تسمرت فيْ مكاني عدة لحظات وبقيَّ جوربي الأبيض عالقا بين أصابعيْ ، عمِّي " ويلبرت " و حفلة للتنكر ! ، هل يقيم هذا النوع من الحفلات ؟! ، هذا النوع المثير للسخرية ! ، النوع الذي كنت أهرب منه دائما في الإعداديَّة ، أتُراهُ والديْ أصرَّ على المجيء إلى هنا هذا اليوم فقط من أجل هذا السبب ؟! لقد تغافلني كيف له ألا يخبرني وهو الذي يعلم تمام العلم بأنني أكرهُ هذا النوع من الحفلات إن لم تكن المناسبات جميعها ، ذلك مضجرٌ حقا ! ..
لم تدم تساؤلاتي طويلا إذ أن " إيرما " جذبتني من ذراعي بسرعة وسحبتني معها إلى الخارج ، نزلت برفقتها درجات السلم التيْ تعثرت بأكثرها بسبب نزولها السريع ممَ جعلني أسارع فيْ إفلات ذراعي من بين قبضتها ، رأيتها تخرج عبر باب المنزل بسرعة لذا لم أجد بدا سوى اللحاق بها وفهم كل شيء يمكنني استيعابه ، خرجت من المنزلْ لأرى مجموعة من الأشخاصْ يُنزلون طاولات مستديرة للتقديم من شاحنة كبيرة كانت قد وصلت للتو وعميْ يقومْ بإرشادهم لوضعها فيْ أماكن متفرقة أمام واجهة المنزلْ ، العمل على قدم وساق كما يبدو فلا مكان لشخصٍ متخاذل هنا .. غيري ..
من جهة أخرى رأيت والديْ الذيْ نفض عنه مشقة الطريق و تسلق أعلى سلِّم حديدي يقومُ بتعليق ذلك العقد من اللآلئ على مجموعة من الأشجار القريبة التي أحاطت بالمنزل من كل الجهات لهذا هو يبدو مميزا و مخيفا بعض الشيء ، لم أستطع أن أمنع انزعاجي من الظهور ، كيف له ألا يخبرني بهذا الأمر ، وقفت أسفل السلمُ الذي اعتلاه فرفعت بصري نحوه ورأيته منهمكا في عمله يحاول فك تلك التعقيدات البسيطة في ذلك العقد ويبدو وبأنه لم يلحظ وجودي أفزعته بسؤالي و صحت به :
كنت تعلمُ بذلك صحيح ؟! لماذا لم تخبرني ..
لاحظني أخيرا ولكن لم تبدو على وجهه أية ملامح معتذرة أو مرتبكة على الأقل تلك التي تمنيت رؤيتها ولكنه عوضا عن ذلك رفع كفه ليمسح قطرات العرق من على جبينه بكم قميصه القماشي و تمتم بلا مبالاة :
لأنني لو فعلتْ لما وافقت على المجيءْ برفقتي ، صحيح ؟!
ضربت بقدمي الأرض معارضَّة ولمْ أقم بتغيير موقفيْ رغم نظراته البريئة نحويْ ، تمتمت معاتبة خشية أن يسمعني أحد : لقد قمتَ باستغفالي والدي ،
أنت تعلمُ بأننيْ أكره الحفلات !..
-
هيا كفاكِ تذمرا !
سمعت صوت " إيرما " الذيْ بدأ يقتربُ نحويْ أدرت رأسي يسارا و لم أكن قادرة على رؤية شيء لأنها أفرغت كومة الأقمشة التيْ كانت تحملها لتضعها بين ذراعيْ ، لم أستطع الحفاظ على توازني لوهلة لشدة مفاجأتي ممَ جعلني أستند على طرف الطاولة المركونة خلفي ، هذبت تلك الأقمشة المتكومة في حجري بضيق ونظرت إليها بانزعاج ، أردفت بينما توليني ظهرها مستكملة بقية الأعمال :
لا تكوني لحوحة ، ساعدينا بتوزيع هذه الأقمشة على الطاولات .. أتبعت قصد إثارة غيظي :
من فضلك ..
سوف تموت على يدي اليوم ، لقد أقسمت على ذلك ولا أحد يستطيع أن ينقذها من بين يدي ، تنفست بعمق وحاولت تقبل الأمر رغم غيظي بدأ يزداد ، ضغطت على شفتي وباشرت بالعمل في تجهيز الطاولات كما أمرتني الأميرة الصغيرة لتوها ! ..
