسها يهتز فى استجداء بائس ، ضائعا على الوسادة ، والألم ما يزال فى حلقها ، والعجز عن استعادة الأمل بوصول تانشورا يسيطر عليها . وفى النافذة ، كما فى المرآة المطلية بالسواد من الطرف الآخر ، كانت تنعكس الغرفة السابحة فى الضوء الكهربائى ، ولم ينفذ من الخارج ، عبر الزجاج ، ولو حتى أية بقعة ما صغيرة . نهضت العجوز معتمدة على مرفقها ، واشرأبت إلى الأمام وكادت تسقط من الفراش ، وسألت فى لهفة وتوسل :
ـ أين ؟ أين هى ؟
جمدت العجوز وهى ترهف السمع . لم تكن عيناها تنظران إلى أحد بعينه ، بل كانتا تنظران باتساع كى لا تفوت رؤية من سينطق بالجواب .
قالت لوسيا فى هدوء :
ـ لو كنا نعرف ، فلماذا نخفى عنك ، أين هى . افهمى ، من فضلك : نحن لا نعرف شيئا .
وللمزيد من التأكيد ، وضعت فارفارا يديها على صدرها قائلة :
ـ والله ، يا أمى لم نرها . لن نكذب عليك ، لم نرها .
ـ ستأتى ـ تدخل إيليا فى سرور وحماسة . ويبدو أنه كان مسرورا بالفعل ، لأن الحديث تحول عنه وعن ميخائيل إلى موضوع آخر ـ إذا لم تحضر اليوم ، فسوف تحضر غدا ـ آى نعم .
ـ هذا ما قلتموه لىَّ بالأمس ، فأين هى ؟
ـ هذا ما لا نستطيع قوله لك ـ ستصل وتخبرك هى بنفسها .
ـ هذا ما سمعته بالأمس ، فأين هى ؟ ـ كررت العجوز ضائعة وكأنها تهذى ولا تسمع نفسها ، لأن كلماتها هذه لم تجد جوابا فى المرة الأولى ، فارتدت ثانية وترددت بداخلها بصدى مذنب . لماذا تسأل الآن عن ذلك ؟ لِمَ ؟ إنها الآن تعلم : لا ، لن تأتى . لقد مر وقت ذلك ، ولا جدوى من الانتظار أكثر . لم تأت تانشورا . لم تأت . وهكذا لم ترها العجوز .
ألقت العجوز برأسها على الوسادة وراحت تبكى .
قال إيليا ضاحكا :
ـ ها هى قد بدأت .
دارت فارفارا حول نفسها وهى تردد :
ـ أمى ! يا أمى !
وفجأة انقطع شئ داخل العجوز ، انفجر بأنين قصير ، ولم يكد هذا الأنين يهدأ حتى تحول إلى رنين من الماضى يذكرها بصباها ، وبدقات جرس مباركة غير متقطعة ، وإنما على العكس متواصلة ، كل واحدة تشد الأخرى . انجذبت العجوز إليه بقوة لدرجة لم تستطع معها التفكير فى المقاومة . فى البداية كان عليها أن تسير قليلا . كان الرنين قريبا منها ، ولكنه بعد ذلك راح يبتعد ، ويقود العجوز معه أبعد فأبعد ، بيد أنه كان يتردد واضحا مسموعا ، فلم تفقد ثقتها به ، كانت تعرف أين تتحرك وإلى أين تذهب . إنها تتذكر بصعوبة لماذا تألمت قبل ذلك ، وبكت للخسارة . ولكن الألم هدأ الآن ، وأصبحت متابعة الرنين سهلة ومبهجة ، فبكت العجوز من فرط السعادة ، بكت لأن كل شئ ينتهى هكذا على نحو جيد .
بكت العجوز دون أن تغطى وجهها أو تلمسه بيديها المستلقيتين إلى جنبيها . كانت عيناها مفتوحتين تطفر منهما دموع شحيحة قاتمة تسيل ببطء على وجهها . بكت فى سكون وصمت بدون أى صوت . كانت دموعها تنهمر فقط ، وكان وجهها شبه هادئ ، ولذا بدا ساخرا . كان كل ذلك غير مترابط ، فبدا مخيفا وغير حقيقى مما أفزع فارفارا الجالسة قرب أمها : بمجرد أن تنبهت حتى صرخت وألقت بنفسها على العجوز ، وراحت تهزها بكل قوتها . اندفعت لوسيا ، وجاء إيليا وأخذ ينظر من وراء ظهر أختيه . نهض ميخائيل قليلا ، ولكنه ما لبث أن عاد وجلس فى مكانه .
تعالى أنين العجوز . استطاعت لوسيا أخيرا أن تنتزع فارفارا عنها ، وأدارت العجوز رأسها نحوهم متوسلة ألا يلموسها . وكى تفصل فارفارا الهائجة عن الأم ، جلست لوسيا على الفراش إلى جانب العجوز التى تحركت من تلقاء نفسها وابتعدت عن ابنتها نحو الحائط وهى تمسح بيدها دموعها الصامتة عن وجهها .
قال إيليا وهو يعود إلى مكانه خلف المائدة :
ـ ماذا بكِ يا أم ، لماذا تخيفيننا هكذا ؟ قلتُ لكِ : لم تأت اليوم ، إذن فستأتى غدا ـ آى نعم . يجب الانتظار .
ـ ربما تأخرت لسبب ما ـ قالت لوسيا وقطبت جبينها غير مصدقة نفسها ، ومع ذلك تابعت ـ علينا الانتظار بالفعل ، فلا مبرر للعجلة .
كانت العجوز تسمعهم ولا تسمعهم : تسمع الكلمات التى حاولوا أن يشجعوها بها ، وتعرف من يقولها ، وصوت من ، ولكن ماذا كان فى تلك الكلمات ، فهذا ما لم يصل إلى وعيها ، كانت تمرره بعيدا عنها . استلقت وهى تنظر أمامها بعينين لا تريان ، وتشعر فى داخلها بخواء عميق مدركة أنها لا تزال تستلقى هنا ، لأنها لم تستطع أن تموت بعد . ولكن لم يعد هناك أى سبب لبقائها هنا . الآن عليها أن تصبر إلى أن تصبح روحها ، التى كانت تعيش كل ذلك الوقت فى الانتظار والأمل ، صافية من جديد وتصالح العجوز مع الخسارة التى حلَّت وتخفف من عذابها وحزنها ، وكى لا يتبقى فى نفسها شئ زائد ـ أى شئ سواها هى فقط ، لم ترغب فى التحرر الفورى ، لأنها تعرف أن كل شئ سيكون ، ويجب أن يكون هكذا ، وأن مصيرها بدون ذلك قد آل إلى نهايته التى يجب أن يتوقف عندها .
أخذوا يتحدثون ويتحدثون معتقدين أن الأم قد تحسَّنتْ ، وأنهم قد ساعدوها بكلماتهم . لم تجبهم ، ولكن ترديد اسم تانشورا كان يدفع العجوز مرة وراء أخرى ، ويعيدها تدريجيا من هناك ، حيث كانت وحدها . أدهشها الضوء الكهربائى ، وذكرها بالضوء النهارى الذى لم تلحق أن تصل فيه تانشورا ، والذى لا سبيل لإعادته ، ولن يساعد على ذلك أى ضوء كهربائى . وفى الحال استيقظ فيها الألم . ارتعدت العجوز فى قلقها وعدم رغبتها فى تحمل أية معاناة زائدة ، ورأتهم بجوارها : ها هم لوسيا ، وفارفارا ، وإيليا ، وميخائيل … تانشورا ليست موجودة . ولم تستطع أن تكون هنا .
ـ لقد حدث لها شئ ـ كررت العجوز تلك الكلمات وراء أحدهم ، والآن فقط صدقتها وفزعت ـ لقد حدث لها شئ ـ قالت فى إصرار وبصوت أعلى ـ إنكم تخفون عنى ، تكذبون علىَّ . أنا أعرف .
نهضت لوسيا عن الفراش وقالت فى دهشة وضيق :
ـ ما هذا يا ماما ؟! ما هذا ؟! بماذا يجب أن نخبرك ؟ لماذا نكذب عليك ؟!
ـ تكذبون ، تكذبون ـ شرعت العجوز فى النهوض وانهمكت فى ذلك حتى أن المنديل انحسر عن رأسها كاشفا عن شعرها القليل الأشيب ـ أعرف أنكم تخدعوننى ، وتخفون عنى كى لا أعرف . تقولون : غدا ، غدا ، ولا شئ آخر . لن يكون هناك أى غد آخر . هل تعتقدون أننى فقدتُ عقلى ولا أدرك شيئا ـ كان شعرها المهوش ووجها المرتعد يجعلانها فعلا مثل المجنونة ـ نعم ، تانشورا هى أول من يطير إلىَّ لو لم يحدث لها شئ . وأنا مثل الطفلة الصغيرة ، أنتظر وأنتظر .
صرخت لوسيا :
ـ كفى من فضلك ، يا ماما ! هل تدركين ما تقولين ؟ لا أحد يكذب عليك ـ هل تفهمين أم لا ؟
ما قالته لوسيا بصوتها الذى يجبر على الخضوع ، سمَّر الجميع وأوقف العجوز : سكتت مفزوعة وارتجف فمها المفتوح ، واهتزت شفتاها وعجزتا عن الانطباق ، وقالت فى تشكٍ :
ـ لو حدث لها شئ فلن أستريح حتى فى العالم الآخر .
ـ لا نعرف ، هل حدث لها شئ أم لا .
رفعت العجوز يديها من تحت جسدها وانزلقت بهدوء إلى الفراش وعادت إلى رقادها . غاب الدم سريعا عن وجهها ، فازداد شحوبا . وفى هذا الهدوء المخيم ، كان يُسمَع وقع أنفاس فارفارا المصحوب بصفير ثقيل .
نظرت العجوز فى فزع إلى لوسيا ، وانكمشت فى فراشها قائلة :
ـ هل وصلت الحرب إلى هناك ، حيث تعيش الآن ، أم لا ؟
أجاب إيليا :
ـ فى كييف ؟ لقد استولى الألمان على كييف ـ آى نعم . هذا ما أذكره بالضبط .
هزت العجوز رأسها فى مرارة وأخذت تنوح :
ـ هذا هو إذن . لماذا هى كذلك ؟ لماذا لم تسأل الناس ؟ وهل كنتُ سأوافق أنا على سفرها إلى هناك ؟ لماذا جاءت ضالة هكذا ؟ إننى أنتظرها ، ولكن هل تستطيع أن تخرج من ذلك المكان ؟! لقد وضعت بنفسها الحبل حول عنقها . كان عليها أن تفكر .
قاطعها إيليا :
ـ انتظرى ، يا أمى ، انتظرى . هل نزلتِ من القمر ؟ لقد انتهت الحرب لدينا منذ زمن بعيد .
ـ الأمر سيان .
ـ ما هذا الـ " الأمر سيان " ؟
ـ أين هى إذن ، أين ؟ لماذا ليست هنا ؟
ـ مرة أخرى " أين هى " . لقد بدأنا يا أم نناقش حكاية العجل الأبيض ـ آى نعم .
ضرب ميخائيل الطاولة بيده وقام مترنحا :
ـ حسنا ، كفى ـ لن تأتى تانشوراك ، ولا داعى لانتظارها . لقد أرسلتُ إليها تلغرافا كى لا تأتى .
انتفضت العجوز وسألت غير مصدقة :
ـ ماذا يقول ؟
ـ أقول ، لقد أرسلتُ لها تلغرافا كى لا تأتى ، فليس هناك سبب يدعوها للسفر إلى هنا .
تأوهت فارفارا :
ـ آه ، ماذا فعلت !
وبسرعة سألت لوسيا :
ـ متى لحقت وأرسلت لها تلغرافا ؟
ـ بعد أن قامت أمنا مباشرة .
ـ إذن لماذا سكتَّ حتى الآن ؟
ـ طار كل شئ من رأسى بسبب تلك السكرة ، نسيت .
ـ والآن تذكر جيدا أنك أرسلت لها تلغرافا ؟
بالضبط ، أذكر .
ـ ربما توهمت ذلك بتأثير الخمر ، كما تقول .
ـ لا ، لم أتوهم . لقد أرسلتُ إليها ـ يمكنكم التأكد فى مركز البريد . حينما دار الحديث عن ذلك الآن ، تذكرتُ أننى أرسلتُ إليها .
قال إيليا فى سرور :
ـ أ ترين يا أمى ، لم يحدث شئ لتانشوراك . إنها حية معافاة وترجو لنا الشئ نفسه ـ آى نعم . وأنتِ هنا قد طار عقلك ، وطيَّرتِ عقولنا معك . قلتُ لكِ : ينبغى الانتظار ، وسيتضح كل شئ . دائما هكذا . المهم ـ الانتظار وعدم التعجل .
لم تسمعه العجوز :
ـ لماذا فعل ذلك ؟ ـ تمتمت العجوز وجمد وجهها فى تساؤل يائس ـ لماذا فعل ذلك ؟ ـ تساءلت وهى تهز رأسها وكأنها ما زالت لا تصدق ميخائيل وتطلب منه الاعتراف بأنه كان يمزح ولم يرسل أى تلغراف ثان إلى تانشورا ـ لماذا فعلت ذلك يا ميخائيل ؟
ـ لماذا ، لماذا … لقد تحسَّنتِ ، وفكرتُ أنه لا حاجة لأن تسافر وتكلف نفسها .
ـ كنتُ أريد أن أراها ، لماذا فعلت ذلك ؟ ـ سعلت العجوز ، وغص حلقها بالغضب ـ كنتُ أود أن تجلس بجانبى ، أن تقول لى شيئا ، فأنا أمها ولستُ غريبة ، أردتُ أن أودعها ، لن أستطيع رؤيتها بعد الآن . لماذا فعلت ذلك ؟! لا أريد منها شيئا ، لا أريد هدايا أو أى شئ ـ أريد أن أراها فقط ، وأنظر كيف صارت الآن قبل النهاية ـ لم تبك العجوز ، ولكن صوتها ضج بالشكوى والنشيج المؤلم ـ ماذا فعلت ؟ لقد حرمتنى من آخر فرحة ، حجبت عنى آخر ضوء . أبقيتنى من دون تانشورا وأنا أواجه الموت . لـم ترحمنى . لم تدرك أننى تجاوزت حدود قواى وأنا أنتظرها .
سألته لوسيا فى عصبية :
ـ ولكن فعلا يا ميخائيل ، بأى حق قررت من دون استشارتنا ، هل يجب أن تأتى تانشورا أم لا ؟ كنتَ متيقظا فى ذلك الوقت . يعنى ، كان عليك أن تدرك ما تفعله .
قالت فارفارا :
ـ لا خجل ، ولا ضمير !
ومع التأييد الذى لاقته ، تحولت العجوز إلى الغضب .
ـ لقد فعل ذلك متعمدا ـ قالت فى بطء وكأنها تتذكر ، وجلست . انتفش شعرها المكشوف مرة أخرى ، وأمسكت يداها النحيلتان المرتجفتان بحافة السرير ـ لقد فعلتَ ذلك قاصدا ، أنا أعرف . قصدتَ أن تضايقنى حتى قبل الموت . حتى قبل الموت تضايقنى ولا تتركنى أرحل فى هدوء . انتزعتَ منى تانشورا كى تهزأ بى .
