عرض مشاركة واحدة
  #17  
قديم 09-04-2015, 03:11 PM
 
مخير أم مسير - من كتاب : الشيطان يحكم


الجولة 11 - لاتفهم حقيقة القدر إلا جبابرة العقول .. أصحاب الفهوم التي ثقب الحديد بشعاع فكرها ...
كم قرأت هذا المقال الجدلي ... وجعلني أكون في رأسي فكرة عامة لاتغارض الشرع واقتنعت بها في الصميم ..
الأمر إذا أسهل مما كنا نتصور ، إليكم هذا الكلام العجيب والحكيم من قلم إستاذي ( د. مصطفى محمود ) رحمة الله عليه :


مخير ... أم مسير ؟

يسألني القراء دائماً في استغراب .. كيف وصلت إلى قرارك الذي تردده في كل كتبك ومقالاتك بأن الإنسان مخير لا مسير .

كيف يكون الإنسان مخيراً وهو محكوم عليه بالميلاد والموت والإسم والأسرة والبيئة .. ولا حول له ولا قوة .. ولا اختيار في هذه الأشياء التي تشكل له شخصيته وتصرفاته .

والقراء يقعون في خطأ أوَّلي منذ البداية حينما يقيمون علاقة حتمية بين البيئة والسلوك .. وبين الأسرة وتقاليدها وبين الشخصية .. وهو تفكير خاطئ . فلا توجد حتمية في الأمور الإنسانية .. وإنما يوجد – على الأكثر – ترجيح واحتمال .. وهذا هو الفرق بين الإنسان والجماد .. وهذا هو الفرق بين الإنسان وبرادة الحديد .

برادة الحديد تطاوع خطوط المجال المغناطيسي في حتمية وجبرية وتتراص في خطوط المجال حتماً حينما نرشها حول المغنطيس .
أما الإنسان فإن علاقته بظروفه لا تزيد على كونها احتمالاً أو ترجيحاً ..
الإبن الذي ينشأ في عائلة محافظة محتمل أن ينشأ محافِظاً هو الآخر .. مجرد احتمال .. وكثيراً ما يحدث العكس ، فنرى هذا الإبن وقد انقلب متمرداً ثائراً على التقاليد ، محطماً لها .

وهذا هو الفرق بين المسائل الآلية الميكانيكية والمسائل الإنسانية .. ونفس الكلام يُقال في البيئة ..

البيئة تشكل الإنسان .. ولكن الإنسان أيضاً يشكل البيئة .

ونظرة سريعة في المجتمع العصري حولنا سوف ترينا كيف أخضع الإنسان مشاكل الحر والبرد والمسافات بعقله وعلمه ، واستطاع أن يسودها .. فهو يكيف الهواء بالمكيفات ، وهو يهزم المسافات بالمواصلات السريعة والبرق والهاتف .

الإنسان ليس كتلة هلامية سلبية تشكلها حتميات البيئة .. ولكنه إرادة صلبة في ذاتها لها حريتها في توجيه الأحداث .

وهذا هو الإنسان الذي وُلِد طفلاً تحكمه أسرته وبيئته ومقتضيات اسمه وتقاليده .. ها هو ذا يهاجر ويغير اسمه وبيئته وأسرته وينتقل إلى مجتمع جديد .. فيصنع انقلاباً في هذا المجتمع الجديد ويغيره من أساسه ..

وها هو ذا يموت فيترك كتاباً .. فإذا بالكتاب يغير التاريخ .

وصحيح أن الإنسان قليل الحيلة في الطريقة التي يولد بها وفي الطريقة التي يموت بها .. ولكنه بين ميلاده وموته يصنع حضارة .. الله أعطاه القدرة على أن يبني ويهدم ويُحرر ويتحَرَر ويفكر ويبتكر ويخترع ويثفجِّر ويُعَمِّر ويثدمِّر .. وسلمه مقاليد الخير والشر وحرية الاختيار .

وحواجز البيئة وضغوط الظروف لا تقوم دليلاً على عدم الحرية بل هي على العكس دليل على وجود هذه الحرية ..

