وقد صدر بحث آينشتاين بثلاثين صفحة بأسلوب بسيط وبحواش قليلة ومن دون أية إشارات إلى مصادر أخرى إطلاقاً , تحت عنوان " في الديناميكا الكهربية للأجسام المتحركة", ويعتبر بعض الفيزيائيين أن لذلك العنوان دلالة أوفى من "النظرية النسبية الخاصة" كما أصبح البحث يعرف فيما بعد. وقد بيّن آينشتاين في هذا البحث على أنه ليس ثمة في الكون مقياس مقارنة ثابت أو مطلق لتقدير حركة الأرض والأنظمة المتحركة الأخرى. فإن هناك حركة واحدة فقط يمكن الكشف عنها وقياسها, ألا وهي الحركة النسبية , أي تغير مكان جسم ما بالنسبة جسم آخر.
وفي ختام بحثه قال آينشتاين أنه ينتج من نظريته إمكان التبادل بين الكتلة والطاقة , وأن الكتلة تمثل كميات مخزونة من الطاقة , كما أن الطاقة تشتمل على كتلة صغيرة. وكتب قانوناً لمعدل التبادل بين الكتلة والطاقة:
ط= ك س "أس 2"
( حيث تكون ط = الطاقة , ك = الكتلة , س = سرعة الضوء). وهكذا كشف آينشتاين عن مستودع الطاقة الكامنة في الذرة وعن كيفية تقدير كميته قبل شطر الذرة بـ 34 سنة.
وقد كتبت عدة كتب لشرح نظرية آينشتاين الثورية أسهل استيعابا. ومن بينها كتاب للنكولن بعنوان الكون والدكتور آينشتاين وآخر لليوبولد انفلد بعنوان آلبرت آينشتاين : عمله وأثره في عالمنا.
وفي السنة نفسها التي نشر فيها آينشتاين نظريته النسبية الخاصة نشر كذلك أربعة أبحاث أخرى على جانب عظيم من الأهمية . فتضمن أحد الأبحاث نظرية المقادير المعروفة في أيامنا بنظرية الفوتون التي تبين بأن الضوء , في بعض الظروف الخاصة , يكون موجوداً على شكل دفعات من الطاقة الإشعاعية. وكان ذلك إحدى المراحل الأساسية في تطور نظرية المقدار. ترتكز الفيزياء في الوقت الحاضر على نظريتين عظيمتين - النسبية والمقدار. وفي مدى سنة واحدة أسس إحدى هاتين النظريتين وهي النظرية النسبية, كما أسهم إسهاماً بليغاً في النظرية الأخرى , نظرية المقدار.
وقد نال عمل آينشتاين أول اعتراف علني بعد ذلك بثلاث سنوات , حين طلب إليه أن يحاضر في النسبية أمام رهط من العلماء في سالزبورج . وعقب ذلك عيّنته جامعة زيورخ أستاذاً مساعداً فيها.
كان ذلك سنة 1909 وكان آينشتاين آنذاك في الثلاثين من عمره. وقد قال فيما بعد أنه لم يكن حتى ذلك الوقت قد تعرف إلى أي "فيزيائي حقيقي". وأما الآن فقد انخرط في عالم الأساتذة وظل يمارس تلك المهنة بقية حياته. غير أنه لم يكن أبداً ليشعر بالارتياح التام في ذلك الجو , إذ لم يكن ليروق له القيام بما يفرضه عليه الواجب الاجتماعي من زيارات إلى زملائه , كما أنه كان يمقت الاجتماعات العلمية التي لا تنتهي. وكانت نفسه تنفر من الثرثرة الأكاديمية. ومع هذا فإن الجو العلمي كان يتيح له العزلة في معظم الأحيان والقيام بعمله من دون مضايقة أو إزعاج . وفي سنة 1911 , وقد أصبح أستاذاً , أخذ يدرّس في مدينة براغ في "الجامعة الألمانية" , ومن ثم عاد ثانية إلى زيورخ لبعض الوقت للالتحاق بهيئة المعهد التقني التعليمية حيث كان قد درس حيناً فيما مضى.