الجميع بلا استثناء منهمكٌ فيْ العمل .. منهم من باشر بجزِّ الأعشابِ ومنهمْ من ساعد فيْ تنظيف المكان بالإضافة إلى مساعدتيْ في فرشِّ هذه الأقمشة على الطاولات الثمانية عشرة المنتشرة في ساحة هذا المنزل ، حالما انخرطت في العمل معهم حتى بدأ ضجري يتلاشى شيئا فشيئا إلى حدِ أنني استطعتُ الضحك من كل قلبي على ملاحظات عمي " ويلبرت " ،لقد كان وقتا جيدًا ، فالعمل مع الجميع شيءٌ ممتع ويبعث على السرور فعلا !!..
نظرت إلى ساعة معصمي ووجدتها تشير إلى الخامسة وعشرون دقيقة بقي ساعتين على بدء الاحتفال ، منَّيْتُ نفسيْ بأني خلالها لربما أستطيع أن أنعم بحمام منعش وفي الدقائق المتبقية قد أغط بنوم عميق فلا أظن بأن الألم الذي يحطم عظام ظهري قد شعرت به سابقا ، التقطت منديلا من جيبِي وبدأت بتجفيف عنقي ، أحاول جذب كميات كبيرة من الهواء علها تبعد الإرهاق الذيْ سكن جسدي ، توجهت ناحية المنزل لولا رؤيتي لوالدي الجالس بالقرب من المدخل يرتشف القليل من الماء دعاني للجلوس بجانبه عندما ربت على الأرضية المتربة بباطن كفه المتسخ ..
امتثلتُ لأمره فجلست بالقرب منه ، باشر بإغلاق قنينة الماء التي احتفظت بالقليل منه ممَ جعلني ألتقطها من بين أصابعه وأبدأ بشرب ما تبقى منها دفعة واحدة في محاولة فاشلة مني لأُبعد الجفاف الذي استكن حلقيْ إلا أنه لم يكن باردا فعليا ، لاحظت ابتسامته التي ظهرت على شفتيه ونظراته التي بدأت تحومُ فيْ وجهي كعادته دائما حينما يحاول البحث عن طريقة ليبرر بها سوء تصرفاته ، تجنَّبت النظر إليه لدقائقْ فهو سيتحدثُ معتذرا وبطريقة روتينية قائلا وباعتذار :
أعتذر حبيبتي ، أعلمُ بأنك كنتِ تملكين مخططاتِ كثيرة لقضاء هذه الإجازة مع والدتك في العاصمة وليس برفقتي هنا في المزرعة ..
لم أعقب على ما قال فهو صحيح ولست أملك القوة الكافية لأعترض عليه حتى ولو كان على سبيل المجاملة ، سمعته حينما أطلق زفيرا هادئا ثمَّ أسند ظهره على جدار المنزل خلفه متأملا السُّحب عاليا ، بقينا صامتين لدقائقْ بسيطة إلى أن قرر هو بدءَ حوار جديد لأسمعه يهتفُ بهدوءْ :
ظننتُ بأنكِ بذلت الكثير من الجهد مؤخرا في الدراسة ففكرتُ بالترويح عنكِ قليلا .. أضاف مبتسما :
أذكر حينما كنتُ في سنِّك كنت أجهد نفسيْ بالدراسة وأصبت بالملل ثم اضطررت لتركها !
كلامه السابق أثار استغرابيْ لوهلة ، أدرت له عنقيْ سريعا وسألتُ بقليل من التفاجؤ :
ألم تكمل تعليمك أبي !
نظر إليَّ حينها بعد أن زفر نفسا خافتا ، ازدادت ابتسامته اتساعا بينما أجابَ استغرابيْ بقوله :
والدكِ موظف بشهادة ثانوية !..
تبسمت من طريقة نطقه لجملته السابقة فأذكر إلحاحه الشديد على مديره في العمل و من ثمَّ كدَّه فيه حتى أنني وقتها سألتُ أميْ إن كان على ما يرام فلم يسبق لي رؤيتي له متشبثا في شيءٍ إلى هذه الدرجة ، أحسستُ بأصابعه التي تخللت خصلات شعري الكثيفة ليبعثرها بفوضوية قبل أن يردف باسما وهو ينظر إلي مباشرة :
لستُ أخبركِ بذلك لتسلكيْ طريقي ، لن أسمح لكِ أبدا بترك دراستكِ خاصة بعد أن وصلتِ إلى هذه المرحلة ، اجعلينيْ أفخر بكِ " لوسيانا " ! ..
