وفي حديثِ عَلِيٍّ رضيَ اللهُ عنهُ ، قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، يَقولُ : { خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ }( متفقٌ عليهِ ).
20-إنَّها مِنْ الكُمَّلِ ، مِنْ النساءِ : حديث أَبِي مُوسى رضيَ اللهُ عنهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : { كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ ـ آسِيَةُ امْرَأَة فِرْعَوْنَ ، وَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النسَاءِ : كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ }( متفقٌ عليهِ ).
21- كانتْ مدَّة حملها : ساعة واحدة : !!! ، وهو قولُ ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما ، ويمكن الاستدلال عليهِ ، مِنْوجهينِ :
الأول : قولهُ تعالى : { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ ...} ( مريم : 22 ) ، { فَأَجَاءهَا المخاض .... } ( مريم : 23 ) ، { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا } ( مريم : 24 ).
[{( والفاءُ للتعقيبِ : فدلتْ هذهِ الفاءاتِ ، على أنَّ كلَّ واحدٍ ، منْ هذهِ الأحوالِ : حصلَ عُقيبُ الآخرِ ، مِنْ غيرِ فصلٍ ، وذلكَ يوجبُ كونَ مُدَّة الحملِ ( ساعة واحدة ) لا يُقالُ : انتباذُها مكاناً قصياً !!!! كيفَ يحصلُ ، في ساعةٍ واحدةٍ ؟؟؟؟؟ لأنَّا نقولُ : السَّدي : فسَّرهُ بأنَّها ذهبتَ : إلى أقصى موضعٍ ، في جانبِ محرابها )}].
(( ذكرهُ أبنُ أبي حاتمٍ الرازي رحمهُ اللهُ تعالى )).
الثاني : أنَّ اللهَ تعالى : قالَ في وصفهِ : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ( آل عمران : 59 ) فثبتَ : أنَّ عيسى عليهِ السَّلام : كما قالَ اللهُ تعالى لهُ : { كُنْ فَيَكُونُ } وهذا مِمَّا لا يتصور فيهِ "" مدَّة الحمل ""، وإنِّما تعقلُ تلكَ المُدَّةِ ، في حقِّ مَنْ يتولدَ مِنْ النطفةِ (( ذكرهُ أبنُ أبي حاتمٍ الرازي رحمهُ اللهُ تعالى )).
22- رزقها الله تعالى ، إبناً باراً بها : قالَ تعالى : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } .
قالَ ألإمام الرازي رحمه الله تعالى : إشارةٌ إلى تنزيهِ أُمِّهِ عنْ الزِّنا ، إذ لو كانتْ : زانية لمَا كانَ الرَّسولُ المعصوم مأموراً بتعظيمِها !!!( إنتهى ).
والآنَ مع تفسيرِ : أبن أبي حاتم الرازي رحمهُ اللهُ تعالى وغفرَ لهُ ولكلِّ المسلمينَ ـ آمين :
قالَ تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)}( سورة مريم ).
قال تعالى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) }( الشعراء : 193 ـ 194 ) : وسمُّيَ روحاً : لأنَّهُ روحانيٌ ، وقيلَ خُلقَ مِنْ الروحِ ، وقيلَ لأنَّ الدِّينَ يحيا بهِ ، أو سمَّاهُ اللهُ تعالى بروحهِ : على المجازِ ـ محبةً لهَ وتقريباً ، كما تقول لحبيبكَ : روحي .
وقرأَ أبو حيوة : روحَنا : ( بالفتح ) لأنَّهُ سببٌ ، لمِا فيهِ روح العبادِ ، وإصابة الرَّوح عندَ اللهِ الذي هو عدَّة المتقينَ ، في قولهِ : { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)} ( سورة الواقعة ) ، أو لأنَّهُ مِنْ المقربينَ ، وهم الموعودونَ بالرَّوحِ : أي مقربنا وذا روحنا ، وإذا ثبتَ أنَّهُ يُسمَّى روحاً ، فهو هنا : يجب أنْ يكونَ المراد بهِ : ( هو ) لأنَّهُ قال : { إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لأَهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً } ( مريم : 19 ) ولا يليقُ ذلكَ : إلا بجبريل عليهِ السَّلام .
