عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 02-26-2016, 11:40 PM
 
ادب الدنيا والدين للماوردي / 3

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعد . امابعد نواصل اخواني ما جاء في هذا الكتاب القيم قال الماوردي رحمه الله وَأَمَّا الْعَقْلُ الْمُكْتَسَبُ فَهُوَ نَتِيجَةُ الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ وَهُوَ نِهَايَةُ الْمَعْرِفَةِ ، وَصِحَّةُ السِّيَاسَةِ ، وَإِصَابَةُ الْفِكْرَةِ .
وَلَيْسَ لِهَذَا حَدٌّ ؛ لِأَنَّهُ يَنْمُو إنْ اُسْتُعْمِلَ وَيَنْقُصُ إنْ أُهْمِلَ .
وَنَمَاؤُهُ يَكُونُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَانِعٌ مِنْ هَوًى وَلَا صَادٌّ مِنْ شَهْوَةٍ ، كَاَلَّذِي يَحْصُلُ لِذَوِي الْأَسْنَانِ مِنْ الْحُنْكَةِ وَصِحَّةِ الرَّوِيَّةِ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ وَمُمَارَسَةِ الْأُمُورِ .
وَلِذَلِكَ حَمِدَتْ الْعَرَبُ آرَاءَ الشُّيُوخِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : الْمَشَايِخُ أَشْجَارُ الْوَقَارِ ، وَمَنَاجِعُ الْأَخْبَارِ ، لَا يَطِيشُ لَهُمْ سَهْمٌ ، وَلَا يَسْقُطُ لَهُمْ وَهْمٌ ، إنْ رَأَوْك فِي قَبِيحٍ صَدُّوك ، وَإِنْ أَبْصَرُوك عَلَى جَمِيلٍ أَمَدُّوك .
وَقِيلَ : عَلَيْكُمْ بِآرَاءِ الشُّيُوخِ فَإِنَّهُمْ إنْ فَقَدُوا ذَكَاءَ الطَّبْعِ فَقَدْ مَرَّتْ عَلَى عُيُونِهِمْ وُجُوهُ الْعِبْرِ ، وَتَصَدَّتْ لِأَسْمَاعِهِمْ آثَارُ الْغَيْرِ .
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ : مَنْ طَالَ عُمُرُهُ نَقَصَتْ قُوَّةُ بَدَنِهِ وَزَادَتْ قُوَّةُ عَقْلِهِ .
وَقِيلَ فِيهِ : لَا تَدَعُ الْأَيَّامُ جَاهِلًا إلَّا أَدَّبَتْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : كَفَى بِالتَّجَارِبِ تَأَدُّبًا وَبِتَقَلُّبِ الْأَيَّامِ عِظَةً .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : التَّجْرِبَةُ مِرْآةُ الْعَقْلِ ، وَالْغِرَّةُ ثَمَرَةُ الْجَهْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ :
كَفَى مُخَبِّرًا عَمَّا بَقِيَ مَا مَضَى * وَكَفَى عِبَرًا لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا جَرَّبُوا .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعَقْلَ زَيْنٌ لِأَهْلِهِ * وَلَكِنْ تَمَامُ الْعَقْلِ طُولُ التَّجَارِبِ
وَقَالَ آخَرُ :
إذَا طَالَ عُمْرُ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ آفَةٍ * أَفَادَتْ لَهُ الْأَيَّامُ فِي كَرِّهَا عَقْلَا
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَدْ يَكُونُ بِفَرْطِ الذَّكَاءِ وَحُسْنِ الْفِطْنَةِ .
وَذَلِكَ جَوْدَةٌ الْحَدْسِ فِي زَمَانٍ غَيْرِ مُهْمِلٍ لِلْحَدْسِ ، فَإِذَا امْتَزَجَ بِالْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ صَارَتْ نَتِيجَتُهُمَا نُمُوَّ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ كَاَلَّذِي يَكُونُ فِي الْأَحْدَاثِ مِنْ وُفُورِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ ،
وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : قُلْت لِغُلَامٍ حَدَثٍ مِنْ أَوْلَادِ الْعَرَبِ كَانَ يُحَادِثُنِي فَأَمْتَعَنِي بِفَصَاحَةٍ وَمَلَاحَةٍ : أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونَ لَك مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَأَنْتَ أَحْمَقُ ؟ قَالَ : لَا وَاَللَّهِ .
قَالَ : فَقُلْت : وَلِمَ ؟ قَالَ : أَخَافُ أَنْ يَجْنِيَ عَلَيَّ حُمْقِي جِنَايَةً تَذْهَبُ بِمَالِي وَيَبْقَى عَلَيَّ حُمْقِي .
فَانْظُرْ إلَى هَذَا الصَّبِيِّ كَيْفَ اسْتَخْرَجَ بِفَرْطِ ذَكَائِهِ ، وَاسْتَنْبَطَ بِجَوْدَةِ قَرِيحَتِهِ مَا لَعَلَّهُ يَدِقُّ عَلَى مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا ، وَأَكْثَرُ تَجْرِبَةً .
وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ مَا حَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِصِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَهَرَبُوا مِنْهُ إلَّا عَبْدَ اللَّهِ .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا لَك ؟ لِمَ لَا تَهْرَبُ مَعَ أَصْحَابِك ؟ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ أَكُنْ عَلَى رِيبَةٍ فَأَخَافُك ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا فَأُوَسِّعُ لك
فَانْظُرْ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْجَوَابُ مِنْ الْفِطْنَةِ وَقُوَّةِ الْمِنَّةِ وَحُسْنِ الْبَدِيهَةِ .
كَيْفَ نَفَى عَنْهُ اللَّوْمَ ، وَأَثْبَتَ لَهُ الْحُجَّةَ فَلَيْسَ لِلذَّكَاءِ غَايَةٌ ، وَلَا لِجُودَةِ الْقَرِيحَةِ نِهَايَةٌ .
والى غد ان شاء الله
رد مع اقتباس