وفي سنة 1913 قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى , طلب إليه أن يصبح عضواً في أكاديمية العلوم البروسية الذائعة الصيت , ولم يكن آينشتاين ميالاً إلى العودة إلى ألمانيا , إلا أن العرض كان ممتازاً للغاية , فإنه بصفته مديراً "لمعهد القيصر ولهلم الجدير للفيزياء" في برلين سوف لا يسأل عن واجبات رسمية كما أن واجباته التدريسية ستكون جد محدودة وسيحظى بوقت وافر لنفسه فلم يسعه إلا القبول. وأما زوجته مليغا فلم ترغب في الذهاب إلى ألمانيا. ولم يكن زواجهماً موفقاً , فقررا على الانفصال وتم الطلاق بينهما فيما بعد.
وفي ألمانيا استغل آينشتاين هذا الفراغ المكتسب حديثاً في إتمام النظرية النسبية العامة , المتضمنة نظرية موحدة للجاذبية. وقد حاول في بقية حياته تعميم هذه النظرية كي تشمل القوى الكهرومغناطيسية , ولكنه بقدر ما هو معلوم لدينا اليوم, أخفق في ذلك . ولو أنه بلغ هدفه لاستطاع أن يجمع في نظرية واحدة القوانين المسيطرة على جميع القوى المعروفة في الطبيعة.
وأنه لأمر محال أن نغالي في الشهرة التي اكتسبها آينشتاين في أثناء 17 سنة التي عاشها في ألمانيا . فقد هتفت له الجماهير وجماعات العلماء على حد سواء. وحتى عندما نشبت الحرب العالمية الأولى , وكان آينشتاين أحد الألمان القلائل الذين عارضوها , لم يفقد تلك الحظوة التي كان قد نالها. وقد منح عدداً لا يحظى من الدرجات الفخرية كما عين عضواً في عدد كبير من الجمعيات العلمية. وفي سنة 1922 حاز على جائزة نوبل في الفيزياء, وعقب ذلك ببضع سنوات فاز بوسام كوبلي الذي تمنحه الجمعية الإنجليزية. وقد منحته بروسيا جنسية بروسية فخرية, كما يدت بوتسدام برجاً آينشتاينياً. وفي عيد ميلاده الخمسين اضطر إلى مغادرة برلين هرباً من احتفال ضخم أقيم على شرفه. وقد غصت سلال المهملات في بيته برسائل التهنئة. وأما الهبات والهدايا التي أغرقت عليه فكانت تكفي لملء عربة شحن!
وكان آينشتاين يقطن في إنجلترا حين تسلم دعوة مغرية من معهد الدراسات العالية في برنستون , نيوجيرسي, عارضاً عليه منصباً مدى الحياة - أستاذية لا يتطلب فيها التعليم مطلقاً - وترك له أن يذكر الراتب الذي يرضيه.
وقبل آينشتاين الدعوة , غير أنه ذكر راتباً منخفضاً للغاية حتى أن المعهد , محافظة منه على مستواه , اضطر إلى رفعه قبل أن يتسلم وظيفته.
وقد رافقته زوجته الثانية , السا , إلى أميركا. واستقر الاثنان في بيت صغير في برنستون وواصل آينشتاين عمله.
وقلما كان آينشتاين يحيد عن برنامجه اليومي . فكان ينهض في الثامنة صباحاً , ويغادر قبل الساعة التاسعة بيته الخشبي المتواضع الواقع على شارع ضيق تظلله شجرات البلوط والدردار السامقة . فكان يسير مسافة ميل ونصف الميل في باحات جامعة برنستون ثم يسلك طريقاً ريفياً متعرجاً, إلى أن يصل معهد الدراسات العالية. وسواء أكان الثلج أم المطر متساقطاً , كان دوما يذهب ماشياً إلى مكتبة , وأياً كان الطقس , لم يشاهد قط مرتدياً قبعة أو حذاء مانعاً للماء أو حاملاً مظلة.
وعند وصوله معهد التعليم العالي كان يتجه صوب مكتبه في الطابق الثاني. كنا قد خصص له جناح مؤلف من غرفتين رحبتين. وكانت إحدى الغرفتين أصغر اتساعاً من الأخرى ومخصصة للمساعد وأما الأخرى المخصصة رسمياً للأستاذ , فقد كانت فسيحة ومفروشة بمقاعد مريحة ورفوف للكتب , ومكتب واسع ولوح أسود وكان آينشتاين يفضل استعمال الغرفة الصغيرة إذا أنها كانت أقل برودة وأقل كلفة. فكان يجلس هناك سانداً دفتراً على ركبتيه ويشرع بملء الورقة تلو الأخرى بالمعادلات.