فاختلوا في : أنَّهُ : كيفَ ظهرَ لها ؟؟؟؟.
فالأول : أنَّهُ ظهرَ لها ، على صورةِ : شابٍ أمردٍ ، حسن الوجهِ سوي الخلقِ .
والثاني : أنَّهُ ظهرَ لها ، على صورةِ : تربٍ لها اسمهُ " يوسف " مِنْ خدمِ بيتِ المقدسِ .
وكلُّ ذلكَ مُحتملٌ ، ولا دلالةٌ في اللفظِ على التعيينِ ، ثمَّ قالَ : وإنِّما تمثَّلَ لها ، في صورةِ الإنسانِ لتستأنسَ بكلامهِ ، ولا تنفرَ عنهُ ، فلو ظهرَ لها ، في صورةِ الملائكةِ : لنفرتْ عنهُ ، ولم تقدرْ على استماعِ كلامه ، ثمَّ ههنا إشكالاتٌ :
أحدهما : وهو أنَّهُ : ( لو جازَ ،أنْ يظهر الملكُ ، في صورةِ إنسانٍ معينٍ ) ، فحينئذٍ :
لا يمكننا القطع ، بأنَّ هذا الشخص ، الذي أراهُ في الحالِ ، هو : ( زيدٌ ) الذي رأيتهُ بالأمسِ ، لاحتمالِ : أنَّ الملكَ أو الجنّي : تمثلَ في صورتهِ !!؟؟.
وفتح هذا البابِ : يؤدي إلى السفسطةِ !! ، لا يُقالُ هذا : إنِّما يجوزُ ، في زمانِ جوازِ البعثةِ ، فأمَّا في زمانِنا هذا : فلا يجوزُ ، لأنَّا نقولُ هذا الفرق : إنِّما يُعلمُ بالدليلِ ، فالجاهل : بذلكَ الدليلِ ، يجبُ أنْ : لا يقطع بأنَّ هذا الشخص ، الذي أراهُ الآنَ : هو الشخص ، الذي رأيته بالأمسِ .
وثانيها : أنَّهُ جاءَ في الأخبارِ : ( أنَّ جبريلَ عليهِ السلام : شخصٌ عظيمٌ جداً ، فذلكَ الشخص العظيم ، كيفَ صارَ بدنهُ ، في مقدارِ جثةِ الإنسانِ ) ، أبأن تساقطتْ أجزاؤهُ وتفرقتْ بنيتهُ ، فحينئذٍ : لا يبقى جبريلُ أو بأنْ تداخلتْ أجزاؤهُ ، وذلكَ يوجبُ تداخل الأجزاءِ ،وهو محالٌ .
وثالثها : وهو أنَّا : ( لو جوزنا : أنْ يتمثل جبريلُ عليهِ السَّلام ، في صورةِ الآدمي : فلم لا يجوزُ تمثلهُ ، في صورةِ : جسمٍ أصغر منْ الآدمي ، حتى الذُّباب والبق والبعوض ) ، ومعلومٌ أنَّ كلَّ مذهبٌ جرَّ إلى ذلكَ : فهو باطلٌ .
ورابعها : أنَّ تجويزهُ : ( يفضي إلى القدحِ ، في خبرِ التواترِ ) ، فلعلَّ الشخص ، الذي حاربَ يوم بدرِ : لم يكنْ مُحَمَّداً صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ !!!، بلْ كانَ شخصاً آخر ، تشبهَ بهِ ، وكذا القولُ في الكلِّ .
