ادب الدنيا والدين في جهاد الهوى للماوردي / 8 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله تعالى خالق الأولين والآخرين والصلاة والسلام على رسوله الأعظم سيدنا محمد المرسل رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ورسل الله أجمعين. اما بعد نواصل اخواني ما قي الهوى
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إيَّاكُمْ وَتَحْكِيمَ الشَّهَوَاتِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّ عَاجِلَهَا ذَمِيمٌ ، وَآجِلَهَا وَخِيمٌ ، فَإِنْ لَمْ تَرَهَا تَنْقَادُ بِالتَّحْذِيرِ وَالْإِرْهَابِ ، فَسَوِّفْهَا بِالتَّأْمِيلِ وَالْإِرْغَابِ ، فَإِنَّ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ إذَا اجْتَمَعَا عَلَى النَّفْسِ ذَلَّتْ لَهُمَا وَانْقَادَتْ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ : كُنْ لِهَوَاك مُسَوِّفًا ، وَلِعَقْلِك مُسْعِفًا ، وَانْظُرْ إلَى مَا تَسُوءُ عَاقِبَتُهُ فَوَطِّنْ نَفْسَك عَلَى مُجَانَبَتِهِ فَإِنَّ تَرْكَ النَّفْسِ وَمَا تَهْوَى دَاؤُهَا ، وَتَرْكَ مَا تَهْوَى دَوَاؤُهَا ، فَاصْبِرْ عَلَى الدَّوَاءِ ، كَمَا تَخَافُ مِنْ الدَّاءِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ :
صَبَرْتُ عَلَى الْأَيَّامِ حَتَّى تَوَلَّتْ * وَأَلْزَمْتُ نَفْسِي صَبْرَهَا فَاسْتَمَرَّتْ
وَمَا النَّفْسُ إلَّا حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى * فَإِنْ طَمِعَتْ تَاقَتْ وَإِلَّا تَسَلَّتْ
فَإِذَا انْقَادَتْ النَّفْسُ لِلْعَقْلِ بِمَا قَدْ أُشْعِرَتْ مِنْ عَوَاقِبِ الْهَوَى لَمْ يَلْبَثْ الْهَوَى أَنْ يَصِيرَ بِالْعَقْلِ مَدْحُورًا ، وَبِالنَّفْسِ مَقْهُورًا ، ثُمَّ لَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَى فِي ثَوَابِ الْخَالِقِ وَثَنَاءِ الْمَخْلُوقِينَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : أَفْضَلُ الْجِهَادِ جِهَادُ الْهَوَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَعَزُّ الْعِزِّ الِامْتِنَاعُ مِنْ مِلْكِ الْهَوَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : خَيْرُ النَّاسِ مَنْ أَخْرَجَ الشَّهْوَةَ مِنْ قَلْبِهِ ، وَعَصَى هَوَاهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ أَمَاتَ شَهْوَتَهُ ، فَقَدْ أَحْيَا مُرُوءَتَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : رَكَّبَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ عَقْلٍ بِلَا شَهْوَةٍ ، وَرَكَّبَ الْبَهَائِمَ مِنْ شَهْوَةٍ بِلَا عَقْلٍ ، وَرَكَّبَ ابْنَ آدَمَ مِنْ كِلَيْهِمَا ؛ فَمَنْ غَلَّبَ عَقْلَهُ عَلَى شَهْوَتِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَلَى عَقْلِهِ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْبَهَائِمِ .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ : مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ ، وَأَحْرَاهُمْ بِالظَّفَرِ فِي مُجَاهَدَتِهِ ؟ قَالَ : مَنْ جَاهَدَ الْهَوَى طَاعَةً لِرَبِّهِ ، وَاحْتَرَسَ فِي مُجَاهَدَتِهِ مِنْ وُرُودِ خَوَاطِرِ الْهَوَى عَلَى قَلْبِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ : قَدْ يُدْرِكُ الْحَازِمُ ذُو الرَّأْيِ الْمُنَى بِطَاعَةِ الْحَزْمِ وَعِصْيَانِ الْهَوَى وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَهُوَ أَنْ يُخْفِيَ الْهَوَى بِكُرْهٍ حَتَّى تَتَمَوَّهَ أَفْعَالُهُ عَلَى الْعَقْلِ فَيَتَصَوَّرُ الْقَبِيحَ حَسَنًا وَالضَّرَرَ نَفْعًا .
وَهَذَا يَدْعُو إلَيْهِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلنَّفْسِ مَيْلٌ إلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ فَيَخْفَى عَنْهَا الْقَبِيحُ لِحُسْنِ ظَنِّهَا وَتَتَصَوَّرُهُ حَسَنًا لِشِدَّةِ مَيْلِهَا .
وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ { حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ } .
أَيْ يُعْمِي عَنْ الرُّشْدِ وَيُصِمُّ عَنْ الْمَوْعِظَةِ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْهَوَى عَمًى .
قَالَ الشَّاعِرُ : حَسَنٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ مَنْ تَوَدُّ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
وَلَسْت بِرَاءٍ عَيْبَ ذِي الْوُدِّ كُلِّهِ * وَلَا بَعْضَ مَا فِيهِ إذَا كُنْت رَاضِيَا
فَعَيْنُ الرِّضَى عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ * وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا
وَأَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي : فَهُوَ اشْتِغَالُ الْفِكْرِ فِي تَمْيِيزِ مَا اشْتَبَهَ فَيَطْلُبُ الرَّاحَةَ فِي اتِّبَاعِ مَا اسْتَسْهَلَ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ أَوْفَقُ أَمْرَيْهِ ، وَأَحْمَدُ حَالَيْهِ ، اغْتِرَارًا بِأَنَّ الْأَسْهَلَ مَحْمُودٌ وَالْأَعْسَرَ مَذْمُومٌ فَلَنْ يَعْدَمَ أَنْ يَتَوَرَّطَ بِخِدَعِ الْهَوَى وَرِيبَةِ الْمَكْرِ فِي كُلِّ مَخُوفٍ حَذِرٍ ، وَمَكْرُوهٍ عَسِرٍ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ : الْهَوَى يَقْظَانُ وَالْعَقْلُ رَاقِدٌ فَمِنْ ثَمَّ غَلَبَ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ : الْهَوَى أَمْنَعُ ، وَالرَّأْيُ أَنْفَعُ .
وَقِيلَ فِي الْمَثَلِ : الْعَقْلُ وَزِيرٌ نَاصِحٌ ، وَالْهَوَى وَكِيلٌ فَاضِحٌ . يتبع
والى غد ان شاء الله |