أمأتُ بنعم مجيبة على جملته ، فأنا طبعا لا أفكر بترك دراستيْ رغمَ الصعوبة التيْ تواجهنيْ فيها دائما ، صحيحٌ بأننيْ لم أقل ذلك بصوتِّ عالْ إلا أنَّ أمنيتيْ هوَّ أن أًصبحَ محاميَّة كالعملِ الذي تمارسه والدتيْ الآن ، منذ صغريْ وأنا أطمح لأكونَ مثلها ، امرأةٌ مستقلة تراقبُ كلماتها وتفكرٌ قبلَ أن تقدمِ على أيِّة خطوة ، لستُ أدريْ إن كنتُ فعلا سأكونُ مثلها فأنا لست صبورة على الإطلاقْ ، على كلِّ أنا سعيدة لأن والديْ فكر بتلك الطريقة ! ..
لقد مضت الساعتين السابقتين بسرعة البرقْ فبالكاد استطعتُ أخذ حمام منعشْ واختيار الزيِّ المناسبْ للظهور به في هذه الحفلة المزعومة ، لقد اقترحت عليَّ " إيرما " أكثر من زيِّ واحد كالجنيَّاتِ والأميرات وعندما شعرتْ باليأسِ منيْ اقترحتْ عليَّ زيَّ مصاصيْ الدماءْ ولكنني قمتُ بتوفير الباقيْ من الوقت عندما اكتفيتُ بقناع بسيطْ لم يكن ليغطيْ وجهيْ بالكامل فقط الأجزاء المحيطة بعيني مصحوبا ببعضِ الريشِ من الجانبْ إضافةً إلى رداءْ أسودٌ اللون على فستان أسودِ قصير وبسيط ..
في الحقيقة لم ألقى الرضا الذيْ كنت أتوقعه من " إيرما " فقد أرادتني أن أبدو أكثر بهرجة كما هو زي الجنية خاصتها ، تجاهلتها فعلا فكيفَ ليْ أن أرتديْ ألوانا فاقعة مثيرة للاشمئزاز ، أكره ذلكْ وقد بدأت أكره هذه الأجواءَ قليلا ، لا أحبُ المناسباتِ التيْ يحضر إليها الكثير من الأشخاصْ ، أتساءل فعلا لو كانَ هذا حاليْ فيْ حفلة لشرب الشايْ !
حالما دقت الساعة الثامنة وعشر دقائق بدأ الحضور بالتوافد إلى منزلِ عميْ وقد فوجئت من كثرتهم فلم أكن أعتقد بأن أحدهمْ قد يهتم لمثل هذه الحفلات ، بعضهمْ اكتفى ببعض الرسومات على وجهه أما عن البعضِ الآخر فقد غُطِّيَّت وجوههم بتلك الأقنعة الشهيرة والمتعارف عليها على سبيل المثال الأمواتُ الأحيَّاء ، جماجم وغيرها أما عن الفتيات فتجد بأن أغلبهنَّ اتخذنَّ جانب الأميراتِ وأشك بأنهنَّ يتمنينَّ لو كنَّ كذلك ، رسمت ابتسامة هادئة على شفتيْ حالما رأيت تلك الأنيابَ الواضحة التيْ قام والدي بارتدائها وكذا استعراضه أمام الجميع بأنه دراكولا ، لن أكونَ متعجرفة لو قلتُ بأنه نجمُ الحفلة لهذا اليومْ !
التقطت كأسًا من عصير الليمون من على تلك الصينية التيْ يحملها نادلٌ متجول كان قد مرَّ إلى جنبي على حين غرَّة ارتشفت القليل منه واستمتعت بتأمل الجوِّ هنا ، عقدُ اللؤلؤ المضيءْ يضفيْ شيئا من الروعة خاصة حينما أشرق القمر بدرا في تلك الليلة إضافة إلى كثرة النجومِ المنتشرة في السماء وما زاد الجوُّ بهجة وسرورا هو أصوات ضحكات الجميع التي ملأت المكانْ وأحاديثهم المملة المزعجة
صوتٌ أنثويٌ قطع علي اندماجيَّ فجأة لأستدير للخلفِ بسرعة صوب من تلوح بعصاها بسعادة واضحة ، عادت لتسألنيْ بسرور :
إذا ، هل أنتِ سعيدة ؟!
