عرض مشاركة واحدة
  #27  
قديم 12-21-2015, 02:27 PM
 




- 26 -


... هل كنتُ أعمىً؟ كان علي أن أتساءل بذلك، فقد كانت الحقيقة ظاهرة بوضوح
شديد منذ البداية؛ لأن جوزفين وحدها تنطبق عليها كل الشروط اللازمة: زهْوُها و
إصرارها على أهمية نفسها، و متعتها في الحديث، و تكرارها الحديث عن ذكائها و
غباء الشرطة!

لم أفكر فيها أبداً لأنها كانت طفلة، لكن الأطفال قد ارتكبوا جرائم قتل، و جريمة القتل
هذه كانت تتناسب تماماً مع قدرات طفل. فقد أوضح جدها نفسه الأسلوب بدقة فقدم
لها فكرةَ قتله، فما كان عليها إلا تجنب ترك البصمات، و أدنى معرفة بالروايات
البوليسية يعلّمها ذلك، و كل شيء سواه كان مزجاً لأحداث تختارها هي عشوائياً من
قراءتها في القصص الغامضة: دفتر الملاحظات، التحري، شكوكها المزعومة،
إصرارها ألا تقول شيئاً إلا بعد أن تتأكد..

و أخيراً، اعتدت على نفسها! كان عملاً يصعب تصديقه، فلعلها تقتل نفسها بسهولة،
لكنها – كونها طفلة – لم يخطر ببالها هذا الوجه. كانت هي البطل، و البطل لا يموت!

و كان أثر التراب على المقعد القديم في غرفة الغسيل يدل على أن جوزفين وحدها
التي كان عليها أن تصعد على كرسي لتضع قطعة الرخام على حافة الباب. و من
الواضح أنها لم تُصَبْ بأذى في المرة الأولى (و هذا واضح من الخدوش ظاهرة على
الباب)، فصعدت على الكرسي مرة ثانية و وضعت قطعة الرخام، و كانت تحملها في
وشاحها حتى لا تترك بصماتها، و في تلك المرة سقطت عليها و نجت من الموت بأعجوبة.

كان عملاً مثالياً و نجح الانطباع الذي كانت تهدف لتحقيقه؛ أنها تعرف شيئاً و انها
في خطر و لذلك تم الاعتداء عليها!

عرفتُ كيف تعمدت لفت انتباهي إلى وجودها في غرفة الصهاريج و كانت قد أكملت
تخريب غرفتها بصورة فنية قبل أن تخرج إلى غرفة الغسيل.

لكنها عندما عادت من المستشفى وجدت أن بريندا و لورانس قد تم اعتقالهما فلا شك
أنها شعرت بالاستياء، فقد انتهت القضية، و كانت هي، جوزفين، خارج الأضواء.
لذلك سرقت أقراص الديجيتالين من غرفة إيديث و وضعتها في كوب الكاكاو الذي
ستشرب منه، ثم تركت الكوب على طاولة الصالة و لم تمسّه.

أكانت تعرف أن ناني ستشربه؟ ربما، و من كلامها في ذلك الصباح و انتقاد ناني لها
ظهر استياؤها. هل كانت ناني تشك فيها من خبرتها الطويلة في الأطفال؟ أعتقد أن
ناني كانت تعرف دائماً أن جوزفين لم تكن عادية، فقد ظهر مع نمو عقلها المبكر
مفهوم أخلاقي مشوه، و ربما اجتمعت أيضاً أسباب وراثية مختلفة، و هو ما كانت
تسميه صوفيا ((قسوة العائلة))، كلها التقت مع بعضها!

كان في جوزفين قسوة استبدادية ورثتها عن عائلة جدتها، و أنانية ماجدا القاسية
التي لا ترى إلا وجهة نظرها هي. و ربما كانت تعاني من حساسية فيليب أنها غير جذابة...

و أخيراً كان يسري في نخاعها ذلك الأثر المنحرف للعجوز ليونايدز. كانت حفيدة
ليونايدز، و كانت تشبهه في الذكاء و المكر، لكن بينما حبه كان موجهاً للعائلة و
الأصدقاء، فإن حبها كان متجهاً لنفسها!

اظن أن العجوز ليونايدز كان يدرك ما لم يدركه أي واحد آخر في العائلة، فقد تكون
جوزفين مصدر خطر على نفسها و على الناس، و من أجل ذلك ابقاها بعيدة عن حياة
المدرسة؛ لأنه كان يخشى أن تفعل شيئاً مشيناً، فحجبها و حبسها في البيت، و قد
فهمت الآن إلحاحه على صوفيا أن تعتني بجوزفين.

هل كان قرار ماجدا المفاجئ أن ترسل جوزفين إلى الخارج بسبب الخوف على الطفلة
أيضاً؟ ربما لم يكن خوفاً حقيقياً بل غريزة أمومية غامضة.

و إيديث دي هافيلاند؟ هل اشتبهت أولاً ثم خافت و أخيراً عرفت؟

نظرت إلى الرسالة الموجودة بيدي:

((عزيزي تشارلز،
هذه رسالة خاصة لك و لصوفيا إذا شئت أنت. من الضروري أن يعرف أحد الحقيقة.
لقد وجدت الدفتر المرفق في مأوى الكلب المهجور مقابل الباب الخلفي. كانت تحتفظ
به هناك، و هو يؤكد ما كنت أشتبه به من قبل. ربما يكون العمل الذي سأفعله
صحيحاً، و قد يكون خطأ، لا أعرف، لكن حياتي – على أية حال – أوشكت على
النهاية، و لا أريد للطفلة أن تعاني إن تمت دعوتها لسرد ما أقدمت على فعله.

هناك في الغالب واحد في العائلة ((لا يكون على ما يرام)).

