سيدُّنا عليٍ عليهِ السَّلام - 8
سيرة
سيدّنا عليٍّ بن أبي طالبٍ عليهِ السَّلام
مِنْ دروسٍ
لفضيلةِ الدكتور : محمد راتب النابلسي
حفظه الله تعالى وبارك فيه وبارك في علمه وعمره آمين.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ , والصَّلاة والسَّلام على سيدِّنا مُحمَّدٍ الصَّادقِ الوعدِ الأمينِ , اللهمَّ لا علمَ لنا ، إلا ما علمتنا ، إنكَ أنتَ العليم الحكيم , اللهمَّ علمنا ما ينفعنا , وانفعنا بما علمتنا , وزدنا علماً , وأرنا الحقّ حقّاً , وارزقنا اتباعه , وأرنا الباطل باطلاً , وارزقنا اجتنابه , واجعلنا مِمَنْ يستمعونَ القول فيتبعونَ أحسنهُ , وأدخلنا برحمتكَ في عبادكَ الصَّالحينَ .
ومِمَّا وردَ في بعضِ الأحاديثِ الشَّريفةِ ، يقولُ عليهِ الصَّلاة والسَّلام :
" ليسَ بخيركم ، مَنْ تركَ دُنياهُ لآخرتهِ ". ( ورد في الأثر ). لا بدَّ ، أنْ تكونَ على شيءٍ ، قيمة المرءِ ما يحسنه ، لكَ اختصاص ، لكَ مهنة ، لكَ حرفة ، متفوقٌ في شيءٍ ، فهذا الشيء ، توظفهُ في سبيلِ اللهِ , إنْ كانَ مالاً تنفقهُ في سبيلِ اللهِ ، وإنْ كانَ علمًا ، تنفقهُ في سبيلِ اللهِ ، ربنا عزَّ وجلَّ قالَ : ،
﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾( سورة البقرة الآية : 3 ). كيفَ وصفَ ألنَّبيُّ عليّاً ؟؟
وقدْ وصفَ النَّبيُّ عليهِ الصَّلاة والسَّلام ، هذا الصَّحابي الجليل : بأنهُ مخشوشنٌ ، في سبيلِ اللهِ ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ , قَالَ : " اشْتَكَى عَلِيًّا النَّاسُ ، قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِينَا خَطِيبًا ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَشْكُوا عَلِيًّا ــ فَوَ اللَّهِ : إِنَّهُ لَأُخَيْشِنٌ ، فِي ذَاتِ اللَّهِ ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " ( أخرجه أحمد : عن أبي سعيد الخدري ، في مسنده ).
هناكَ أناسٌ كثيرونَ مخشوشنونَ ، ولكنْ ليسَ في سبيلِ اللهِ ، يقول لكَ : لا ليسَ عندي إمكانية ، فهذا مخشوشن ، مقهور في سبيلِ الدنيا ، لكنَّ الصَّحابي الجليل سيدّنا عليّ ، كان مخشوشناً ، في سبيلِ اللهِ , فالإنسان : قدْ يصبر ، لكنْ ليسَ في سبيلِ اللهِ ، بلْ يكون مقهورًا ضعيفًا ، قهرتْه الدنيا ، وانحنى ظهرُه ، لكنَّ اللهَ تعالى يقول : ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾( سورة المدثر الآية : 7 ).
تجد شخصًا ، بإمكانهِ ، أنْ يحطِّم خصمهُ ، لكنَّهُ يصبر للهِ عزَّ وجلَّ ، ويكظم غيظهُ ، فهذا صبرٌ ، في سبيلِ اللهِ .
====================================
مرّة سيدّنا عليّ ، قَدِمَ مكة من اليمن ، ورسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، يحجُّ بها حجَّة الوداع ، تعجل هو إلى لقاء النَّبيّ ـ تاركاً جنوده ، الذين عادوا معه على مشارف مكة ، بعد أنْ أمَّر عليهم أحدهم ، بدا لهذا الأمير المستخلف ، أنْ يلبس الجند ، حللاً زاهيةً ، منْ تلك التي عادوا بها من اليمن ، كي يدخلوا مكة ، وهم في زينتهم ، يسرُّ منظرَهم الأعينُ، وأمرَهم فأخرَجوا ، من أوعيتهم حللاً جديدة ارتدَوْها ، ثم استأنفوا سيرهم إلى مكة ، وعاد الإمام الجليل ، بعد لقاء النَّبيّ ليصحب جنده القادمين ، وعلى أبواب مكة ، رآهم في هذه الحلل ، وأسرع نحوهم ، وسأل أميرهم : " ويلك ما هذا ؟ قال : لقد كسوتَ الجند ـ ليتجمَّلوا ، إذا قدموا على أخوانهم ، في مكة ، وصاح به الإمام عليّ , ويلك انزعْ : قبل أنْ تنتهي بهم إلى النَّبيِّ ، فخلعوا حللهم جميعاً ، وكظموا في أنفسهم ، مرارةً منْ عليّ الورع الزاهد الأوَّاب ، ولمَّا دخلوا مكة ، والتقوا بالنَّبيِّ عليهِ الصَّلاة والسَّلام ، شكوه إليه، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : " اشْتَكَى عَلِيًّا النَّاسُ , قَالَ : فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِينَا خَطِيبًا ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : " أَيُّهَا النَّاسُ ــ لَا تَشْكُوا عَلِيًّا ، فَوَ اللَّهِ ، إِنَّهُ لَأُخَيْشِنٌ ، فِي ذَاتِ اللَّهِ ، أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " . ( أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري في مسنده ).
