عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 02-28-2016, 08:09 PM
 

.. 1 ..


فيْ أحد أيام شهر أغسطس الحارة حيثُ لم يكن لدى الجميع القدرة على الخروج من منازلهمْ لمزاولة أعمالهم كنتُ فيْ طريقيْ برفقة والديْ إلى مزرعة العمِّ " ويلبرت " تلك التيْ تقبع على بُعد تسعون كيلو مترا عن العاصمة ، حقيقةَّ لم تكن لديَّ نيَّة فيْ هذه الزيارَّة خاصَّة بَعد تخرجيْ من الثانوية فقد كنتُ أنوي قضاءَ هذه الفترة برفقة والدتيْ في " نيويورك " قبلَ أن أنشغلَّ بأمور الجامعة ! ..
تمتدَّ ذراع والديْ الطويلة ناحية المذياع لتدير أصابعه أحد الأزرار ويرتفع صوتُ الموسيقى المزعجْ ، زفرت بضجر للمرة الثالثة وحاولت التركيز فيْ سطور المجلة بين أصابعي تلك التيْ كانت تدور صفحاتها عنْ أحدثِ صيحات الموسم أمورٌ كهذه تستهويني ، بعيدا عن صوتِ والديْ المزعجْ تذكرت شيئا آخر جعل من انزعاجيَّ البسيط يتضاعْف تذكرتُ بأنني لم أبعث برسالة إلى " ويندي " أخبرها بأنيْ مغادرة إلى المزرعة لاشكَ وبأنها ستزعج سكان العِمَارة بضربها المتواصل على الباب ، ذلك سيءْ !..
تركت المجلة جانبا وجذبت حقيبة كفيْ الصغيرة والتي كانت تتدلى بشريط من أعلى كتفي بحثت بين الأغراض التيْ حشرتها بداخلها عن هاتفيْ لكنني لم أجده مع أنني متأكدة بأنني وضعته من ضمنِ الأِشياء الأخيرة لأتأكد من وجوده تساءلت بشيءٍ من الاستغراب و أصابعي تتحسس مقتنياتيْ في الحقيبة : أبي ، ألم ترى هاتفيْ ؟!
بالطبع ، لن يكون قادرا على سماع صوتي وصوتُ الموسيقى الصاخبة يملأ المكان أثار هذا انزعاجيْ قليلا فبالرغمِّ من أنه هوَّ من أجبرنيْ على المجيءِ برفقته وتغيير خططيْ بدأ يتصرفُ كشابِّ في العشرين ، مددت كفيْ لأخفضَّ من صوتِ المذياع ، نجحتُ في جذب انتباهه إذ أنه تساءل بتعجبْ وعينيه معلَّقتين على الطريق : مالأمر حبيبتي ؟!
عدتُ أطرح عليه سؤاليْ بتململْ : لست أجد هاتفيْ أبي !
لا أدريْ لمَ انتابنيْ شعورٌ سيءْ حيال إجابته إذ أننيْ كنتُ أعلمُ بأنَّ اختفاء الهاتفْ يعنيْ بأن لوالديْ يدٌ في هذا الموضوع ، تباعدت عقدة حاجبيه قليلا فور تذكره للأمر فأجابَ بلا مبالاة : آوه ، الهاتفْ أجل لم أعتقد بأنه سيكون ذا نفع لنا هناك لذلك تركت هواتفنا في الشقة !
كنتُ أعلمْ ، خلف هذا الوجه البريء الكثير من الأشياء التي تجعلني أود أن أنفجر ، آه منك والدي كيف سأستطيع العيش في تلك المنطقة بدونه ، حاولت ضبط أعصابي قليلا وسرعان ما أسندت ظهري للمقعد بعد أن رفعت صوت المذياع ، عقدت ساعديَّ بتضجر فيمّ نظرتُ للخارج وأمنية بسيطة تجول في داخلي ، أتمنى أن ينقضيَّ هذين الأٍسبوعين سريعا ! ..