ـ لا تخرفى يا أمى ، ولا تقولى كلاما فارغا . فلماذا أفعل متعمدا وأضايقك ، ماذا تخترعين ؟
ـ قصدتَ ذلك ، قصدت ـ ضاق تنفس العجوز وأمسكت صدرها بيديها فى هدوء وهزت رأسها كى تهدأ ـ هل تعتقد أننى سأسكت ؟ لا ، لم أعد أخشى أحد . إنه يبحث لىَّ عن الموت منذ زمن بعيد ، فأنا العجوز مثل الشوكة فى حلقه . فما الفائدة منى ؟ لا يأتيه منى غير التعب ـ لهذا فهو يغضب ويرتب لى الألاعيب .
خطا ميخائيل خطوة نحو فراش العجوز :
ـ عودى إلى صوابك ، يا أم ، بماذا تخرفين ؟!
صرخت فارفارا :
ـ لا تقترب ! لا تقترب من أمنا ! لا يحق لك أن تقترب .
ـ تقول " تخرفين " ؟ ـ كررت العجوز فى تحدٍ ، وسكتت وكأنها تجر ميخائيل إلى الجدال . وكان هو يقف الآن مهتزا وسط الغرفة ـ أ لا تذكر كيف أثرت الرعب فى نفسى ؟
ـ لا أذكر شيئا .
ـ ذات مرة ، جاء سكرانا كعادته : " ترقدين يا أمى ؟ " ـ " نعم ، أنتظر موتى " . فقال : " أ لا تعرفين أنهم يعيشون الآن عندنا حتى السبعين ، وممنوع تجاوز هذا السن ؟ " ـ " وكيف ممنوع ؟ ما دام الموت لم يأت ، فالإنسان يعيش ولا يطرده أحد " . فقال : " كان ذلك فى الماضى ، أما الآن فممنوع . قرأتُ هذا فى الجريدة بنفسى " .
خمَّنتْ لوسيا :
ـ هذا متوسط عمر الإنسان فى بلادنا ، لعله كان يريد أن يقول لكِ ذلك .
ـ كيف ؟
ـ كل إنسان يا ماما يعيش قدر ما يستطيع ، واحد يعيش طويلا ، وآخر أقل . وحين حسبوا ذلك توصلوا إلى أن متوسط عمر الإنسان فى بلادنا سبعون عاما . ولكنك على سبيل المثال ، ستعيشين حتى التسعين …
ـ لا حاجة بى إلى التسعين ـ فماذا أفعل بها ؟
ـ هذا على سبيل المثال . أنتِ تعيشين تسعين عاما ، وآخر ـ خمسين ، يعنى أن متوسط عمريكما هو سبعون عاما . وهذا هو متوسط عمر الإنسان فى بلادنا . هل تفهميننى ؟
ـ ولماذا لا أفهم ؟ لو قال لىَّ ذلك لِمَا شكوته . لقد أفقدتُ أيضا ميرونيخا عقلها بسببه . أخبرتها ما سمعته منه ، فقالت لى : " لا تخرفى أيتها العجوز " . ولكننى رأيتُ أنها خافت ، خافت فعلا وجلسنا نرتعد معا . قلتُ لها : " أنتِ تستطيعين السير ، فاذهبى إلى يجور ، فهو يقرأ الجرائد أيضا ، ربما عرف شيئا " . وذهبت . ولكن هل يمكن فهم شئ من يجور هذا ؟ قال لها : " هل تعرفين يا ميرونيخا ، أنه لا يوجد فى الدكان صابون أسود ؟ " لا يوجد فعلا " ـ " ولكنه سيتوفر الآن . لقد صدر أمر بصنع الصابون الأسود من أجساد العجائز ، لأنه لم يبق لربات البيوت ما يغسلن به " . فقالت له : " لا تسخر منى ، يا يجور . أنا لستُ زوجتك ناتاليا ، فلن أتحمل " . ولكنه أفزعها أكثر : " إذا كنتِ لا تصدقيننى فهذا شأنك ، ولكنك ستتأكدين بنفسك قريبا . فى قرية كلوتشى حولوا جميع العجائز إلى صابون أسود أول أمس ، وخلال هذه الأيام سيصلون إلى هنا " . الأمر غريب جدا ، وغير مريح أبدا ـ لا أكذب ، فلماذا أكذب ؟ جلسنا أنا وميرونيخا ، عجوزان ، بين الحياة والموت ، ولم تعد هى تذهب إلى بيتها فمن يريد أن يُعَلَّق ويتدلى من الحبل ؟ نحن مسيحيون أيضا ، ولنا رب نؤمن به .
ضربت فارفارا كفا بكف :
ـ ماذا يفعلون ، ماذا يفعلون ! يسخرون من أمنا ، ماذا يجرى فى الدنيا ؟
ـ متى قلتُ لكِ هذا يا أمى ؟ ـ ترنَّح ميخائيل ومسح بكفه وجهه العارق . كان يقف بالكاد على قدميه ، ومن الواضح أنه كان يتألم . تجمع الغثيان بسبب فودكا الأمس واليوم كله فى حلقه ، فكان يبلع ريقه بعصبية محاولا دفعه إلى الأسفل . قوَّس ظهره وصار يعتمد فى وقفته على ساق ثم أخرى ، ولم يعد يذكر هل نهض بنفسه عن المائدة التى كان يستطيع الاعتماد عليها أم أن أحدا أبعده إلى وسط الغرفـة بالقوة . كانت الأم تبدو كالشبح أمام عينيه ، تظهر تارة وتختفى تارة أخرى ، فهو لم ير العجوز أبدا مكشوفة الشعر ، فخاف منها ، وما إن ينقل بصره إلى أحد من إخوته ، حتى تسكن الغرفة وتكف عن الدوران ، وتغوص الأم باستسلام فى فراشها ، ولكنها سرعان ما تختفى فى مكان ما من جديد ثم ترتفع فى الهواء ، وتبدأ الغرفة فى الدوران وهى تصرصر فى أركانها . بدا أن ما قالته العجوز قد أثار دهشته . نظر إلى فارفارا وأوقف دوران الغرفة متسائلا : ـ متى قلتُ لكِ ذلك يا أمى ؟
ـ لا يذكر ، لا يذكر شيئا . قال ونسى . أما أنا ففقدتُ عقلى .
ـ أنا فعلا لا أذكر .
ـ ما هذا يا ميخائيل ؟ ـ بدأت لوسيا رقيقة مستعطفة ، وفجأة رفعت صوتها دفعة واحدة ـ ما هذا ؟ أنا أسألك ، ما هذا ؟ هذا يتجاوز الحدود . لا أعرف ماذا تسمى ما تسمح لنفسك أن تفعله مع ماما . هذا ظلم ، جور حقيقى وأسوأ . من أعطاك الحق بالاستهزاء بها هكذا ؟ من ؟ وأنتِ يا ماما ، لمـاذا تتحملين ؟ أ ليس لكِ من يدافع عنك ؟ هل هو وحيد لديك ؟ أعيش ولا أعرف شيئا معتقدة أن كل شئ هنا على ما يرام .
دعت فارفارا العجوز قائلة :
ـ اسمعى يا أمى ، اسمعى . لوسيا محقة فيما تقول . لقد تواقح جدا ! وهل يعتقد أن لا سلطة لأحد عليه ؟ يوجد يا عزيزى ، يوجد ، وهى كفيلة بإيقاف من هم أسوأ منك .
ـ كان بإمكانك فى نهاية الأمر أن تخبرى أحد منا كيف يعاملونك هنا ، وألا تتحملى هـذه الملاعيب . أنتِ تستحقين ، بلا شك ، شيخوخة هادئة . نحن لا نسمح لأحد أن يهزأ بكِ ، وخاصة ابنك من لحمك ودمك . إذا كان لا يريد أن تعيشى عنده فلا حاجة لذلك ـ يمكننا أن نتصرف .
وفجأة انفجر ميخائيل :
ـ وماذا أيضا ؟! ماذا ؟ ربما يأخذها أحد منكم معه ؟ هيا خذوها . سأعطى بقرة أيضا لمـن يأخذها ، ها ؟ ـ مد يده مشيرا إلى العجوز ، وضحك فى خبث وغضب ـ ماذا ؟ أعطى بقرة . من منكم يحب أمه أكثر من الآخرين ؟ خذوها . لماذا تطيلون التفكير ؟ أنا شرير ، وأنتم طيبون . من منكم أفضل من الجميع ؟ ـ خطا صوب لوسيا ـ أنتِ ؟ أنتِ تأخذين أمك معكِ ؟ ستعتنين بها ؟ ستبيعين البقرة وتوفرين النقود . الأم لا تحتاج الكثير ـ أ ترين إنها لا تأكل تقريبا ، البقرة تكفيها وأكثر . إنها تحتاج إلى عدالتك ، فأنتِ لدينا أعدل الجميع ، تعرفين كل شئ ، تعرفين كيف ترعين أمك كى تكون فى غاية الراحة . ستفرشين لها فراشا بيضاء نظيفة ، وستقرأين عليها محاضراتكِ . خذيها بسرعة كى لا يسبقكِ أحد ـ ماذا تنتظرين ؟
قالت لوسيا مختنقة :
ـ لقد فقدتَ عقلك ! أنت مجنون !
ظهرت ناديا وانقضت على ميخائيل :
ـ توقف الآن ، حالا ، توقف ! ستفضحنا ، اذهب !
دفعها جانبا .
ـ لم يكن ينقصنا غيرك .
صرخت ناديا :
ـ لا تستمعوا إليه ! لا تصدقوه .
ضحك ميخائيل مرة أخرى ، شعر كيف تحركت فيه نشوة السكر ، ونبحت سرورا وأخذت ترقص .
ـ لقد فقدتُ عقلى ـ واضح جدا . ولا ينبغى أن تبقى الأم مع مجنون . ربما تأخذينها أنتِ إذن ؟ ـ سأل فارفارا فى مرح ـ فالبقرة لن تزعجك إطلاقا . ولن تشعر الأم مع أسرتك بالملل . ستكون مستريحة هناك ومطمئنة ، العيش مع الابنة أفضل بكثير ، فالابنة لن تسكر ، ولن تزعج أمها ، ها ؟ وافقــى ، وافقى ـ لماذا تصمتين ؟
ردت فارفارا فى ارتباك :
ـ المكان ضيِّق عندنا ، وسونكا على وشك الولادة . لو كان لدينا مكان لأخذتها .
ـ تقولين أنه ليس هناك مكان لديك ، والبقرة أيضا لا يوجد لها مكان ؟
ـ لا ، يوجد مكان للبقرة ـ فى الزريبة .
ـ إذن ، هناك مكان للبقرة ، ولا يوجد مكان للأم . الأم لا توضَع فى الزريبة . هكذا إذا ـ وأشار إلى لوسيا ـ ربما تأتى بعد خمسة أو عشرة أعوام وتقول ، بأن هذا يخرج عن كل الحدود . وأنا سأنضم إليها وأقول : لن أسمح أن تعيش أمنا فى الزريبة . فأنا أريد أيضا أن تعيش مثل البشر ـ التفتَ صوب إيليا ـ وأنتَ يا إيليا كيف تنظر إلى ذلك ؟ ربما تأخذ أنتَ أمنا ؟ تأخذها إلى زوجتك ، وهى ستعتنى بها . فأنتَ دوما فى الشغل وليس هناك من تتبادل معه كلمة حنونة . وأمنا ، كما ترى ، لا تتكلم كثيرا ، وستناسبها . سترتاح عندكم بعد عذابها عندى .
قال إيليا فى عصبية :
ـ لقد شربتَ كثيرا يا ميخائيل . أنتَ نفسك لا تعى ما تفعله ـ آى نعم .
قالت لوسيا صارخة :
ـ ألا تفهم أنه لا ينبغى نقل ماما الآن إلى أى مكان ؟
راوَح ميخائيل فى مكانه ، ولف الجميع مرة أخرى بنظرات جنونية :
ـ إذن لا أحد يريد ؟ لا أحد يلزمكم ، والبقرة أيضا لا تلزم أحد إذن ربما تأخذونها بدون البقرة ؟ ترفضون أيضا ، واضح ـ ملأ صدره بالهواء ونفث قليلا ـ إذن ، اذهبوا عنى كلكم ، تعرفون إلى أين … ولا تقولوا بأننى شرير . لا تنبحوا علىَّ . وأنتِ يا أمى ارقدى ونامى . ارقدى حيث أنتِ ، إنهم يحبونك أكثر عندما ترقدين هنا .
واندفع نحو الباب .
فى ذلك الصمت المتوتر الثقيل ، المرير ، تردد صوت العجوز متوسلا :
ـ يا إلهى ، دعنى ، سأذهب . ابعث إلىَّ بموتى ، فأنا جاهزة .
فى الحمام المظلم ، تناول ميخائيل بيدين مرتجفتين زجاجة من خلف الموقد ، وأخذ كأسا من فوق القن ، ضغط على حافته بإصبعه وصب من الزجاجة حتى سالت الفودكا من الكأس ، وبعد ذلك سكب الزيادة على الأرض وشرب دفعة واحدة ، ثم انهار على الفراش الذى كان ينام عليه إيليا من قبل .
( 10 )
فى تلك الليلة قررت العجوز أن تموت دون تأجيل . لم يعد لديها ما تفعله فى هذه الدنيا ، ولا يوجد سبب لإبعاد الموت عنها . وما دام الأولاد ما زالوا هنا بعد ، إذن فليدفنوها ويودعوها كما هو متبع لدى الناس حتى لا يضطروا إلى العودة مرة ثانية من أجل ذلك . عندئذ ستحضر تانشورا أيضا ، وسيضطر ميخائيل إلى إرسال تلغراف آخر إليها لكى تحضر ، فلا مفر من ذلك . راحت العجوز تفكر فيها بدون ألم ، فهى تعرف أنها لن ترى تانشورا ، وعبثا انتظرت وأجهدت نفسها ، وأتعبت الآخرين ، ولولا ذلك لكانت الآن راقدة جاهزة ، ولنسيت أنها وُجِدَت وعاشت ـ نسيت كل شئ ، وتحررت من كل شئ . وطبعا لو جاءت تانشورا لكان الموت أنقى وأكثر إشراقا ـ هذا ما تمنته العجوز . ولكن ما العمل ـ لماذا تكدر نفسها الآن ، ينبغى ألا تكدرها ، بل يجب أن تعتقها مع الندم وتدعها تطير . فقد آن الأوان .
ظلت العجوز راقدة فى فراشها تنتظر حتى يهدأ البيت ، لأنها كانت تعرف أن موتها وَجِل ولن يأتى وسط الضجيج . فى ذلك المساء رقدوا مبكرا ، مباشرة بعد الفضيحة التى أثارها ميخائيل ، ولكنهم لم يستطيعوا النوم ـ كانوا يتقلبون ويتنهدون . لم يكن من السهل نسيان كل ما قاله . فالنسيان ـ ليس زرا كهربائيا يفتح ويقفل : ضغطة ـ يضئ ، وضغطة ـ يظلم . قد تكون نينكا هى الوحيدة التى غفت ، وكانت تتمطق فى نومها . ربما نامت وفى فمها قطعة سكاكر ، أو أنها أتعبت لسانها طوال اليوم من الحلوى حتى أنه لم يهدأ إلى الآن .