الإجابة واضحة فعلا " إيرما " ، هززت كتفيَّ وأمأتُ بنعمْ ، لن أكذب أنا أستمتع فعلا رغم كونيْ وحيدة وانشغال والديْ عني ، وافقتنيْ الرأيَّ بقولها :
أنا أيضا ، رغمَّ أنهم ذاتُ الأشخاصِ الذين يأتونَ كل عامْ .. أضافت كما لو أنها تذكرت شيئا :
اتبعيني أرغبُ بتعريفكِ على بعضِ الأشخاصْ ! ..
استجبت لطلبها و تبعتها بخطواتيْ المتباعدة متجولين بين أولئك الأشخاصِ المثيرين للشغبِ هذه الليلة إلى أن توقفت قدميها عن التقدم أكثر ، تقف أمام ثلاثة من الأشخاص استطعتُ التمييز بأنهم فتاة وشابين رغم تنكرهم الغريب ، هيَّ تنكرت بزيِّ يطغى عليه اللون الأخضر أقرب إلى ما يكون للضفدع إلا أن ملامح وجهها واضحة قليلا أما عن الشابين الأخريين فقد اختار أحدهما التنكر على طريقة العجوز سانتا ولكم بدى شكله مضحكا خاصة وبأن سترته الحمراء بدت فضفاضة قليلا إضافة إلى أنه يقومُ بتعديل لحيته البيضاء الطويلة خشية أن تقع ، الآخر اختار وجها دمويا بعضَ الشيءْ يحتوي على بعضِ النتوءات في الجبينْ ورثِّ الملابسْ ..
التقطت " إيرما " القليل من الأنفاس قبل أن تشير إليهم معرَّفة :
أعرفكِ عزيزتي هذه " رايتشل " و سانتا هو " جوليان " والأخير هوَّ " إيرل " ..
الانطباع الأوليْ إنهمْ أكثر من لطفاءْ ، لم أشعر بالحماسِ كثيرا فقد يخيبُ ظنيْ بهم لاحقا ، أقولُ ذلك لأن الكثير من الأشخاصْ جعلونيْ أِشعر بالخيبة ، وعندما أقول الكثير .. أعني الكثير ، على أية حال منحتهم ابتسامة مجاملة حالما بدأ أولئك الاثنين بالانهيال عليَّ بتلك الأسئلة التي لا طائل لها فعلى ما يبدو بأنهم يرغبون بإرضاء فضولهما لا أكثر بينما اكتفيتُ بالرد ببعضِ الإجابات المقتضبة التيْ ستجعلهم يمتنعون عن طرح مثل هذه الأسئلة فيما بعد ، بصدق لقد تعلمت هذه الطريقة من والدتي فهي أخبرتني دائما بضرورة الرد بكلمتين فقط إذا لم ترغب في الخوض في الحديث أكثر ، أنا شاكرةٌ لكِ أميْ ..
يبدو وبأن سانتا المزعجْ لن يكفَّ عن طرح الأسئلة المضجرة أبدا إذ أنه عاد يسأل بفضول :
إذا في أيِّ مرحلة دراسية أنتِ ؟!
أجبتْ مجاملة :
لقد تخرجتٌ من الثانوية لتوِّيْ !
لستُ أدريْ أيُّ من الملامح قد ارتسمتْ على وجهه إلا أنَّ صوته كان متحمسا فعلا ، إذ أنه علَّق على ذلك سريعا :
آوه ، هذا رائع قد تكونين أكبر منا بعام إذا !
اكتفيت بالصمت بعد أن ضغطت على شفتيَّ مبتسمة ، إلا أنَّه فاجأنيْ بسؤال آخر سريع : ك
م هو عمركِ إذا !
لم يكد يكمل سؤاله حتى تلقى ضربة موجعة من " إيرما " التي أبعدت عصاها السحرية عن رأسه ومن ثمَّ نهرته في انزعاج ظريف :
كيف لك أن تسأل فتاة عن عمرها .. أضافت بهمس :
متى ستتعلم أصول اللباقة !
ما فعلته كان كفيلا لجعلنا نضحك نحن الثلاثة نرقبُهما وهما يرشقان بعضهما بكلمات بسيطة إلا أنها طريفة ولا تندرج تحت مسمى شجار بالاسم الفعلي ، اتضح فيم بعد بأنهما يدرسان في ذات المدرسة وبذات الصفِّ أيضَّا ! ..