كبار النفوس وصغارها
خير ما تمدح به أيّ إنسان قولك فيه: إنه ذو نفس كبيرة ، و شر ما تذمّ به أيّ إنسان هو قولك: إنّه ذو نفس صغيرة. و لولا كبار النفوس في الأرض لكانت جحيما ، و لولا صغار النفوس فيها لكانت نعيما.أولئك كالنّحل و هؤلاء كالذّباب. والنّبل في النّفس لا يأتيها من كرامة المحتد، و لا من رفعة الجاه،و لا من سعة الثروة ، و لا من بريق الشهرة في أيّ فرع من فروع الاجتهاد البشريّ،إنّه عصارة اختبارات لا تحصى مرت بها النّفس . من كان ذا نفس كبيرة كان أنبل من أن يغتاب أحدا من النّاس ، فالغيبة و النميمة أقذار لا يستطيب التّغلغل في أجوافها النتنة إلاّ صغار النّفوس . و من كان ذا نفس كبيرة كان أبعد الناس عن التبجّح ، فما تبجّح إنسان بقوة بدنية أو عقلية أو بمال أو عقار أو بنسب أو جاه أو بشهرة أو سلطان إلاّ لأنّ في نفسه الصّغيرة جوعا إلى العظمة الحقّة الّتي تأبى الانقياد له . و من كان ذا نفس كبيرة أبت عليه أن يظهر أمام الناس على غير حقيقته، فما خجل بجهله بين العلماء و لا بفقره أمام الأثرياء و لا بضعفه بين الأقوياء. و إن كان هو على شيء من العلم و الثروة و القوة ما زها بذلك على الجهلاء و الفقراء و الضّعفاء . و الّذي نفسه كبيرة لا يكبر على أيّ إنسان و لا يذلّ لأيّ إنسان، فهو يعلم أنّ كرامته لا تصان إلا إذا هو صان كرامة الغير. إنك لو بحثت عن أيّ خصام يقوم في الأرض لوجدته يعود في الأساس إلى صغارة في نفوس المختصمين . فما اختصم اثنان إلا لأنّ صدر الواحد ضاق بالآخر. و الصّدر يضيق أو يتسع على قدر ما تصغر النّفس أو تكبر. ففي حين أن النّفس الصّغيرة تضيق بالكبيرة فتناصبها العداء ، تتسع الكبيرة للصّغيرة فتقابلها إما بالصّفح و إما باللّامبالاة ، لذلك كان صغار النّفوس مبعث الفساد و القلق في الأرض، و كان كبار النّفوس ملح الأرض و خميرتها و الواحات النديّة النضرة في صحاريها.
|
|