كانت العجوز تفكر كثيرا فى الموت وتعرفه كما تعرف نفسها ، ففى السنوات الأخيرة أصبحا صديقين ، وغالبا ما كانت العجوز تتحدث إليه . أما الموت ، فكان يقبع فى مكان جانبى ، ويستمع إلى همساتها الحكيمة ويتنهد متفهما . اتفقا أن ترحل العجوز ليلا : فى البداية تغفو مثل باقى الناس كى لا تخيف الموت بعينيها المفتوحتين ، وبعد ذلك يأتى الموت ويلتصق بها فى لطف ويرفع عنها النوم الدنيوى القصير ويمنحها الراحة الأبدية .
ليس صحيحا أن الموت واحد لكل الناس ـ ليس عجوزا شريرا أعمى كالهيكل العظمى يحمل منجلا خلف ظهره . هذا اخترعه أحد ما كى يخيف به الأطفال والحمقى . كانت العجوز تدرك أن لكل إنسان موته الخاص الذى يماثله تماما ويشبهه بالضبط ، مثل توأمين ، بنفس العمر ، جاءا إلى الدنيا فى يوم واحد ، وسيرحلان فى يوم واحد أيضا : الموت ينتظر الإنسان ، ثم يحتويه فى نفسه ، ولا يفرط أحدهما فى الآخر أبدا . وكما يولد الإنسان لحياة واحدة ، يولد الموت كذلك ، لموت واحد . مثل الإنسان الذى لم يتعلم الحياة سابقا ، ويحيا كما اتفق ، ولا يعرف ما سيحمله له الغد ، كذلك الموت ، لا تجربه له فى عمله ، وغالبا ما يقوم به بشكل سئ وبدون قصد محمِّلا الإنسان ثقل العذاب والرعب .
عرفت العجوز فى قرارة نفسها أن موتها سيكون سهلا . فقد كان أمامهما الوقت الكافى لكى يشاهدا كيف يعيش الآخرون ويموتون ، ولا حاجة بهما فى نهاية الأمر إلى أن يعذبا بعضهما البعض ـ كما لم تعد لديهما قوة لعمل ذلك . العجوز لن تقاوم ، وهذا الآخر لن يغضب منها لأنها جرته طويلا وراءها : لم تفعل ذلك عمدا ، ولم تخش الموت أبدا ـ ربما فى صباها فقط وبسبب جهلها ـ ولكنها كانت دوما تعتبره خلاصا من العذاب والعار . وإذا كانت حتى الآن لم تدعه إليها ، فهى فى ذات الوقت لم تبعده عن نفسها ، ولم تطلب العيش أطول من غيرها ـ عاشت كما قُدِّر لها . أما الآن فقد حان الوقت لتدعوه . كفى .
الشئ الذى ظلت العجوز لا تفهمه هو لماذا يموت الصغار . كانت تعتبر ذلك ذنبا حينما يدفن الآباء أبناءهم . وكانت مستعدة لأن تُحَمِّل الرب مسؤولية هذا الذنب . الموت لدى الصغير صغير أيضا ، غيـر فطن . يلعب معه ويسلِّى نفسه ، وبلا قصد يفعل فعلته ـ وهو ذاته لا يدرى ماذا فعل . ولكن أين كان الرب وقتها ، وفى أى اتجاه كان ينظر ؟ إثم ، إثم أن يموت الطفل بعد ولادته ، وهو لم يع بعد ماذا به ، ولماذا يرى النور بعينيه ، ويشعر بالجوع فى معدته مضطرا بذلك لأن يفقد حياته ، فهو لم يرتكب ذنبا واحدا كى ينزل به هذا العقاب . ولماذا خدعوه ، لماذا ولدوه ؟ لماذا جعلوه يرى الدنيا وخلعوا عليه صفة الإنسان ؟
هى نفسها دفنت خمسة ، وضعتهم إلى جوار بعضهم البعض كى لا يسأموا فرادى . لِنَقُل أن أربعة منهم كانوا مرضى ، ولكن الخامس كان طفلا ، مات دون سبب . قبل يوم واحد كان سليما صحيح الجسد ، غفا فى هدوء ، وفى منتصف الليل بدأ يصرخ كما يصرخون جميعا حينما يكونون فى حاجة إلى شئ ، وأيقظ الأم . رفعته من الأرجوحة وألقمته ثديها معتقدة أنه استيقظ بسبب الجوع ، وغفت أثناء إرضاعه . ثم شعرت أنه ترك ثديها ، ولكنها واصلت جلوسها ممسكة به كى يغفو عميقا . ولمَّا همت بالنهوض ، شعرت وكأن أحدا وخزها فى خاصرتها : ما هذا ، لماذا لا ينبعث منه الدفء ؟ نظرت إليه ، فإذا به قد فتح فاه . فكرت أنه كان يريد الرضاعة ، ولكنه أراد أن تحمله بيدها كى يموت قرب أمه ، وليس وحيدا . ولكن لماذا ، ولأى ذنب ؟ أية ذنوب ارتكب وهو لم يتعلم السير بعد ، بل كان ينظر كيف يسير الآخرون ، لم يكن بعد يعرف الكلام ، وإنما كان يفهم فقط ما إذا كان الآخرون يتحدثون إليه بحنان أم لا ؟ لم يكن يعرف أى عمل من أعمال الإنسان ـ الأكل والنوم فقط ، وهذا لم يتعلمه فى هذه الدنيا ، ولا بنفسه ، وإنما عرفه قبل الآن حينما تحوَّل دون رغبته ودون إرادته إلى كائن بشرى .
اضطرت العجوز ، فى حياتها ، أكثر من مرة لأن تواسى نفسها : الرب أعطى ، والرب أخذ ، ولكن ذلك القول غير مناسب هنا ، كيف يمكن أن يأخذ ما لم يعطه فعلا ، بل وعد به وأظهره فقط ؟ زد علـى ذلك ـ كيف يمكن بعد أن كاد الصغير أن يدرك أنه موجود ، وأنه سيفيق بعد أن يغفو ، ويفتح عينيه كى يتعلم ، ويدرك أكثر مما أدرك وعرف ، وأن ينمو أكثر مما كان ـ كيف يمكن بعد ذلك قطعه من جذوره التى كان لا يكاد يعتمد عليها ، وإلقاؤه تحت الأقدام ؟ إثم ، إثم .
ثلاثة آخرون لدى العجوز لم تتمكن من دفنهم ـ هؤلاء قتلتهم الحرب ، وكون الأم لم تشاهد موتهم أو تعرف قبورهم ، كان عقابا آخر لها : وتظل تتصور طوال الوقت أنها هى نفسها التى تسببت فى ضياعهم ، بسبب قلة عنايتها بهم . ماذا كان عليها أن تفعل لكى تحافظ عليهم ، لم تكن تدرى ، ولكن لحظتها ، ربما ، كان عليها أن تفعل شيئا وألا تجلس مكتوفة اليدين تنتظر أن يأتى إليها البحر بطقس جيد . لكنها انتظرت ـ فحملوا لها ثلاث ميتات لكل واحدة ورقة . سافروا فتيانا أحياء أصحاء كل منهم أفضل من الثانى ، بل لم يكونوا فتيانا وإنما رجالا ، ولكن لم يبق منهم سوى ثلاث ورقات .
وهكذا فلديها من ترحل عنه ، ولديها أيضا من تذهب إليه . بالإضافة إلى أولادها ، هناك أبوها وأمها وأخواتها واخوتها . هى الوحيدة التى تأخرت من أسرة أبيها الكبيرة . أخوها الكبير مات فى السنة قبل الماضية . رحل عنها أيضا ، إلى هناك ، عجوزها أثناء الحرب . ولكن قُدِّرَ له فى تلك المعمعة أن يموت ميتة طبيعية : أخذوه فى جيش السخرة ، وهناك لم يستطع احتمال المرض ، بيد أنه كان محظوظا بالنسبة لذاك الوقت : استطاع العودة إلى البيت ، وكان الفصل صيفا .
اعتبرت العجوز موت زوجها قدرا ـ لا أكثر ولا أقل . فى ذاك الوقت كانت قد تعودت تدبير شؤون الأسرة بدونه . لا يمكن القول أنهما عاشا معا بشكل سئ تماما ، فهناك آخرون يعيشون بصورة أسوأ ألف مرة ، ولكنهما لم يعيشا بشكل جيد أيضا . لا ، لم يكن يشرب ، وربما كان الحال أفضل لو كان يشرب . فالحماقة البشرية مثل الزبد الذى فى المِرْجَل ، ومن الضرورى إزالته بشئ ما ، والفودكا إذا لم تُشرَب دون حساب فهى دواء للكثيرين : يشرب الإنسان ويُغَنِّى الأغانى ، ويُنَفِّس عن نفسه ، ثم يهدأ ويواصل حياته . أما هو فكانت الحماقة تلازمه شهورا كاملة . آنئذ لم يكن يدع العجوز تعيش حياتها : مهما فعلت ، لم يكن يعجبه أى شئ . إنها تتعجب من نفسها ، من أين كان لها كل ذلك الصبر لِتَحَمُّل تقريعه الذى كان ينهال عليها ليل نهار . وبعد ذلك تتحول الحماقة فجأة إلى شكل آخر : كان يلزم الصمت ولا ينبث بكلمة واحدة طوال ستة أشهر . جيد أنه كان قليلا ما يبقى فى البيت : إما كان يذهب إلى الصيد ، أو يسافر بحثا عن الرزق ، أو يعمل شتاء فى نقل المواد من المدينة إلى الجمعية الاستهلاكية الريفية . ففى ذاك الوقت ، قبل الحرب ، كانت المواد تنقل على ظهور الخيل ، وكان السفر طويلا .
أكثر ما أثار دهشة العجوز فى موته أنه كان قريبا جدا من الحرب ، حيث الموت يحصد الأرواح ، ومع ذلك استطاع العودة إلى البيت وملاقاة موته فى هدوء وسلام . وجدت ، هى ، فى ذلك إشارة خفية ، وعلى الفور تصالحت مع العجوز . وعندما أدركت أنه انتهى ، بدأت صلاتها : " يا إلهى ، اغفر لنــا ذنوبنا … " . لم تقل : ذنوبه ، وإنما قالت : ذنوبنا . وكان حزنها ودموعها حقيقيين . فهو فى كل الأحوال كان أبا لكل أولادها ـ الموتى والشهداء والأحياء . حقا ، لديها من ترحل إليه ، ولديها من تتركه .
أرهفت السمع : هناك فى مكان ما ، خلف النافذة ، تعالى صوت رنين جرس دابة ، وترددت فى البيت أنفاس البشر كالأمواج ، ولم يكن مفهوما ، هل هم نائمون أم لا . لا ، ما زال الوقت مبكرا ، والأفضل ألا تتعجل .
كانت العجوز تعرف جيدا ، كيف ستموت وكأنه سبق لها وأن جربت الموت أكثر من مرة . ولكن المسألة أنها لم تجرب ، ومع ذلك كانت تعرف لسبب ما ، وترى بوضوح صورة موتها أمام عينيها . ربما فيما بعد ، قبل النهاية بالذات ، ينكشف ذلك لكل إنسان كى ينظر مسبقا فى حياته حتى آخر لحظة ، ما دام هو فى وعيه بعد . لقد حدثوه عن البداية حين صار كبيرا ، وأصبح يفهم ويفرِّق بين الأشياء ، ومن غير الصحيح ، وغير العدل لو لم تظهر له نهاية حياته .
ستنام ، ولكن ليس خلسة من أجل نفسها كما كان الحال دوما ، بل بوعى وصفاء ـ وكأنها تهبط درجا إلى أسفل ، وتقف قليلا عند كل درجة كى تنظر حولها وتحسب كم بقى لها أن تنزل . ومتى ستصل أخيرا إلى الأرض المفروشة بتبن أصفر ، وتدرك أنها الآن قد غفت تماما ، فتنزل للقائها على الدرج واحدة أخرى مثلها تماما ، عجوز نحيلة ، تمد يدها التى يجب أن تعطيها هى الأخرى بدورها كفها . وتبـدأ العجوز ، فى خدرها بسبب الرعب والسعادة اللذين لم تشعر بمثلهما سابقا ، بالاقتراب نحو اليد الممدودة إليها بخطوات قصيرة . وعندها ينكشف فجأة من الجانب الأيمن سهل عريض ونظيف كما بعد المطر ، مغمور بضوء ساطع هادئ . وتبدأ الروح تتعجل العجوز بنفاذ صبر . فتمضى أسرع . ليس عليها إلا أن تسير قليلا ، وفجأة ترى العجوز أنها قد وصلت . وفى اللحظة الأخيرة تراودها رغبة فى التراجع ، أو الابتعاد عن المكان الذى حملتها قدماها إليه ، ولكنها لا تستطيع أن تفعل لا هذا ولا ذاك . وتتوقف هناك بالضبط ، حيث يجب أن تتوقف ، ثم وقبل أن تسيطر على نفسها ، تمنح كفها فى إحساس بالذنب كى تتبادل التحية ، وتحس أن يدها طليقة ، تدخل بسهولة كما فى قفاز فى اليد الأخرى المفعمة بتلك القوة الخفيفة الممتعة التى يستمد منها الحياة جسدُها المنهك كله . وفى هذه اللحظة ، من ناحية اليمين حيث الفضاء الرحيب ، يبدأ الجرس دقاته . فى البداية يدق عاليا مهيبا كما فى الماضى البعيد ، حيث كانوا يبشرون الناس بميلاد وريث طال انتظاره ، ثم يغيب الطنين الزائد ، وفوق رأس العجوز تسبح أغنية الأجراس متموجة . وفى قلق غير مفهوم ، تتلفت العجوز حولها وترى أنها وحيدة : اختفت تلك العجوز الأخرى . وعندئذ ، دون أن تخاف أحدا ، ستذهب نحو اليمين سعيدة ونقية ـ إلى هناك حيث يدق الجرس . ستسير أبعد وأبعد ، فى حين سيبقى فى مكانها شخص ما ينظر بعينيها كيف ترحل . سيأخذها الرنين المتلاشى تدريجيا . وما إن تختفى عن الأنظار حتى تسقط العينان وتضيعان فى التبن . سيختفى الدرج أيضا ـ حتى تحين المرة التالية . وتنبسط الأرض ويحل الصباح ، الصباح الحى .