لقد استغرق منا الطريقْ للوصول إلى المزرعة أكثر من ساعة خلالها شعرت بإرهاق شديد من كثرة الجلوسْ لذلك وفور نزوليْ من السيارة رفعت ذراعيَّ عاليا علَّنيْ أشعر ببعضِ الارتياح قليلا ، بدأت ألقي نظرة متفحصة لما حولي قد يبدو المكان غريبا بالنسبة ليْ فأنا لم آتيْ إلى هنا منذ سنتين على الأكثر إلا أن علاقتي بعمِّي جيدة جدًا ، إنه حنون ولطيف كثيرا ، على ما أذكر بأن هذا لمنزل متوسط الحجم يحتوي على الكثير من الغرف رغم أن شكله لا يوحي بذلك ، استجبت لحركة بسيطة من الجانب اليساري لمكان وقوفي لذا التفت سريعا ، لم يكن سوى عمي " ويلبرت " صاحب القبعة المصنوعة من القش والملابس الملطخة بالتراب ، صاح بانفعال وبترحيب : مرحبا بك شقيقي !
عمي " ويلبرت " يكبر والدي بسنتين على الأقل ، لذا لا يبدو الفارق بينها في المظهر كبيرا ، كلاهما هزيلان ومصفران وبلا قوة أبدا ، حسنا هذا هو حال من يعمل لوحده بعد أن انفصل لتوه ، تعانق الشقيقان لمدة من الزمن وكم بدى اشتياقهما لبعضهما واضحا فهما لم يريا بعضهما منذ خمس سنوات تقريبا ، إنها مدة طويلة .. فعلا طويلة ! ..
انتظرت في مكانيْ بهدوءْ لولا شعوريَّ الذيْ يجبرنيْ على ترك المكان ودخولِ المنزلْ بسرعة ، فلست قادرة على تحمل أشعة الشمسِ أكثر من هذا ، وأخيرا استدار عمي صوبي بعد أن صافح والدي بحرارة ، مدَّ ذراعيه نحويْ قاصد احتضانيْ لولا أنني تراجعتُ في آخر لحظة ، لستُ نزقة ولكن حتى لإلقاء التحيَّة آدابْ ، حاولتُ عدمَ إظهار تزمتيْ عندما قلتُ خلفَ بسمة مترددة : بالطبع سأقوم بتحيتكْ عندما تغتسلْ عمِّيْ ! ..
ملأت ضحكته العالية المكان ليعقب ذلك بقوله : لم أعتقد بأنكِ ستوافقين على الحضور إلى هنا " لوسيانا " اعتقدت بأنكِ تفضلين قضاء هذا الوقتِ برفقة والدتك !
ليتك تعلم ما حصل لي ، هززتُ كتفيَّ بلا مبالاة قبلَ أنْ أهتف : كنتُ لأفعل لولا إلحاح شقيقك عليْ !
استطعتُ سماعَ صوتِ والديْ الذيْ بدأَ يُنزلُ الحقائب من السيارة ، ليستْ كثيرة فلسنا ننويْ البقاء هنا طويلا ، كما أتمنى ، لوهلة فقط بدأت أشعر بالضوء يختفي من أمام ناظري ، ليس الضوء فقط بل وكل شيء ، هل أصبحت عمياء فجأة يا ترى ؟! بدأت أتتحسس تلك الأصابع الباردة على جفنيَّ ووجنتيْ وسرعان ما عرفتُ هوية من يقف خلفي ْ بسبب ضحكاته المتقطعة المشاغبة ، أبعدت كفيها عن وجهيْ والتفتُ سريعا نحوها إلا أنها باغتتني بعناق مفاجئ ، هذه الفتاة إنها تحبُ المفاجآت كثيرا ، ابتعدتْ عنيْ سريعا سامحةَّ لخصلاتِ شعرها القصيرة بالتراقصِ على جبينها وحول وجهها بحرية ، ظهرت ملامحها أكثر إشراقا من قبلْ عندما سألتنيْ بسعادة : هل ستمكثين هنا لأكثر من أسبوع ! ..
رفعتُ أحد حاجبيَّ بتصنع قبلَ أن أجيبْ : لا خيار آخر لديْ عزيزتيْ ! ..