كان آينشتاين لا يزال يبحث عن نظرية مجال موحدة , عن نظام القوانين تتبعه جميع القوى في الكون. وخلافاً لعدد كبير من الفيزيائيين المعاصرين , كان آينشتاين يعتقد بأنه في وسعنا اكتشاف نظرية أو نظام يعلل جميع الحقائق المشاهدة . وقد قال ذات مرة : "إن أشد ما لا يفهم عن العالم هو أنه لا يفهم".
وكان آينشتاين يكد سانداً دفتره على ركبتيه بكل صبر وإجهاد فكري. وكان يقول : "إنني أمعن الفكر مدى أشهر , بل مدى سنين. والنتيجة التي أتوصل إليها قد تكون خاطئة في تسع وتسعين مرة إلا أنني في المرة المائة أكون على صواب".
وبعيد الظهر , يغادر آينشتاين مكتبه راجعاً إلى بيته سائراً على قدميه , منهمك الفكر بعمله. ولم يكن ينتبه إلى أن الناس الذين يمر بهم في شوارع برنستون كانوا يرمقونه بنظرات تنم عن الاستغراب والدهشة. فقد كان ذلك الفيزيائي المرموق ذا مظهر بارز يستلفت الأنظار بشعره المتموج الطويل ذي اللون الأبيض الفضي المتألق في الشمس. وبعينيه الغائرتين المشعتين, وأما ما كان يلفت النظر حقاً فكانت ملابسه سرواله المعبعب , وكنزته ذات اللون الأزرق الفاتح والياقة المحيطة بالعنق أو سترته القديمة الجلدية البنية اللون , وإن أنت دققت النظر لاحت عدم ارتداؤه أي جوارب على الإطلاق . وكان ثمة غاية وراء عدم عناية آينشتاين بهندامه وإهماله البالغ له . فقد كان يصرف عامداً أقل ما يمكن من الوقت على ما كان يعتبره أقل الأمور أهمية كي يتوفر له وقت أكثر لعمله الذي كان برأيه و الأمر الجوهري.
وعلى الرغم من أن أفكار آينشتاين كانت تجوب آفاقاً بعيدة وهو في طريقه إلى البيت وأن منظره كان يدل على أنه ممن لا يحمد الاقتراب منهم , فقد كان بعض الشجعان يدنون منه ويجاذبونه الحديث. وتروى في برنستون قصة مفادها أن فتاة في الثانية عشرة من عمرها كانت تذهب لترى آينشتاين يومياً في طريق عودتها من المدرسة إلى البيت.
وعندما عرفت والدتها بالأمر سألت آينشتاين قائلة : "ترى عمَّ تتحدثان كل بعد ظهيرة؟"
فضحك آينشتاين وأجاب : "إنها تحضر لي بعض البسكويت وأنا أقوم بحل فرضها في الحساب".
وبعد أن يصل إلى بيته ويتناول طعامه كان آينشتاين يعود ثانية إلى العمل في غرفه الصغيرة المخصصة للدراسات. وهنا أيضاً كان يتناول دفتراً وقلما فيملأ الأوراق الواحدة تلو الأخرى بالأرقام والرموز. وعندما كان ينهض ليذرع الغرفة ذهاباً وغياباً مستغرقاً في أفكاره , كانت الأوراق تتساقط منه على الأرض أو على إحدى المناضد الغاصة بالكتب والرسائل والصحف. فكانت إحدى وظائف سكرتيرته أن تجمع هذه الأوراق وتحفظها لحين الحاجة.
ولدى انتهاء النهار كان آينشتاين كثيراً ما يروح عن نفسه بعزف موسيقى موزارت وباخ على كمانه. وكان عازفاً ماهراً يعزف أحياناً في حفلات عامة تقام لجمع المال لقضية يؤمن بها. وكان مغرماً كذلك بالعزف على البيانو الذي كان في الواقع يدعوه "ضرورة حيوية" ولكنه كان يحتفظ بذلك لنفسه فلم يكن يسمح لأحد قط بالاستماع إليه.
ومع أن آينشتاين كان خجولاً أمام الناس إلا أنه كان يستمتع باستقبال أصدقائه المقربين وبالحديث معهم في شؤون السياسة والفلسفة وكذلك في الفيزياء. وكانوا أحياناً يتلهون بألعاب الصالونات وحين كان الجو صافياً كان يدعوهم للركوب في قارب راعي طوله 18 قدماً , كان يعتبره أعز ما يملكه من متاع . وكان قلما يقرأ ترويحاً عن نفسه , ولكن كان معجباً بروايات صوفوكليس وشكسبير ودستويفسكي. وقد قال إن روايات الأخير بعثت في نفسه " متعة تفوق تلك التي عرفها عن طريق غاوس الرياضي العظيم".
