ادب الدنيا والدين من تفكر ابصر / 9 الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الطَّوْلِ وَالْآلَاءِ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْأَتْقِيَاءِ . أَمَّا بَعْدُ يقول العلامة الماوردي رحمه الله قَدْ تَوَخَّيْت بِهَذَا الْكِتَابِ الْإِشَارَةَ إلَى آدَابِهِمَا ، وَتَفْصِيلَ مَا أُجْمِلَ مِنْ أَحْوَالِهِمَا ، عَلَى أَعْدَلِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ إيجَازٍ وَبَسْطٍ أَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ تَحْقِيقِ الْفُقَهَاءِ ، وَتَرْقِيقِ الْأُدَبَاءِ ، فَلَا يَنْبُو عَنْ فَهْمٍ ، وَلَا يَدِقُّ فِي وَهْمٍ ،مُسْتَشْهِدًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - جَلَّ اسْمُهُ - بِمَا يَقْتَضِيهِ ، وَمِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - بِمَا يُضَاهِيهِ ، ثُمَّ مُتْبِعًا ذَلِكَ بِأَمْثَالِ الْحُكَمَاءِ ، وَآدَابِ الْبُلَغَاءِ ، وَأَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ ؛
قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّمَا اشْتَهَتْ وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إلَى كُلِّ بَاطِلِ وَسَاقَتْ إلَيْهِ الْإِثْمَ وَالْعَارَ بِاَلَّذِي دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ عَاجِلِ وَحَسْمُ السَّبَبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَجْعَلَ فِكْرَ قَلْبِهِ حَكَمًا عَلَى نَظَرِ عَيْنِهِ .
فَإِنَّ الْعَيْنَ رَائِدُ الشَّهْوَةِ ، وَالشَّهْوَةَ مِنْ دَوَاعِي الْهَوَى ، وَالْقَلْبَ رَائِدُ الْحَقِّ وَالْحَقَّ مِنْ دَوَاعِي الْعَقْلِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : نَظَرُ الْجَاهِلِ بِعَيْنِهِ وَنَاظِرِهِ ، وَنَظَرُ الْعَاقِلِ بِقَلْبِهِ وَخَاطِرِهِ .
ثُمَّ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ فِي صَوَابِ مَا أَحَبَّتْ وَتَحْسِينِ مَا اشْتَهَتْ ؛ لِيَصِحَّ لَهُ الصَّوَابُ وَيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ ، فَإِنَّ الْحَقَّ أَثْقَلُ مَحْمَلًا ، وَأَصْعُبُ مَرْكَبًا فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ اجْتَنِبْ أَحَبَّهُمَا إلَيْهِ ، وَتَرَكَ أَسْهَلَهُمَا عَلَيْهِ .
فَإِنَّ النَّفْسَ عَنْ الْحَقِّ أَنْفَرُ ، وَلِلْهَوَى آثَرُ .
وَقَدْ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْك أَمْرَانِ فَدَعْ أَحَبَّهُمَا إلَيْك ، وَخُذْ أَثْقَلَهُمَا عَلَيْك .
وَعِلَّةُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّ الثَّقِيلَ يُبْطِئُ النَّفْسَ عَنْ التَّسَرُّعِ إلَيْهِ فَيَتَّضِحُ مَعَ الْإِبْطَاءِ وَتَطَاوُلِ الزَّمَانِ صَوَابُ مَا اسْتَعْجَمَ ، وَظُهُورُ مَا اسْتَبْهَمَ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ وَالْمَحْبُوبُ أَسْهَلُ شَيْءٍ تُسْرِعُ النَّفْسُ إلَيْهِ ، وَتُعَجِّلُ بِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ ، فَيَقْصُرُ الزَّمَانُ عَنْ تَصَفُّحِهِ وَيَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ لِتَقْصِيرِ فِعْلِهِ فَلَا يَنْفَعُ التَّصَفُّحُ بَعْدَ الْعَمَلِ وَلَا الِاسْتِبَانَةُ بَعْدَ الْفَوْتِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَا كَانَ عَنْك مُعْرِضًا ، فَلَا تَكُنْ بِهِ مُتَعَرِّضًا .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : أَلَيْسَ طِلَابُ مَا قَدْ فَاتَ جَهْلًا وَذِكْرُ الْمَرْءِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ وَلَقَدْ وَصَفَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ حَالَ الْهَوَى وَمَا يُقَارِنُهُ مِنْ مِحَنِ الدُّنْيَا فَقَالَ : الْهَوَى مَطِيَّةُ الْفِتْنَةِ ، وَالدُّنْيَا دَارُ الْمِحْنَةِ ، فَانْزِلْ عَنْ الْهَوَى تَسْلَمْ ، وَاعْرِضْ عَنْ الدُّنْيَا تَغْنَمْ ، وَلَا يَغُرَّنَّكَ هَوَاك بِطَيِّبِ الْمَلَاهِي وَلَا تَفْتِنُك دُنْيَاك بِحُسْنِ الْعَوَارِيّ .