لا ، إنها لا تخشى الموت ، فلكل شئ أوانه . كفى ، عاشت ما يكفى وشبعت من الدنيا لم يبق لها ما تنفقه من نفسها ، لقد أنفقت كل شئ ـ لم يبق سوى الفراغ . نفقت حتى النهاية ، وتبخرت حتى القطرة الأخيرة . ولكن ، تتساءل ، ماذا رأت فى حياتها ؟ عرفت شيئا واحدا فقط : الأولاد ، الذين كان يجب إطعامهم وسقيهم وتنظيفهم والتحضير من جديد كى يكون لديهم ما يأكلونه ويشربونه فى اليوم التالى . ثمانون عاما ، كما هو واضح ، كثيرة على أية حال على شخص واحد ، حتى أنها نفقت تماما إلى درجة لم يبق فيها إلا أخذها وإلقائها بعيدا . لكن لو نظرت إلى تلك السنوات الآن من على عتبات موتها فلن تجد بينها فرقا كبيرا ـ كانت كلها تدفع بعضها البعض ، فمرت متشابهة على عجل : عشر مرات فى اليوم ، كانت العجوز ترفع رأسها إلى السماء كى ترى أين الشمس ، وتنتبه فجأة ـ ها هى فى قبة السماء ، وها هى قد اتجهت نحو المغيب ، ولكنها لم تنته من عملها بعد . نفس الشئ على الدوام : الأطفال يطلبـون شيئا ، البقرة تخور ، المزرعة فى الانتظار ، هناك عمل فى الحقل ، وفى الغابة ، وفى الكولخوز ـ دوران دائب ، لم تكن لتستطيع أن تتنفس فيه بارتياح ، وأن تتلفت حولها لترى بعينيها جمال الأرض والسمـاء . " بسرعة ، بسرعة " ـ كانت تعجل نفسها متنقلة من عمل إلى آخر ، ومهما استغلت لم يكن هناك للعمل نهاية من بداية . وهكذا طارت حياتها كلها ، وهى بحساب السنين طويلة ومتنوعة ـ كم من الأحداث مرت بالعجوز ، ولكنها فقيرة فى الذاكرة : أحداث متشابهة ، سنة وراء أخرى ، هموم وأعباء . تذكر كيف كانوا يستخدمون العيدان للإضاءة ، وبعدها انتقلوا إلى مصابيح الكيروسين ، والآن مر زمن طويل على استخدام الكهرباء ـ كل ذلك لم يحدث بسرعة كما يقال ، ولكنه كله ، بعضه ضعيفا وبعضه الآخر واضحا ، كان يضئ لها فى سعيها الذى لم يكن يكفيه ضوء النهار . فى الأسر الكبيرة لا يحدث سوى ذلك . وبمجرد أن رقدت وقطعت بها الشيخوخة ، تجمَّعت السنوات وصرَّت فوق رأسها شتاءات طويلة كئيبة ـ انظرى أيتها العجوز ، انظرى ، ولا تقولى أن سنة أطول من سنة ، فقد كان لديك ما يكفى منها .
ولكنها لم تشتك من حياتها ، لا ، كيف يمكن أن تشتكى ما كان ملكا لها ، وليس لأحد غيرها ، ما كان من نصيبها وحدها من دون أن يشاركها فيه أحد آخر ؟ أمضت حياتها كما هى ، فليكن ، فهى لن تعود ثانية . والإنسان تكفيه حياة واحدة ، لأنها واحدة لديه ـ لو كان لديه اثنتان لما اكتفى بهما . والعجوز عاشت حياة بسيطة : أنجبت الأطفال ، واشتغلت ، وكانت قبل طلوع النهار التالى تسقط على الفراش قليلا ثم تنهض من جديـد ، وشاخت ـ وكل ذلك هناك ، فى المكان الذى وُلِدَت فيه ولم تتركه أبدا ، مثل شجرة فى الغابة . وقامت بنفس كل تلك المهام كما كانت تفعل أمها . أما الآخرون فقد سافروا وتفرجوا وتعلموا أشياء كثيرة ، وكانت هى تستمع إليهم عندما تتوافر لها الفرصة ، وتُدْهَش لحكاياتهم ، وهى نفسها أنجبت أولادا يسافرون ليس أقل من غيرهم ، ولكنها لم تفكر أبدا أن تكون محل أحد منهم كى ترى مثله أو تفعل ما يفعله . لن يخرج الإنسان من جلده ، فهو ليس ثعبانا ، وهى لم تحسد أحدا مهما عاش موفَّقَا أو كان أجمل منها ـ هذا بالنسبة لها ليس أفضل من أن تتمنى لنفسها أماً ليست أمها ، أو ابناً ليس ابنها . إنها حياتها هى ، وفى ذلك حلاوتها . كانت لديها أيضا فرحات عزيزة مشرقة لم تكن لدى أحد غيرها ، وكان لديها أحزان عزيزة تصير مع الزمن أغلى وأقرب إلى نفسها ، ولولاها لتاهت منذ زمن بعيد فى التفاهات والأشياء الصغيرة ، وبعد كل مصيبة كانت تلملم نفسها مرة أخرى من العظام القديمة ، وترويها بماء الحيـاة وتدفعها : هيا ، عيشى ، فلن يحل أحد محلك . لن يحدث ذلك ، وقبل النهاية ، لن يكون الأمر غير ما هو عليه . كان توجيهها لحياتها يمثل فرحاً أحيانا ، وعذاباً فى أحيان أخرى ـ فرح معذب ، ولا تدرى أين كانا يلتقيان ، وأين يفترقان ، وأى منهما أنفع لها . قبلتهما من أجل نفسها ، من أجل مواصلة حياتها كى تهتدى بشعاعهما السرى .
العجوز ممددة فى فراشها تسمع ـ تسمع فى اهتمام كيف يتنفس البيت فى الليل ، ذلك البيت الذى تنيره أضواء النجوم السحرية . تسمع تنهدات مكتومة صادرة عن الأرض التى يقوم البيت فوقها ، وعمق السماء المرتفعة فوق البيت ، وحفيف الهواء فى الجوانب ـ كل ذلك ساعدها أن تسمع ، وتشعر بنفسها بذلك الشئ الذى خرج من داخلها إلى الأبد نحو الفضاء الليلى تاركا الجسد خفيفا فارغا .
وفجأة تراءت لها حياتها طيبة موفَّقة . موفقة أكثر مما لدى غيرها . وهل عليها أن تتشكى لأنها أعطتها كلها لأولادها ؟ فالإنسان إنما يأتى إلى الدنيا من أجل ذلك كى لا تنضب الدنيا بدون الناس وكى لا تشيخ بدون أطفال .
تذكرت ما قاله ميخائيل بعد ولادة بكره فولودكا . لم يكن سكرانا من الخمر ، وإنما أسكرته الدهشة لأنه أصبح أباً وهو نفسه لا يزال فتى ، وشارك فى استمرار الجنس البشرى . قال :
ـ انظرى يا أمى : أنا منك ، وهو منى ، وسوف يكون هناك أيضا أحد منه ـ وأضاف بغموض ومرارة المُبَشِّر : ـ وهكذا يسير كل شئ .
عندها فقط أدرك أن كل شئ يسير هكذا . سار وسوف يسير من قرن إلى قرن ، وحتى نهاية الكون . هذه الحقيقة البسيطة التى لم تتجاوز أحدا ولم تنغلق عليه ألقت عليه بحلقة جديدة فى سلسلتها غير المتناهية . وعندها أدرك كما ينبغى ، أدرك بنفسه مثل الكبار أن الموت مصيره ، مثلما هو مصير كــل شئ ، عدا الأرض والسماء وهذا ما دفعه إلى الذهاب إلى أمه ليقول لها ما تعرفه منذ زمن بعيد ، وما تعتقد أنه هو أيضا يعرفه .
فى لحظة ما خيل للعجوز أنها فى بيت عتيق متداع بنوافذ صغيرة مغلقة من الداخل ، وأن أضواء النجوم الخلابة ينفذ من الجدران والسقف . كل نافذة ـ هى ذكرى عن أحد ما من الأولاد : هنا عن لوسيا ، وهناك عن فارفارا ، وهذه عن إيليا ، وتلك عن ميخائيل ، وأخرى عن تانشورا . فى الأعلى صف آخر من النوافذ الصغيرة المغلقة بإحكام والتى ليست فى حاجة أبدا للمسها ـ ذكريات عن أولئك الذين لم يعودوا أحياء . انتقلت العجوز من نافذة إلى أخرى وكأنها تسير أثناء نومها دون أن تبقى خلفها ظلا ، ولا تعرف أية نافذة عليها أن تفتحها ، وإلى أين ستنظر ، ومن ستختار .
الحياة كلها هنا فى هذه النوافذ . افتحيها وانظرى ، أيتها العجوز ، كم كنتِ غنية ، وأى الذكريات المتبقية كفيلة بأن تهز شجيرات الثمار المطواعة على ضفة النهر بعد رحيلك ، وكذلك أغصان البتولا فى طرف الغابة ، أو أن تفوح فى وجه أحد ما وتثير فى نفسه شعورا عكرا ومقلقا لم يكن له فيه شئ من الذكريات . ومن الغصن العالى فى الغابة سقط لتوه طائر نعسان حتى كاد يلامس الأرض ، ولكن هذه ليست حياتك بعد ، ليست ذكرياتك التى تحولت إلى تلك الأصوات المتقطعة غير الواضحة ، إلى حفيف وهمسات ، وأزعجت نومها ـ ليست ذكرياتك ـ إنها غريبة .
تحركت العجوز معدلة من وضع جسها الخَدِر ، وفى الغرفة الأخرى تحرك أحدهم أيضا وكأنه يتجاوب معها طالبا منها ألا تنساه . ولسبب ما فكرت أنه إيليا ، فهو اليوم ينام فى البيت .
ها هو إيليا … ماذا يمكن أن تختار عنه من ذاكرة الأم البعيدة ، وإلى أى شئ تنظر حتى لا تظلمه أو تظلم نفسها ؟ اليوم ينبغى أن تكون الذكريات هادئة مشرقة ومسالمة . وليس طيبا لو أن أية مرارة أو صراخ خاطئ حدث فى الماضى وعكَّر صفو تلك الليلة الأخيرة . سيحين الوقت قريبا ، قريبا .
ها هو إيليا … شب إيليا غريب الأطوار : حديقته مليئة حتى آخرها ، ولكنه ينظر إلى ما لدى الآخرين ، وأحيانا لا يجد ما يأكله ولكنه يعطى آخر قطعة خبز لديه لأول من يقابله . من المستحيل معرفة ما قد يفعله بعد لحظة . أرغموه ذات مرة ، وكان لا يزال صبيا ، على البقاء قرب عربة القمح الذى جُمِع لنقله إلى المطحنة . وفجأة بدأت الحرب ، إطلاق النار . إنه إيليا ، بدلا من أن يجلس فى العربة ويطرد الدجاج عنها بقضيب ، صعد إلى العنبر ، ومن هناك راح يطلق النار من البندقية . وبدون سبب قتل خنزيرا كبيرا وآخرين صغيرين . وفى مرة أخرى ، وكان قد صار شابا ، لم يكن تصرفه أفضل . وصلت إلى الكولخوز ، من مكان ما ، إحدى لجان التفتيش ، وكان إيليا مع اثنين من الأولاد يحرثون الأرض خلف النهر العلوى استعدادا لزراعتها فى الربيع . وما إن ظهرت اللجنة حتى تعرى تماما ، وكما ولدته أمه راح يسير خلف المحراث وهو يُصَفِّر . كان بين أعضاء اللجنة نساء ، ففزعن من الاقتراب منه ، وهكذا فشلت اللجنة وعادت دون أن تعرف هل يحرثون جيدا أم لا . ويبدو أنهم وجهوا اللوم إلى رئيس الكولخوز فيما بعد ، لأنه وجه اللوم بدوره إلى العجوز وكأنها هى التى علَّمت ابنها أن يسير عاريا خلف المحراث .
والآن تذكرت العجوز شيئا آخر . أخذوا إيليا إلى الحرب أيضا ، ولكن فى نهايتها ، ولم يقدر له أن يحارب : عندما كانوا يعلمونه بعد هناك توقفت الحرب ، والحمد لله ، ولكنهم حينما ودَّعوه إلى هناك لم يكونوا يعرفون بالطبع شيئا من ذلك .
كان يوما جافا من أيام ما قبل الشتاء شديدة الرياح . العربة جاهزة تنتظر فى الخارج ، وكيس السفر قد تم تجهيزه ، والبوابة مفتوحة ـ بقى فقط الوداع . وإيليا ـ بقامته الصغيرة متسمرا ، ولكنه مع ذلك فخور بالسفر إلى الحرب . فى تلك اللحظة كان قد أصبح شبه غريب . اقترب من أمه . رسمتْ الأم عليه إشارة الصليب ، فَقَبِل بركتها ولم يرفضها . تتذكر جيدا أنه لم يقبلها على مضض نزولا عند رغبة أمه ، وإنما قبلها عن طيب خاطر ، ووافقها ، وكان ذلك ظاهر فى عينيه اللتين ارتجفتا وشعَّتا للحظة خاطفة بالأمل . وعلى الفور اطمأنت العجوز عليه .
كانت الذكرى حول الوداع تجر خلفها أخرى ـ لم تكن متشابهة ، ومع ذلك كانت دوما متجاورة فى ذاكرة العجوز .
رحلت لوسيا إلى المدينة صيفا على ظهر مركب . جاؤوا إلى الرصيف مبكرين قبل وصول المركب بوقت طويل . حطوا رحالهم على الضفة وأشعلوا النار ، وأثاروا الدخان لطرد البعوض الذى كان كثيرا للغاية . أحاطت الفتيات بلوسيا وهن يحسدنها ويشفقن عليها ، وعلى مقربة منهن كانت تراوح تانشورا . أما العجوز فجلست وحيدة على قرمة منخفضة بعيدا عن الفتيات وهى ترقب فى ملل واستسلام ظهور دخان المركب فوق الجزيرة . وأخيرا ظهرت ، لكن الفتيات رأينها قبلها ببصرهن الحاد . وعلى الفور ارتفع الضجيج وعلا صياحهن بالطلبات والنصائح للوسيا ، وهن يقاطعن بعضهن البعض ، بينما بقيت العجوز جالسة فى صمت وانقباض .
رسا المركب . بدأت لوسيا تصافح الفتيات على عجل مودعة . وكانت الأم آخر من ودَّعها . ضغطت العجوز كفها الدافئة المرتبكة ، ودفعتها من كتفها ـ اذهبى ، وتنحت هى أيضا عن الجمع لتتمكن من الرؤية أفضل . رفعوا السلم سريعا ، وحرك المركب دواليبه واندفع ، وابتعدت لوسيا معه عن الشاطئ . أبحر . وقفت على ظهر المركب ، خلف حاجز معدنى أبيض ، ولوَّحت بيدها للفتيات ـ لسبب ما لم تكن ترى الأم رغم أن العجوز صاحت لها مرتين أو ثلاث ، وبعد ذلك أخذت تتواثب مثل فتاة صغيرة وترفع يدها إلى أعلى كى تظهر أمام عينى الابنة .
أبعدوا المسافرين عن طرف المركب المائل ، الذى كان على وشك الغوص فى الماء ، إلى الطرف الآخر . كانت لوسيا قد ابتعدت … وصارت العجوز جاهزة للبكاء . وفجأة نظرت لوسيا للمرة الأخيرة إلى الشاطئ ، ودفعت الفتى البحَّار الذى كان يبعدها عن عينى الأم ، واندفعت عائدة ، وراحت تلوِّح بحرارة ويأس ومرارة لأمها بمنديلها الذى نزعته عن رأسها . كان وجهها الخائف أبيض ، وانهمرت فى الحال الدموع من عينيها . اندفعت العجوز للقائها ، وغاصت فى الماء حتى ركبتيها ، ولكن المركب كان قد أبحر مبتعدا بكل قوته ، ومن خلفه كانت الشمس تضرب ساطعة بأشعتها محولة إياه إلى لعبة زاهية .