والجواب عنْ الأولِ : أنَّ ذلكَ التجويزُ لازمٌ ، على الكلِّ : لأنَّ مَنْ اعترفَ بافتقارِ العالمِ ، إلى الصانعِ المُختارِ : فقدْ قطعَ بكونهِ تعالى قادراً ، على أنْ يخلقَ شخصاً آخر : مثل زيدٍ في خلقتهِ وتخطيطهِ ، وإذا جوزنا ذلكَ ، فقدْ لزمَ الشَّكُ ، في أنَّ زيداً المُشاهدُ الآنَ : هو الذي شاهدناهُ بالأمسِ أمْ لا ، ومَنْ أنكرَ الصانعُ المُختارُ ، وأسندَ الحوادث ، إلى اتصالاتِ الكواكبِ وتشكُّلاتِ الفلكِ : لزمهُ تجويزُ : أنْ يحدثَ اتصالٌ غريبٌ ، في الأفلاكِ ، يقتضي حدوث شخصٍ مثل زيدٍ في كلِّ الأمورِ ، وحينئذٍ يعودُ التجويز المذكور .
وعنْ الثاني : أنَّهُ لا يمتنع : أنْ يكونَ جبريلُ عليهِ السَّلام ، لهُ أجزاءٌ أصليةٌ وأجزاءٌ فاضلةٌ ، والأجزاءُ الأصليةِ قليلةٍ جداً ، فحينئذٍ يكونُ مُتمكناً ، مِنْ التشبُّهِ بصورةِ الإنسانِ ، هذا إذا جعلناهُ جسمانياً ، أمَّا إذا جعلناهُ روحانياً : فأي استبعادٍ ، في أنْ يتدرّع تارةً بالهيكلِ العظيمِ وأخرى بالهيكلِ الصغيرِ.
وعنْ الثالثِ : أنَّ أصلَ التجويزِ : قائمٌ في العقلِ ، وإنِّمَا عُرفَ فسادهُ : بدلائلِ السَّمعِ ، وهو الجواب عنْ السؤالِ الرابعِ ، واللهُ أعلم .
{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)}.
وفيهِ وجوهٌ :
أحدها : ( أرادتْ : أنْ كانَ يُرجى منكَ ، أنْ تتقي اللهَ ، ويحصلُ ذلكَ بالاستعاذةِ بهِ : فإني عائذةٌ بهِ منكَ ) !! ، وهذا في نهايةِ الحُسنِ : لأنَّها علمتْ : أنَّهُ لا تؤثرُ الاستعاذة ، إلا في التقي ، وهو كقولهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }( البقرة 278 ) أي : أنَّ شرطَ الإيمان : يوجبُ هذا ـ لا أنَّ اللهَ تعالى ، يُخشى في حالٍ دونَ حالٍ .
وثانيها : أنَّ معناهُ : ( ما كنتَ تقياً : حيثُ استحللتَ النظرَ إليَّ وخلوتَ بيَ ).
وثالثها : ( أنَّهُ كانَ في ذلكَ الزمانِ : إنسانٌ فاجرٌ : اسمهُ ( تقى ) يتبع النساء ، فظنتْ مريمُ عليها السَّلام ، أنَّ ذلكَ الشخصِ المُشاهدِ ، هو ذلك التُقى ) .
والأولُ هو الوجهُ .
{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)}.
وفيهِ مسائلٌ :
المسألة الأولى : لمَّا علمَ جبريلُ خوفها ، قالَ : { إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ } ليزولَ عنها ذلكَ الخوفِ ، ولكنَّ الخوفَ لا يزولُ : بمجردِ هذا القولِ !!؟؟ : بلْ لا بدَّ مِنْ دلالةٍ ، تدلُ على : أنَّهُ جبريلُ عليهِ السَّلام ، وما كانَ مِنْ الناسِ !!!!؟؟.
فههنا يحتمل : أنْ يكونَ قدْ ظهرَ مُعجزٌ : عرفتْ بهِ جبريلُ عليهِ السَّلام .