صاحت بشيءٍ من السعادة لتعاود احتضاني بقوة أكبر من سابقتها وما جعلها تبتعد عنيْ هذه المرة هوَّ صوتُ والديْ الذيْ طالبها بتحيته هوَّ الآخر ، لم يمضِ من الوقت الكثير حتى طلبَ عمَّيْ " ويلبرت " من " إيرما " أخذي إلى غرفتيْ استلمت الأخيرة حقيبة ملابسي وطلبت مني أن أتبعها ، أتساءلُ فعلا إن كان هذا هو ذات المنزلُ الذي رأيته من قبل ! ، يقع المطبخ على يساريْ وبجانبه تقبع زهرية طويلة وبمسافة ليست بعيدة عنه تقع طاولة الطعام التيْ تسع لثلاثة عشر كرسيا فقط ويفصل ما بين الطاولة ومجموعة تلك الأرائك الأرجوانية المنتشرة فيْ المساحة المتبقية من الجزء السفليْ سُلَّمٌ يؤديْ إلى الطابقِ العلويْ ! ..




صعدت برفقة " إيرما " إلى الطابق العلويْ بينما لازلتُ أشعر بصدمة غريبة ، هل من المعقولِ بأن هذا المنزلْ هو ذاته الذي ترك انطباعا مقززا في مخيلتي ! ، أين تلك السجادات المهترئة التيْ كانت تملأ المكان ؟ ماذا عن طلاء الجدران المتصدِّعة ؟ النوافذ أذكر أنها كانت مكسورة ! ذلك فعلا مثيرٌ للدهشة والفرحة فيْ آن واحد ، فلست بحاجة إلى أخذ الحذر في تحركاتيْ دائما ! ..
الطابق العلوي يتضمن غرف النومْ فقد تجاوزت إلى الآن أربع غرف اثنتين عن يميني وأخريين عن يساري إلى أن توقفت " إيرما " أخيرا أمام إحدى الأبواب لتهتف قائلة بعد أنْ استدارت نحويْ : هذه ستكون غرفتك .. ومن ثمَّ أشارت على الباب بجانب غرفتي لتردف : وتلك غرفة عميْ " هارولد" !
فتحت الباب وسبقتني للدخول لأدلف خلفها ، إنها تبدو كغرفة عادية تحتويْ على سرير بجانب النافذة مربعة الشكل مفتوحة الستائر حيث تنبعث أشعة الشمس من خلال زجاجها ذو السماكة البسيطة لتقع على بعض الأثاث والذي يتضمن طاولة للزينة ومنضدة بالإضافة إلى مكتبِ صغير بدى وكأنه للقراءة ، تبسمت برضا ليست سيئة ، إنها أفضل من تلك التيْ اضطررت إلى تكوين علاقة طيبة مع العناكبِ على جدرانها ، خلعت حقيبتي لأرميها على السرير وكذا سترتيْ ذاتَ الأكمام الطويلة لأشعر بنسيمِ لطيف يداعبنيْ ولمْ أكد أستنشق نفسا عميقا حتى تهافت صوتُ " إيرما " بسعادة صادقة وعلى نحو غريب : هل تعرفين ما هو تاريخ اليومْ !
نظرت إليها باستغرابْ ومن ثمَّ أردفت بسخرية وأنا أرفع أحد حاجبي : الثالث من أغسطس !
بدى حماسها مثيرا للريبة إذ أن عينيها ما زالت تبرق بسعادة غريبة والبسمة التي على شفتيها لم تعجبني البتة ، أنا أعلم بأنها تخفي شيئا عني الآن ، يجب علي أن أكون صبورة أكثر ،عدت أتمنى بصوت يهمس : ليتنيْ كنتُ معكِ الآن أميْ ! ..
حاولت تناسي الأمر ولم أسألها أكثر من ذلك ، رميت جسديْ على السرير خلفي لأجلسَّ على طرفه بلامبالاة بدأت بخلع جوربيَّ منتظرة تفسيرا بسيطا منها ، على كلَّ هي لن تصمت طويلا فهي تحب الثرثرة قبل كل شيء ، صدق إحساسي عندما وضعت كفها على وسطها واستطردت بقليل من الانزعاج الواضح في نبرة صوتها الناعمة : ألست تعلمين ؟ والدي يقيم دائما حفلة للتنكر في مثل هذا اليومْ كلَّ سنَّة " لوسيانا " ! ..
__________________
سبحان الله وبحمده
سبحان الله العظيم

Sleeping Beauty | Ghasag
رد مع اقتباس