شعرت العجوز لحظتها أنهما قد افترقتا إلى الأبد .
فجأة ، لاح لها يوم بعيد ، بعيد جدا ، قاطعا ذكرياتها عن أولادها ـ كان مرتبطا أيضا بالنهر .
كان المطر قد هطل لتوه ، قصيرا غزيرا ، من غيمة صيفية وحيدة عابرة ، ومرة أخرى ظهرت الشمس من جديد ، ونفثت المروج بخارها ، وراحت قطرات كبيرة تتساقط من الأشجار والشجيرات ، وهنا وهناك على الحشائش أخذت قطرات الماء تتدحرج مثل الحجلان ، والفقاقيع تسبح على صفحة النهر ، وتسرح الرغوة ـ كل شئ نظيف ، يلمع بإغراء ، ويفوح فى حدة وعذوبة ، وأصوات الطيور ترن ممتزجة بخرير المياه . الأرض التى سكرت بالمطر ، تفتَّحت وتعرت تماما ، وصارت تتنفس بنشوة متعبة ، ومن جديد انبسطت صفحة السماء فوقها بلون أزرق صاف عميق .
لم تكن عجوزا ـ لا ، هى لا تزال صبية ، وكل ما حولها فتيا ، ساطعا وجميلا . تتجول على طول الشاطئ بمحاذاة النهر الدافئ الذى يتصاعد منه بخار مابعد المطر ، تجدِّف الماء بقدميها تاركة خلفها موجة تتحرك فوقها الفقاقيع ثم تتلاشى . الرمال على الشاطئ داكنة رخوة ، والشاطئ منخفض ، وأمامه مباشرة جزيرة ، وهناك فى مكان ما عند الرأس تضج المياه . وكان المجرى طويلا وقويا ونظيفا ، يظهر فيه التيار بوضوح فى اندفاعه العريض .
كانت تسير ، وتسير دون أن تسأل نفسها إلى أين ، ولماذا ، ولأى هدف ، ثم تخرج فى النهاية إلى الشاطئ وتدوس بقدميها الحافيتين الطريتين فوق الرمال مخلِّفة آثارا تنظر إليها طويلا وفى دهشة وهى تقنع نفسها أنها لا تعرف من أين أتت تلك الآثار . الجونلة الطويلة ابتَلَّت والتصقت بجسدها ، وها هى ترفعها بمرح وتدس طرفها تحت حزامها وتعود إلى الماء من جديد وهى تضحك فى خفة وتأسف لأن لا أحد يراها . كانت راضية وسعيدة لأنها تعيش فى تلك اللحظة فى الدنيا . وترى بعينيها جمالها ، وتعيش فى الفرح والسرور والانسجام ، وفى كل ما هو خالد فى الحياة حتى أن رأسها دار وتهادى فى صدرها أنين عذب وَجِل .
حتى الآن ، يكاد قلب العجوز يتوقف عند استعادتها لتلك الذكريات : فقد كانت ، كانت بالفعل ، والله شاهد على ذلك .
وفكرت : هل ما يزال ذلك الجمال حتى اليوم يظهر للناس ، أ لم يتغير أو يذبل طوال تلك الفترة التى عاشتها ؟ وهل من الممكن عبور النهر والوصول إلى الشاطئ المواجه للقرية حيث الجمال الكائـن هناك ، والنظر ولو مرة واحدة إليه بمظهره ونضارته وفرحته ؟ كم من تغيرا حدثت على الأرض ـ فهل بقى الجمال وحده على سابق عهده ؟ سيطر عليها الأسف والحزن ، لكنها خجلت من نفسها فى الحال : كم هى سيئة لو أرادت أن يشيخ ويموت معها كل شئ فى الدنيا .
منذ زمن بعيد ، حينما كانت فارفارا لا تزال صغيرة ، وجدتها العجوز ذات مرة فى الحارة حيث ركعت فاركا على ركبتيها وأخذت تحفر الأرض بعود .
سألتها الأم :
ـ ماذا تفعلين هنا ؟
ـ أحفر .
ـ لماذا ؟
ـ هنا حفرت الدجاجة ، ولكن الكلب طردها . أنا رأيتها . أ لن تطردينى أنتِ ؟
لا ، لن أطردك .
ـ إذن ، سأجلس وأحفر .
ضحكت الأم فى نفسها وانصرفت . وعندما عادت فاركا إلى البيت ، سألتها أمها :
ـ هل وجدتِ شيئا هناك ، حيث كنتِ تحفرين ؟
ـ لم أكن أبحث عن شئ ، كنتُ أحفر فقط . ولكن العجل الشرس طردنى . اذهبى واطرديه ، واحفرى أنتِ .
ـ لماذا ؟
ـ هكذا . احفرى فقط ، وسترين .
ـ ماذا سأرى ؟
لا أعرف . سترين شيئا . هذا ممتع .
لهذا السبب اعترت العجوز الآن ، بعد كل تلك السنوات الطويلة ، الطويلة ، رغبة مفاجئة فى أن تجلس فى مكان ما بالحقل وتحفر الأرض كما فعلت فاركا ، وأن تنظر باهتمام وترقب كيف هى ، وأن تبحث فيها عن شئ لم يعرفه أحد حتى الآن . هم يضحكون : الكبير مثل الصغير ، ويقصدون بذلك ، أن أحدهما فقد عقله ، أما الثانى فلم يمتلكه بعد . هذا صحيح ، الكبير والصغير ـ هما فقط القادران بحساسية وحدة أن يُدهَشا لوجودهما ، ولكل ما يحيط بهما فى كل خطوة .
مال الليل إلى البرودة وصار أكثر رسوخا وصلابة ، وانعكس ضوؤه الساطع البارد من خلال النافذة على الجدران . لم تنس العجوز كيف تزهو السماء وتتلألأ فى مثل هذا الوقت ، وكيف تشع النجوم فى إغراء وفتنة وبالقرب منها يسبح الهلال بعظمة وجلال ، وعلى الأرض يخيم الصمت والسكــون والسلام ـ كل شئ يغط فى النوم ، والجميع تحت سلطانه الساحر .
اهتزت العجوز وقررت : حان الوقت . إنه الوقت المناسب ، فالنصف الثانى من الليل قد بدأ ولا يجوز الانتظار أكثر من ذلك . النوم الآن ثقيل ولن يسمع أحد ، ولن يعيقها أيضا أحد . الليل المرح ـ جيد أيضا ، وسيودعها .
استعدت العجوز فى هدوء ودون ارتباك أو خوف . كشفت الغطاء فى تأنٍ عن صدرها ، وراحت تهز نفسها فى الفراش بحذر دون ضجة كى تفسح المجال للبداية ، ولكنها وجدت أن لا شئ إطلاقا قد زاد فيها ، كل شئ خرج . تحركت فيها ، وتلاشت على الفور ، دهشة واهنة بسبب خفة جسدها وإمكانية تحركه فى الهواء بسهولة . كان جسدها لا يزال هنا ، معها ، وسمعت كيف يخدعه قلبها بنبضه ويضخ إليه تياراته . مدت قدميها وعدَّلت من وضعهما لتستريح على نحو أفضل ـ قريبا ستصبح قدماها مثل جسدها كله ، ولن تتعذبا لأن العجز طالهما قبله . كم مرة قالت لهما أنهما غير مذنبتين ، فهى التى أنهكتهما بالركض ، ولكنهما لم تفهما . الآن ستفهمان ، لا مفر .
كانت عيناها لا تزالان مفتوحتين ، وقد احتفظت فيهما كالعادة بضوء الليل الشاحب ـ آخر ما تبقى لها أن تراه ، فليخيِّم بإحكام على كل ما رأته العينان فى الماضى ، وعندئذ سيكون من السهل التعود على الظلام الأعلى . شعرت العجوز بخوف ورعدة برد من جراء الهواجس التى اعترتها ، فهى ، التى عاشت ما يقرب من الثمانين عاما ، وكان أمامها على الدوام مخزون كاف من الوقت ، معلقة الآن بشعرة واحدة . فى هذه اللحظة بالذات لم يعد أمامها أى مستقبل ، وإنما الماضى وحده ؛ حياتها كلها تجرى فى اتجاه واحد ، وفى اللحظة التالية لن يكون هناك لا ماض ولا مستقبل . سيبقى الأولاد من بعدها ، أما العجوز نفسها فلن يبقى لديها أحد ، بل ولن يبقى أى شئ ، حتى نفسها ذاتها . غريب ، إلى أين تذهب حياتها ؟ لقد عاشت ، وهى تذكر أنها عاشت وكان ذلك منذ فترة وجيزة . ولكن لمن ستبقى حياتها التى عاشتها إلى النهاية بصورة جيدة أو سيئة كما هو شأنها دائما فى أى عمل تقوم به . لم تعد هناك منها فائدة لأحد ـ هـذه حقيقة . سوف يذكرونها بكلمة يطلقونها فى اتجاهها ثم يتابعون شؤونهم ، وهذا كل ما هنالك ـ كانت ، ولكن لم يعد لها وجود ، ثم ينسون ذكراها ، وهذه حقيقة أيضا ، فماذا تريد ؟ لو تعرف فقط ، لماذا ، ومن أجل أى شئ عاشت ، لماذا عاشت ودبت فى الأرض وقيدت إليها نفسها بحبل وتحملت كل أعباء الحياة ؟ لماذا ؟ من أجل نفسها أم لهدف آخر ؟ لمن ، ولأية مهمة ، ولمصلحة من ؟ لقد أبقيت من بعدها حيوات أخرى ، فهل هذا حسن أم سئ ؟ من يجيبها ؟ من يخبرها ؟ لماذا ؟ هل ستبقى من حياتها ولو قطرة مجدية من المطر الذى سيهطل علة الحقل العطشان ؟
وكرد غير واضح أو مفهوم صرَّ شئ ما فى الزاوية البعيدة المعتمة ، وأدركت العجوز : ذلك من أجلها . هى المطلوبة .
وفجأة خيل إليها الآن قبل أن تحل نهايتها ، أنها عاشت فى هذه الدنيا قبل حياتها هــذه . كيف ، وعلى أية صورة : هل كانت تزحف ، أم تسير على قدميها ، أو تطير … لا تذكر ، ولا يمكنها أن تخمِّن . ولكن هناك شيئا ما أخبرها بأنها ليست المرة الأولى التى ترى فيها الأرض . الطيور تظهر فى الدنيا على مرتين : المرة الأولى فى بيضة ، ثم تخرج من البيضة ، أى أن هذه المعجزة ممكنة ، إذن فهى لا تكفر . كان ذلك منذ زمن بعيد جدا ، فى الليل ، حاقت بالأرض عاصفة ـ البرق والرعد والإعصار فى كل مكان ، علا الدوى وتصاعد الشرر وانكشفت السماء وهطلت منها الأمطار سيولا . لم يحدث أبدا مثل هذا الرعب فى الدنيا . ربما قتلها ، آنذاك ، تلك العاصفة ، فهى لا تذكر شيئا آخر لا قبلها ولا بعدها . تذكر العاصفة فقط ، ولكن هذه الذكريات تراءت أمامها كصدى لذاكرة بعيدة غير ذاكرتها .
رسمت علامة الصليب فى تأنٍ : ليسامحها الرب إذا كانت قد أخطأت ، فهى لم ترغب فى إغضاب أحد بهذه الذكريات التى لم تطلبها ولا تعرف من أين أتت ، وكيف وصلت إليها .
الآن فقط أغلقت العجوز عينيها ـ على الفور من دون أن تلقى نظرة الوداع الأخيرة . وبدأ تسبح أمام عينيها ، من اليسار إلى اليمين ، حلقات دخانية متماوجة وكأن أحدا يبخرها قبيل القربان الجديد . تمددت وجمدت فى تحفز منتظرة اللمسة الأولى المدغدغة التى ستثير النشوة الشجية المنومة فى جسدها . وهكذا كانت إنسانا ، وعرفت ملكوته . آمين . أحست كيف يغيب وعيها ، وتُنَمِّل يداها ، أو ربما هذا ما تخيَّلته ، أو ما أرادته ؟ ارتفعت الأجراس فوق الأرض وهى ترسل رنينها المنتظر .
مرت دقائق ، وأخرى ـ لم يتغير شئ . لا تزال العجوز فى وعيها كما فى السابق : تعـرف مَنْ هى ، وأين ، ولماذا ، ولكنها لا تعرف لماذا لا يُعَجِّل الموت بأخذها ، وكأنه ينتظر شيئا .
أنصتت العجوز إلى نفسها بتيقظ . يبدو أن كل شئ فيها لا يزال فى موضعه ، ويواصل القيام بوظائفه . ودون أن تدرى سبب التأخير ، تأوهت فى هدوء واختناق : أنا هنا ، هنا . ربما يعتقد الموت أنها ليست مستعدة إلى الآن ـ إذن ليعرف أنها جاهزة . ومرة ثانية ، للتأكيد ، تأوهت بصوت متوسل فى هدأة الليل : لا تخف ، انزل ، أنا أنتظرك .
انزعجت العجوز ، وسيطر عليها إحساس غير مريح . ربما أرهقت موتها قبل الأوان بتوسلاتها لدرجة أنه لم يعد يملك القوة للوصول إليها ؟ كم سنة جرَّته خلفها ، بل لم تجره ، وإنما ساقته لدرجة يمكن معها إنهاكه تماما .
وربما لن يستطيع الموت ، فى الحقيقة ، أن يصل إلى العجوز . والعجوز غير قادرة على الاقتراب منه . يعنى أنها لن تنعم الآن بالموت ؟ لا ـ هذا لا يحدث ، الذى لا يموت هو وحده الذى لم يولد . والسبب هنا مختلف تماما . فالموت يعرف كيف يقوم بالعمل الذى وُجِد من أجله ، يعرف كيف سيتصرف .
أخذت العجوز تتنفس فى صعوبة واضطراب . كانت تعتقد لتوها أنها تخلَّصت من كل ما يربط الإنسان بالحياة … ولكن نكاية بك ، لتبدأى كل شئ من جديد .
تمالكت العجوز نفسها : يجب أن تهدأ وتستكين . لقد ارتكبت خطأ أثناء استعدادها للموت . الموت لم يبتعد عنها ، وإنما هى التى أعاقت ، فى غالب الظن ، الموت . أعاقته لأنها أرادت أن تقوم بعمله بدلا عنه ، فمن يعجبه ذلك ؟ طوال ثمانين عاما كاملة انتظر الموت ساعته المهيبة الوحيدة . أحصى وأعد ، عشرات المرات ، كل شئ … ماذا بعد ماذا ، وبأى ترتيب ـ فهو لديه خططه وترتيباته الخاصة به . فها كان يمكن التدخل فيها ؟ هذا هو السبب .
قررت : ينبغى أن تنام . فالليل وُجِد من أجل النوم . وهناك ، حينما لا تعود العجوز ترى أو تسمع شيئا ، سيأتى الموت إليها بشجاعة ويلغى الصلة الوثيقة التى تربطها بالناس وبالعالم . وعندئذ ، ربما يوقظها كى ترحل وهى فى وعيها . لقد مر جزء كبير من الليل ، ولكن الوقت لم يفت ، وليس من الصعب أن تلحق قبل حلول الصباح .