فلا معنى للحرية في عالم بلا عقبات .. وفي مثل هذا العالَم الذي بلا عقبات لا يُسمَى الإنسان حراً .. إذ لا توجد لرغباته مقاومات يشعر بحريته من خلال التغلب عليها .

والحرية لا تُعبِّر عن نفسها إلا من خلال العقبات التي تتغلب عليها ..
فهي تكشف عن نفسها بصورة جدلية من خلال الفعل ومقاومة الفعل ولهذا كانت الضغوط والعوائق والعقبات من أدلة الحرية وليس العكس .

والفيلسوف الغزالي يحل المشكلة بأن يقول إن الله حر مخير مطلَق التخيير ، والمادة الجامدة مسيرة منتهى التسيير ..

والإنسان في منزلة بين المنزلتين .. أي أنه مخير مسير في ذات الوقت .. مخير بمقدار ، مسير بمقدار .

وتوضيحاً لكلامه أقول :
إن الإنسان حر مطلَق الحرية في منطقة ضميره .. في منطقة السريرة والنيّة .. فأنت تستطيع أن تجبر خادمك على أن يهتف باسمك أو يقبِّل يدك ، ولكنك لا تستطيع أن تجبره على أن يحبك ..
فمنطقة الحب والكراهية وهي منطقة السريرة منطقة حرة حررها الله من كل القيود ورفَع عنها الحصار ووضع جنده خارجها ..

لا يدخل الشيطان قلبك إلا إذا دعوته أنت وفتحت له الباب .. وقد أراد الله هذه النية حرة لأنها مناط المسئولية والمحاسَبة .

أما منطقة الفِعل فهي المنطقة التي يتم فيها التدخُل الإلهي عن طريق الظروف والأسباب والملابسات ليجعل الله أمراً ما ميسراً أو معسراً حسب نية صاحبه .

" فأما من أعطَى واتقى وصدقَ بالحُسنَى فسنيسره لليسرَى . وأما من بخل واستغنى وكذّب بالحُسنَى فسنيسره للعسرَى " سورة الليل .

يمهد الله أسباب الشر للأشرار .. ويمهد أسباب الخير للاخيار ..
ليُخرِج كل مِنا ما يكتمه ويفصِح عن سريرته ونيته ويتلبس بفعله .. وبهذا لا يكون التسيير الإلهي نافياً أو مناقِضاً للتخيير ، فالله يستدرج الإنسان بالأسباب حتى يُخرِج ما يكتمه ويفصح عن نيته ودخيلته ويتلبس باختياره ..

الله بإرادته يفضح إرادتنا واختيارنا ويكشفنا أمام أنفسنا .
ومن ثَمَ يكون الإنسان في كتاب الله مخيراً مسيراً في ذات الوقت .. دون تناقض .

فالله يريد لنا ويقدر لنا حتى نكتب على أنفسنا ما نريده لأنفسنا وما نخفيه في قلوبنا وما نختاره في أعمق الأعماق دون جبر أو إكراه .. وإنما استدراجاً من خلال الأسباب والظروف والملابسات .

وفي إمكان الواحد منا أن يبلغ ذروة الحرية بأن تكون إرادته هي إرادة الله واختياره هو اختيار الله وعمله هو أمر الله وشريعته .. بأن يكون العبد الرباني الذي حياته هي طاعة الناموس الإلهي ، فيَعبُد الله حباً واختياراً لا تكليفاً .. فيكون الحر الذي يقول عنه الله :

" عبدي أطِعني أجعلك ربانيَّاً تقول للشيء كُن فيكون "

إن الحب الذي قيل عنه :
" لو كان في قلبك ذرّة إيمان وقلت للجبل انتقل من مكانك لانتقل من مكانه " .

كما يحدث أن نعطي من ذات نفوسنا لمن نحب .. كذلك يعطي الله من ذاته لأحبابه ، فيحقق لهم ما يشاءون فيكونون الأحرار حقاً .

====================
رحمك الله أستاذي العزيز ،
تلميذك المخلص : عبدالله خضر عبدالله

رد مع اقتباس