إن كنت مخطئة فليغفر الله لي، لكني فعلته حباً، فليباركّما الله!
إيديث دي هافيلاند)).

ترددت لحظة واحدة فقط ثم سلمت الرسالة إلى صوفيا. و فتحنا الدفتر ثانية دفتر
جوزفين الأسود.

((اليوم قتلت جدي)).
قلبنا الصفحات. كانت محتوياته مذهلة و لا بد أنها ستثير اهتمام خبير نفسي. كانت
صفحات تحدد بوضوح لا لبس فيه ثورة الغرور المحبَط، و قد اتضح دافع الجريمة،
كان دافعاً طفولياً هزيلاً:

((لم يكن جدي يسمح لي برقص الباليه فقررت قتله، ثم السفر إلى لندن لنعيش هنا،
و لن تمانع والدتي أن أتعلم الرقص)).

أنا أقدم هنا بعض الملاحظات التي كتبتها فقط، و كلها ذات دلالة:

((لا أريد الذهاب إلى سويسرا، لن أذهب. و لو أجبرتني والدتي على السفر فسأقتلها
هي الأخرى. لكني لا أستطيع جلب أي سم. ربما أقتلها باليوباري، فهو سامّ كما تقول الكتب.
لقد أغبني يوستيس كثيراً اليوم. يزعم أنني مجرد فتاة و لافائدة مني و أن أعمال
التحري التي أجريها سخيفة. ما كان سيفكر أني سخفية لو عرف أني أنا التي ارتكبت
جريمة القتل.
أحب تشارلز، لكنه غبي . لم أقرر بعد من الذي سأجعله متهماً بالقتل. ربما بريندا و
لورانس، إن بريندا سيئة لي، تزعم أن عقلي ليس سليماً، لكني أحب لورانس، لقد
أخبرني عن شارلوت كوردي التي قتلت شخصاً و هو يستحم. لم تكن ذكية في عملها هذا)).

كان آخر ما دوّنتْه كاشفاً لكل شيء:

((إنني أكره ناني... أكرهها... أكرهها... تقول بأني فتاة صغيرة. تقول بأنني
أتباهى، و هي جعلت والدتي تقرر إرسالي للخارج. سوف أقتلها أيضاً. اظن أن دواء
خالتي إيديث سيؤدي الغرض. لو حدثت جريمة قتل أخرى فسوف يعود الشرطة، و
سيكون الموقف مثيراً ثانية.
ماتت ناني. أنا مسرورة. لم اقرر بعد أين أخبئ الزجاجة التي فيها الحبوب الصغيرة.
ربما في غرفة كليمنسي زوجة عمي، أو في غرفة يوستيس. عندما أموت بعد أن
أصبح عجوزاً سأترك هذا الدفتر ورائي لرئيس الشرطة، و سوف يعرفون كيف أنني
كنت مجرمة عظيمة حقاً!))

أغلقت الدفتر. كانت دموع صوفيا تنهمر على خدَّيْها بغزارة.

- أوه! تشارلز!... إنه رهيب! إنها صغيرة متوحشة و مع ذلك فهي تثير الحزن و
الشفقة جداً!

كنت أحس بنفس الشعور.

لقد أحبت جوزفين، و ما أزال أشعر بحبها. لابد أن تحبها كما تحب مريضاً أصابه
السل أو أي مرض آخر قاتل. و كانت جوزفين تثير الشفقة. لقد ولدت و فيها علة...
الطفلة المنحرفة في البيت المنحرف.

- تشارلز، لو عاشت فماذا سيحدث؟

- سترسل إلى مركز إصلاحي أو مدرسة خاصة، ثم يطلق سراحها، أو ربما يشهد
عليها الناس بالجنون... لا أدري.

ارتجفت صوفيا و قالت:

- ما حدث لها أفضل، لكن خالتي إيديث... لا أحب أن أجعل اللوم عليها..

- هي اختارت هذا، و لن يتم الإعلان عن فعلها، و حين يحال لورانس و بريندا إلى
المحاكمة فلن تقدم ضدهما أية تهمة، و سوف يتم إطلاق سراحهما.

قلت لها و كانت نبرتي هذه المرة مختلفة و أنا أمسك بيديها كلتيهما:

- و أنت يا صوفيا، سوف تتزوجينني؟ لقد سمعت لتوي أنهم عيّنوني في إيران، و
سنذهب إلى هناك معاً و تنسين البيت المائل المنحرف الصغير، و أمك تستطيع أداء
مسرحياتها و والدك يستطيع شراء المزيد من الكتب، و يوستيس يذهب عما قريب
إلى إحدى المدارس، فلا تقلقي عليهم بعد الآن و فكري فيّ.

نظرت إليّ صوفيا:

- ألست خائفاً من الزواج بي يا تشارلز؟

- لماذا أخاف؟ إن كل مساوئ العائلة ظهرت في جوزفين المسكينة و كل صفات الخير
و الشجاعة في عائلة ليونايدز قد أعطيت لك. كان جدك ينظر إليك نظرة سامية، و
يبدو أنه كان على حق. إرفعي رأسك يا حبيبتي فالمستقبل لنا!

- سأفعل يا تشارلز. أحبك و سأتزوجك و أسعدك... – و نظرت في الدفتر – ... كم
هي مسكينة جوزفين!

قلت: مسكينة جوزفين!

قال والدي: ما هي الحقيقة يا تشارلز؟

لم أكذب على العجوز أبداً. قلت:

- لم تكن إيديث دي هافيلاند يا أبي. كانت جوزفين.

أومأ أبي برأسه بلطف و قال:

- نعم، لقد اعتقدت ذلك منذ بعض الوقت. مسكينة هذه الطفلة!

- انتهـــــــــــــــــــــــــى -