الآن هدأت العجوز فى فراشها فى محاولة للاستغراق فى النوم البشرى العادى الذى زاولته طوال حياتها آلاف وآلاف المرات . لم تفتح عينيها ، وإنما أرختهما كى تستريحا بهدوء من دون أن تنشغلا بالضوء فلا حاجة بهما إليه . أخذت تلمس بظهرها السرير فى خفة وتهدهد نفسها ، وتهمس بكلمات غير مفهومة مثل التى يهدهدون بها الأطفال عند النوم . كانت قريبة جدا من النسيان ، وبدا لها أن مادة رمادية تلفها بعناية ، وأنها تغوص فيها أكثر فأكثر ، وتستسلم باستمتاع إلى كتلتها الطرية العذبة ووقعهـا السحرى . ولكن شيئا ما أعادها مرة أخرى ، ثم أعادها بدون رحمة مرة ، ومرات .
لم تنم . أدركت العجوز السبب . فالنوم قد أصبح ثقيلا ، تحجَّر إلى درجة أنه صار عديم الحركة وأصم ، ومن الصعب اختراقه . والأصعب هو الدخول إليه . أما هو فلن يعود من أجل شخص واحد ، ولا جدوى من الإلحاح فى طلبه . ينبغى التصرف على نحو آخر . يبدو أنه من الضرورى أن ترقد ولا ترغب فى شئ غير الرقاد ، وألا تصر على شئ محدد ـ عندها ربما ، وبسبب الملل ، قد يصيبها الإعياء فجأة وتغفو ، فهو لن يعرف من هى ، ومن ثم سيأتى إليها . حسن لو يحدث ذلك . يجب ألا تتعجل ، وأن تتماسك وكأن أمامها وقتا كافيا ، وأن الليل قد بدأ لتوه .
بدأت تعد نفسها : أرخت تنفسها وجسدها ، هدَّأت من اهتزاز صدرها ، وشبَّكت يديها فوقه فى وضع مريح وحالفها الحظ كما أرادت . وفى الحال اعترتها موجة حلوة طرية هزتها وحملتها إلى سكون لذيذ ، لم يبق للوصول إليه إلا القليل ، عدة لحظات لا أكثر . وفجأة ، تعالى بلا حياء من مكان ما فى القرية صياح ديك . كان ذلك مفاجئا وغير مناسب لدرجة أنه صدر عن العجوز ودون إرادة أنين مختنق ، وانفتحت عيناها ـ أغلقتهما فى الحال ، ولكنها أدركت أنها تأخرت ، ولا جدوى . ضاع كل شئ . لم ينقذها الموت . ربما كان المنقذ قريبا منها ، ولكنه الآن صار بعيدا . وبعد الديك الأول ، صاح الثانى ، والثالث والرابع …
ضاع كل شئ عبثا ، ولم يعد للعجوز من أمل .
فتحت عينيها وهى تدرك ما تفعله ، فاعتراها الخجل . خجل لم تعرفه من قبل : ودَّعت كل شئ ، وقالت كلماتها الأخيرة . واست نفسها بالذكريات الأخيرة ، وغطت عينيها بالعتمة و ـ عادت . مَنْ يفعل ذلك ؟ لا ، لم تخف . لم تخف من ذلك أبدا ، لا حاجة لأن تخدع نفسها . بالنسبة إليها ، لقد ماتت ، ولكن كيف ، ولمن سيؤول جسدها الجبان الخاطئ الذى مازال محتفظا بقدرته على الحركة ، فهذا ما لا تعرفه .
قارب الليل على نهايته ، خفت ضوء النجوم وأصبح أكثر شحوبا وجفافا ، وكان مرئيا من خلاله كيف انبسطت السماء . صاحت الديكة وسكتت ، ثم صر شئ واهتز ـ لقد تعجَّل الليل وقارب على الانتهاء . فى مثل هذا الوقت ترتفع النجوم فى السماء أعلى فأعلى ، وتنظر من هناك بتعب وشحوب . تسلل كل ذلك إلى نفس العجوز دون رغبة أو معارضة منها ، مثل وعاء فارغ مفتوح ترك سهوا فى غير موضعه . رقدت تائهة وعاجزة فى ذهول تام غير مبالية بالدنيا وما فيها .
ظلت على هذه الحال طويلا ، حتى الصباح . ومع حلول الصباح نفذ إلى غرفة العجوز ما يكفى من الضوء . أفاقت من ذهولها ، وأبعدت البطانية عنها ، ثم جلست . نظرت باشمئزاز إلى قدميها وشدَّت جواربها ولبست مداسها . لقد تعلَّمت العجوز أن تفعل كل ذلك منذ الأمس . ولكن صباح اليوم لا يشبه يوم أمس . كانت مسرورة بيوم الأمس ، علَّقت عليه الآمال مفكرة فى تانشورا ، ولكن لم يتحقق شيئا مما فكرت فيه ، حتى الليل رفض أن ينقذها وتركها دون نوم ـ كان عنده دوما من هذا الخير ما يكفى الجميع ، ولكنه لم يكف العجوز . لقد أضجرت الجميع ، لم تعد ضرورية لأحد ـ فلماذا إذن تحسب حساب نفسها إذا كان لا يحسب حسابها أحد ؟
أمسكت العجوز بظهر السرير وحاولت النهوض . انحنت قدماها تحتها ، ولكنها لم ترحمهما : ما دمتما لم تريدا الموت ، فافعلا ما تؤمران به ، لا تتظاهرا بالعجز ، فالأمر سيان ولن يصدقكما أحد . تحاملت بجسدها على يديها ومدت ساقيها ، وبقوة يائسة أرغمتهما على التحرك ـ انطلِقا ما دمتما لم تموتا ، تحركا كما تتحرك كل الأقدام الحية ، ولا تحاولا الوقوع ، انطلِقا ! قرقعت فيهما كل عظمة وتألَّمَت ، ولكن ذلك لم يوقفها .قرقِعَا كما تريدان ، ولكن تحرَّكا . كفى ، لقد استمعتُ إليكما كثيرا ، فاستمعا أنتما الآن . اعتمدت بيديها على الجدار ، وجرَّت قدميها على الأرض ، وبدا وكأن العجوز تزحف على الجدار ـ كانت منكفئة تقريبا عليه وقد مدت يديها بحثا عن شئ تمسك به . تخطَّت العتبة زاحفة على أربع ـ بدون ذلك لِمَا استطاعت تخطيها . كانت هناك عتبة أخرى عند الباب ، أشد انخفاضا ، ولكن العجوز لم تنهض ـ وهكذا زحفت على أربع مثل الكلب ، وخرجت إلى الفناء . لم يكن ينقصها سوى العواء أو النباح . كانت قواها على وشك النفاد ، وبصعوبة بالغة تمكنت من الجلوس على الدرجة الأعلى .
انتشر الصباح صافيا مكشوفا . وفى السماء ، خاصة فى تلك الجهة التى استطاعت العجوز أن تراها قبل شروق الشمس ، تشكلت زرقة كثيفة وغرق الوهج الصباحى فيها . كان الوقت مبكرا ، ولكن الغابة كانت أفاقت من نومها ، وبانت عذبة وواضحة ـ من الممكن تمييز شجرة عن أخرى ، وحتى قمم الأشجار لم تكن متشابكة مع بعضها البعض ، وإنما كانت منفصلة بخطوط حية خفيفة ، ومن وراء العنبر نزلت الدجاجات من القن إلى الأرض وهى تخفق بأجنحتها الثقيلة ، وراحت تنتفض على عجل باحثة فى الأرض عن شئ تأكله ، وتتحرك بخطوات سريعة تبعث على الدفء . وبالفعل كان الجو باردا ، وقد أتت من ناحية النهر تلك الرطوبة التى تجمَّعَت طوال الليل ، وفى فناء البيت كانت قطرات الندى تلمع واجفة . وراح الصباح يتغيَّر ويتحرك إلى وجهته : كان منذ فترة وجيزة يبدو جامدا وكسولا ، قاتما ، ولكنه صار الآن ساطعا وزاهيا مثل النهار ، من أجل أن يحقق رغبة طفولية لا تقبل التأجيل ، وفى السماء ظهرت خطوط قوس قزح ـ وسرعان ما شاهدت العجوز شروق الشمس ، وغمر الضوءُ الأرضَ فى فرح .
لم تكن العجوز نفسها تعرف لماذا خرجت إلى الفناء ، لعلها أرادت ألا يتحمل قلبها الجهد ، وأن يتوقف عن نبضه فى الطريق ، وبذلك تصلح ما أفسدته بنفسها . لا ، لم يتحقق ذلك أيضا . وصلت إلى المدخل ، جلست وحيدة وهى تنظر بهدوء وبدون اكتراث إلى الحديقة ، وإلى الغابة ـ إلى كل ما يقع أمام عينيها ـ نظرت ولم تر شيئا . كانت تشبه شمعة وُضِعَت تحت ضوء الشمس ولا يحتاجها أحد . استسلمت العجوز للشمس . كانت ترتدى قميص نوم رقيقا ، فارتجفت من البرد . وحتى الدفء الخفيف الذى وصل إليها بصعوبة جاءها فى وقته . فهى ليست حطبة ـ مهما كانت حالتها فهى إنسان ، وجسدها لا يزال يُفَرِّق بين البرد والدفء ، ومع ذلك بدا لها هذا اليوم زائدا وغريبا ، ومنذ البداية لم ترغب فيه وخافته : إذ لم يُقَدَّر لها أن تموت ليلا ، فمعنى ذلك أن شيئا ما قد يحدث اليوم ، فلا شئ يحدث عبثا .
جلست تنتظر .
قرقع دلو الحليب فى الممر ـ خرجت ناديا . لم تتوقع أبدا أن ترى العجوز هنا ، فتراجعـت مسرعة .
ـ ماما ! ـ كانت الكنة تدعوها ماما ـ كيف أنتِ هنا ؟
سمعتها العجوز والتفتت إليها موافقة بانحناءة من رأسها : هنا .
ـ كيف وصلتِ إلى هنا ؟ لقد بردتِ ، دعينى أعيدك ثانية إلى فراشك .
رفضت العجوز وهى تهز رأسها فى حزم : لا .
ـ كيف لا …
اندفعت ناديا إلى داخل البيت مسرعة ، وفى البداية نظرت إلى فراش العجوز ـ كان الفراش خاليا بالفعل ـ وعندئذ فقط نزعت الصديرى من فوق الشماعة وحملته إلى العجوز .
ـ كيف فكرتِ أن تفعلى ذلك ؟ ـ لم تتمكن ناديا من الفهم ـ الجميع نائمون ، هل أوقظهم ؟
قالت العجوز :
ـ لا داعى . اذهبى واحلبى البقرة ، وسأجلس أنا هنا .
أثناء سيرها فى الفناء التفتت ناديا مرتين أو ثلاث ناحية العجوز ـ كانت تجلس فعلا !
انتزعت الشمس نفسها من الغابة ، وصعدت إلى الفضاء الصافى الذى ينتظرها . كانت تميل إلى الناحية اليمنى كما كانت بالأمس وأول أمس ، وكما كانت منذ عشر سنوات وعشرين سنة . لم تكن ساطعة بعد أو حادة ، ولم تكن تبهر العيون . بدت قطرات الندى فى الحديقة وكأنها ازدادت ، وشرارات مضيئة مغرية تلمع فى كل مكان . شرعت القرية فى الاستيقاظ ، وارتفع الدخان فوق الأسطح ، وفى الطرق بدأت المواشى تدب ثقيلة ، شبعة . وصفقت فى البيوت الأبواب الثقيلة ، وترددت أولى الأصوات المبكرة مسموعة بوضوح .
فى هذا الصباح الباكر الذى لا يصلح للزيارات ، ظهرت ميرونيخا أمام العجوز دون توقـع أو انتظار . وكأنها خرجت من تحت الأرض ، راحت ميرونيخا تسير كعادتها وهى تنظر تحت قدميها ، وليس إلى الأمام ، وكادت تصطدم بالعجوز على الدرج . ولشدة دهشتها ، جلست مرخية يديها :
ـ أ هذه أنتِ يا عجوز ؟
ـ أنا ـ ردت العجوز وبدا أنها لم تسر حتى لرؤية ميرونيخا ، وكان صوتها رخوا وضعيفا : سألوها فأجابت .
ـ زحفتِ ؟
ـ زحفت .
ـ أ لا تريدين الذهاب معى يا عجوز إلى ما وراء الجبل ؟ سنتسلى معا أثناء صعود الجبل .
ـ لا ، زحفتُ إلى هنا بصعوبة . زحفتُ على أربع .
ـ أتيتُ راكضة لأعرف من ناديا كيف حال عجوزى هناك ، وهى كما أرى نهضتْ من فراشها وخرجت .
قالت العجوز :
ـ لم أمت .
ـ وهل طلبتِ الموت ؟
ـ طلبته .
ـ إذن لم يحن الوقت بعد .
وللمرة الأولى ، ظهر تعبير منفعل فى صوت العجوز ، كان غاضبا :
ـ أى وقت لم يحن ؟ الأولاد هنا ، ولن ينتظروننى كثيرا كان الوقت مناسبا جدا . ولكن لم يحدث شئ .
ـ كلنا يا عجوز نسير بإرادة الرب . كل شئ بإرادته .
ـ أنا لا أسير ، أنا أزحف بإرادته . فكرتُ أن أزحف لعل الموت يلاحظنى ، ولكنه لم يفعل . لا فائدة .
ـ لا تخرفى .
لم تستمر العجوز فى هذا الحديث غير السار ، فميرونيخا لم تكن معها ليلا ، ولن تفهم ، وهل يمكن تفسير ما يحس به الإنسان ساعة موته ، وما يحس به بعد ذلك حين يعلن توبته ، ثم يخدعه الموت ، ولهذا سألت العجوز :
ـ أ لا يكتب أولادك إليك ؟
ردت ميرونيخا فى دهشة :
ـ سألتِنى هذا السؤال بالأمس .
ـ الأمس ، كان بالأمس . ربما كتبوا اليوم ، من أين لىَّ أن أعرف ؟
ـ آى نعم ، لم يناموا الليل بطوله ، كتبوا إلىَّ جريدة كاملة . لا أعرف كيف سأقرأها ـ كانت ميرونيخا تتحدث دون غضب ، ولكن دون أمل أيضا ، بل تسخر من نفسها ـ أية حمى أصابتهم لكـى يكتبوا ، ويرسلوا إلىَّ ؟
قالت العجوز :
ـ كيف كانت الأمور فى الماضى . لم يكونوا يتركون المكان الذى ولدوا فيه ، ولكنهم الآن لا يبقون فى مكان ، يسافرون ، ويسافرون ، ولكن إلى أين ، ولماذا ؟
ـ نحن لا نفهم شيئا أيتها العجوز .
ـ ربما لا نفهم . نحن آخر عجوزين هرمتين فى هذه الدنيا . لا يوجد مثلنا . سوف تعيش بعدنا عجائز مختلفات ـ متعلمات ، ذكيات مفكرات ، يعرفن ماذا يجرى فى الدنيا . أما نحن فضللنا الطريق . اليوم حل عصر آخر ، ليس عصرنا .
ـ هكذا إذن يا عجوز .
ـ أ ليس هكذا ؟ تذكرى ما أقول .