أي أنه : قدَّر فيه ، هذه الخشونة ، وقدَّر فيه ، حفاظه على هذه الغنائم ، التي غنموها .
مزايا النَّصيحة :
ذات مرَّة نصحه أحدهم ، وقال : " يا إمام ، خاِدعْهم ــ فإنَّ الحربَ خدعةٌ ، فقال : لا والله ـــ لا أبيع ديني بدنياهم أبداً " ، وكان يقول في بعض أقواله : " بئس النصر ، الذي يكون فيه المُنتصر ، شراً منْ المُنهزم " ، أحياناً أنت تنتصر بالخديعة ، لكنَّ هذا النصر ، ليس وسامَ شرفٍ لك ، ومن أقواله الرائعة , يقول : " عباد الله : أُوصيكم بتقوى الله ، فإنَّ تقوى الله ، خير ما تواصى به عباده " ، وسورة العصر ، تقرؤونها جميعاً ، وفي الآية الثالثة منها :
﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ﴾( سورة العصر الآية : 3 ). ماذا تستفيدون ، منْ صيغة تواصوا ؟ المُشاركة : أي أنَّ التواصي بالحقِّ له معنيان : أنْ تُوصي أخاك بالحقِّ ، ويا أيها الذي نصحك أخوك ، أنْ اقبلْ نصيحته ، فإسداء النصيحة ، وقبولها أمران ضروريان متلازمان ، فالتواصي جاء في هذه الكلمة ، بصيغة المفاعلة , لتدل على أنَّ فضيلة هذه الآية ، ينالها رجلان , ينالها مَن أوصى بالحقّ ، وينالها من قبِل هذه الوصية ، فاستجاب لها , قال : " إنها خير ، ما تواصى به عباده ، وأقرب الأعمال لرضوانه " والدليل قال تعالى :
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾( سورة الحجرات الآية : 13 ). المقام الذي يرفع الإنسان عند الله تعالى العمل الصالح : واللهُ عزّ وجلَّ : ينبئنا ، في آية أخرى , أنَّ المقياس الوحيد ، الذي يقيس به عباده ، هي طاعته , قال تعالى : ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾( سورة الحجرات الآية : 13 ).
أين النسب ؟ أين الوسامة ؟ أين الذكاء ؟ أين الغنى ؟ أين الصحة ؟ أين الزوجة ؟ أين الأولاد ؟ كلُّ هذه القيم ، التي يعتمدها الناس ، في التفاضل بين الناس ، لا أصل لها في القرآن الكريم , قال تعالى : ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ ( سورة الحجرات الآية : 13 ).
أيْ أنتَ مخلوق ، وعلّة وجودك ، في الدنيا ، أنْ تكون مُحسناً ، كي يكون هذا الإحسان ، ثمناً للجنة ، في الأصل : أنت خُلِقْتَ للجنة ، والجنة لها ثمن ، وثمنها الإحسان ، فهل عندكم دليل ؟ نعم ، في القرآن ، يؤكد هذا المعنى ، قال تعالى :
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾( سورة المؤمنون الآية : 99 - 100 ). على ماذا يندم ، الذي يأتيه ملك الموت ؟ على الشيء الأساسي في الدنيا ، هلْ سمعتَ عن رجلٍ جاءه ملك الموت ، وهو تاجر ، ويقول : يا رب : اتركني قليلاً حتى أفرغ منْ عملي ؟ بل يقول : ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾( سورة المؤمنون الآية : 100 ).
إذًا : الدُّنيا كلّها ، من أجل العمل الصَّالح ، والعلماء : فسروا العمل الصَّالح , ما تصلح به الدُّنيا والآخرة , قال تعالى : ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾( سورة المائدة الآية : 2 ).
البر صلاح الدنيا ، والتقوى صلاح الآخرة ، يصلح به الفرد والمجتمع ، فربّنا عزّ وجلَّ ، قرن العملَ الصالح ، في القرآن الكريم ، مع الإيمان ، في سبعين آية .
يتبع رجاءاً
جمعها مع التنسيق
عبد الله الراجي لعفوه ورضاه تعالى