وكان آينشتاين دمث الخلق, لين العريكة , فكان يصعب عليه ألا يستجيب إلى الكثيرين الذين كانوا يطلبون غليه الكتابة أو الكلام , أو تأييد حركة أو دعم إحدى القضايا البارزة. وكثيراً ما كان يلبي طلباتهم. ولكن كما ذكر ليوبولد انفلد في كتابه عن آينشتاين , "كان الفيزيائي اللامع يرتاب إذا قصدته بمشروع يبدو كأنه يعود بالفائدة عليه وليس عليك" فقد كان ودوداً وكريماً ولكنه لم يكن بالشخص الساذج.
و- محبته للآخرين:
وقد قصده الناس على اختلاف أنواعهم حاملين إليه الآراء والأفكار. فأحياناً كانوا يطلبون إليه الاستماع إلى نظريات علمية قوبلت بالرفض لا لشيء, على حد قول صاحب النظرية, إلا لأنها لم تفهم. ومهما كانت تبدو هذه النظريات شاذة بعيدة الاحتمال, فقد كان آينشتاين يعيرها اهتماماً غير منقوص. فقد كان يعلم أن أعظم الاكتشافات الأساسية في ميدان العلوم الفيزيائية إنما تبدو في أول الأمر غامضة.
وقد تبين أن الطريقة الوحيدة للاحتفاظ ببعض الوقت لآينشتاين وعمله هي أن تتخذ التدابير للحد من فيض الزوار الذين كانوا يتوافدون عليه. وكانت زوجته إلسا تقوم بمهمة حمايته حتى وفاتها في عام 1936. وبعد ذلك قدمت ابنة لها من زواج سابق كي تعيش مع آينشتاين فقامت بمساعدته بالطريقة نفسها.
واستمر آينشتاين في شعوره بأن الحرب هي أسوأ الأساليب المتبعة لحل الخلافات , وقد تكون معادلة ط = ك س (أس 2) , التي حفزت فيزيائيين آخرين إلى شطر الذرة , فهي أهم أعماله الحربية. غير أنه قام بإسهام آخر عام 1940. فقد حثه العلماء الذين كانوا يحاولون الحصول على أول تفاعل متسلسل على الكتابة إلى الرئيس روزفلت عن ذلك المصدر الجديد للطاقة الذي يمكن استخدامه في صنع قنابل شديدة البطش. فكتب إليه في ذلك ونبهه إلى أن الفيزيائيين في ألمانيا يعملون كذلك للوصول إلى الانشطار النووي. وكان آينشتاين من المكانة بحيث راعت الحومة تحذيره , مع العلم إنها كانت قد طرحت جانباً تحذيرات مماثلة أخرى.
ولم تحظ بعض آراء آينشتاين بشعبية واسعة في الحين الذي كان يدلي بها فيه. فحين راح جوزيف مكارثي, العضو في مجلس الشيوخ , وغيره من أعضاء الكونجرس , في ملاحقتهم للشيوعيين ومطاردتهم يطلبون من المواطنين أن يشهدوا عما قاموا به هم وأصدقاؤهم من نشاطات سابقة وعما كان لهم من معتقدات , قال آينشتاين : "إنه لأمر يدعو إلى الخجل أن يضطر مواطن بريء إلى التعرض لمثل هذا الاستنطاق الذي يتنافى مع روح الدستور".
واستمر في مناهضته للروح الحربية وأشار إلى أن ثمة ما يربو على المائة من الكليات في الولايات المتحدثة تقدم مواضيع لصناعة الحرب وأن واحدة أو اثنتين فقط تدرس كيفية إحلال السلم.
وقبيل وفاته انضم إلى الفيلسوف برتراند راسل وإلى شخصيات بارزة أخرى في تصريح مناهض للحرب. فقد قالوا أن القنابل الهيدروجينية ستؤدي إلى إفناء الجنس البشري, وأنه في حال نشوب حرب أخرى سيكون استخدام القنابل الهيدروجينية أمراً محتماً على الرغم من الاتفاقات المعقودة بين الأمم. واختتم التصريح بالقول بوجوب منع الحرب بالذات منعاً باتاً. ممنوع الرد |
التعديل الأخير تم بواسطة ĎĨ₫ϊ.Ǿ ; 09-13-2015 الساعة 07:17 PM |