فَمُدَّةُ اللَّهْوِ تَنْقَطِعُ وَعَارِيَّةُ الدَّهْرِ تُرْتَجَعُ ، وَيَبْقَى عَلَيْك مَا تَرْتَكِبُهُ مِنْ الْمَحَارِمِ ، وَتَكْتَسِبُهُ مِنْ الْمَآثِمِ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجَعْفَرِيُّ : سَمِعَتْنِي امْرَأَةٌ بِالطَّوَافِ ، وَأَنَا أُنْشِدُ : أَهْوَى هَوَى الدِّينِ وَاللَّذَّاتُ تُعْجِبُنِي فَكَيْفَ لِي بِهَوَى اللَّذَّاتِ وَالدِّينِ فَقَالَتْ : هُمَا ضَرَّتَانِ فَذَرْ أَيَّهُمَا شِئْت وَخُذْ الْأُخْرَى .
فَأَمَّا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ مَعَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ ، وَاتِّفَاقِهِمَا فِي الدَّلَالَةِ وَالْمَدْلُولِ ، فَهُوَ أَنَّ الْهَوَى مُخْتَصٌّ بِالْآرَاءِ وَالِاعْتِقَادَاتِ ، وَالشَّهْوَةَ مُخْتَصَّةٌ بِنَيْلِ اللَّذَّةِ .
فَصَارَتْ الشَّهْوَةُ مِنْ نَتَائِجِ الْهَوَى وَهِيَ أَخَصُّ ، وَالْهَوَى أَصْلٌ هُوَ أَعَمُّ .
وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَكْفِيَنَا دَوَاعِيَ الْهَوَى ، وَيَصْرِفَ عَنَّا سُبُلَ الرَّدَى ، وَيَجْعَلَ التَّوْفِيقَ لَنَا قَائِدًا ، وَالْعَقْلَ لَنَا مُرْشِدًا .
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : عِظْ نَفْسَك فَإِنْ اتَّعَظَتْ فَعِظْ النَّاسَ وَإِلَّا فَاسْتَحْيِ مِنِّي .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسَةَ : مَا مَنْ رَوَى أَدَبًا فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَيَكُفَّ عَنْ زَيْغِ الْهَوَى بِأَدِيبِ حَتَّى يَكُونَ بِمَا تَعَلَّمَ عَامِلًا مِنْ صَالِحٍ فَيَكُونَ غَيْرَ مَعِيبِ وَلَقَلَّمَا تُغْنِي إصَابَةُ قَائِلٍ أَفْعَالُهُ أَفْعَالُ غَيْرِ مُصِيبِ وَقَالَ آخَرُ :
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ * هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى * كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا * فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى * بِالْقَوْلِ مِنْك وَيُقْبَلُ التَّعْلِيمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ * عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ
حَكَى أَبُو فَرْوَةَ أَنَّ طَارِقًا صَاحِبَ شُرْطَةِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ مَرَّ بِابْنِ شُبْرُمَةَ وَطَارِقٍ فِي مَوْكِبِهِ فَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تَخُبُّ كَأَنَّهَا سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَرِيبٍ تَقَشَّعُ اللَّهُمَّ لِي دِينِي وَلَهُمْ دُنْيَاهُمْ .
فَاسْتُعْمِلَ ابْنُ شُبْرُمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ : أَتَذْكُرُ قَوْلَك يَوْمَ كَذَا إذْ مَرَّ بِك طَارِقٌ فِي مَوْكِبِهِ ؟ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ إنَّهُمْ يَجِدُونَ مِثْلَ أَبِيك وَلَا يَجِدُ أَبُوك مِثْلَهُمْ .
إنَّ أَبَاك أَكَلَ مِنْ حَلَاوَتِهِمْ ، فَحَطَّ فِي أَهْوَائِهِمْ .
أَمَا تَرَى هَذَا الدَّيِّنَ الْفَاضِلَ كَيْفَ عُوجِلَ بِالتَّقْرِيعِ وَقُوبِلَ بِالتَّوْبِيخِ مِنْ أَخَصِّ ذَوِيهِ ، وَلَعَلَّهُ مِنْ أَبَرِّ بَنِيهِ .
فَكَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ أَطْلَقُ مِنْهُ عَنَانًا ، وَأَقْلَقُ مِنْهُ جَنَانًا .
إذَا رَمَقَتْنَا أَعْيُنُ الْمُتَتَبِّعِينَ ، وَتَنَاوَلَتْنَا أَلْسُنُ الْمُتَعَتِّبِينَ .
هَلْ نَجِدُ غَيْرَ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى مَلَاذًا ، وَسِوَى عِصْمَتِهِ مَعَاذًا ؟ يتبع
والى غد ان شاء الله |