سكتت العجوزان . تنهدت ميرونيخا ، ونهضت واقفة :
ـ حسن أن أبقى معك يا عجوز ، ولكن علىَّ أن أركض .
ـ ابقِ قليلا .
ـ بقرتى لم تعد . يقولون أن وراء الجبل تسرح بقرتان ، وليس لدىَّ ما أفعله ـ ينبغى أن أذهب لأرى .
ـ لن تصلى إلى ما وراء الجبل يا فتاة .
ـ سأذهب ، وصلتُ أم لم أصل . من أرسل بدلا عنى ؟
ـ ستسقطين هناك .
ـ ربما أسقط . ما الفرق أين سأرقد ؟ هناك وحيدة ، وهنا وحيدة . لو رقدتُ لِمَا وجدتُ من يسقينى جرعة ماء .
ـ لماذا لا تكتبين إليهم ؟
ـ ماذا أكتب لهم ؟ ألا يعرفون أننى تجاوزتُ الخامسة والسبعين . لا يا عجوز ، كتبتُ أم لــم أكتب … ولكن كيف ذلك : شهادتى مثل شهادتك . يبدو أنهم يعيشون جيدا ، ولذا فهم لا يأتون ولا يكتبون . لو كانت حياتهم سيئة لكتبوا بدون شك .
ـ نعم ، كانوا سيكتبون .
هكذا إذن .
بدأت ميرونيخا تعتمد فى وقفتها على قدم ثم أخرى ، وصارت قلقة .
ـ تابعى جلوسك يا عجوز ، أما أنا سأركض . اجلسى ولا تخترعى شيئا ، وبمجرد عودتى سأمر عليكِ مرة أخرى . سنجلس معا ونتحدث .
ـ لا تسقطى هناك !
مدت العجوز يدها مودعة ، وفجأة ارتعدت ميرونيخا ، طأطأت رأسها فى ارتباك وضغطت يد العجوز إلى خدها . طفرت الدموع من عينى العجوز . أرادت النهوض ، ولكن ميرونيخا منعتها واستدارت نحو البوابة . كانت تعتقد أنها تسير بسرعة ، بل لا تسير وإنما تركض ، ولكنها فى الحقيقة كانت تمط نفسها ، وبدا واضحا لها أنها تنقل خطواتها بصعوبة .
فكرت العجوز وهى تمسح دموعها أنه ربما لم تمت ليلا لأنها لم تودع ميرونيخا ، صديقتها الوحيدة طوال حياتها ، وربما لأنه لم يكن لديها ما هو موجود الآن ـ الشعور بالنهاية الكاملة الواضحة ، وختام تلك الصداقة القديمة القوية .
وعرفت العجوز أنهما لن تلتقيا بعد الآن .
( 11 )
كان عليها أن تعيش يوما آخر ـ زائدا ، وغير مجدى .
رافقت ناديا العجوز إلى داخل البيت ، بل لم ترافقها وإنما يمكن القول أنها حملتها على يديها . لم تقو قدماها على حملها إطلاقا . وها هى قد رقدت ثانية فى فراشها تنظر أمامها بعيون مذنبة حزينة ، وتنصت بحذر لكل ما يجرى حولها . وبدا لها أنها لم تعد تملك أى حق فى أى شئ فى الدنيا ـ لا أن ترى ، أو تتحدث ، أو تتنفس ـ كل شئ بدا لها وكأنه مسروق . ففى الصباح ، عندما نهضوا وأخبرتهم ناديا أن العجوز قد خرجت بمفردها ، شهقوا وفرحوا ، واندهشوا لأنها تتعافى ليس بحساب الأيام ، وإنما بحساب الساعات ، وما لبثوا أن تفرقوا تدريجيا وبقيت العجوز وحدها . كانوا يطلون عليها ـ أحيانا لوسيا ، وأحيانا إيليا أو ناديا ـ يلقون نظرة ويخرجون فى الحال . وقال إيليا أنه يجب الانتظار إلى أن تبدأ العجوز بالرقص كى يصفقوا لها . أعجبتهم النكتة حتى أن لوسيا ابتسمت لها . أما فارفارا فنقلت النكتة إلى القرية مع آخر الأخبار بأن أمها نهضت على قدميها حتى ذلك الوقت وجد إيليا متسعا كى يُسَخِّن نفسه بجرعتين وكان رأسه الوردى يلمع ساخنا وينشر من حوله هالة من الضياء ، وتوهجت عيناه بمرح وخفة . كان يشعر برغبة قوية فى عمل شئ ، المشاركة فى شئ ، ولكن لم يكن هناك شئ يفعله . ولذا كان يعود من جديد إلى أمه وهو يكرر :
ـ ترقدين يا أمى ؟ ارقدى ، استريحى ، وعندما تريدين الرقص ، عليك أن تنادينا لنتفرج ـ آى نعم . نحن نعرف يا أمى ، نعرف أنك تريدين الرقص ـ لا تنكرى . ولكن العجوز أجابته بنظرة فزعة متوسلة .
كانت العجوز بمفردها ، وكان ميخائيل آخر من دخل إليها . جلس فى نفس مكانه خلف المنضدة ، حيث كان يجلس بالأمس قبل المشاجرة ، وراح يدخن وهو يأخذ أنفاسا سريعة شرهة . كان وجهه على غير عادته ملئ بقع سوداء ملتهبة وقد تورمت عيناه . كان يدخن ويتنفس بثقل وهو ينظر طوال الوقت إلـى أمه ، كان ينتظر شيئا ، ويأمل فى شئ . وصل الدخان إلى العجوز ، فسعلت بصعوبة وهى تمسك صدرها بيديها : مزَّق السعال الجاف المتعسر حلقها ، فأطفأ ميخائيل السيجارة وخرج مسرعا . وهكذا لم يقل أحدهما للآخر ولا كلمة واحدة .
بعد أن هدأ سعال العجوز جاءت نينكا إليها ، فاستجابت لها فى الحال . رفعت يدها وأخذت تمسح على كتف الفتاة ، فأحست بالدفء وبحرارة الجسد الطفولى ـ وكأن أحدا يربت على كتفها هى . وأغلقت حتى عينيها وكأنها فى لحظة سعادة خاصة .
فجأة قالت نينكا بدون أى سبب :
ـ ابنتك ، العمة لوسيا ، غير صادقة .
سألت العجوز :
ـ ماذا هناك ؟
ـ وعدت أن تشترى لىَّ سكاكر . وعدت . سمعها الجميع ، ولكنها لم تشتر شيئا . غير صادقة .
ـ قولى لها أن تشترى .
ـ أنا أخافها . قولى لها أنتِ
ـ ولماذا تخافين منها ؟ ليست وحشا ، ولن تعضك .
ـ لن تعض ، ومع ذلك أخاف نظراتها . دعيها لا تنظر إلىَّ ولن أخاف .
ـ لا تثرثرى .
ولكن نينكا واصلت إلحاحها :
ـ ما رأيك فى أن أدعوها أنا ، وتطلبين أنتِ منها ؟
ـ لا تفعلى ذلك . ما حاجتك إلى المزيد من السكاكر . لم يفرغ فمك بالأمس منها ، من الصباح إلى المساء .
انتفضت نينكا غاضبة وابتعدت عن العجوز قائلة :
ـ أنتِ نفسك تخافين منها . لو كنت لا تخافين منها لطلبتِ أن تشترى لىَّ السكاكر . أنتِ خوَّافة لا أكثر .
أرادت العجوز أن تبتسم ولكنها لم تستطع ، وإنما اهتزت شفتاها دون أى تعبير .
يبدو أنها غفت قليلا ، لأنها لم تسمع كيف دخلت لوسيا . فتحت عينيها ـ رأت لوسيا واقفة تنظر إليها ، تبحث فيها عن شئ . وحين التقت نظرتها بنظرة أمها ، سألتها :
ـ كيف حالك يا ماما ؟
قالت العجوز :
ـ لا بأس ـ لم تعرف بماذا تجيب . بدا لها أنها تجاوزت تلك الحدود التى تجعل الناس يفرقون بين حالتهم الجيدة أو السيئة . وحتى فى السابق ، فى حياتها ، كانت تفرق بصعوبة بين هاتين الحالتين : على الرغم من أنها كانت تميز أكثر بين الصحة والمرض ، التعب والقوة ، القدرة والعجز .
أصرت لوسيا :
ـ أفضل من الأمس ؟
وفجأة طلبت العجوز :
ـ تصالحى يا لوسيا مع ميخائيل تصالحى . لا داعى لأن تتشاجروا . أنا المذنبة : تهجَّمتُ عليه فلم يتحمل ، وثار غضبه ، ولكنه الآن يتعذَّب .
ـ انظروا ، تقولين ثار غضبه ، أما أنا فلا ـ قالت لوسيا فى تهكم ـ شئ رائع جدا . لقد سمعنا جميعا كلاما سيئا ، والآن علىَّ أن أعتذر له ، ماذا تخترعين يا ماما ؟ لا تدافعى عنه من فضلك ، فأنا لا أريد الآن مناقشة هذا الموضوع . لدىَّ أيضا أحاسيس أحترمها ، وأريد أن يحترمها الآخرون .
ارتبكت العجوز :
ـ أنا لا أقول شيئا ولا أبرر تصرفاته ـ لا . إنه يختلف عنك . ما العمل الآن ؟ مهما كان فهو أخوك . ومهما كنتُ فأنا أمكما ـ أمك وأمه . أريد أن تعيشا فى وئام وليس على هذا النحو . تصالحى معه يا لوسيا ، أشفقى علىَّ ، تصالحا ، ولحظتها سأستسلم ، فهذا هو الشئ الوحيد الذى يؤخرنى .
ـ أ لم تسأمى من ذلك يا ماما ؟ لقد أصبحتِ سليمة تماما ، بل وتسيرين أيضا ، ومع ذلك لا تحدثين إلا عن الموت . أ ليس لديك شئ أخر تتحدثين عنه ؟
مرة أخرى عادت نينكا فى وقت غير مناسب إطلاقا . فأبعدتها العجوز وهى تدفعها عن نفسها :
ـ اذهبى والعبى . اذهبى الآن وعودى فيما بعد ، سأنتظرك .
قالت نينكا وهى تنظر من طرف عينها إلى لوسيا :
ـ ابنتك ، العمة لوسيا غير صادقة .
لم يتبق أمام العجوز إلا أن تسأل :
ـ لماذا ؟
ـ آى نعم . أ لم تعدنى بشراء سكاكر ؟ وعدت ، وسمع الجميع ، ولكنها لم تشتر . خدعتنى .
تساءلت لوسيا فى اندهاش :
ـ وما هذا أيضا ؟! لماذا تتحدثين معى هكذا ؟
ـ أنا لا أكلمك أنتِ ، وإنما أكلم جدتى ، وعليك ألا تنصتى .
ـ من أعطاك الحق لتتحدثى إلىَّ هكذا بدون احترام ؟ هل أنا صاحبة لكِ ؟ ألا تعرفين أنه يجب التحدث إلى الكبار باحترام ؟ أ لم يعلمك أحد ذلك ؟
همست العجوز لنينكا :
ـ اعتذرى .
ـ آى نعم . قالت نينكا ونشقت بأنفها وهى على وشك البكاء . فسبقتها لوسيا :
ـ لا تفكرى فى البكاء . لن يصدق أحد دموعك . أنتِ عديمة التربية . لا أحب قليلى التربية ، ولا أحب عندما يتحدثون إلىَّ هكذا . انظروا إلى أى حد وصلت الأمور .
قالت العجوز فى حذر :
ـ لن تكرر ذلك .
ـ انتظرى يا ماما . هكذا ربيتموها : لن تكرر ذلك ، وهذا كل شئ . ولكن لماذا تصرَّفت هكذا ـ دعيها تجيب . قريبا سوف تريكم أسوأ من ذلك ، وسترون ـ استدارت لوسيا نحو نينكا : ـ إذا كنتِ فى حاجة ضرورية إلى السكاكر ، سأشترى لكِ طبعا ، ولكن لن تكون هذه هدية بل ابتزاز . هل تعرفين ماذا يعنى الابتزاز ؟
طأطأت نينكا رأسها موافقة ، فقد حققت ما أرادت : ستشترى .
حينما خرجت لوسيا ، لحقت بها نينكا . ربما أرادت أن تناوب هناك عند البوابة ، أو تلحق بها إلى الدكان وهناك ، أمام الناس ، تظهر لها فى اللحظة المناسبة وتدس يدها فى الواجهة :
ـ عمتى لوسيا ، أريد من هذه السكاكر . فهذه أحبها .
هذه هى نينكا ، لا تشبه فى ذلك لا أمها ولا أبيها ، ولا يُخاف عليها ، فهى شجاعة فى مثل تلك المواقف .
من جديد تاهت العجوز ، غرقت فى نفسها ، وعندما أفاقت كانت الشمس قد غطت منتصـف الغرفة . أخذت ترقبها وهى تخشى وتريد فى آن واحد أن تصل إلى الفراش . لقد بدا لها أنه فى هذا اليوم الذى لم تكن تملك الحق فى أن تعيشه ، قد ينكشف لها شئ لم تعرفه وهى حية . حدَّقت العجوز إلى الشمس على أرضية الغرفة ، إلى بقعتها الحامية العريضة وهى تأمل أن تعثر فيها على ذلك الرسم أو تسمع ذلك الصوت الذى يوضح لها شيئا ، ولكن ذلك لم يحدث . الشمس تقترب حثيثا من العجوز ، تزحف نحو الفراش من الناحية اليمنى حيث تسقط أشعتها مباشرة من خلال النافذة . وفى ضوئها الصامت الثاقب ظهرت قوة مؤثرة مرحة من الصعب كبحها . وفجأة خطر على ذهن العجوز أن الشمس قد تذيبها كما تفعل بتمثال ثلجى رخو مغطى بالأسمال . أخذت تتدفَّأ بأشعة الشمس وتشعر بحنانها دون أن تلاحظ هى نفسها ذلك ، سوف تبدأ الذوبان ، ستذوب وتذوب ، حتى تختفى تماما ، وسيأتى الناس ولن يجدوا أحدا فى الفراش ، وسيعتقدون أنها خرجت إلى الفناء مرة أخرى . هكذا فكرت العجوز : " الناس " ، دون أن تميِّز بين الأقرباء والغرباء .
أخيرا وصلت الشمس إلى الفراش ، ووضعت العجوز يدها تحت أشعتها كى تستمد الدفء لجسدها كله . بدا لها أن الضعف يتسرب مع الدفء ، ولكن ذلك لم يفزع العجوز : كان ضعفا واهنا لذيذا . لم تكن العجوز تريد أن تغفو ، وليحدث كل شئ وهى فى وعيها .
فى مكان ما ، على مسافة ليست بعيدة ، انهمكت فارفارا فى الحديث مع أحد ما . وفجأة تذكرت العجوز شيئا ما كانت قد نسيته تماما . عصرت الصوت فى داخلها ونادت فارفارا ، ولكن لم يجبها أحد : كان صوتها ضعيفا للغاية ، فلم يصل إلى مسافة بعيدة . صاحت العجوز مرة ثانية بصوت أقوى . سمعت فارفارا وأتت إليها .
ـ ماذا تريدين يا أمى ؟
ـ اجلسى ـ أشارت العجوز بعينها إلى مكان مجاور على الفراش .
جلست فارفارا .
ـ ماذا يا أمى ؟
ـ انتظرى ـ بدأت العجوز حديثها ـ سأموت …
ـ لا تقولى ذلك يا أمى .
ـ سأموت ـ كررت العجوز ، وأضافت : ـ عليك أن تبكينى كما يجب .
ـ ماذا تريدين ؟
ـ أن تبكينى كما يجب . هم لن يفعلوا ذلك . إنهم لا يهدهدون الطفل الآن قبل النوم ، ولا يودعون الإنسان إلى القبر ـ لا يفهمون شيئا . الأمر كله لديك . سأعلمك كيف تبكين علىَّ . تستطيعين البكـاء وحدك ، ولكن عليك أن تبكى بحرقة .
بدا أن فارفارا فهمت ، وظهر الخوف على وجهها .
ـ اسمعى . لقد ودعتُ أمى إلى القبر ، وأنتِ ودعينى كذلك . لا تخجلى ، فهم لن يفعلوا ذلك ـ تنهدت العجوز وأغلقت عينيها ، وهى ترتب فى ذاكرتها الكلمات البعيدة شبه المنسية التى لم تعد تستخدم اليوم . وبدأت بصوت حاد ممطوط :
ـ آه يا أمى ، آه يا حبيبتى …
ـ يا أمى ـ ى ـ ى ! ـ رددت فارفارا باكية وهى تهز رأسها وكأنها ترفض الاشتراك فى هذه اللعبة .
أوقفتها العجوز :
ـ لا تبكى ، اسمعى أولا ، تعلمى . لا داعى للبكاء الآن ، أنا لا أزال هنا ، احتفظى بدموعك إلى الغد . هيا قبل أن يأتى أحدهم ويعوقنا . لنحاول فى هدوء .
انتظرت حتى تهدأ فارفارا ، وبدأت مرة ثانية :
ـ إيه يا أمى ، إيه يا حبيبتى .
ـ إيه يا أمى ، إيه يا حبيبتى ـ كررت فارفارا على أثرها من خلال الدموع .
ـ لماذا تزينتِ وإلى أين أنتِ ذاهبة ؟
ـ لماذا تزينتِ وإلى أين أنتِ ذاهبة ؟
جلست العجوز فى فراشها وعانقت فارفارا من كتفيها وهى تلقنها . صار صوتها أقوى وأشد إلحاحا :
إلى أى بلد بعيد ؟
فى الطريق الممهدة
عبر الغابة الخضراء
إلى كنيسة العذراء
إلى رنين الأجراس
إلى الدعاء الروحى ،
ومن كنيسة العذراء
إلى الأرض الأم الرطبة
إلى الأهل والخلان .
استمر النهار . استمر مشمسا ودافئا خفيفا ، وكان الهواء مشبعا بقيظ حاد مثل الذى يقبل مع بداية الخريف الصحو . كانت الشمس كعادتها زرقاء ، زرقاء فاتحة من الأعلى ، وفى طرفها ، عند النهر ، حيث تغيب الشمس ، كانت مغطاة بطبقة رقيقة داكنة ، وفى الناحية اليسرى إلى الأعلى سبحت غيمة شفافة وحيدة ، صغيرة تماما كى تكمل اللوحة وكأنها أُطلِقَت من أجل أن يتمتع الناس برؤيتها . وكان ما تبقى من الفضاء فوق الرؤوس صافيا عميقا معبرا عن الهدوء اللانهائى ، والأرض المشمسة مفروشة تحته فى هدوء وراحة .
كان ميخائيل يستريح أمام عنبر الدار معتمدا بخده على راحة يده وهو يدخن سيجارة تلو أخرى .
اقترب منه إيليا وسأله :
ـ أ لم تشرب اليوم ؟
هز ميخائيل رأسه بالنفى .
ـ أما أنا فقد شربتُ قليلا ، هكذا لتعديل المزاج ، أ لم تسمع أن أمنا قامت على قدميها ؟
سمعت .
سترقص قريبا ـ آى نعم . انظر إليها ـ وتابع ضاحكا :
ـ ما رأيك لو شربنا قليلا ؟ المشروب هنا ولن نذهب بعيدا .
رفض ميخائيل قائلا :
ـ لا ، لقد قمنا أمس بالعجائب ، كفى .
ـ شربتَ أنت كثيرا بالأمس ، وأخذت تتهجم على الجميع ، وتشاجرت مع الأم .
ـ لم أتشاجر معها .
غضبتْ منك كثيرا ، وخاصة بسبب تانشورا . كانت على استعداد لضربك . هذا صحيح ـ وعاد إلى الضحك ، ثم سأل :
ـ اسمع ، متى أرسلتَ تلغرافا إلى تانشورا كى لا تحضر ؟ كنتُ معك طوال الوقت ، ولم أبتعـد عنك ، فمتى لحقت ؟
قذف ميخائيل بعقب السيجارة ، فهرعت الدجاجات إليه . نظر فى عينى أخيه قائلا :
ـ لم أرسل لها أى تلغراف .
ـ كيف لم ترسل ؟
ـ هكذا .
ـ أ لم تقل أنك أرسلت إليها ؟ كل ما حدث بالأمس كان بسبب ذلك ، أ لا تذكر ؟
ـ كيف لا أذكر ؟ أذكر . لو لم أقل ذلك ، فهل تعلم ماذا كان سيحدث لأمنا ؟ الأفضل أن نكذب عليها كى لا تنتظر .
ـ هكذا … ولكن أين تانشورا إذن ؟
ـ من أين لىَّ أن أعرف ؟
ـ هكذا إذن ، يا لها من حيلة !
ـ أرجو ألا تبلغهم . دعهم يعتقدون أننى أرسلتُ ـ قال ميخائيل بسرعة إذ رأى لوسيا قادمة نحوهما من ناحية البوابة . وطأطأ رأسه : ستبدأ الآن حديثها من جديد ، ستذكر ما حدث بالأمس وأول أمس ، كل ما حدث وما لم يحدث . لا فائدة من تقريعه الآن ، سيلوم نفسه فيما بعد ، وسيكون هذا أجدى ، ولكن كلماتها تثير الآن الغثيان ـ ليذهبوا إلى … ! فأنا لا أطيق نفسى .
بدأت لوسيا قبل أن تصل إليهما :
ـ إيليا ! ـ كانت هيئتها حازمة ، ولكن مضطربة وكأن شيئا قد حدث . لم تقل ما كان ميخائيل يخشاه ـ إيليا ، هل تعرف أن اليوم هو موعد المركب ؟ لم يبق إلا القليل من الوقت . المركب التالى لن يصل إلا بعد ثلاثة أيام .
وقف إيليا تائها :
ـ ما العمل الآن ؟
ـ قرر بنفسك . أما أنا فعلى أن أسافر ، لا أستطيع البقاء أكثر .
ينبغى السفر ـ هز رأسه موافقا ونظر نحو ميخائيل : ـ أمنا تحسنت كما يبدو .
قال ميخائيل فى وجل :
ـ لو انتظرتما قليلا .
لم يجبه أحد .
دخلوا البيت جميعا وجمدوا أمام فراش العجوز . لم تلحظهم الأم ولا فارفارا . كانت فارفارا منحنية على الأم تكاد تلمس صدرها وهى تنوح . أما العجوز فقد أغلقت عينيها وهى تردد نشيدا حزينا مفجعا ، وكان وجهها مشرقا مهيبا . أنصتوا ، وفهموا الكلمات الحنونة اليائسة ، والتى بدت مقلوبة وتحمل معنى معاكسا واحدا .
سألت لوسيا فى سخرية وبصوت مرتفع :
ـ ماذا يجرى هنا ؟ ما هذا الحفل ؟
سكتت العجوز وفارفارا فى الحال ، ثم نهضت فارفارا وقالت مشيرة إلى الأم :
ـ إنها أمنا …
قال إيليا ضاحكا :
ـ نحن نرى ، ليست أبانا طبعا .
تمتمت العجوز فى حزن محاولة أن توضح :
ـ سأموت .
ـ ماما ، والله لقد سئمنا هذه الأحاديث حول الموت ، هى نفسها لا تتغير . هل تعتقدين أن ذلك يريحنا ؟ لكل شئ حدود . لا تستطيعين الكلام عن أى شئ آخر . الحياة أمامك طويلة ، ستعيشيـن وتعيشين ، وأنتِ تخترعين وتخترعين ، لا يجب ذلك .
أضاف إيليا :
ـ حتى المائة يا أمى ، حتما ـ آى نعم .
صمتت العجوز مصوبة بصرها نحو الجدار .
ـ أنتِ تفهمين يا ماما أنك شفيتِ تماما . عيشى وتمتعى بحياتك . كونى مثل الجميع ، ولا تدفنى نفسك وأنتِ ما زلتِ حية . أنتِ حية ، طبيعية ، وعليك أن تكونى هكذا ـ سكتت لوسيا قليلا ، ثم واصلت بنفس الصوت الحنون ـ أما نحن فعلينا أن نسافر اليوم ، هذا ما يجب يا ماما .
صرخت فارفارا :
ـ ماذا حدث لكم ؟!
لم تصدق العجوز ، وأخذت تهز رأسها فى ذهول .
كررت لوسيا فى نعومة ولكن بإصرار وهى تبتسم :
ـ يجب أن نسافر يا ماما . المركب اليوم ، أما المركب التالى فبعد ثلاثة أيام . لا نستطيع الانتظار طويلا .
أنَّت العجوز :
ـ لا ، لا .
قالت فارفارا فى قلق :
ـ لا يجوز السفر اليوم ، ولا يجوز ترك أمنا . كأنكما غريبين ، فكرا جيدا . لا يجوز .
قال ميخائيل مؤيدا :
ـ لو تبقيان يوما آخر .
قالت لوسيا دون أن تجيبهما :
ـ نحن ، يا ماما ، لسنا أحرارا : لا نستطيع أن نفعل ما نريد . لدينا عملنا . كنتُ أتمنى بكل سرور لو أعيش هنا أسبوعا آخر ، ولكننى أخشى أن يطردونى من عملى ، فنحن لسنا فى إجازة . افهمى من فضلك ولا تغضبى علينا . يجب أن نسافر .
شرعت العجوز فى البكاء ، وكررت وهى تنظر تارة إلى لوسيا ، وتارة أخرى إلى ميخائيل :
ـ سأموت ، سأموت . سترون . اليوم . انتظروا قليلا ، انتظروا . لستُ بحاجة إلى المزيد . لوسيا ! وأنت يا إيليا ! انتظرا ، أقول لكما ، سأموت ، سأموت .
ـ تعودين إلى ذلك مرة أخرى يا ماما . نحن نحدثك عن الحياة ، وأنتِ تحدثيننا عن الموت . لن تموتى ، لا تقولى ذلك من فضلك ستعيشين طويلا . كنتُ سعيدة لرؤيتك . ولكن علىَّ الآن أن أسافر . سنأتى فى الصيف مرة أخرى . سنأتى حتما ، نعدك بذلك . لن نأتى على عجل كما فى هذه المرة ، وإنما لفترة طويلة .
هنا تدخل إيليا :
ـ ولماذا فى الصيف ، ليس فى الصيف ، وإنما قبل ذلك . ستتحسن أمنا تماما وستسافر إلينا . تعالى إلىَّ يا أمى ، سنذهب إلى السيرك . أنا أعيش قرب السيرك . هناك مهرجون ، ستضحكين كثيرا .
حاول ميخائيل مرة ثانية :
ـ يوم واحد لن يقدم أو يؤخر . ما الفرق ؟
انفجرت لوسيا :
ـ لا أنوى أن أناقش معك هذا الأمر ، فأنا أعرف أفضل منك ، هل هناك فرق أم لا . أم أنك لا تزال ترى أن علينا أن نأخذ ماما معنا ، ولهذا علينا أن ننتظرها ؟
ـ لا ، لا أرى .
ـ شكرا على ذلك .
أخذا يجمعان أشياءهما على عجل . لم تبك العجوز بعد ذلك ، وبدأت وكأنها قد تجمَّدت . كان وجهها مستسلما ، لا حياة فيه . لم ترد على ما قيل لها . كانت عيناها تتابعان الهرج والمرج فى ذهول .
جاءت ناديا راكضة وأرادت أن تعد المائدة قبل الوداع ، ولكنهم منعوها . لم يكن لديهم الوقت أو الرغبة فى الأكل . همس إيليا لميخائيل :
ـ ما رأيك أن نشرب قبل السفر ؟ لنشرب قليلا .
رفض ميخائيل : ـ لا ، لا أريد .
لم تنس فارفارا ، وطلبت من لوسيا بصوت مرتفع :
ـ أين الفستان ـ آ ؟
ـ ماذا ؟
ـ الفستان الأسود الذى خيطته هنا ، قلتِ أنكِ ستعطيننى إياه .
أخرجت لوسيا الفستان من الحقيبة وألقت به بين يدى فارفارا فى قرف .
وفى اللحظة الأخيرة أعلنت فارفارا :
ـ وأنا سأسافر أيضا مع الجميع . السفر جماعة سيكون أكثر مرحا .
أنَّت العجوز بصوت لا يكاد يُسمَع :
ـ فارفارا !
ـ أخشى يا أمى أن يحرق الأولاد البيت فى غيابى ، لا يجب تركهم وحدهم ، أخشى أن يفعلـوا شيئا .
لوَّح ميخائيل بيده :
ـ سافرى ، سافروا جميعا .
راحوا يودعون بعضهم البعض . قبَّلت لوسيا أمها فى خدها ، وصافحها إيليا ، وبدأت فارفارا البكاء .
ـ تعافى يا ماما ، ولا تفكرى فى الموت .
ـ أمنا رائعة .
ـ سأزورك قريبا يا أمى . ربما فى الأسبوع القادم .
رافقهم ميخائيل مودعا . سمعت العجوز وقع الخطوات من وراء النافذة . قال أحدهم شيئا ضحك إيليا على أثره ، ثم سكن كل شئ ، وأغلقت العجوز عينيها . دفعتها نينكا وهى تمد لها يدها بسكرة :
ـ خذى يا جدتى .
أبعدت العجوز يد الصغيرة عنها . نظرت نينكا إلى العجوز فى حزن وقالت عن المسافرين :
ـ سيئون .
تحركت شفتا العجوز ، ربما فى ابتسامة ، وربما فى سخرية .
وبعد ذلك عاد ميخائيل وجلس إلى جوارها على طرف الفراش ، وبعد صمت طويل قال متنهدا :
ـ لا يهمك يا أمى . لا يهمك . سنعيش كما عشنا . سنعيش . لا تغضبى منى . أنا بالطبع أحمق . أه ، كم أنا أحمق ـ تنهد ميخائيل ونهض ـ ارقدى يا أمى ، ولا تفكرى فى شئ . لا تغضبى منى كثيرا ، أحمق أنا .
كانت العجوز تنصت دون أن ترد . لم تكن تعرف ، هل تستطيع الإجابة أم لا . راودتها الرغبة فى النوم . انغلقت عيناها . وقبل حلول المساء ، قبل أن يحل الظلام ، فتحتهما عدة مرات ، ولكن ليس طويلا ، بل لتتذكر فقط أين هى .
وفى الليل ماتت العجوز .
__________________ كل الشكر اثوره |